سلطانُ العقلِ ودَوْرُهُ في المذاهبِ الإسلاميّة

سلطانُ العقلِ ودَوْرُهُ في المذاهبِ الإسلاميّة

محمود مصطفى عبود هرموش*

إنَّ المستقري للمذاهبِ الإسلاميَّة يجدها مجمعةً على أهميَّةِ العقلِ ودوره، وأنَّه معرِّفٌ لحكم الله وليس مثبتًا له ولا حاكمًا على الأشياء، سيَّما بعد بعثة الرُّسل -عليهم الصلاة والسلام-. وسوف نعرض لهذه المذاهب الإسلاميَّة، مع بيان دور العقل فيها ومدى سلطانه لديها.

أهلُ السُّنَّةِ ودورُ العقل عندهم

من تصفَّح كتب الأصول لدى أهل السُّنَّة لم يجد العقل مصدرًا من مصادر التشريع، بل هو كاشفٌ ومعرِّفٌ لحكم الله، وأنَّه لا حكم إلاَّ لله، والعقل ليس حاكمًا ولا مُشَرِّعًا ولا آمرًا ولا ناهيًا، بل الأمر والنَّهي والتشريع لله –تعالى-، قال –تعالى-: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾(1).

وهذه أقاويلهم:

المذهب الشافعيّ

فالإمام الشافعيّ (ت204هـ) -رحمه الله- وهو إمام الأصول يجعلُ الأصول مجموعة في: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع فيما ليس في كتابٍ ولا سنَّةٍ، وأقوال الصحابة إذا لم يُعْرَفْ لهم مخالفٌ منهم، والقياس.

وهذا مذهب أصحابه من بعده ومنهم إمام الحرمين الجويني (ت 478هـ)، فالأصلُ الأوَّل عنده هو ما نطق به الشَّارع -صلى الله عليه وسلَّم- وبهذا الاعتبار يدخل القرآن؛ لأنَّه مُتَلَقًّى عن رسول الله –صلى الله عليه وسلّم- قال -رحمه الله-: (فإنْ قيلَ: لِمَ لمْ تعدُّوا كتاب الله، قلنا: هو ممَّا تُلُقِّيَ من رسول الله، فكلُّ ما يقوله الرَّسول –صلى الله عليه وسلَّم- فمن الله)(2).

ثمَّ جعل الإجماع تاليًا بعد نطق الشَّارع؛ لأنَّه دليلُ إثبات الإجماع، ثمَّ يليه خبر الواحد، والقياس ثالثًا.

والملاحظ أنَّ إمام الحرمين -رحمه الله- لم يجعل العقل بين الأدلَّة.

وكذلك شأنُ الإمام الشيرازي (ت 476هـ) -رحمه الله- لم يتعرَّض في كتابه القيِّم في أصول الفقه الذي أسماه (اللُّمَع) لذكر العقل في أثناء سرده الأدلّة، بل ذكر أنَّها: خطاب الله -عزَّ وجلّ-، وخطابُ رسوله وأفعاله وتقريراته، وإجماع الأمّة، والقياس(3). وعلى هذا النّمط سار جميع الأصحاب.

المذهب الحنفي

وهكذا أئمّة الحنفيّة، فقد صرَّح الإمامُ أحمد بن محمد بن إسحاق، أبو علي الشاشي الحنفي (ت 344هـ) بأنَّ أصول الشريعة أربعة: كتاب الله، وسنَّة رسوله-صلى الله عليه وسلم- وإجماع الأمَّة، والقياس(4). وأمَّا فخرُ الإسلام البزدوي الحنفي (ت482هـ) فإنَّه يرى أنَّ أصول الشَّرع ثلاثة: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، وأمَّا القياس فإنَّه مستنبطٌ من هذه الأصول. وعلى هذا المنوال مشى صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي الكناني الحنفي (ت 747هـ) حيث يقول: (أصول الفقه: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس، وإن كان ذا فرعًا للثلاثة)(5).

فهؤلاء لم يجعل واحدٌ منهم العقلَ مصدرًا للتشريع.

المذهب المالكي

وإذا تصفحّنا كتب المالكيّة فإنَّنا نجدهم على هذا المنوال، حيث لم يجعلوا العقل مصدرًا من مصادر الشريعة. فلم يرد عن الإمام مالك ولا أحد من تلاميذه كابن القاسم، وأبي علي شقران بن علي القيرواني، وأسد بن الفرات، وابن غانم، وأبي خارجة عنبسة بن خارجة الغافقي، وعبد الرَّحمن بن أشرس. ولا من المتأخرين الذين أصَّلوا مذهب مالك أنَّ أحدًا منهم جعل العقل مصدرًا من مصادر التشريع.

فمن المتأخرين منهم الإمام ابن الحاجب -رحمه الله- (ت631هـ)، يقول: (الأدلّة الشرعيَّة: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس، والاستدلال)، ويعتبر أنَّ الكتاب هو الأصل، وأنَّ الجميع يرجع إليه(6).

أمَّا الشريف التلمساني المالكي (ت771هـ) فيرى أنَّ ما يتمسَّك به المستدلُّ على حكمٍ من الأحكام في المسائل الفقهيَّة منحصرٌ في جنسين: دليلٌ بنفسه و متضمِّنٌ للدليل.

الجنس الأول: الدَّليل بنفسه، يتنوَّع نوعين:

أ- أصلٌ بنفسه

ب- لازمٌ عن أصل

والنّوع الأول (الأصل بنفسه) صنفان:

- أصلٌ نقليّ

- أصلٌ عقليّ

ويعني بالأصل النقلي هنا الكتاب والسنّة، وبالأصل العقلي الاستصحاب.

والنوع الثاني ما كان (لازمًا عن أصل) وهو القياس بأنواعه.

الجنس الثاني: المتضمِّن للدليل، وهو الإجماع وقول الصحابي(7).

والملاحظ من الشريف –رحمه الله- أنّه أراد بالأصل العقلي الاستصحاب، وهو البراءة الأصليّة، بمعنى أنَّ الأصل الإباحة ما لم ينقل عن هذه الإباحة ناقلٌ من الشَّرع. وهذا مجالٌ صحيحٌ للعقل، فالعقل يقضي بأنَّه لا تكليف قبل ورود الشرع؛ لأنَّ الجميع متفقٌ على أنَّ العلم بعدم الدليل دليلٌ على البراءة من التكاليف، والعلم بعدم الدليل سبيله العقل، ولا طريق له إلاَّ العقل، ولكنَّ العقل هنا ليس منشئًا لحكمٍ جديدٍ أي ليس حاكمًا، فالبراءة الأصليَّة موجودةٌ لا يحكم بها العقل ولكنَّه يعرف الحكم بعدم الحكم الذي يغيرها فنحكم بها مستصحبين لحكمها الأصلي(8).

المذهب الحنبلي

والحنابلة متفقون على أنّه لا سلطة للعقل ولا مجال له في التشريع ولا في إنشاء الأحكام الشرعيَّة، ولكنَّ دوره في معرفة الأحكام واستنباطها، وأنَّه مصدِّقٌ لأحكام الشرع بمعنى أنَّها جاريةٌ على وفق العقول الرَّاجحة، وأنَّه لا تناقض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وأنَّه لا تضارب بين العقل والنَّقل.

فالإمام أبو الخطَّاب الحنبلي محفوظ بن أحمد بن الحسن-رحمه الله- (ت510هـ) يقول: (أمَّا الأدلَّةُ فهي: أصلٌ، ومعقول أصل، واستصحاب حال. فأمَّا الأصل: فهو الكتاب والسنّة والإجماع وقول واحدٍ من الصحابة، في إحدى الرِّوايتين عن أحمد، وأمَّا معقول أصل فهو: لحن الخطاب ودليل الخطاب. وأمَّا استصحاب حال: فاستصحاب حال العقل، واستصحاب حال الإجماع)(9).

وكان -رحمه الله- من أهمِّ العلماء الذين نبَّهوا على دور العقل، وأنَّه يتمحورُ حول دلالات النصّ، وهو ما عبّر عنه بلحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، ومعنى الخطاب. وهو ما يذكره عامّة علماء الأصول حول المنطوق والمفهوم ودلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء، وإبراز دور العقل فيها. وسوف أعرض لبيان ذلك إن شاء الله.

وعلى ذلك مشى المتأخِّرون من الحنابلة، فهذا ابن اللحام الحنبلي، وهو من علماء بعلبكّ من القرن التاسع (ت803هـ) يقول: (الأدلَّة الشرعيَّة هي: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس). فهو يبيِّن أنَّ الأصل الكتاب، والسنَّة مخبرةٌ عن حكم الله، والإجماع مستندٌ إليهما، والقياسُ مستنبطٌ منهما(10).

مذهب أئمَّة المعتزلة

لقد شاع عند علماء السنّة أنَّ المعتزلة يحكّمون العقل، وأنَّ للعقل مجالاً عندهم. وقالوا عنهم: إنَّ حكم العقل في المنافع الإباحة، وفي المضارِّ التحريم.

يقول الفخر الرَّازي في المحصول: (أمَّا الأدلّة العقلية فلا مجال لها عندنا في الأحكام لما بيَّنا أنّها لا تثبت إلاَّ بالشَّرع، وأمَّا عند المعتزلة فلها مجالٌ لأنَّ حكم العقل في المنافع الإباحة، وفي المضارّ التحريم أَو الحظر).

ويقول الإمام السبكي في جمع الجوامع (لا حكم إلا لله)، ويعلِّق عليه جلال الدين المحلّي شَاِرحُهُ فيقول: (فلا حكم للعقل بشيء مما سيأتي عن المعتزلة المعبَّر عن بعضه بالحسن والقبح).

ثمَّ يعود السبكي ويقرر بأنَّ الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته وصفة الكمال والنقص عقلي، وبمعنى ترتّب الثواب والعقاب شرعي، خلافًا للمعتزلة.

ويبين الشارح المراد بقولهم: إنَّه عقلي، أي يحكم به العقل.

هذا ما شاع من عبارات أهل السنة، وهم يتكلمون في مبحث الحاكم في أصول الفقه.

ومن العبارات المشهورة عندهم، وقال أهل السنَّة: الحاكم هو الله، وحَكَّمَتِ المعتزلة العقل، ورتَّبوا على ذلك أمورًا منها أنَّه لا تكليف قبل البعثة، ومسألة شكر المنعم هل هي بالشرع أَو بالعقل، إلَى آخر ما ألزموا به المعتزلة من إلزامات قد لا تخلو من نظر.

موقف المعتزلة أنفسهم من العقل

- قول الإمام القاضي عبد الجبَّار المعتزلي (ت 415هـ):

القاضي عبد الجبّار من أبرز علماء المعتزلة وهو صاحب كتاب (العمد)، وهو كتابٌ مفقودٌ، ولكنَّ أبا الحسين البصري صاحب (المعتمد) ينقل أقوال شيخه عبد الجبَّار، فأبو الحسين تلميذه وهو أحد أعمدة المعتزلة، وكتاب المعتمد لأبي الحسين البصري يعتبر إمامًا لمن جاء بعده، وهو أحد الأصول التي بني عليها كتاب (المحصول) للإمام الرازي.

وقبل بيان أقوال أبي الحسين البصري، نستمع إلَى القاضي عبد الجبَّار وهو يقول في كتاب (المغني) وهو وإن كان في العقائد لكن جعل منه الجزء السابع في الشرعيات. فقد ذكر في هذا الجزء الأدلة الشرعيَّة فقال: (وإنَّما نذكر الآن جمل الأدلة الشرعيَّة لوقوع الحاجة إليها في باب معرفة أصول الشرائع). ثمَّ بيَّن الأصول في أثناء الجزء السابع، وإذا هي لا تخرج عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

- وأمَّا الإمام أبو الحسين البصري (ت436هـ)

فإنَّه يقدِّم الكتاب والسنّة معًا، ويجعلهما (الأصل) الذي بنى عليه ما بعده، أي من الإجماع والقياس. ويعلل ذلك بقوله: (وإنّما قدّمنا جملة أبواب الخطاب على الإجماع لأنَّ الخطاب طريقنا إلَى صحته، ولأنَّ تقديم كلام الله وكلام رسوله أولى).

لكنَّه يعود فيقول: إنَّه يقدِّم الإجماع على الأخبار لأنَّ الأخبار منها آحاد ومنها متواتر، أمَّا الآحاد فالإجماع أحد ما يعلم به قبولها، وهي أيضًا أمارات فجاورنا بينها وبين القياس، وأمَّا المتواتر فإنَّها وإن كانت طريقًا إلَى معرفة الإجماع فإنَّه يجب تأخيرها عن الخطاب لمّا وجب أن نعرف الأدلة وفوائدها ثمَّ نتكلّم في طريق ثبوتها، وإنَّما أخَّرنا القياس عن الإجماع لأنَّ الإجماع طريقٌ إلَى صحَّة القياس.

وبهذا يتضح أنَّه سمَّى الكتاب والسنَّة بالخطاب وجمع بينهما، ثمَّ خصَّ الأخبار بفصلٍ خاصّ، ثمَّ أخَّر القياس عن الإجماع لأنَّ الإجماع طريقٌ إلَى صحَّة القياس، فهذه أصول الشرع عنده(11)، الكتاب والسنَّة والإجماع، والقياس.

فلم يرد في كتاب هذين العلمين تصريحٌ ولا إيماءٌ بأنَّ العقل مصدرٌ من مصادر التشريع.

وممن حقق في هذه القضيّة عبد العظيم الديب(12).

فقد عرض لكلام أبي الحسين البصري، وأثبت بما لا يترك مجالاً للشكِّ أنَّ المعتزلة لا يحكمون العقل في الأشياء سيّما بعد ورود الشرع، ولا يجعلون العقل مصدرًا من مصادر التشريع، بل العقل معرِّفٌ للحكم لا حاكم.

ويسوق كلام أبي الحسين البصري، وهو يبين رأي المعتزلة الصحيح حيث يقول أبو الحسين البصري: (إنَّه قيل إذا قلتم: إنَّ الأحكام المعلومة بنصِّ الشريعة أَو بالاستنباط أحكامٌ شرعية. وقلتم أيضًا: إنَّ الأحكام العقلية إذا لم تنقلها الشريعة هي شرعيّة أيضًا - فقد قلتم: إنَّ الأحكام كلها شرعيَّة. وإذا قلتم ذلك فكيف تقولون: إنَّ الأحكام منها عقلية ومنها شرعية؟، الجواب: إنَّ وصف الحكم بأنَّه شرعي يكون على وجهين: أحدهما يراد به أنّه حصل بنصِّ الشريعة، أَو بأفعال حاصلةٍٍ فيها، أَو باستنباطٍ من ذلك فقط؛ والآخر أنَّه حصل بذلك أَو بإمساك الشريعة عن نقله عن مقتضى العقل. فإذا قلنا: إنَّ الأحكام منها شرعية، ومنها عقليَّة - فإننا نريد الوجه الأول، أي منها عقليّ إما مركوزٌ في العقل أَو حاصلٌ بدليلٍ عقليّ، ومنها ما حصل بنصِّ الشريعة أَو بفعلٍ أَو باستنباطٍ، وكلّ واحدٍ من هذين القسمين مقابل للآخر. وإذا قلنا: إنَّ أصول الفقه هي طرق الأحكام الشرعيَّة فإنَّا نريد الوجه الثاني، وهو أنها طرق إلَى الأحكام الحاصلة بنصِّ الشريعة أَو بأفعال أَو باستنباط منها أَو بإمساك الشريعة عن نقله عن مقتضى العقل).

وكلامه يتمشَّى مع كلام أئمة السنَّة في أنَّ ما أمسكت الشريعة عن نقله وأبقته على حكم العقل فإنه طريق صحيحٌ إلَى معرفة أحكام الشرع وهو المعبَّر عنه بالبراءة الأصلية، وأنَّ ذلك يصحُّ أن يطلق عليه بأنَّه من الأحكام الشرعيَّة.

هكذا يقرر أبو الحسين البصري بأنَّ الأحكام كلّها شرعيّة، سواءٌ ما كان منها بدليلٍ شرعيٍّ، أَو استنباطٍ، أَو ما كان منها بإمساك الشريعة عن نقله عن مقتضى العقل، وهذا لا معنى له إلا أنَّه لا حاكم إلا الله، وذلك أنَّ إمساك الشريعة عن نقل الحكم عن مقتضى العقل هو حكمٌ شرعيٌّ كما قرر.

وقال أيضًا: (وأشرنا بقولنا: (حكمٌ شرعيّ) هو ما رجع أهل الشريعة في العلم به إلَى الشريعة، إمَّا بأن يستدلّوا عليه بأدلَّةٍ شرعيَّةٍ مبتدأةٍ، وإما بإمساك الشريعة عن نقله، فكلُّ ما سلك فيه الفقهاء هذا المسلك فهو حكمٌ شرعيّ، وما لم يسلكوا فيه هذا المسلك لا يسمَّى حكمًا شرعيًّا)(13).

وما قاله أبو الحسين البصري قال مثله أئمَّةٌ كبارٌ من أهل السنَّة، فهذا حجّة الإسلام الغزالي (ت505هـ) يذكر في كتابه (المستصفى) الأدلَّة فيذكر الكتاب، والسنَّة، والإجماع، ودليل العقل(14).

قال –رحمه الله-: (واعلم أنَّنا إذا حققنا النظر بأنَّ أصل الأحكام واحدٌ وهو قول الله، إذ قول الرسول-صلى الله عليه وسلم- ليس بحكمٍ، بل هو مخبر عن الله –تعالى- أنّه حكم كذا وكذا، فالحكم لله وحده، والإجماع يدلُّ على السنَّة، والسنَّة على حكم الله)، ثمَّ يقول: (إنَّا إذا نظرنا إلَى ظهور الحكم في حقِّنا فلا يظهرُ إلا بقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-؛ لأننا لا نسمع الكلام من الله ولا من جبريل، فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول، إذ الإجماع يدلّ على أنهم استندوا إلَى قوله).

ثمَّ تكلَّم عن الأصل الرابع وهو العقل مبيِّنًا دوره حيث يقول –رحمه الله-: (اعلم أنَّ الأحكام السمعيَّة لا تدرك بالعقل، لكن دلَّ العقل على براءة الذمَّة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل -عليهم السلام- وتأييدهم بالمعجزات، وانتفاء الأحكام معلومٌ بدليل العقل قبل ورود السمع، ونحن على استصحاب ذلك إلَى أن يرد السَّمع، فإذا جاء نبيٌّ وأوجب خمس صلواتٍ، فتبقى الصلاة السادسة غير واجبةٍ، لا بتصريح النبيِّ بنفيها، ولكن كان وجوبها منتفيًا، إذ لا مثبت للوجوب فتبقى على النفي الأصليّ لأنَّ نطقه بالإيجاب مقصورٌ على الأحكام الخمسة، فبقي على النفي في حق السادسة، وكأنَّ السمع لم يرد. وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوّال على النفي الأصلي، وإذا أوجب عبادةً في وقتٍ بقيت الذمّة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية)(15).

فانظر ما قصده الغزالي بدلالة العقل، هو ما قصده أبو الحسين البصري نفسه بقوله: (ما أمسكت الشريعة عن نقله عن مقتضى العقل)، وهو البراءة الأصلية، وهو ما دلَّ العقل على براءة الذمَّة من جميع الحقوق والتكاليف، وهذا معنى قولهم: (الأصل براءة الذمّة)، وهو ما يقول به جميع الفقهاء والأئمَّة، ولا خصوص فيه للمعتزلة.

ويشهد لما قلناه عن المعتزلة من أنَّهم لم يقولوا بأنَّ العقل هو الحاكم من دون الله -تبارك وتعالى-، وإن قالوا بالتحسين والتقبيح العقليين، الذي قصدوا به أنَّ العقل قادرٌ على كشف حُسْنِ الحَسَنِ وقبح القبيح، ويجيء الشرع مؤكِّدًا لما اقتضى العقل حسنه وقبحه.

يؤكِّد ذلك ما نصَّ عليه كثيرون من أهل السنَّة.

قال ابن قاضي الجبل الحنبلي (ت771هـ): (ليس مراد المعتزلة بأنَّ الأحكام عقلية أنَّ الأوصاف مستقلَّةٌ بالأحكام، ولا أنَّ العقل هو الموجب أَو المحرِّم، بل بمعناه عندهم أنَّ العقل أدرك أنَّ الله -تعالى- بحكمته البالغة كلَّف بترك المفاسد وتحصيل المصالح، فالعقل أدرك الإيجاب والتحريم لا أنَّه أوجبَ وحرَّم)(16).

وقال ابن السُّبكي –رحمه الله-: (واعلم أنَّ المعتزلة لا ينكرون أنَّ الله هو الشارع للأحكام، وإنَّما يقولون: إنَّ العقل يدرك أنَّ الله شرع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها، فهي طريقٌ عندهم إلَى العلم بالحكم الشرعيّ)(17).

وقال نظام الدِّين الحنفي (ت118هـ): (لا حكم إلا من الله –تعالى- بإجماع الأمَّة، لا كما في كتب بعض المشايخ أنَّ هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، فإنَّ هذا مما لا يجترئ عليه أحدٌ ممن يدَّعي الإسلام. بل إنَّما يقولون: إنَّ العقل مُعَرِّفٌ لبعض الأحكام الإلهيَّة سواءٌ ورد به الشرع أم لا)(18).

وقال البناني: (المعتزلة لا يجعلون العقل هو الحاكم، بل يوافقوننا على أنَّ الحاكم هو الله، وإنَّما محلّ النزاع بيننا وبينهم في أنَّ العقل هل يدرك الحكم من غير افتقارٍ إلَى الشرع أَو لا؟، فعندهم نعم لقولهم: إنَّ الأفعال في حدِّ ذاتها - بقطع النظر عن أوامر الشرع ونواهيه - يدرك العقل أحكامها وتستفاد منه، وإنَّما يجيء الشرع مؤكِّدًا لذلك، فهو كاشفٌ لتلك الأحكام التي أثبتها العقل)(19).

ومع ذلك فقد جنحوا بالعقل جنوحًا يخرجه في بعض المواضع عن كونه كاشفًا للأحكام، وذلك تحت تأثير العقائد التي تستولي على العقول والألباب، فجعلوا العقل ميزانًا لقبول الأحاديث وردِّها وإنْ كانت صحيحةً وثابتة، وهذا موردٌ تزلُّ فيه العقول. ولذلك قال المريسي: (إذا احتجُّوا عليكم بالقرآن فغالطوهم بالتأويل، وإذا احتجُّوا بالأخبار فادفعوها بالتكذيب)(20).

وقال النظَّام: (إنَّ جهة العقل قد تنسخ الأخبار)(21).

ومع ذلك فإننا نقول: إنَّ المعتزلة لم يجعلوا العقل مصدرًا من مصادر التشريع، وإنْ جنحوا به جنوحًا أخرجوه في بعض المواطن عن كونه كاشفًا لأحكام الله، وأمارةً عليها.

مذهب الإباضيَّة

لم أقف على أصول السادة الإباضيَّة إلا ما ذكره الإمام العلاَّمة ابن بركة السليمي البهلوي (ت362هـ)، فهو إمامٌ متقدِّمٌ في علمي الفقه والأصول، وكتابه (الجامع) من عيون كتب الإباضيَّة، وقد ذكر مقدّمةً في أصول الإباضيَّة لا تختلف في شيءٍ عمَّا ذكره فقهاء المسلمين من أهلِ السنَّة والمعتزلة.

فقد بيَّن الإمام ابن بركة بأنَّ القرآن الكريم هو مصدر الأحكام، وتكلَّم في مقدِّمة الجامع عن خصائص كتاب الله بأنَّه الكتاب الذي تكفَّل الله بحفظه، وأنَّه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثمََّ تكلَّم عن المحكم والمتشابه، والعموم والخصوص، والناسخ والمنسوخ، على غرار ما ذكره علماء الأصول. ثمَّ تكلَّم عن السنَّة، وأنَّها في المرتبة الثانية من القرآن الكريم، وهي عنده أصلٌ مستقلٌّ قائمٌ بنفسه كالقرآن الكريم، ومن ذلك قوله: (والسنَّة عملٌ بكتاب الله، وبه وجب اتباعه، وقوله -صلى الله عليه وسلم- هو الحَكَمُ بين المسلمين). وذكر بين الأدلَّة الإجماع، واعتبره الأصل الثالث قال-رحمه الله-: (إذ الإجماع حجَّة الله، وحجج الله لا يلحقها الفساد)(22).

والأصل الرابع: عنده القياس، فمن عباراته الرشيقة: (لا حظَّ للنظر مع التوقيف)، ومنها قوله: (وإذا ورد التوقيف لم يكن معه للنظر حظٌّ)(23). والنظر هو القياس، وهذا معنى قول الأصوليين: (لا اجتهاد في مورد النصّ). واستعمال القياس في فقه الإباضية شائعٌ حتى إنَّهم يخصصون به عموم السنَّة(24).

والأصل الخامس: هو الاستصحاب، ومن أمثلة ذلك:

استصحاب الطهارة الرافعة للحدث المبيحة للصلاة لمن كان متوضِّئًا ولم يعلم بحدوث ما يفسد وضوءه.

والأصل السادس: الاستحسان، ذكره ابن بركة في أثناء كلامه عن المنبوذ، وهو اللقيط، فلو وجده اثنان وأراد كلُّ واحدٍ منهما القيام به فإنَّهما يعطيانه معًا إنْ تقاربت دورهما، فإنْ تباعدتْ يستحسن أن يقرع بينهما(25).

والأصل السابع: المصالح المرسلة، فهو من الأدلة التبعية عند ابن بركة. ومن أمثلة ذلك النهي عن بيع أمهات الأولاد زمن عمر(26). فليس في بيعهنَّ نصٌّ بالإيجاب أَو المنع.

والأصل الثامن: هو شرع من قبلنا، ومن أمثلته جواز عقد النكاح بالصداق المجهول بقصَّة زواج سيِّدنا موسى –عليه السلام- من ابنة شعيب –عليه السلام- برعي غنم شعيب ثماني سنوات، وهذا عملٌ لا يخلو من جهالة.

والأصل التاسع: أخذه بالعرف، والأيمان عنده مبنيةٌ على العرف.

والأصل العاشر: الأخذ بدلالة الاقتران، ومن أمثلته ما ذكره ابن بركة –رحمه الله- أنَّ الإشهاد على الدَّين ليس بواجب، ودليله قوله –تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَو ضَعِيفًا أَو لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(27)، والإجماع واقعٌ على أنَّ الكتابة للدين ليست واجبة فكذلك الأمر بالإشهاد ليس بواجبٍ، بل هو على الندب(28).

وهكذا لم أجد نصًّا لابن بركة، وهو مَنْ هو في الفقه والأصول، يقول فيه بأنَّ العقل هو مصدرٌ من مصادر التشريع، لكن ذكر الاستصحاب وهو مجالٌ للعقل، إذ مؤدَّاه أنَّ الشرع لم ينقل الحكم عن مقتضى البراءة الأصليَّة، وهذا قول جماهير أهل العلم. ولم أقف على أقوال غيره، فعسى تحقيق ذلك أن يكون عند غيري ممن اطلع أكثر على أصولهم. ولكن مع قراءتي الواسعة لعشرات المجلَّدات في الفقه الإباضي وأنا أقوم بتقعيدها، لم أذكر أنِّي وجدت نصًّا يقضي بحاكميَّة العقل وأنَّه مصدرٌ لأحكام الشريعة، بل الحاكم عندهم هو الله، والرّسول مبين عنه، والإجماع والقياس كاشفان عن حكم الله، والعقل معرِّفٌ لحكم الله، إذ إنَّه آلة الفهم والاستنباط، شأنهم في ذلك شأن جميع المذاهب الإسلاميّة.

موقف الشيعة الإماميّة من العقل

ومما شاع أيضًا على ألسنة كثيرٍ من أهل العلم أنَّ فقهاء الشيعة يعتبرون العقل مصدرًا للتشريع، ومن هؤلاء الشيخ الإمام محمد أبو زهرة حيث يقول: (والشيعة الإماميَّة لأنَّهم ينتهجون منهج المعتزلة في العقائد اعتبروا العقل مصدرًا حيث لا يكون مصدرٌ من النصوص، وجمهور الفقهاء حيث لا ينهجون منهج المعتزلة لم يعتبروه أصلاً)(29).

وبالرّجوع إلَى مصادر الشيعة نجد خلاف ما ذكرَ عنهم.

يقول الشيخ محمد تقي الحكيم في كتابه (الأصول العامَّة في الفقه المقارن): (وقد عقدت في كتب بعض الشيعة والسنَّة أبواباً لما أسموه بدليل العقل، وعند فحص هذه الأبواب، نجد المعروض فيها التماس العقل كدليل على ما ينتج، الوظائف أوالأحكام الظاهريَّة، أي أنَّك تجده دليلاً على الأصل المنتج، لا أنَّه بنفسه أصلٌ منتجٌ لها)(30).

ثمَّ يذكر كلام الغزالي في (المستصفى) ويعقِّبُ عليه قائلاً: (فالعقل عنده- أي الغزالي- من الأدلَّة على البراءة، وهي أصلٌ منتجٌ للوظيفة، فهو دليلٌ على الأصل لا دليلٌ على الوظيفة مباشرة).

ثمَّ يستشهد أيضًا بما جاء في أحد كتب الشيعة للشيخ يوسف البحراني، فيقول: (وفي (الحدائق الناضرة)، المقام الثالث، في دليل العقل، وفسَّره بعضٌ بالبراءة الأصليَّة والاستصحاب، آخر قصره على الثاني، وآخر فسَّره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب، ورابع بالتلازم بين الحكمين المندرج فيه مقدِّمة الواجب، واستلزام الأمر بالشيء النَّهيَ عن ضدِّه الخاص، والدلالة الالتزاميَّة)(31).

وفي الحقيقة هذا نصٌّ عزيز، فإنَّه يوضح دور العقل ومجاله الصحيح.

مجال العقل ومدى سلطانه

فالعقل -كما قدَّمنا- ليس حاكمًا على أفعال العباد، وليس مشرِّعًا، فالحاكم هو الربُّ -جلَّ وعلا-، والمشرِّعُ هو الله وحده، وأمَّا العقل فهو معرِّفٌ لحكم الله، وسوف أتناول المواطن التي كان للعقل فيها دورٌ صحيحٌ ضمن هذه المسائل:

أ- التحسين والتقبيح: بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، فالعقل عند الجميع يدرك حسن الصدق وقبح الكذب بالبداهة، وقد يدرك ذلك بنوعٍ من التأمُّل كحسن الكذب النافع حيث جوَّزه الشرع، وقبح الصدق الضارّ، فهذا لا بدَّ فيه من التأمُّل، وهذا ما جنح إليه أبو منصور الماتريدي –رحمه الله- وهو مقبولٌ عند الأشاعرة من هذا الوجه، أمَّا من وجه الثواب والعقاب، فالعقل ليس له مجالٌ في ذلك.

والجميع متفقٌ على أنَّ ما لا يدرك حسنه عقلاً كصوم أوَّل يومٍ من رمضان، وإفطار أوَّل يومٍ من شوَّال - فالحكم فيه للشرع وليس للعقل.

ب- دلالة الإشارة: وهي دلالة اللفظ على لازمٍ غير مقصودٍ للمتكلِّم أصالةً ولا تبعًا، كقوله –تعالى-: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(32)، مع قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(33)، فقد دلَّ العقل هنا على أنَّ أقلَّ مدّة الحمل ستَّة أشهر، فهذا اللازم الإشاري غير مقصودٍ للشارع من سوق الكلام، والذي يدلُّ عليه هو العقل، إذ يلزمُ من طَرْحِ مدَّة الفصال -وهي عامان من مجموع المدَّتين- أن يبقى للحمل ستَّة أشهرٍ، وهي أقلُّ مدَّة الحمل، وهذا ما أنتجه العقل، وهذا دورٌ مقبولٌ للعقل في الإسلام، وهذا هو المراد بالتَّدَبُّرِ في قوله –تعالى-: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(34).

ج- دلالة الاقتضاء: وهي ودلالة الإشارة من المنطوق غير الصريح عند المتكلِّمين، وعرَّفوها بأنَّها (دلالة اللفظ على لازمٍ مقصودٍ للمتكلِّم لولاه لما صحَّ الكلام شرعًا ولا عقلاً). فاللازم الاقتضائي مقصودٌ للشارع بخلاف اللازم الإشاري فإنَّه غير مقصود، ومثَّلوا لها بقوله -صلى الله عليه وسلّم-: (رُفِعَ عن أمّتي الخطأُ والنِّسيانُ وما استكرهوا عليه)، ولمَّا كان الخطأ والنِّسيانُ واقعَين من الأمَّة قدَّروا لتصحيحه شرعًا كلمة (إثم)، أي رفع عن أمَّتي إثم الخطأ، فالإثم هو المقتضَى –بفتح الضاد-، والحامل على تصحيح الكلام هو الاقتضاء، وتصحيح الكلام هو المقتضِي –بكسر الضاد-.

ومثال ما يتوقَّف عليه صحَّة الكلام عقلاً قوله –تعالى-: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(35)، ومعلومٌ أنَّ الجدران لا تُسْأل، فاقتضى ذلك عقلاً تقدير كلمة (أهل القرية)، وهذا دورٌ صحيحٌ للعقل.

د- ومن مجالات العقل الاحتجاج بمفهوم الموافقة: وعرَّفه الاصوليّون بأنَّه دلالة اللفظ على حكمٍ في المسكوت عنه موافقٍ للمنطوق، فإنْ كان مساويًا له سُمِّيَ (مفهوم الموافقة المساوي)، كقوله –تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾(36)، ويستوي مع أكل مال اليتامى حرقه أَو إغراقه. وإن كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق سُمِّيَ (مفهوم الموافقة الأولى)، وذلك كدلالة قوله –تعالى-: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾(37). الدالّ بمفهومه على حرمة الشتم والضرب من باب أولى. والذي أعان على فهم ذلك هو العقل؛ لأنه إذا حرَّم الله أقلَّ أنواع الإيذاء، دلَّ العقل على أنَّ ما هو أشدُّ في الإيذاء والإيلام أولى بالحرمة.

هـ- ومن مجالاته الاحتجاج بمفهوم المخالفة: وهو ما يسمّونه بدليل الخطاب، وعرَّفوه بأنَّه (دلالة اللفظ على حكمٍ في المسكوت مخالف للمنطوق)، كدلالة قوله-صلى الله عليه وسلم-: (مطل الغنيِّ ظلمٌ) فإنَّ أئمَّة اللغة ومنهم الشافعيُّ وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم – قالا: إنَّ تقييد الظلم بوصف الغنى يدلُّ على أنَّ مطل المقتر وهو الفقير ليس بظلم. وهذا المعنى قاد إليه العقل. ولذلك لمَّا أنزل –تعالى- على رسوله: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(38)، قال -صلى الله عليه وسلَّم-: (لأزيدَنَّ على السبعين)، فقد فهم رسول الله أنَّ ما زاد على السبعين مخالفٌ للسبعين بدلالة العقل، حتى بيَّن الله له أنَّ السبعين هنا ليست قيدًا، وإنَّما خرجت مخرج التفخيم والتهويل، وبذلك يتعطَّل العمل بمفهوم المخالفة؛ لأنَّ العمل بالمفهوم موضع ضرورة، والضرورة تتقدَّرُ بقدرها، وقد بانت فائدة غير المفهوم، وهي أنَّ العدد خرج مخرج تفخيم الأمر لأنَّ السبعين في عُرْفِهِمْ عددٌ كبير.

و- ومن مجالاته قاعدة (الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه والعكس): وقد ذهب فريقٌ من علماء الأصول إلَى أنَّ الأمر بالشيء ليس نفس النهي عن الضدِّ، ولكن يستلزمه عقلاً، فإنَّ العقل دالٌّ على أنَّ من أمر بالجلوس فلا بدَّ لتحقيق الأمر من ترك ضده، وهو الوقوف.

ز- ومن مجالات العقل عند علماء الأصول قاعدة مقدِّمة الواجب، وهي (كلُّ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب)؛ لأنَّ مقدِّمة الواجب تارةً تكون شرطًا كالوضوء للصلاة، وتارةً تكون سببًا كَمِلْكِ النصاب للزكاة، وكلٌّ من السبب والشرط قد يكونان شرعيين أَو عقليين، ومثَّلوا للشرط العقلي بترك أضَّاد المأمور به فمن أمر بشيءٍ اشترط أن يترك ضدَّه، ومثَّلوا للشرط العقلي بالنَّظر المحصِّلِ للعلم بوجود البارئ -سبحانه وتعالى-.

ح- ومن مجالاته القياس، وهو مجال رحبٌ للعقل لأنَّه يعتمد على الرَّأي والاعتبار، والاعتبار مناطه العقل. والقياس حمل الفرع على الأصل لاشتراكهما في معنى جامعٍ، ولا يستطيع هذا الحمل إلا قائسٌ موفور العقل، له عقلٌ راجحٌ وبصرٌ ثاقب.

- ومن المواضع التي يلجأ فيها إلَى العقل استنباطُ العلل: ومن أهمِّ مجالات العقل في باب القياس هو العلَّة التي هي الركن الركين في القياس، لا سيَّما مسالك العلَّة التي تعتمد على الاجتهاد مثل:

المناسبة: وهي وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يصلح من ترتُّبِ الحكم عليه تحقيق مصلحةٍ أَو دفع مفسدة، وكلُّ ذلك بشهادة العقل، فإنَّ العقل قاضٍ بأنْ ترتَّب القطع على السَّرقة يؤدّي إلَى مصلحة ضروريَّة وهي حفظ المال، وهو قاضٍ بأنَّ ترتُّب الحدِّ على الزِّنا يؤدّي إلَى مصلحةٍ ضروريَّةٍ وهي حفظ الإنسان، وهكذا يقال في بقيَّة المصالح.

السّبر والتقسيم: ومن مجال العقل في باب العلَّة السبر والتقسيم، والمراد بالسبر اختبار الأوصاف، والتقسيم حصر الأوصاف. مثاله: ما روي أنَّ رجلاً أعرابيًّا ناثر الرَّأس يلطم خدّيه يقول: يا رسول الله هلكتُ وأهكلت، واقعتُ زوجتي في رمضان، فيقول الرسول –صلى الله عليه وسلّم-: (أعتق رقبة)، فيأتي المجتهدُ فيحصر الأوصاف غير المناسبة، ثمَّ إذا بقي وصفٌ لم يستطع إلغاءه لكونه مناسبًا فيعتبره هو العلَّة، وينيط الحكم به، فيقول مثلاً: كونه أعرابيًّا وصفٌ غير مناسبٍ للإعتاق، ولا كونه ناثر الرَّأس، ولا كونه يلطم خدّيه، بقي وصف الوقاع فإنَّه مناسبٌ للكفَّارة لأنَّه به اعتدى على حرمة الشَّهْرِ، فيناطُ الحكم بالوقاع، فكأنَّه قال –صلى الله عليه وسلَّم- له: (واقعتَ فأعتقْ رقبة).

ط- ومن مجالاته في باب القياس (الدَّوران): أي دوران الحكم مع علَّته وجودًا وعدمًا، فإنَّه من أقوى الأدلَّة. مثل الخمر إذا تخلَّلت طهرت، والخلُّ إذا تخمَّر حرم، فإنَّ ذلك دليلٌ على أنَّها حرمت للإسكار.

ومواطن العقل في أصول الفقه كثيرة، وحسبي ما ذكرت.

دور العقل في باب الإيمان

إنَّ للعقل دورًا عظيمًا في معرفة الربِّ -جلَّ وعلا- من خلال صفحات هذا الكون الهائل، ومن خلال الكتاب الكوني الذي يقرؤه العالم وغير العالم، الفاهم والأعرابيُّ الجلف، إنَّه كتابٌ ناطقٌ بعظمة الله وقدرته وعلمه وحكمته وعظمته.

وفي كُلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنَّه الواحدُ

وقد ندب الله العقل والفكر لأن ينظر ويدرس ويكتشف آثار عظمة هذا الخالق في أرجاء الكون. ولولا أنَّ العقل ينتج المعرفة لكان طلب النظر منه في الكون عبئًا عاريًا عن الفائدة، ولكان الجاهل كالعالم، والعاقل كالمجنون، والمكلَّف كالعجماوات. ومن هنا استقام عقلاً وشرعًا طلب النظر وتقليبه في السماء والأرض.

قال –تعالى-: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(39)، وقال: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ,وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)(40). ففي هذه الآية دليلان: الأوَّل هو الاستقراء لصفحات هذا الكون ليستدلَّ من مجموعها على محلِّ النزاع، وهو قدرة الله في إحياء الموتى يوم القيامة، فمن خلال إحياء الله النبات والأحياء في الكون استدلَّ على محلِّ النزاع وهو إحياء النَّاس بعد موتهم، فقال: كذلك الخروج يا كفَّار مكَّة!. الدليل الثاني وهو القياس، حيث جعل إحياء النبات أصلاً وإحياء الإنسان بعد موته فرعًا، والعلَّة كمال قدرة الربِّ على الإحياء في الأصل وفي الفرع.

والعقل في كلِّ ذلك مجالٌ خصبٌ، ومن هنا جاء التركيز على العقل في الخطاب القرآني، من ذلك قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(41)، وقوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(42).

والآيات هي العلامات والدلالات التي بثَّها الله في هذا الكون، وندب العقل إلَى التفكير فيها ليقودهم عقلهم وتفكيرهم إلَى معرفة الربِّ الخالق -جلَّ جلاله-. والقرآن دعا العقل إلَى التأمُّل الذي يقود إلَى معرفة كلِّ ما جاز التفكير فيه. أمَّا ما لا يجوز التفكير فيه كجملة ما استأثر الله به كحقائق ذاته وصفاته - فهذا مما لا سبيل إلَى معرفته ولا مجال للتفكير فيه لقوله –صلى الله عليه وسلم-: (تَفَكَّروا في الخَلْقِ ولا تَفَكَّروا في الخالق، فإنَّكم لن تقدروا قدره).

*********************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من لبنان.

1- الأنعام (62).

2- البرهان، فقرة 76-487، تحقيق عبد العظيم الديب، نشر إدارة الشؤون الدِّينيَّة، الدّوحة.

3- انظر: اللُّمع في أصول الفقه للشيرازي، تحقيق محيي الدين مستو ويوسف علي بديوي، دار ابن كثير،دمشق-بيروت، ص 249.

4- انظر: أصول الشاشيّ، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 13.

5- انظر: شرح التلويح على التوضيح، مكتبة محمد علي صبيح، القاهرة، ج1،ص32.

6- انظر: شرح مختصر ابن الحاجب.

7- انظر: مفتاح الوصول إلَى بناء الفروع على الأصول.

8- العقل عند الأصوليين للأستاذ الفاضل عبد العظيم محمد الديب، ص 50، ط أولى.

9- انظر: التمهيد في أصول الفقه،ج1، ص 6- 24- 31، نشر مركز البحث العلمي بجامعة أمّ القرى، 1985م.

10- انظر: المختصر في أصول الفقه، ص 70، مركز البحث العلمي بجامعة أمّ القرى.

11- انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري، ج1،ص13، المعهد الفرنسي بدمشق.

12- العقل عند الأصوليين ص55.

13- المعتمد لأبي الحسين البصري، ج2، ص994.

14- انظر: المستصفى، ج1،ص8-9-10.

15- المستصفى، ج1، ص217-219.

16- الوصول إلَى الأصول، ج1، ص58، مكتبة المعارف الرياض، تحقيق عبد الحميد علي أبو زنيد.

17- انظر: الإبهاج شرح المنهاج، ج1، ص34، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1.

18- فواتح الرَّحموت، لابن نظام الدين، ج1، ص25، دار إحياء التراث العربي.

19- انظر: حاشية البناني على شرح الجلال المحلّي على جمع الجوامع،مطبعة البابي الحلبي.

20- الصواعق المرسلة، لابن القيِّم، ج3، ص1038، دار العاصمة، الرياض، ط1، تحقيق علي بن محمد الدخيل الله.

21- تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ص32.

22- انظر: الجامع، لابن بركة، ج1، ص52-56-78.

23- الجامع، لابن بركة، ج1، ص398.

24- المصدر نفسه، ج1، ص376- 377.

25- المصدر نفسه، ج2، ص447.

26- المصدر نفسه، ج2، ص108.

27- البقرة (282).

28- الجامع، لابن بركة، ج2، ص353.

29- أصول الفقه، ص54.

30- الأصول العامَّة للفقه المقارن، ص279، دار الأندلس، بيروت.

31- المصدر السابق، ص280.

32- الأحقاف (15).

33- لقمان (14).

34- محمد (24).

35- يوسف (82).

36- النساء (10).

37- الإسراء (23).

38- التوبة (82).

39- يونس (101).

40- ق (6-11).

41- الحديد (17).

42- الرعد (4).

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=351

الأكثر مشاركة في الفيس بوك