الاقتصاد الموسيقي.. الأغنية الدينية أنموذجاً .. نحو إعادة تعريف التدين في المجتمعات العربية المعاصرة
«الموسيقا من أكثر الفنون ملاذًا يلجأ إليها الناس من أجل نسيان العالم»
بورديو.
لم يتوقف الجدل حول موقف الإسلام من الفن، فطيلة القرون الماضية، ظل النقاش الديني حول المسألة متأججًا، وقد استعان كل طرف بالأدلة الشرعية التي تحرِّم الفن أو تبيحه، وقد سبق أن كتب في الموضوع العديد من المفكرين والعلماء والفقهاء، منذ القديم، مثل: أبي حامد الغزالي، والقرافي وابن حزم، ومن المتأخرين محمد عبده. ويعتبر الفن من الموضوعات الجدالية في الفكر الإسلامي، حتى إن البناء الفكري والثقافي للمسلمين، تعود على ربط الفن بالأشياء «السلبية»، و«المجون» و«الفسق»، وغيره من الأوصاف التي تعطى لهذا الضرب من القيم الإنسانية الراقية.
وقد يعتقد البعض أن مسألة التوتر بين الدين والفن، تقتصر فقط على المجتمعات المسلمة، بل إن تفحص التراث الديني الغربي، يبين أن هذا التوتر عرفته العديد من الديانات والثقافات، بل حتى العديد من الأنظمة السياسية والأيديولوجية. فكما بيَّن ماكس فيبر «أن الديانات الطقوسية أو التعبدية تميل نحو الغناء والموسيقا، والفنون التصويرية، والشعر، بينما تميل «الديانات العقلانية» (مثل اليهودية والمسيحية القديمة، والبروتستانتية) إلى العداء للفن». ووفقًا لهذا المنطق، فإن الفن، والجنس، وبالتالي المرح، لهم إمكانية إيقاف عمل العقل على السلوك البشري أو جعل البشر ينحرفون عن الانتباه الكامل نحو الذات الإلهية».
حتى الأنظمة السياسية في أوربا، شهدت هي الأخرى الموقف نفسه من الفن، والفنون والمرح واللهو، على اعتبار أنها من الأمور التي تعوق حركة الإنسان عن العمل واليقظة الحضارية المطلوبة. لذلك فإن أوربا «قبل الثورة قامت السلطات بحملات باسم الأخلاق لكبح كل صور المتعة العامة لدى الطبقة الدنيا. فقد مُنعت كرة القدم، وشرب الخمر في العلن، وارتداء الأقنعة والرقص، كما وضعت الاحتفالات الكرنفالية التقليدية تحت رقابة مشددة». «ومع قدوم الثورة الفرنسية بدأ الزهد البرجوازي وكأنه وصل إلى أقصى درجاته. ففي المدة ما بين عامي 1893 و1894م شهدت فرنسا المحاولة اليعقوبية لتطهير باريس عن طريق غلق المواخير وبيوت القمار والقضاء على شرب الخمر وحتى الرقص والاحتفالات قد تم منعها فيما أسماه جيران برنتون بجمهورية الفضيلة». ولعل أغرب من ذلك هو موقف الشيوعيين من الفن، إذ عدُّوا بعض الفنون، مدعاة للتماهي مع القيم البرجوازية التي يعملون ضدها، مثل «موسيقا الجاز». في هذا السياق، نجد أن «الشيوعيين الروس الذين عبروا عن نفورهم إزاء النبيذ، والنساء، والأغاني، وبناء عليه فقد منع البلاشفة موسيقا الجاز على أنها فن برجوازي ساقط».
ماذا يمكن أن نستفيد من خلال هذه التوجهات، سواء الدينية بصفة عامة، أو السياسية الأيديولوجية في علاقتها بالفن وبالأغاني وبمظاهر الترفيه عن النفس؟
يمكن القول: إن علاقة التوتر بين الدين والفن، هي متأصلة في مختلف الديانات –خصوصًا السماوية- أو ما يحب أن يسميه «فيبر» العقلانية، التي كانت ترى أن كل انزياح عن الدين نحو الفن، هو إضعاف لمعنى الدين، بل إضعاف لقوة النظام الديني. ومن جهة أخرى، فإن الموقف الرافض لبعض أنواع الفنون من طرف الأنظمة السياسية- خصوصًا الشيوعية سابقًا- يبين مدى شدة التوتر بين الدين والحرية، ومحاولة «قهر» وإكراه المجتمع على فن معين. وهو الأمر الذي حصل في بعض المجتمعات العربية الإسلامية في العصور الأخيرة- بدءًا من القرن العشرين، عندما جرى «تجريم العديد من أشكال الفن والفنون» بدعوى أنها تضعف من كيان الدولة ومن تماسك المجتمع وتوحده.
ونحن عندما فكرنا في إثارة هذا الإشكال، إنما نحاول فهم عناصر التحول التي طالت البناء الذهني للمسلمين اليوم في علاقة الدين بالفن، وتحديدًا في الأغنية الدينية. نظرًا لأننا نلاحظ أن أغلب النقاشات التي تثار بين الفينة والأخرى في الفضاء العام وعبر الجرائد الوطنية والمواقع الإلكترونية، وكذا في بعض الندوات العلمية، تطرح هذه الإشكالية مع ما فيها من جدل لا يتوقف بين من يرى أن الإسلام دين الفن بامتياز، وكما قال «علي عزت بيغوفيتش»: «إن الفن ابن الدين، وإذا أراد الفن أن يبقى حيًّا، فعليه أن يستقي دائمًا من المصدر الذي جاء منه». (علي عزت بيغوفيتش، «الإسلام بين الشرق والغرب»، ترجمة، محمد يوسف عدس، (مؤسسة بافاريا)، مجلة (النور الكويتية)، ط، الأولى، (بيروت)، 1994م، ص، 148). لكن في الاتجاه المقابل، نجد تيارًا يعلن عن مواقف جد متصلبة من الفن، وذلك بالقول «بالتحريم». لهذا نتساءل: ما أبرز عناصر التحول التي طالت المجتمعات المسلمة اليوم في النظر للأغنية الدينية؟ وما أهم التجليات التي برزت فيما يسمى بـ«تسليع القيم الرمزية» ومن بينها الدين، عبر الأغنية الدينية التي تجاوزت كل الأطر والتحذيرات الدينية، لتصبح مجالًا للتعبير عن قيم السوق؟
الاقتصاد الموسيقي: بداية وحتى نقدم لموضوعنا ببعض المعطيات الرقمية، نشير إلى أن آخر تقرير «لاتحاد إذاعات الدول العربية»، توقف عند وجود ما لا يقل عن 124 قناة عربية خاصة بالأغاني. (اتحاد إذاعات الدول العربية، البث الفضائي العربي: التقرير السنوي، 2014م). ونظرًا لحجم هذه الأغاني والأشكال التعبيرية الموسيقية، فإنّ بعض الباحثين بدؤوا يتحدثون عن مفهوم جديد وهو «الاقتصاد الموسيقي»، الذي بدأ يضاهي في حجم مداخيله ما تدرُّه كبرى الشركات الصناعية في مجالات الطائرات والسيارات والحواسيب على المستوى العالمي. وعلى الرغم من أنّ هذا الاقتصاد ما زال في بداياته الأولى بالمنطقة العربية، إلا أنّ ذلك لا يمنع من التنبؤ مستقبلًا بتطور واعد. وقد سبق أن توقف التقرير الخامس للتنمية الثقافية (مؤسسة الفكر العربي، التقرير الخامس للتنمية الثقافية: الاقتصاد العربي القائم على المعرفة، 2012م) عند هذا المعطى، مؤكدًا أنّ هذا النوع من الاقتصادات بدأ يتموضع في المنطقة العربية. إذا كانت هذه المعطيات الأولية تبين لنا حجم التوسع الذي عرفته الأغنية العربية، فما الخريطة المورفولوجية لهذه الأغنية؟
مورفولوجية الأغنية العربية ودلالاتها السوسيولوجية
من خلال الوقوف على بعض التقارير والمعطيات، يظهر أنّ الأغنية العاطفية، تستأثر بـ70 من المئة من إجمالي الغناء العربي، يليها في المرتبة الثانية الأغنية الشعبية بـ22 من المئة، أما الديني فهو يمثل 7 من المئة من مجموع هذا الغناء، في حين ما زالت الأغنية الخاصة بالطفل جد محتشمة (مؤسسة الفكر العربي، التقرير الرابع للتنمية الثقافية، 2011م). وهو ما يطرح تحديات عدة تعترض العرض المقدم لهذه الفئة من المجتمع. أمّا الأغنية السياسية والوطنية، فقد توارت للخلف ولم يعد لها ذاك الإشعاع الذي تركته في خمسينيات القرن الماضي وستينياته؟ ولهذا يطرح السؤال بشدة: ما أسباب ذلك؟ وكيف يمكن فهم الخريطة الموسيقية الحالية؟ وهل تعبر عن تحول في البناء الثقافي للمجتمعات العربية؟ وما هي الدلالات الكبرى التي يمكن استخلاصها من ذلك؟
ماذا عن الأغنية الدينية؟ لماذا بدأ الإقبال على هذا النوع من الأغنية؟ ما الأسباب السوسيولوجية لذلك؟ كيف يمكن فهم العلاقة بين الدين والفن في هذا المستوى؟
يجدر بنا قبل مباشرة تحليل هذه الأسئلة، أن نقدم بعض المعطيات الرقمية التي تبين حجم التحول الذي حصل في التعاطي مع المنتجات الدينية الإلكترونية؛ إذ إن تقرير التنمية الثقافية لسنة 2012م، توقف عند معطى جد مهمّ ودالّ، وهو رصد اهتمامات الشباب في الفضاء الأزرق، حيث شكلت ثاني أهم قضية مركزية هيمنت على صفحات الفيسبوك، هي القضايا الدينية، حيث إنه إذا «كانت قضايا السينما والأغاني والتليفزيون والفضائيات والرياضة هي المثلث الذي شكل أكبر نسبة انتشار بين مستخدمي الفضاء الرقمي التفاعلي العربي، فإن القضايا الدينية كانت هي الحصان الأسود أو فرس الرهان القوي المنافس للقضايا الثلاث معًا، على عقول المواطنين العرب وقلوبهم وعواطفهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم، سواء ممن يكتبون وينشرون أو ممن يقرؤون ويتابعون». ومن بين القضايا التي تشكل الطلب على الدين، سجل الباحثون «وجود أكثر من 26 موضوعًا اهتم به المواطنون، وهي: الأدعية، والأناشيد، والأزهر، والاقتصاد الإسلامي، والأنبياء والرسل، والتطرف الديني، والتوحيد، والخطاب الديني، والخلافة، والربا، والرقية الشرعية، والسنة النبوية، والشريعة الإسلامية، والفتاوى الدينية، والكتب المقدسة».
إن هذه المعطيات وغيرها، تبين أن أغلبية المجتمعات العربية والإسلامية، دخلت عهدًا جديدًا عنوانه البارز هو استهلاك منتجات الحداثة وما بعد الحداثة، سواء المادية أو الرمزية. وقد دفع كل ذلك التدفق التكنولوجي (خصوصًا مع الإعلام الديني) إلى تغيير العديد من القناعات المتشددة التي كانت تنظر بعين الريبة للفن وللأغاني، بوصفها تشكل استلابًا ثقافيًّا، وبعدًا من الله. بل أصبحت بفعل هذه التكنولوجيا أداة لتبريرها وإيجاد قبول اجتماعي لها.
وقد توقف عدد من الباحثين عند هذه الحقيقة، ففيبر مثلًا، أكد أنّ «الموسيقا الصينية وسُلَّمُها الخماسي وآلة الكونغ مرتبطة بالعقيدة الكونفوشيوسية». أضف إلى ذلك، أنّ «البروتستانتية دعمت الغناء في الإصلاح الديني الذي تم في أوربا الشمالية، لما لها (أي الموسيقا) من أثر على الفرد للتخلص من السوداوية والتي قد تؤدي به لكي يكون فريسة للهواجس القاتلة أحيانًا. (ماكس فيبر، الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقا، ترجمة، حسن صقر، المنظمة العربية للترجمة، 2013م، بيروت، لبنان) .
عناصر التحول في الأغنية الدينية
إن حركات الإسلام السياسي، سواء كانت إصلاحية أو راديكالية أو سلفية متعصبة أو علمية، أو حركات صوفية، عملت على إعادة إنتاج المواقف نفسها من الفن ومن الموسيقا ومن الأغنية- لكن تحت ضغط المجتمع والتحولات العالمية في شتى الحقول بما فيها الديني، ولأن الفن هو أحد المكونات الأصيلة في النفس البشرية- ستضطر هذه الحركات إلى تبني شكل جديد من الفن وتحديدًا الموسيقا، تحت اسم «النشيد الإسلامي»، الذي بدأ باستلهام الترانيم الدينية النضالية التي تتغنى بالشهادة وبالجنة وبالجهاد وبالتضحية وبالمعاناة، أو ما يمكن تسميته بـ«أدب المحن». على اعتبار أن هذه الحركات الإسلاموية تعرضت لنوع من التضييق والتسلط والتعذيب في مجموعة من الدول العربية (سوريا، ومصر، والأردن). وقد عرف هذا النوع من النشيد في حقبة السبعينيات والثمانينيات، انتشارًا واسعًا في صفوف الشباب، خصوصًا عندما تزامن مع وجود حروب وتوترات في بعض الدول، كأفغانستان والبوسنة والهرسك. إلا أن الأمر سيتغير بشكل راديكالي مِمّا سُمِّيَ بـ«الأنشودة الدينية الملتزمة الإسلامية»، إلى نوع جديد من الأغنية الدينية التي تتماهى بشكل كبير مع أنواع من الفنون والأغاني الغربية، التي كانت إلى عهد قريب مرفوضة من طرف حركات الإسلام السياسي، خصوصًا إذا علمنا أن مواقف هذه الحركات، من الآلات الموسيقية كان محطَّ جدل كبير. ولأن المجتمع لم يعد يقبل بتلك الترانيم الدينية المغرقة في التغني بالمحن والنضالية اليوتوبية، فإن الاستجابة ستكون من خلال الجيل الثاني والثالث من أبناء حركات الإسلام السياسي، خصوصًا الذين يوجدون في الديار الأوربية والأميركية، عبر إخراج نوع من الفن/ الأغنية تعانق كل أنوع المعروضات التعبيرية الموسيقية –بما فيها الراب، والروك وغيرهما- وبالأدوات الموسيقية المتوافرة، لكي يرضوا الجمهور الذي بدا متعطشًا لهذا النوع من الأغاني التي يشعر فيها بالاسترخاء والسعادة والنشوة، بدل تلك التي تذكره بالموت وبالتعاسة وبالجهاد وبالمحن.
إن هذا التحول الذي عرفه الحقل الديني، وتأثره بثقافة السوق وبكل ما تعرضه الحداثة من منتجاتها، جعله يستدمج الوسائل والآليات الحديثة ويدخلها في العديد من منتوجاته وأفكاره وقيمه حتى موسيقاه، وذلك عبر التسويق لها اجتماعيًّا. ولكي نفهم جيدًا سر هذا التحول، فإنّ السوسيولوجي «أنتوني غايدنز» توصل إلى مفهوم جديد يمكن عدّه أنموذجًا تفسيريًّا، أكثر منه مفهومًا عاديًّا وبسيطًا، حيث يستعمل «تحلل التقليدي» كناية عن «أنّ البحث عن الإتمام الشخصي عبر الدين أو الفن مثلًا، قد يأخذ أحيانًا منحًى علاجيًّا أو حتى براغماتيًّا للتعاطي مع المعايير الاجتماعية أي التفاعل معها، والتحايل عليها أحيانًا وفق إستراتيجيات التخفي والتقنع في بعض المواقف، أو الظهور بمظهر التحجب المتأنق حد الإغراء في مواقف أخرى». (عادل بلحاج رحومة «التدين الشبابي: بحثًا عن معنى للهوية الذاتية»، مساهمة ضمن كتاب جماعي، «التصوف والسياسة الدينية» تنسيق د. محمد جحاح، إفريقيا الشرق، المغرب، الدار البيضاء، 2017م.
ويضيف في موضع آخر، أنّ التفاعلات التي تقع بين الدين ومنتجات الحداثة ومنها بطبيعة الحال، الموسيقا العصرية، التي تتخذ صبغة تراثية، لا تخرج عن تلك الإستراتيجيات والمزاوجات التي يقيمها الأفراد والجماعات لا في علاقتهم بالمقدس، لنصل إلى حالة مفارقة، وهي «تهجين الحديث والتقليدي معًا» تهجينًا ينشئ حالة مستحدثة يسميها غايدنز التحلل التقليدي، أي تفكك القوالب الذهنية التي صيغت مع الحداثة الأولى ومع المجتمع التقليدي الذي سبقها، «فهي القوالب الذهنية التي كانت تقوم على جملة المؤسسات الاجتماعية والمعايير الثقافية وكأنّها مسلمات شبه طبيعية» (بلحاج، 2016م).
بالموازاة مع هذا المعطى، نجد أنّ الأغنية الدينية، «تمثل استصحابًا لمناخ عام يتزايد فيه دور الدين في حياة الناس ويبدو العرب وكأنّهم يحتمون بالدين ويجدون فيه السكينة والملاذ، هربًا من وطأة الواقع الاقتصادي والاجتماعي وربما النفسي أيضًا، وقد لاقى الكثير من هذه الأغنيات نجاحًا ملحوظًا لدى الجمهور العربي إلى حد استغلالها كنغمات شخصية مميزة لرنين الهواتف المحمولة» (مؤسسة الفكر العربي، التقرير الرابع).
البوب الإسلامي
لا يمكن فهم جزء مما يعتمل في الحياة المجتمعية، دون النظر بدقة لما يقع في تعبيراتها الفنية بصفة عامة، فالفن يعكس ثقافة المجتمع وكما كان يقول «روجي باستيد»: «الفن قيمة إعلامية مشهودة وأداة متميزة لاكتشاف محركات ازدهار المجتمعات كيف يستوحي البشر؟ كيف يخلقون حاجات لأنفسهم؟ كيف تنعقد صلات تواطؤ أو تعارض ضمني يقوم عليها تعويض القوى وحاكمية البشر» (ناتالي إينيك، سوسيولوجيا الفن، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة: حسن جواد قبيسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2011م.
وإذا أردنا أن نفهم هذا التحليل السوسيولوجي، فإنّنا عندما نتأمل بعض المؤشرات التي تبين نسبة المتابعة للمغنيين «الإسلاميين»، أو ما يمكن أن نطلق عليه «البوب الإسلامي»، كـ«ماهر زين» أو «سامي يوسف». حيث يعبران عن نماذج دالة على بروز جيل جديد من المغنين «الملتزمين». إذ يعدّ «زين» «أن بروز هذه الموجة الجديدة من الفنانين الملتزمين أمر جيد جدًّا؛ لأنه يعطي تنوعًا وانتشارًا أمام الشباب وبالتالي اختيارات وبدائل عما هو مطروح. كما دافع عن دور الغناء الهادف في تعديل الكثير من السلوكيات والمفاهيم. حيث قال: الغناء يوصل رسائل مهمة للشباب والمواطنين على اختلاف فئاتهم، كما أن بإمكانه تغيير سلوكياتهم وذهنياتهم السلبية التي لازمتهم لسنوات». ومن جهة أخرى، تبين أرقام المتابعات، نوعية الاهتمام الذي يحظى به هذا الفنان. إذ تشير بعض المعطيات إلى أن بعض أغانيه «يا نبي سلام عليك» حققت رقم 100 مليون مشاهدة، وأغنية «إن شاء الله» على 60 مليون مشاهدة. في حين أن «سامي يوسف» حقق بدوره نجاحًا باهرًا، حيث أطلقت عليه مجلة التايمز البريطانية لقب «أكبر نجم روك مسلم» ولُقب بـ«أشهر مسلم بريطاني في العالم» من قبل مجلة الغارديان. لقد كانت مجرد مسألة وقت، وعُدَّتْ موسيقاه البديل المنافس للموسيقا الغربية السائدة.
انطلاقًا من كل ما سبق، يمكن أن نفهم جزءًا مما يرشح في البنية الخلفية للمجتمع عبر مرآة الأغنية الدينية. فهذه الأغنية، هي تعبير عن وجود حالة الاستيهامات للدين في علاقته بمنتجات الحداثة وما بعد الحداثة، عند أغلبية المجتمعات العربية التي تحاول أن تقول: إنه إذا كان للغرب نجومه في الأغنية وفي الكرة وفي الفن، فإننا نحن المسلمين لنا نجومنا ونماذجنا التي تؤشر على وجود واقع اجتماعي، يتسم بوجود توتر بين الواقع والمثال.
لكن ليست هذه الخلاصة الوحيدة التي يمكن أن نستجليها من بروز الأغنية الدينية، بل إنّ عوامل مثل ثقافة الاستهلاك والعولمة والصورة وما ينتجه كل ذلك من استتباعات قيمية بالأساس، كالشغف بالصور الجذابة وبالصوت الشجي والمظهر الجميل للمغني والأنيق والافتتان بمظاهر الترف، كل ذلك يجعل من المجتمع سلة ترمى فيها الماركات العالية الجودة بما فيها الأغنية. وقد غذى ذلك التحول الذي وقع في «دور الموسيقا المسموعة من الإمتاع، إلى ثقافة السوق، فمع موسيقا الأفلام» تحول الهدف إلى «إنتاج الفلم» أما في زمن الفيديو كليب فقد انقلبت الأدوار وصارت دلالة إنجاح الأغنية بين جمهور الأغنية هو رواجها في السوق.
إنّه انقلاب من سلطة الإبداع والرأسمال الرمزي إلى سلطة المال والرأسمال المالي». ويمكن أن نضيف تفسيرًا آخر طرحه فيبر في كتابه: «الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقا، 2013م»، عندما أكد أنّ «هيمنة العصر الاستهلاكي ومن خلفه النظام الرأسمالي حول الفرد إلى كائن مستهلك وخلق مشهديات لا حصر لها وإعلانات ميديا وسخر الموسيقا لمقاصد ترويجية بحتة وبالتالي حوَّلها إلى سلعة». ولعلنا لا نعدم الشواهد من أرض الواقع، على هذا التوصيف الذي تنبه له فيبر في بداية القرن العشرين، وإن كان يتحدث عن الثقافة الغربية، فإنّ الأمر –بفعل العولمة الجارفة- أصبح ينطبق على العديد من الشعوب والمجتمعات، بما فيها العربية والإسلامية. ولهذا إذا كان «فيبر» يقول: إنّ الدين عزاء المحرومين، فإنّني أقول: «الأغنية الدينية اليوم عزاء المحرومين». إذ نجد المواطن العربي، يعيش على حالة من الاستيهامات بين الواقع الاقتصادي والسياسي حتى الثقافي/ الديني، الذي يشرط هذا الكائن بمجموعة من الإشراطات، التي تحد من حريته ومن فاعليته وقدرته على التعبير عن الذات، ومن جهة ثانية، يجد نفسه بحكم الهيموجونية الكونية التسليعية والاستهلاكية، منغمسًا في النهل منها، ولو بشكل افتراضي ويوتوبي أحيانًا، بدافع التسلية والترفيه عن النفس، وبدوافع أخرى، كالبحث عن السعادة والهروب من الواقع أو بلغة السوسيولوجيين «الخروج عن العالم». هكذا تتخيل المرأة العربية والمسلمة (أو الرجل العربي) نفسها بجانب أجمل فتى/ مغنٍّ وفي أحلى سيارة ولديها مال كثير وتنعم بسعادة ومتعة لا تنقطعان، لكن بتغطية دينية وبشرعية رمزية لا مثيل لها.
آفاق للتحاور والنقاش
بالموازاة مع هذا التحول الكبير الذي حصل في البناء الذهني للمجتمعات المسلمة في تعاطيها للفن، فإن البروز القوي للأغنية الدينية، كان مؤشرًا دالًّا على وقوع انقلاب في البراديغم الحاكم لتمثلات المجتمع المسلم لهذا الشكل الفني الجديد. فبعدما كان النقاش محتدمًا حول جواز أو عدم جواز استعمال الآلات الموسيقية الحديثة في هذا النوع الموسيقي، تحول مع ثقافة السوق وثقافة الاستهلاك، إلى أمر عاديّ بل محبوب ومقبول اجتماعيًّا. وقد يبدو الأمر عاديًّا عند البعض، لكن من وجهة نظر سوسيولوجية، وخصوصًا في تخصص سوسيولوجيا الفن، فإن الموضوع يثير العديد من الملاحظات ومن التأويلات. إذ ليس غريبًا أن يكون «الفن هو شكل من الأشكال الأخرى للنشاط الاجتماعي يتمتع بخصائص تميزه»، وهذه الخصائص الاجتماعية هي التي تستحق أن يتوقف عندها الباحث السوسيولوجي؛ لأننا نعلم أن إنتاج نوع موسيقي ما، وترويجه واستهلاكه ليس بمحض الصدفة وليس بلعبة حظ، بل هو بناء اجتماعي، تتداخل فيه العديد من العوامل والمتغيرات. فكيف يمكن توضيح ذلك؟
فالأغنية الدينية الحديثة، تعبر عن موجة إعادة تعريف للتدين في المجتمعات المعاصرة، وخصوصًا المجتمعات العربية والإسلامية؛ لأن الدين كان ولا يزال هو المؤطر للبناءات الثقافية والأيديولوجية لهذه المجتمعات، لكن مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وقع تحول دال في التعاطي مع المسألة الدينية؛ إذ إن الإخفاق العربي في قضايا عدة (فلسطين/ التنمية/ فشل المشروع القومي السياسي/ تراجع دولة الدولة الوطنية…)، دفع المجتمعات إلى الاحتماء بالدين مجددًا. في حين أن موجة التحول الثاني حصلت في نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، التي كانت الأقوى في التعبير عن حاجة المجتمعات القوية للمكون الديني، الذي تمظهر في وجود حالات من القلق واللايقين والصدمة وفقدان الاتجاه. وقد كان ذلك بسبب التحديث القسري الذي حصل في العديد من هذه المجتمعات، هذا إذا علمنا أن التحديث يطال في بعض الأحيان كلتا البنيتين الفوقية والتحتية، إلا أن هذا التحديث لم يكن سلسًا ومنسابًا؛ لأنه ببساطة ليس من منتوج المجتمع، بل هو نتيجة العولمة وتأثيرها القوي في الأنساق كافة. ولهذا وقع ما يمكن تسميته بالحداثة المعكوسة، أي الحداثة بصيغة الجمع بين التقليدي والحديث، وفي هذا السياق، فإن البروز القوي للأغنية الدينية، التي تستحضر آخر منتجات الحداثة، مع التغني بمُثُل وقيم ومبادئ، تعود للدين أو لأحد تأويلاته، فإن ذلك ما يجعلنا نتحدث عن مقولة «تحلل التقليدي» التي تعني أن التقليد لا يزول، بل يعاد تعريفه في ضوء منتجات الحداثة. أو كما يسميه البعض «أسلمة الحداثة».