الأرض وشروط وراثتها في القرآن الكريم
ينبغي على ابن آدم أن يذكر آلاء الله سبحانه وتعالى ليعرفه ويحبه. ولا شك أن كل إنسان، يحب آباءه وإخوانه، لأن كثيرًا من الخير والنعم تأتيه -في الظاهر- على أيديهم. ولكن لو تأمل هذا الإنسان قليلاً لوجد أن المنعم الحقَّ واحدٌ وهو الله سبحانه وتعالى، والخلْقُ إنما معابر ووسائل، يمر عبرها وعن طريقها هذا الخير من الله سبحانه وتعالى. فالمنعم الوحيد الذي له الحمد في الأولى والآخرة هو الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾(النحل:53)؛ نعمة السمع والبصر والكلام والمشي والعقل والهواء والضوء والماء والقراءة… فكل نعمة من النعم يتمتع بها العبد ذكَرًا كان أو أنثى، إنما هي من الله سبحانه وتعالى.
التكريم الإلهي لبني الإنسان
وإن أعظم نعمة كرّم الله بها هذا الإنسان، هي أنه جعله من بني آدم، إلا أن كثيرًا من الخلائق لا تستمتع بهذا التكريم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(الإسراء:70). فبنو آدم هم المستخلفون في الأرض بين جميع الكائنات وعلى جميع الكائنات، ولهم السيادة في هذا الكون: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30). فالخلافة في الأرض؛ لتعميرها، وعبادة الله فيها إنما هي لأبناء آدم، وهذا تكريم وأي تكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56).
ونعمة ثانية هي نعمة الإسلام التي رضيها الله سبحانه وتعالى لعباده ومنّ عليهم بها فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(المائدة:3). فجميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وجميع التابعين لهم في الأمم الغابرة كانوا مسلمين؛ إبراهيم قال له الله تعالى: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:131). الإسلام هو دين الله الوحيد على وجه الأرض خلافًا لما هو شائع ورائج، فليس فيما نزل من عند الله سبحانه وتعالى أديان، ولكن يوجد دينٌ واحدٌ نصَّ عليه القرآن صراحة فقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾(آل عمران:19). هذا الذي كان من قبل، وهذا الذي هو كائن، وهذا الذي سيكون: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(آل عمران:83).
فنعمة الإسلام، تحظى بها الصفوة المختارة من بني آدم المكرمون تكريمًا خاصًا، وهم الذين وهب الله سبحانه وتعالى لهم نعمة الإسلام ومتّعهم بها، فهي نعمة عظيمة، بها يربح الإنسان حياته الحقيقية:
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾(العنكبوت:64). هذه الصيغة للحيوان في اللغة العربية تفيد المبالغة، فالحياة الحقيقية التي تستحق معنى الحياة، هي تلك التي لا موت بعدها ولا نهاية لها، نعيمها مقيم وعذابها مقيم.
ونعمة ثالثة، هي نعمة أننا خير أمة أخرجت للناس، أننا أمة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فكل الأنبياء والرسل قبله بعثوا لأقوامهم فقط، ولكنه صلى الله عليه وسلم بُعث للناس كافة، وقد كانت الرسل قبلُ يستحفظون أتباعهم على الدين وعلى ما نزل من كتاب الله عز وجل، أي يوكَل إليهم حفظه وصيانته، أما هذه الأمة فحفْظ الدين تكفّل به الله سبحانه وتعالى. فالله تعالى هو الذي نزّل الذكر وهو الحافظ له: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(الحجر:9)، أمّا قبلُ فقال: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾(المائدة:44).
ونعمة رابعة، هي أن هذه الأمة لها نفس وظيفة الرسل، إذ لم يحظ بهذه الوظيفة ولم تظفر بها أمة من الأمم من قبلُ. فهذه الأمة لها نفس وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي “الشهادة” على الناس: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة:143). فمَن الذي أوصل الإسلام وبلّغه إلى غير الجزيرة العربية بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ومَن الذي يجب أن يبلغه إلى المناطق الأخرى التي لم يَبلغها بعد؟ إنما ذلك واجب أمته من بعده صلى الله عليه وسلم. وقد أشهد صلى الله عليه وسلم الصحابة الحاضرين رضي الله عنهم على ذلك عندما قال: “ألا هل بلّغت” قالوا: نعم، قال: “اللهم فاشهد، وليبلغ الشاهد منكم الغائب” (رواه مسلم). فكل جيل يقوم بتبليغ الأمانة للجيل الصاعد حتى تقوم الساعة، وإن هذه الأمانة من جنس وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه النعم وهذا التكريم وهذا التشريف وهذه الرفعة والمنـزلة، وهذا الموقع لهذه الأمة، تقتضي واجبًّا في الشكر، وتقتضي حبًا كبيرًا لهذا المنعم، كما تقتضي أداءً لفروض الطاعة وفروض الشكر التي تلزم لمثل هذا المنعم.
نِعمٌ عظيمة تتطلب الشكر لاستمرارها وإلا رحلت. فحال الأمة اليوم، هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فسأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: “بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل” (رواه أبو داود). و”الغثاء” هو ذلك العشب اليابس الذي فقد قوة الحياة فخف وزنه فجاء السيل فرفعه من الأرض وجرفه. المسلمون كثير، ولكن لمَ كان ذلك كذلك؟ لعدم الشكر لهاته النعم العظيمة التي أنعم الله بها علينا. وبم يمكن أن نتجاوز هذا الوضع المزري الذي جعل الأمة تهبط إلى هذا المستوى؟ الأصل أن المسلمين هم في موقع السيادة والريادة والقيادة، وهذا موقعهم الطبيعي، ولكن الواقع المشهود اليوم، على غير هذا الوضع؛ ذلك الوضع الذي شخّصه الرسول صلى الله عليه وسلم: “ولينـزعن الله الرهبة منكم من قلوب عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن”، قيل: وما الوهن يا رسول الله، قال: “حب الدنيا وكراهية الموت” (رواه أبو داود)، على النقيض تمامًا من الثلة الصابرة المؤمنة التي عليها رُفع البنيان كله؛ جيل الصحابة رضي الله عنهم ذكورًا وإناثًا، إذ كانوا في مستوى عالٍ ورفيعٍ فسادوا وقادوا، كانوا يحبون الشهادة والتفاني في سبيل الله سبحانه وتعالى، كانوا يزهدون في الدنيا ولا يتهافتون عليها، كانوا كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخص الأنصار حين قال لهم: “إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع”، إذا نابتْ النائبة واشتدت الصعوبة والأزمة، تكثرون وتأتون للدفاع ولنصرة الدين في وقت الشدائد، وإذا جاء وقت المغانم تقلون قليل منكم يريد حظًّا من المال.
حَمَلة الوحي
هذا الوضع صار منكوسًا معكوسًا، ولذلك انتكس الواقع أيضًا وانعكس. فمن زهد في الدنيا وضعها الله في يديه وصرّفه فيها، إذ هناك نظام خاص يسير عليه المسلمون، وهو المحاسبة للمكلّف الذي في عنقه أمانة الخلافة في الأرض وهم “الصالحون”؛ إنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنهم الشهداء على الناس، إنهم حملة الوحي… وغيرهم لا يعرف قرآنًا ولا حديثًا، وليس لديه الحق المحض الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، غيرهم لا يملك هاته الهبة والمنة والنعمة العظيمة؛ نعمة الهدى الرباني، نعمة الوحي وهي قوت الأرواح، والروح من أمر اللٰه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(الإسراء:85). والوحي القرآن والسنة الصحيحة من أمر اللٰه أيضًا: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾(الشورى:52).والفرق أن الروح العادية المعروفة، يصدر منها الأمر للجسد فيصير بها حيًّا، والروح الأخرى، يأتي منها الأمر للأمة فتصير جسدًا واحدًا كما عبّر الرسول صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم). نفس الوضع والخصائص، ولكن يختلف المحل. فبتفريطنا في أداء الأمانة -ونحن المكلّفون- نعاقب ولا يعاقب النصارى ولا اليهود ولا المجوس، بل نحن نعاقب بهم.
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105). إنه قسَم من اللٰه سبحانه وتعالى كأنه قال؛ واللٰه لقد كتبنا وفرضنا وجعلنا في الزبور، لا يقبل نقضًا أبدًا: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾(الأنعام:115). كتبنا هذا في الزبور فيما زبر وكتب من الكتب قبلُ مما أنزله اللٰه سبحانه وتعالى. الزبور المعروف والمشهور، ما نزل على داود عليه السلام، ولكنه يطلق ويراد به كل كتاب كتب بوضوح، والكتاب المكتوب هو “زبور”. فكتب اللٰه في الزبور من بعد الذكر الذي كان قبل الزبور، أن الأرض الذي يرثها دائمًا، هم الصالحون الذين يعبدون اللٰه والذين هم صالحون، أيْ تنتقل إليهم السيادة عليها بأيسر كلفة، لأن “ورث” في اللغة العربية تفيد انتقال الملْك إلى المالك دون كلفة منه. لذلك يطلق على ما ينتقل من ملْك الأبوين وملْك العائلة بعد الوفاة إلى الباقين، أنه “إرث” و”ميراث”، لأنه ينتقل بدون كلفة، وذلك تيسير من اللٰه عز وجل وتسهيل، لأن الانتقال قد يكون نتيجة مجاهدة شاقة جدًّا، وقد يكون بتيسيرٍ من اللٰه، لا يساوي في الظاهر الكلفة التي بذلت فيه. وذلك ما حدث للمسلمين قبلُ، ويمكن أن يحدث في كل آن. والسر جليٌّ واضحٌ؛ هو أن اللٰه سبحانه وتعالى أقل ما يجزي على العمل الصالح عشرة أضعاف، وهذه ليست نسبة مئوية (10%)، بل عشرة أضعاف: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾(الأنعام:160)، هذا أقل أجر عند اللٰه تعالى، إلى سبعمائة ضعف: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(البقرة:261).
ومن تلك المضاعفات، مضاعفات الجهاد. فاليوم الواحد عند اللٰه في الجهاد بألف يوم، المضاعفات بالآلاف، ولذلك قال رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم: “ونصرت بالرعب مسيرة شهر” (رواه مسلم). من خصائصه صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته -إن اتبعتْه- أن يبارك اللٰه في عمل الصالحين. فما قيمة تلك القلة القليلة من المسلمين، وسط الجزيرة العربية في مكة والمدينة بالنسبة للجيش الجرار الذي كان للفرس وللأكاسرة؟ فإنها لا شيء في الحساب البشري، ولكنها عناية اللٰه سبحانه وتعالى وولايته: “من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب” (رواه البخاري). إن اللٰه سبحانه وتعالى متكفل بنصر المؤمنين: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الروم:47) بشرط أن يكونوا مؤمنين، والإشكال في تحقيق الشروط لا في تحقق المشروط. لا نلتفت إلى النتيجة إن حققنا الشرط، لأن اللٰه سبحانه وتعالى متكفل بها، وهي وعدٌ منه ولن يخلف اللٰه وعده، إنما الإشكال يقع في الشروط التي ينبغي أن نحققها، وأن نتمكن منها لنستحق بها نصر اللٰه عز وجل.
الأرض في القرآن الكريم
الأرض في القرآن الكريم وردت بمعان ثلاثة: وردت بمعنى “فلسطين” وهي المشار إليها في قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾(الأعراف:137)، هي الأرض المباركة في القرآن الكريم المشار إليها في العديد من الآيات، وسميت بالأرض، وأورثها إذ ذاك المسلمون من بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى عليه السلام في تلك اللحظة.
ومن معاني الأرض في القرآن الكريم، الأرض نفسها التي نعرف والتي تقابل السماوات: ﴿وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(الحديد:10). اللٰه سبحانه وتعالى هو الذي سيرث السماوات بكاملها ويرث هذه الأرض أيضًا: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾(مريم:40). الوارث إذن هو اللٰه، والكل سيرثه اللٰه جل جلاله.
وللأرض معنى ثالث هو “الجنة”، وذلك ما تشير إليه الآية الكريمة، الداخلون إلى الجنة، المنعم عليهم، الطيبون:
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(الزمر:74)، فالأرض ها هنا هي “الجنة”.
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105)، أي جنس الأرض يرثها عبادي الصالحون. التطبيقات في الحاضر سائرة في حدود لم تتم بعد لوراثة الأرض الكاملة، ولكن حديثًا لرسول اللٰه صلى الله عليه وسلم يصرّح صراحة بأن مُلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم سيبلغ يومًا دون تحديد للزمان أو المكان، أي سيبلغ جميع أقاصي الكرة الأرضية. يقول رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم: “إن اللٰه زوى لي الأرض فأراني مشارقها ومغاربها وسيبلغ مُلك أمتي ما زُوي لي منها” (حديث صحيح). وهذا ينسجم كل الانسجام مع الآيات الصريحة، في أن هذا الدين سيظهر وينتصر على كل دين: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾(الفتح:28)، وهذا الظهور على الدين كله ما تم في حياته صلى الله عليه وسلم. يقول بعض المفسرين بأنه تم الظهور بالحجة، وغلبت حجة الإسلام في شخص رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم وشخص الصحابة رضي الله عنهم من بعده، غلبت حجة اليهود الذين كانوا في الجزيرة العربية، وغلبت حجة النصارى الذين كانوا في الجزيرة العربية، ولكن الدين من حيث هو دين، وبقطع النظر عن أنه دين اللٰه أو ليس دين اللٰه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون:6)، أي كل مَن عبد غير اللٰه فقد دان بدين ليس هو دين اللٰه. فظهور هذا الدين على جنس الدين كيفما كان، لم يتم على عهد رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم، ولذلك ذهب بعض العلماء -في القديم وفي الحديث- إلى أن هذا الظهور مستمر عبر التاريخ وسيكمل في التاريخ.
في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المشهور: كان الناس يسألون رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول اللٰه، هل بعد هذا الخير من شر، قال: “نعم”، قلت وهل بعد ذلك الشر من خير، قال: “نعم وفيه دخن” قلت ما دخنه؟ قال: “أناس يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر” (رواه البخاري)، أي أن خيرًا عظيمًا سيأتي، ولكنه لن يكون كالخير الأول بالضبط؛ صافيًا نقيًّا كما كان أيام رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم، لكنه خير شهد له رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم بأنه خير، وإن كانت تشوبه شوائب لكنها لا تخرجه عن أن يوصف بأنه خير من جنس الخير الأول، إلا أنه شيب بشوائب لا تضره الضرر التام.
الانبعاث من جديد
وما بدأ يلوح في الأفق الآن من بوادر الاستئناف، بوادر العودة، بناءً على حديث رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء” (رواه مسلم). بدأ الإسلام أول مرة غريبًا، الناس من حول المسلمين هم على خلاف ما عليه المسلمون وينكرونهم ويرفضونهم، وسيضعف الإسلام ويضعف، إلى أن يصير الأمر إلى الحال الذي يعود به الأمر من جديد إلى غربة كالغربة الأولى. وفي تلك الغربة يستأنف الإسلام سيره من جديد، أي سيرجع، ذهب وسيعود، وهاته الغربة موجودة، تتفاوت من بيئة إلى بيئة. وهؤلاء الغرباء كما في حديث هرقل المشهور مع أبي سفيان: أيزيدون أم ينقصون؟ قال يزيدون. فالأمر يزداد في العالم، ومن أبصر الآن المستقبل انطلاقًا من الحاضر والماضي القريب، استطاع أن يرى -رأي العين- لمن الخلافة بعد، ولمن السيادة بعد في هذه الأرض.
وقد أكدت إحصائيات كثيرة، ودراسات مستقبلية قامت بها الجمعية العالمية للدراسات المستقبلية، على أن القرن القادم هو قرن الإسلام. سيكثر إنسانه وسيكثر أتباعه وسيمكن لهم، والسيادة الحقيقية ستكون لهم، وذلك بناء على دراسات ميدانية للماضي القريب والحاضر، انطلاقًا من واقع الثروة، وواقع الإنسان، وواقع اتجاه التاريخ، وانطلاقًا من صلابة الأساس الذي تتكون منه الشخصية القوية الصلبة. فأقوى تحدٍّ موجود الآن لغير الإسلام، هو الإسلام؛ الإسلام الذي عبر عنه “شنبغلر” أحد المستشرقين الألمان في كتابه الذي ترجم بعنوان “الإسلام قوة الغد العالمية” بأنه “العملاق النائم” أو “المارد النائم”. إنهم يفعلون ذلك ليس حبًّا في الإسلام، وإنما لتخويف أقوامهم من خطورة هذا الكائن الذي يتهدد كيانهم في نظرهم. هناك فرق بين القوة الضارية الآن، المهيمنة الطاغية والتي هي وإن بدا أنها في العنفوان، هناك فرق بينها وبين تلك النباتات الضعيفة التي تنبت في الأرض، والتي إذا نظرنا إليها في الخارج -في فصل الربيع- نشعر بعد شهور بتبدّل الأرض، ويصير لون الأرض هو لون تلك النباتات التي كانت ضعيفة، لأن الأرض تتبدّل من تحت لا من فوق. والكائنات الموجودة اليوم في مختلف الأمم، ولا سيما في هاته المهيمنة النابتة الجديدة، ليست لها تلك الصلابة التي للنابتة في ديار الإسلام.
وحتى على المستوى التكنولوجي، المسلمون اليوم بدأوا يطلون على هذا العالم، فدول إسلامية عديدة اليوم في ميدان الصناعة تتحدى بقوة الدول المتقدمة في العالم. فآسيا عمومًا حبلى بجنين الإسلام. وفي مناطق عديدة تولد مواليد جديدة لهذا الإسلام، تنبئ عن المستقبل وعن ملامحه وعن قسماته، ولكن كل ذلك مشروط بشرط الصلاح. فالتمكين في الأرض والاستخلاف وُعِد به الذين آمنوا وعملوا الصالحات: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾(النور:55)، والصالحات على رتب أولها الفرائض، ويوضحها الحديث القدسي الصحيح المشهور: “من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه”. الفروض العينية أولا، ثم فروض الكفاية، وكل ذلك واجب.
فالإسلام بأركانه، والإسلام بفرائضه، هو أحب ما يحب الله سبحانه وتعالى، وهو أول الدرجات في سلّم الصعود في معراج الصلاح. ثم بعد ذلك يقول الحديث: “ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه”. إنها درجة عليا يصل إليها نفر من الأمة، ولكن الرحمة في هذه الدنيا كالنقمة تعم، قد يُرحم الإنسان غير الصالح بوجود الصالحين إلى جنبه، كما في الحديث المشهور الذي قال اللٰه سبحانه وتعالى فيه للملائكة: “أشهدكم أنني قد غفرت لهم، فقالوا له: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم” (رواه البخاري). فالرحمة تنزل على الجميع وكذلك المصيبة والنقمة: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾(الأنفال:25). وذلك وضّحه رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “مثَل القائم على حدود اللٰه والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فبعضهم كان حضه في الأعلى وبعضهم كان حضه في الأسفل” (رواه البخاري). فالذين هم في الأسفل اجتهدوا اجتهادًا لو أننا خرقنا هذه السفينة فنحصل على الماء فلا نؤذي مَن فوقنا، وإذا أرادوا الماء يصعدون إلى فوق: يفسد بنية صالحة؛ هذا قال فيه رسول اللٰه صلى الله عليه وسلم: “فلو أخذوا على يده -أي الخارق- لنجا ونجوا، ولو تركوه لهلك وهلكوا” (رواه البخاري). وكل منتهك لحرمة من حرمات اللٰه سبحانه وتعالى خارق لسفينة الإسلام، فكم هي الخرق التي في هذه السفينة؟ في أي مستوى نحن من عمق البحر؟
فيجب التوبة النصوح كما قال اللٰه سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾(التحريم:8). والتوبة النصوح، هي التي يكون فيها إصرار على عدم الرجوع إلى الذنب، وإن رجع العبد بعد، يغفر له سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(النساء:110).
إننا إذن، ينبغي أن نفقه الدين وأن نفقه الواقع وأن نفقه التاريخ وتوجهه المستقبلي، لنعرف من نحن وما نحن، ولنحسن الاستعداد للغد، سواء الغد على الأرض -الكرة الأرضية- أو الغد على أرض الجنة.