الدعوة لحوار الحضارات

تأييد الدعوة لحوار الحضارات: البحث عن جذور مشتركة وتحقيق تعاون علمي بين القارات: بقلم- بروفيسور د. رومان هيرتسوج

إن الأحداث اليومية ومصادر الانزعاج السياسية العابرة التي تسترعي انتباهنا تخفي وراءها تطورات ذات بعد تاريخي تلعب غالبا في حياتنا دورا اكثر تأثيرا مما نستطيع ادراكه . وهذه التطورات لا يمكن ان نجعلها تسير بسرعة اكثر او ان نغير مجراها بمجرد اصدار نداءات او اية قرارات بذلك. ان هذه التطورات تغذيها اسهامات العديد من الاشخاص كما انها خلاصة لتجارب الاجيال العديدة وهي تؤثر بدورها في مجرى التاريخ بخطى بطيئة وان كانت دؤوبة. ويعتبر تاريخ حضارات العالم احد هذه التطورات التي تسير بخطى بطيئة. اذا تحدثنا اليوم عن حوار الحضارات وطالبنا باجراء هذا الحوار ـ كما فعلت انا شخصيا في مناسبات مختلفة ــ فعلينا ان نضع نصب أعيننا ان كل حضارة هي نتيجة لتاريخ طويل. وكل شخص ينتمي الى هذه الحضارة متأثر بالغ التأثير وبشكل يمس عواطفه بتطورات وتحولات موروثة تعود الى عدة قرون من الزمن وتتحكم في تصوراته وتجاربه في الحياة. وعلاوة على ذلك فان الحضارات المختلفة كانت دائما خلال عمليات التماثل فيما بينها تميل الى الابتعاد عن بعضها والتأكيد على العوامل التي تفرق بينها اكثر من تأكيدها على العوامل المشتركة. عندما نطالب بالحوار بين الحضارات, فلا يستطيع احد ان يتوقع ان هذه الحضارات ستدخل في عهد يطبعه الحوار بمجرد اصدار امر بذلك. ان التفهم للسير البطيء للتحولات الحضارية والتحلي بالصبر علاوة على قدر كبير من الواقعية, كلها عوامل يمكن حتما اعتبارها خصالا طيبة لكل من يدخل في مثل هذا الحوار. وباعتبار ان هذا المشروع يعد مشروعا بعيد المدى, فينبغي الدخول في هذا الحوار في اقرب اجل, خاصة وان الاتصالات بين الحضارات تعرف يوما بعد يوم نموا متزايدا بشكل أو بآخر. وقد انتهت العزلة التي كانت سائدة لعدة قرون بسبب ما حدث من عمليات تكامل بين دول العالم عن طريق الاتصالات الدولية والهجرة ووسائل الاتصال والعلاقات الاقتصادية المتبادلة. في اول وهلة يبرز لكل طرف ماهو غريب عنه لدى الطرف الآخر, مما يبعث على شعوره بالخوف ويدفعه الى اتخاذ مواقف دفاعية. وهناك من يتحدث في هذا الصدد عن وجود خطر داهم بحدوث صدام (ايضا في المجال العسكري) بين الحضارات كما لو كان هذا الامر حدثا بديهيا او تلقائيا من احداث التاريخ الحتمية. ولكن بغض النظر عن انه ليس في التاريخ شيء حتمي بالضرورة, لا اعتقد بأن هذا السيناريو المهول ينبغي ان يفرض علينا البقاء مكتوفي الايدي منتظرين حدوث الكارثة. اننا نستطيع بالتأكيد ان نتصدى لذلك باجراء حوار بين الحضارات. وهذا الحوار, مهما كان عسيرا, فهو استراتيجية يحكمها العقل, وانا على يقين من انها ستكلل بالنجاح على المدى البعيد, ويمكن ان نعتمد في تحقيق هذه الاستراتيجية على كون الحضارة ليست فقط وسيلة لبناء الهوية وبالتالي ابراز الاختلاف عن الغير, بل هي ايضا وسيلة للتعامل مع من نعيش معهم في هذا العالم جميعا. وقد كانت كل حضارة تشكل في بدايتها مشروع كيان مخصصا ليعيش فيه جميع الناس, ونظرا للصفة الشمولية لهذه المهمة والتحدي نفسه السائد في كل مكان للتحكم في الطبيعة والحفاظ عليها وكبح جماح العنف في التعايش بين الناس واعطاء معنى لحياة الانسان, فمن المحتمل ان الحضارات مازالت حتى يومنا هذا تتوفر على حد ادنى من العوامل المشتركة بينها, مهما تباعدت العقائد الدينية, وهكذا نستطيع التوصل الى تحقيق نواة لحضارة عالمية تسهم فيها كل الثقافات. وكمثال على احتمال مواجهة يمكن التخفيف من حدتها عن طريق الاستعداد للحوار ينبغي التطرق الى مفهومي (الغرب) و(الاسلام) . اولا ان هاتين العبارتين يكتنفهما نوع من الغموض, فلو كان المقصود هو صراع ديني فقط, فينبغي في هذه الحالة الحديث عن مواجهة بين (الاسلام والمسيحية) , غير ان هذا التعبير ايضا لن يكون مطابقا للواقع, وبما ان الاسلام والمسيحية كديانتين يجمع بينهما الايمان بالله الواحد, الذي آمن به ابراهيم الخليل, وتتبعان تعاليم اخلاقية معينة, فليس هناك ما يوجب حتما وجود مصدر للصراع بينهما, وسيكون ايضا من الخطأ ان نصف هذا الصراع الذي يهدد بان يحدث, بأنه خلاف بين (الغرب والشرقين الاوسط والادنى) . لان الامر هنا لا يتعلق بصراع ذي طابع جغرافي بين دول او مناطق او امبراطوريات, وعدم التناسق الغريب الواضح في عبارتي (الغرب/الاسلام) يبين ان الامر هنا لا يتعلق بصراع ديني بالمعنى الضيق ولا بصراع بين مناطق من العالم. والواقع ان الامر هنا يتعلق بالخلافات السائدة بين الحضارات بمعنى اوسع يشمل العقليات وانماط الحياة والقناعات السياسية والانظمة الاقتصادية. وحتى نستطيع الحيلولة دون تحول هذه الخلافات الى صراعات, يتعين علينا في البداية ان نكف عن التصور القائل بأن كل طرف من هذين الطرفين يشكل كتلة موحدة في حد ذاته. فأوروبا بطبيعة الحال تشكل تنوعا كبيرا في طرق التفكير وانماط الحياة والقناعات السياسية والانظمة الاقتصادية المختلفة, كما انه ينبغي ان نعلم ان العالم الاسلامي هو ايضا يشكل كيانا زاخرا بالتنوع لما يشمله من مختلف البلدان والمناطق والاتجاهات والمدارس. وهذا التنوع شيء طبيعي نظرا لتاريخ عمره 1300 عام ونظرا لعدد المسلمين البالغ اليوم 1.1 مليار. وقد ادى جهل هذه الحقائق خلال العقود المنصرمة الى حدوث مواجهات ساهمت بدورها في ترسيخ صورة العدو عند كل طرف عن الطرف الآخر مما جعل من الصعب تكوين صورة عن الآخر تتسم بالنزاهة. وعندما حضرت حفل منح جائزة دور النشر الالمانية للمستشرقة الالمانية الاستاذة آني ماري شيمل, عشت انا ايضا تجربة من هذا النوع في الحكم على الاخر على نحو تعميمي مطلق, والمطلوب هنا بالضبط هو التغلب على هذه الاحكام المتسرعة والمبالغ فيها باعطاء صورة دقيقة واقعية عن الآخر. ومما يزيد من سعادتي ان هناك منذ زمن قصير العديد من الاصوات التي اصبحت تبرز نابعة من العالم الاسلامي والتي تشاركني نفس الاهتمام, اي نشر كل طرف لثقافته بشكل موضوعي وفهم الثقافة الاخرى واعطاؤها ما تستحق من التقدير. وقد قام على وجه الخصوص السيد خاتمي رئيس الدولة الايراني في خطابه امام جمعية الامم المتحدة الذي نال اعجاب الجميع, ومن خلال مقالتين تم نشرهما, بطرح خطوط تلك المواجهات بشكل يتسم بالحكمة السياسية والدقة الفكرية البالغة, كما قام في نفس الوقت بطرح فكرة اجراء حوار بين الحضارات. ومما يزيد من اهمية ذلك ان الرئيس خاتمي مطلع على حقائق الغرب من خلال تجربته الشخصية ودراسته العميقة لتاريخ الفكر الغربي كما انه يبدي رأيه هنا كمسلم. ونظرا لما اكتسبناه في اوروبا خاصة من تجارب في مجال التعدد الثقافي فانه بامكاننا التجاوب مع هذه الفكرة المطروحة بالدخول الى حوار بين الحضارات, غير انه ينبغي ان نكون على استعداد لاستخدام هذا الحوار بالنسبة لنا كمرآة تعكس واقعنا ايضا. ونحن في الغرب نميل الى النظر الى تصرفاتنا على انها معقولة وتتسم بالعقلانية بينما ننظر الى ما يجري في الثقافات الاخرى على انه لا عقلاني, ومن المحتمل جدا ان الثقافات الاخرى ترى في هذا الامر عكس ذلك تماما, وفي نهاية المطاف فان هذا الامر لن ينال كامل اعجابنا. وهناك مثل يقول ما معناه قد يكون القيصر مجردا من ملابسه او ان هذه الملابس ليست باهرة كما يتصورها هو. على كل حال فان ما يحدث هنا يستحق الاهتمام. واكتشاف حقيقة ان العالم الاسلامي لا يشكل كتلة موحدة وغير قادرة على التفاهم والحوار مع الغرب, قد يكون امرا غير مريح بالنسبة للبعض في الغرب, لان تصوير الآخر بأنه عدو والحفاظ على هذه الصورة كان دائما امرا اسهل من اعطاء صورة موضوعية واقعية عن الآخر والتعامل معه بما يتناسب مع ذلك. اننا اليوم في امس الحاجة الى ان نعيد الى الاذهان من جديد التقاليد الروحية الكبرى النابعة من الاسلام ومساهماته الاجتماعية والحضارية ونفرق بينها وبين اعمال الارهابيين والمتعصبين التي ليست الا صورة مشوهة وشاذة عن الاسلام. ونحن نطالب بنفس الشيء عندما يقوم بعض المتطرفين في الغرب بارتكاب خيانة في حق حضارتهم ونشر صورة سلبية لثقافتهم. ان من ينظر الى الامور بامعان ــ ومن يقرأ بعناية ما عبر عنه الرئىس خاتمي ـ فانه سيدرك ان الحدود والفروق لا توجد فقط بين (الاسلام) و(الغرب) , بل انه سيرى بان اشكالا حاسمة من القطيعة والخلافات المؤلمة تحدث ايضا داخل كل دائرة من هاتين الدائرتين الحضاريتين. وقد اسرد الرئيس خاتمي مثالا على احد هذه الخلافات التي تحصل داخل الحضارة نفسها بعبارتي (التقاليد) و(الحداثة) . انها صفات نعرفها نحن في الغرب ايضا معرفة جيدة نصف بها تلك الحالات المتسمة بالتوتر والتي ليست غريبة عنا. وقد اظهر الرئىس خاتمي مواقع التوتر هذه في مجتمعه وفتح بذلك الباب على مصراعيه للدخول في حوار بين الاسلام والغرب. والجدير بالذكر ان الحضارات التي تطرح العلاقة بين التقاليد والحداثة كموضوع للنقاش, هي وحدها القادرة على الدخول في نقاش فيما بينها. ليس من السهل علينا نحن ايضا تحقيق توازن ملائم بين التقاليد والحداثة. وفي عالم تسيطر عليه السرعة والفعالية وتحقيق النجاح الاقتصادي اصبحنا نشعر بخطر فقدان الكثير مما ينبغي ان يكون اساسا لمجتمعنا كالقيم المشتركة والهوية النابعة من التقاليد على سبيل المثال. ان العالم الذي سلبت منه العقلانية قد اصبح مهددا بفقدان معناه ووجهته الصحيحة وقد اصبحت الروابط البديهية كالروابط العائلية ايضا آخذة في الانهيار. مهما كان استعداد الانسان لتقبل التغيير المطلوب منه في العالم الحديث, فينبغي ايضا ابراز الثوابت التي لا تتغير, لان الانسان في حياته يحتاج الى ما يدعم توجهه ويشكل سندا يركن اليه حتى يستطيع تنمية قدرته على التغيير. وهو يجد هذا السند في كل من التقاليد والقيم والثقافة. ان الاحداث العديدة التي رافقت مسيرة العلمانية عندنا في الغرب يجوز انتقادها لاسباب معقولة. ولذلك يجدر بنا نحن ايضا ان نفكر فيما ينبغي عمله للتصدي للتدهور المتزايد في السلوك الاخلاقي والآداب العامة. ولكن لا يجوز ان نعتمد في هذا الصدد فقط على المبادىء المفروضة علينا, بل يتعين علينا ــ على حد تعبير الفيلسوف كانت ــ ان نضع ثقتنا في (القانون الاخلاقي داخلنا) وهذا يعني ان نعتمد على عقل الانسان الحر وضميره. ولا يجوز ان ننسى أن الحداثة الغربية قد حققت مكتسبات, لايريد أحد من الذين عرفوها ان يستغنى عنها ابدا. ومن هذه المكتسبات التي تحققت في اوروبا مثلا حقوق الانسان والفصل بين الكنيسة والدولة, ولو كانت هناك فروق كبيرة في هذه المجال من بلد لآخر. سيكون من الخطأ النظر الى ماسبق ذكره على أنه تطور تدريجي طبيعي. ان الفصل بين الكنيسة والدولة مثلا وما يرتبط بذلك من علاقة خاصة بين السلطة الشرعية ووضع الفرد داخل المجتمع لم تأت في اوروبا نتيجة للادراك الطوعي أو للتنويو فقط, بل كانت نابعة من تجارب الحروب والحروب الاهلية الكبرى وآخرها ما يسمى بحرب الثلاثين سنة. وتلك المذابح البشعة التي دمرت اجزاء كبيرة من اوروبا, هي التي اقنعت الناس اخيرا بانه من الافضل الا يتولى الانسان مهمة تعريف الحقيقة الالهية, بل عليه ان يركز جهده على حل المشاكل الدنيوية التي تدخل في مجال نفوذ الانسان. ويستنتج من ذلك ان تجارب الحروب الدامية هي التي اقنعت الجميع بضرورة الفصل بين السياسة والدين مما شكل اساسا للدول الاوروبية العلمانية الحالية. ومن الممكن في هذه الدول تنظيم امور الناس فيما بينهم دون الحاجة الى قرار حول تفسير التعاليم الالهية أو الشكل الصحيح لممارسات الشعائر الدينية. وبالرغم من ذلك فان كثيرا من الناس في اوروبا وامريكا مازالوا يشعرون بارتباطهم بالدين ويستمدون منه معاييرهم حول ماهو حق وما هو باطل. وهكذا اصبح الانسان في عصرنا الحديث علمانيا ولكن دون فقدانه للاخلاق, وتشكل الاخلاق اليوم بالنسبة لكثير من الناس حلقة وصل بين السياسة والدين. ان تلك الصورة المشوهة التي تظهر (الغرب) على أنه لا يؤمن بالله ولا يقدر رغبات الانسان الروحية حق قدرها, صورة خاطئة اننا في الغرب ايضا نعلم ان الحياة الانسانية تحتاج الى نظام والى اهداف. هناك حاجة داخل كلا الحضارتين الى مواصلة النقاش حول موضوع العلاقة بين الدين والدولة. وتزداد اهمية هذا الموضوع نظرا للعلاقات المتزايدة بين الحضارتين. ويعيش في المانيا حاليا أكثر من ثلاثة ملايين من المسلمين اضافة الى المسلمين المتواجدين في دول اوروبية اخرى. كما يوجد في جميع الدول الاسلامية اقليات دينية اخرى. وتبدو العلاقة بين الدين والدولة في عدة مجالات على انها مسألة تتسم بالصعوبة. وهذا من الاسباب التي تبرر حاجتنا الى الحوار بين الحضارات. ان اي حوار جدي بين الحضارات سيكون امرا سلميا ولكنه لن يكون ابدا امرا سهلا. فكلما ازدادت جدية هذا الحوار, ازداد ايضا وضوح وبروز ما يجمع وما يفرق بين الحضارات. وتتضح تلك القيم المقابلة لبعضها لدى الحضارات كما تتضح القيم الاخرى التي تنتمي الى التراث المشترك بينها. كما ستتضح التقاليد وارتباطها بالتاريخ وستبرز ايضا تلك المسائل التي تشكل الحد الادنى من الحضارة الانسانية الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو اخضاعه لاي تفاوض مثل تلك النواة التي تشكلها حقوق الانسان السائدة المشتركة بين الحضارات والتي لايجوز التنازل عنها بأية حال. ان الديانات كالاسلام والمسيحية تعتبر نفسها ذات رسالة عالمية تهدف الى تقريب الايمان بالله من جميع الناس بغض النظر عن اصولهم المختلفة. ولا احد يستطيع ان يطالب احداهما بالتخلي عن هذه الصبغة العالمية لتجعل من نفسها موضوع حوار يكون القصد منه تحقيق الاجماع في الرأي. ولكن ما ينبغي السعي الى تحقيقه هو ان لا تتحول التعاليم الدينية الى اكراه كما لا تنشب حروب مقدسة حول كسب النفوس. وفي هذا الصدد يكتسي التفريق بين المسائل قبل الاخيرة والمسائل الاخيرة أهمية خاصة. فالمسائل قبل الاخيرة تدخل في مجال السياسية والتنظيم الذاتي للمجتمع اي انها تدخل ايضا في مجال الامور التي يمكن اختيارها او الاتفاق عليها. او التراجع عنها. ويتعلق الامر هنا بمجال نقترب فيه مؤقتا من الحقيقة ونكون معرضين اثناء ذلك لعملية تشمل المحاولة وارتكاب الخطأ والتنفيذ والتحسين. وهذا الفصل بين المجالين لايمكن ولا يستطيع ان يحول سريان القيم الدائمة الى امر نسبي, ولكنه يفتح الباب امام الديمقراطية والتعددية والتحرك السياسي. والغرب ايضا لن يصاب باي سوء اذا ما ابدى قدرا من الشك حيال بعض الامور التي تبدو وكأنها بديهية, وقد تعودنا ان نبني قرارنا على مقاييس تبدو لنا وكأنها عقلانية, وتلعب مصطلحات مثل (مصلحة) و(عقل) دورا هاما في هذا الصدد. واذا تجاهلنا مدى تحكم الحضارة والتقاليد في حياتنا نحن ايضا فعلينا ان ندرك ان ذلك قد يفهم على انه نوع من التخلف لا نشعر به نحن. ويشكل مجال الاقتصاد احد الامثلة الهامة على ذلك. فمهما اتسمت النظريات الاقتصادية بالعقلانية فلا يمكن لبعض التطورات الاقتصادية والقرارات المتعلقة بالاقتصاد ان تتخذ دون أخذ المحيط الثقافي والاجتماعي للانسان بعين الاعتبار. ومن ينسى ذلك فانه يتصرف تصرفا متنافيا مع منطق التاريخ والسياسية ويتجه في تفكيره حتما الى طريق مسدود. وينطبق مثل ذلك على ماساد لفترة طويلة في الغرب (الحديث) من تفكير يتميز بعدم الاعتراف بان الغرب هو ايضا غير معصوم من الخطأ وعدم الاعتراف بضرورة التغيير المستمر. ان الايمان الاعمى بالنماذج الايضاحية العلمية التقنية الشمولية والتقدم بلا حدود يعد من الاسباب التي ادت الى نشوء صورة عن الغرب في اجزاء اخرى من العالم تصفه بالتعالي والغطرسة. وهذه الصورة ايضا تحتاج اليوم الى تصحيح, لقد اصبحت تسود تفكير الغرب بشكل متزايد نماذج ايضاحية تتسم بالدقة والموضوعية كما نجد ذلك على سبيل المثال في نظرية نسبية الغموض عند (هايزبيرج) او في المذهب العقلاني النقدي. والحداثة الغربية ايضا لم يعد بالامكان بعد هذه الاختراقات الفلسفية ان تفهم خطأ على انها ذات صبغة نهائية في اي شكل من اشكال التاريخ. وفقدان تلك المقاييس المطلقة التي كانت سائدة في المجتمعات الغربية من احدى نتائج هذه التطورات ولكن هذه المجتمعات تشهد في نفس الوقت مزيدا من الانفتاح والاستعداد لتقبل الافكار الجديدة. و (الحداثة) ليس فقط في الغرب, بل كما نشهدها اليوم في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية ايضا مصحوبة بقدر كبير خاص بها من الديناميكية, قد اصبحت عملية مفتوحة لجميع الحضارات. لاينبغي ان ننسى ان الاسلام التقليدي المتطور كان في طليعة الحداثة وممهدا الطريق لها, وقد كانت العلوم في العصور الاولى للاسلام تعتمد على ضرورة وجود نوع من الثنائية بين المعرفة العلمية المستقلة والحكمة الدينية. وفي الفترة بين القرن 9 والقرن 14 الميلادي قام علماء مسلمون بنقل العلوم الاغريقية القديمة الى الغرب في العصور الوسطى في مجالات الفلسفة والطب والرياضيات. ولولا هؤلاء العلماء لما ظهرت جامعات غربية للوجود وقد كانوا يمثلون (الحداثة) في ذلك العهد. ان الغرب اليوم اصبح واعيا للخلل الناجم عن كبت النزعة العاطفية للانسان في العصر الحديث, ومن هذا المنطلق يمكن ان يقوم الغرب والاسلام معا بمهمة مشتركة للتوفيق بين العقل والعاطفة ليصبحا منبعين يمكن استغلالهما لضمان مستقبل هذا العالم لما فيه خير الانسان. بعض الذين يرفضون الحوار اليوم يفعلون ذلك لعدم توفرهم على وجهة نظر خاصة بهم. وكل حوار يتطلب من كل طرف في هذا الحوار ان يتحلى بالتسامح دون الادعاء بأنه اكثر الناس معرفة بالحقيقة او دون الشعور بالتفوق عليهم. وينبغي علينا ان نعرف اوجه الشبه واوجه الخلاف بيننا, اقصد اوجه الشبه لاننا نستطيع ان نبني عليها استراتيجيات للتحرك المشترك, واقصد اوجه الخلاف لانها يمكن ان تكون منطلقا لتنمية استراتيجيات لتفادي وقوع النزاعات. لايمكن تحديد الاهداف المرجوة من حوار بين الحضارات مسبقا. ولكن الامر الواضح هو ان كل من يدخل في حوار فانه يوافق بذلك على احد الشروط الاساسية لهذا الحوار, اي جواز استخدام العنف ضد احد بسبب اعتقاده او دينه, ويعني ذلك ان كل الوسائل الاخرى ماعدا الجدال الفكري, مرفوضة خاصة منها استخدام العنف للوصول الى السلطة او الحفاظ عليها من اجل السلطة كهدف في حد ذاته, ان مجرد الاقرار بذلك سيشكل تقدما ونجاحا, ونتيجة لذلك لن يكون بالامكان الاستغلال السياسي لدين اي شخص او لنظرته للحياة بقصد صرف النظر عن نزاعات اخرى مختلفة تماما. ان الفرص التي يتيحها الحوار هي اكبر من ذلك حيث سيؤدي في احسن الاحوال الى تعاون شامل بين الشعوب لايجاد حلول للمسائل المستقبلية الكبرى. وستتوفر على الاقل فرصة لاحلال سلام حقيقي ودائم كما سيمكن ضمان تغذية سكان العالم المتزايد عددهم وتحسين حماية البيئة. وستتوفر شروط اقتصادية عامة متكافئة وايجابية للجميع. يمكننا ان نحلم بكل ذلك في خيالنا, ولكن يتعين علينا ان نقوم بخطوات ملموسة في هذا الصدد اذا اردنا الاقتراب من تحقيق هذه الاهداف, واذكر من بين تلك الخطوات على سبيل المثال البحث عن جذور مشتركة للأنظمة العالمية للحضارات وتطوير انظمة للتعامل باحترام فيما بيننا والاستعاضة عن الدعاية والاحكام المسبقة بالاعلام المتبادل والاتصال والاتفاق على انظمة لحماية الاقليات علاوة على بناء تعاون عملي ايضا فيما بين القارات. في عصر العولمة أصبح الحوار بين الحضارات هو السبيل الوحيد الذي يمكن سلوكه اذ لايوجد بديل عنه, ومن يتقوقع على نفسه ويبحث عن العزلة فلن يستطيع التأثير في اي امر, ولن يستطيع ايقاف التحولات الحاصلة في العالم بل انه بذلك يتنازل عن الاسهام في التحكم فيها. ومن يعرف قوة الادلة حق معرفتها ويثق في مفعولها ذي المدى البعيد, فانه سيستفيد من الفرص التي يتيحها الحوار. رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك