مواقف العلمانية من مشاكل العصر المختلف
عند طرح أيّ موضوع مرتبط بالعلمانية، كثيرا ما يبدو أن الكلام سيدور فيه عن موضوع مكرر، فاض فيه الكلام عن الحاجة وزاد؛ فالكل ببساطة يعرف أن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة! لكن هل هذا كاف؟ أولم تبق ثمة أسئلة كثيرة معلقة؟ فماذا مثلا عن دور الدين في المجتمع؟ وما هو المعيار الذي تؤسس عليه الأخلاق علمانيا؟ وما هو موقف العلمانية من الأخلاق، ومن الجنس؟ ومن الدكتاتوريات اللادينية، ومن اقتصاد السوق المنفلتة من الضوابط، وثقافة اللاثقافة؟ وهل من الممكن التأسيس لنقد علماني حقيقي لهذه المسائل والمشاكل؟!
هذه الدراسة لا تتعاطى مع المفهوم التقليدي للعلمانية في شقها السياسي المتمثل بالفصل بين الدولة والدين، وهي تطرح العلمانية بما هي رؤية إنسانية أوسع وأعمق من هذا المفهوم الجزئي المختزل، وعبر التعمق في المبدأ الفلسفي للفكر العلماني، تقدم هذه المقالةُ العلمانيةَ على أنها الفكر العقلاني الذي يسعى لبناء المجتمع الإنساني ككل، بكل جوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية وسواها، على أساس إنساني محض قوامه العقل والإرادة الحرة وغايته الخير الإنساني، بالمفهوم المطلق للإنسان.
وطرح هذه الأسئلة ليس تحصيل حاصل، ولاسيما الأسئلة الأخلاقية وفي طليعتها الجنسية منها، بالنسبة إلى المجتمعات المحافظة، ففي إطار ثورة الاتصالات والمعلومات التي يشهدها العالم المعاصر، ثمة اليوم دعاية ملفتة للنظر يقوم بها بعض العلمانيين العرب، وهي جد متأثرة بما يطرح في الغرب العلماني، فيطرحون باسم العلمانية طروحات وكأنهم يخاطبون جمهورا أوروبيا أو أمريكيا، ويستوردون مشاكل مختلفة عن مشاكلنا، وفي المحصلة يقومون بتشويه صورة العلمانية في أذهان الناس، في الوقت الذي يجب فيه حدوث العكس.
1- مسألة في منتهى الأهمية
يكثر اليوم في مجتمعاتنا العربية الكلام والجدل في العلمانية، وتختلف فيها وحولها الآراء، وتتباين منها المواقف بين مؤيد ورافض، وتتناقض فيها الأحكام بين مقدِّس لها ومشيطن لها، ويتسع الجدل والخلاف حتى يصل إلى الساحة الداخلية للعلمانية نفسها، ليدور بين العلمانيين أنفسهم، وهذا كله طبيعي وحسن، لأنه في النهاية يقوض حالة الاستنقاع الفكري والسياسي التي غرقنا فيها ردحا طويلا، ويدفع الأمور باتجاه الوضوح والجلاء، مما يجعل إمكانية اتخاذ القرار والخيار أمرا واقعيا، وحتى وإن كان من الواضح أيضا أن هذه العملية ستحتاج إلى وقت طويل.
في هذه الدراسة، سيتم النظر في المنهج الأساسي الذي تعتمده العلمانية في اتخاذ مواقفها من القضايا المختلفة، والذي يحدد بدوره ماهية العلمانية نفسها ومن هو العلماني، وسيتم بالترافق والترابط مع ذلك أيضا إيضاح موقف العلمانية من قضايا حساسة كالدين والجنس، وبالأخص أن العديد من الناشطين العرب المحسوبين على العلمانية في الآونة الأخيرة، باتوا يدافعون عن قضايا تعتبر من الكبائر في مجتمعاتنا المحافظة كقضيتي المثلية الجنسية والجنس اللازوجي.
وهذه ليست قضايا عابرة، وطرحها ضروري، لأنه يتعلق بموقف العلمانية من قضية "الجنس"، الجد حساسة بالنسبة إلى المجتمعات المحافظة، من ناحية، ولأنه أيضا يتعلق بطبيعة العلمانية نفسها، وآلية تعاطيها مع القضايا المختلفة، ولاسيما الدين والجنس، وما يرتبطان به على صعيد الأخلاق.
هذا ناهيك عما يطرح في كثير من الأحيان من التصور السياسي المقزم للعلمانية، الذي ينحدر إلى مجرد الفصل الظاهري بين رجل الدولة ورجل الدين، لدرجة باتت فيه صفة "علماني"، تطلق على أي ديكتاتور عسكري أو سلطان تقليدي، لمجرد أنه لا يشرك رجال الدين في حكمه بشكل مباشر، مع تجاهل، يكاد يكون تاما في هذا المنحى، لمسألة الحريات وحقوق الإنسان.
2- ماهية العلمانية وهوية العلماني
السؤال عن ماهية العلمانية، ومن هو العلماني، يشبه في طرحه السؤال عن ماهية الاشتراكية ومن هو الاشتراكي، وعند طرح هذا السؤال لا يمكننا إعطاء جواب قطعي، فهذا يشبه أيضا السؤال عن الإسلام والمسلم، وهل المسلم هو الشيعي أم السني أم الصوفي أم الباطني وهلم جرّا، فهل يمكننا أن نحدد حصريا من هو المسلم وما هو الإسلام، وفي كثير من الأوقات يتصارع المسلمون ويكفرون بعضهم، وهل سيرضي الجواب الجميع؟ حقيقة لا يمكننا أن نعطي تحديدا محددا للإسلام وللمسلم، فهناك نماذج إسلامية عديدة، كلها إسلامية رغم اختلافاتها، ولكن مع ذلك هناك مبادئ أساسية في الإسلام، وكلنا نعرفها، وأهمها الإيمان بوحدانية الله ونبوة محمد وسماوية القرآن، وهذه المبادئ العامة يتفق فيها جميع المسلمين، وهي الأساس الذي نحدد به الإسلام والمسلم؛ وكذلك هو الحال مع الاشتراكية، حيث نجد الشيوعية، والاشتراكية الديمقراطية، والاشتراكية الليبرالية، والاشتراكية الطوباوية وسواها، وهذه التيارات ليست دائما على وفاق، ففي الشيوعية نفسها لم يكن البلاشفة والمناشفة الروس متفقين، والسوفييت اختلفوا بشدة مع الماويين الصينيين، ولم يكونوا يعترفون بالشيوعية الأوروبية، فمن منهم الاشتراكي الحقيقي؟ أو ليسوا كلهم اشتراكيين؟ هم كذلك، والمعيار في اشتراكية هذا الطرف أو ذاك هو الموقف من ملكية وسائل الانتاج، فمن يؤمن بإلغاء هذه الملكية كملكية خاصة هو اشتراكي! وبنفس الشكل يمكننا معالجة مسألة العلمانية، فالاشتراكية كلها علمانية، والليبرالية الرأسمالية هي أيضا علمانية، والديمقراطيات الآسيوية كاليابان والهند وكوريا ج. وغيرها هي الأخرى علمانية، والتجربة التركية المتأرجحة بين الديكتاتورية العسكرية غير المباشرة والتطرف القومي والإسلام المدني والديمقراطية هي بدرجة ما علمانية، وقد كانت في إطار ما كل من الفاشية والنازية أيضا علمانيتين، وهناك بالطبع اختلافات كبيرة بين هذه النماذج العلمانية، ولكن هناك بالتأكيد قواسم مشتركة أساسية، وهي التي يتحدد بموجبها مفهوم العلمانية.
السؤال عن ماهية العلمانية، ومن هو العلماني، يشبه في طرحه السؤال عن ماهية الاشتراكية ومن هو الاشتراكي
3- المبدأ الأساسي في العلمانية
مبدأ العلمانية الأساسي هو اعتبار أن بناء المجتمع الإنساني الأفضل لا يمكن أن يتم إلا على أسس إنسانية واقعية محضة، وهذا ما تسعى العلمانية لتفعيله وتجسيده على أرض الواقع؛ أي بناء المجتمع على أسس العقل والإرادة الحرة والمصلحة الإنسانية، وعدم إدخال أية عناصر ماورائية وغيبية في عملية البناء هذه، وهذا هو المقصود بفصل الدين عن الدولة، والعلماني هو من يتبنى هذا المبدأ ويلتزم به رأيا وفعلا، ويتخذ مواقفه على أسس العقل والإرادة الحرة والضمير الإنساني المرتبط جوهريا بمفهوم الخير الإنساني. وهذا يعني أن العلمانية تقف من حيث المبدأ موقف الحياد الإيجابي من وجود الدين، فهي ليست معه وليست ضده، ولا تسعى إلى إلغائه أو إلى فرضه، ولكنها تترك الحرية للناس في أن يختاروا الدين الذي يريدونه أو الإلحاد إن أرادوا، وهي تعتبر هذا شأنا شخصيا، ولا يدخل في قوانين ونظم الدولة، لكن من واجبات الدولة الأساسية في العلمانية أن تمنع وقوع الاضطهاد أو التمييز الدينيين، وحدوث النـزاعات الدينية العنفية والقتال الطائفي بين مكوناتها السكانية. أما الجدل والنقد والصراع الفكري السلمي بين كل أنواع المعتقدات، فهو متاح، وليس من شأن الدولة التدخل فيه طالما أنه يتم سلميا ولا يهدد باندلاع العنف.
4- التأسيس الفلسفي للادينية([2]) العلمانية
أما لماذا تنطلق العلمانية من الإنسان والإنسانية، وتركز عليهما في عملية بناء المجتمع الأفضل، فهذا عائد إلى أنّ حقيقة وجود الإنسان ككائن عاقل هي حقيقة تامة ولا تحتاج إلى برهان، وليس فيها أيّ جدل. أما وجود الإله، فهو دائما محور جدل، وإثباته ونفيه لا يتم إلا بالعقل، وكذلك مسألة الدين الحق؛ أي الدين الذي يمتلك الحقيقة غير المشبوبة، والخالية من أي زيغ وانحراف وتشويه، وهذه مسألة تختلف فيها الأديان والفلسفات، والأديان في ما بينها، بل والمذاهب بين بعضها في نفس الدين، وفي معظم الأحيان تكون سياسة التكفير هي المتبعة بين ذوي الأديان المختلفة، والبت في مسألة الخلاف بين الأديان لو فرضنا إمكانيته، فلن نجد إليه سبيلا إلا بالاعتماد على العقل وحده، لكن طبيعة الدين إيمانية تسليمية، وهو لا يقبل بحكم العقل، وهنا سنجد أننا في موقفنا من قضية الله ومن الدين أمام مسائل لا تحل إلا بالعقل، لكن الدين لا يقبل حلول العقل، وبالتالي لا يمكننا الوصول إلى حل مُرضٍ للخلافات بين الأديان، ولا إلى حل للمسألة الإلهية عن طريقها، ولا يمكننا أن نعتمد دينا محددا على أيّ أساس منطقي ومقبول ومحقـِق للعدالة والمساواة بين جميع الناس وعلى كافة الصّعد، وناهيك عن التعذر الفعلي لتحقيق المساواة في حقوق المواطنة بين أبناء الدولة التي تعتمد دينا محددا في حالة التعدد العقائدي، فحتى لو فرضنا جدلا أن هذا ممكن التحقق في الأمور المادية والمصلحية، فسيبقى عند أتباع العقائد الأخرى شعور بالغبن والانتقاص وعدم المساواة، لأنهم في دولتهم مختلفون دينيا عن دين دولتهم، المحدِّد لهويتها، وهذا يعني عدم امتلاكهم المواطنة المعنوية التامة، وانتقاص هويتهم الانتمائية إلى دولتهم، ووقوعهم فيها بالنسبة إليها في موقع الآخر بدرجة ما، وهذا يعني الغربة عنها بنفس الدرجة.
وبما أن مسألة وجود الله الذي تقوم عليه إيمانيا وتسليما جل الأديان هي جد خلافية منطقيا بحد ذاتها، ولا تحل إلا بالعقل، وكذلك صورة الله في الأديان المختلفة، والخلافات بين الأديان في مسألة العلاقة مع الله، والعلاقة بين البشر وفقا للعلاقة المفترضة مع الله، فسنجد أن ثمة تناقضا لا يحل بين العقل والدين، فكل دين هو بحاجة لازمة إلى العقل وحده، ليحسم بشكل قاطع مسألة وجود الله، وليثبت أنه الدين الحق دون سواه، ولكن كل الأديان لا تقبل بحكم العقل، وبالتالي لن يكون حكم العقل ذا معنى بالنسبة إلى الأديان، ولن يـُقبل عند جميع المتدينين إن حكم العقل في مسألة الله بخلاف ما تقوله الأديان، وكذلك إن حكم لدين دون سواه، ولا حل لهذه المعضلة، التي تتلخص في أن الدين ليثبت حقيقته ومصداقيته موجب بحكم العقل الذي لا يقبله كدين بسبب طبيعته الإيمانية التسليمية من ناحية، ولأنه لو أمكن حل المسالة الإلهية بالعقل والحكم على مصداقية الدين من قبل العقل، فهذا يعني تسليم سيادة الموقف بالكامل للعقل، والخضوع لسلطانه، وهو عمليا إلغاء لدور الدين، ولذا يبقى الدين مصرّا على أنه حقيقة فوق عقلانية، وليس لديه من إثبات في هذا، بل على العكس من ذلك، فهو بهذا يضع نفسه في حالة تناقض مع العقل الحر، ويجعل من نفسه أطروحة غير عقلانية، (وهنا يجب التمييز بحذر بين مصطلحي "غير عقلاني" و"لاعقلاني" من حيث المضمون الفكري؛ فالأول يدل على طبيعة المسمى به، ليعني أنه ما لا يقوم على العقل ولا يخضع له. أما الثاني، فهو يدل على "درجة العقلانية" المتدنية أو الغائبة لما يوصف به).
وما تقدم يقودنا إلى أنه لا يمكن قطعا الوصول إلى أيّ أساس منطقي يمكن عن طريقه اختيار دين محدد لبناء المجتمع، ولا إلى حل للمسألة الإلهية عن طريق ديني، وهذا شرط لازم لإقرار اعتمادية أي دين وتأسيسها المنطقي، فلا الدين بحد ذاته يصلح لإثبات وجود الله، لاسيما مع التعدد الهائل للأديان ومذاهبها، ولا الدين، أو الأديان تقبل بحكم العقل في هذه المسألة، وهذا دوران في حلقة مفرغة، وبما أننا أمام إعادة تأسيس وبناء للمجتمع، فلا مفر هنا من إبعاد الدين بشكل عن عام عن هذه العملية، والاعتماد على العقل وحده.
تبقى إذن مسألة وجود الله ودورها المحتمل في بناء المجتمع الإنساني، وبما أن الدين قد استثنيَ من كلا الأمرين؛ فالعلاقة بينهما لا يمكن حلها إلا عن طريق العقل، ولا يمكن حلها بدون إثبات فلسفي لوجود الله يقيمه العقل، لكن العقل يدرك أنه هنا يتعامل مع مسألة ميتافيزيقية أنطولوجية لا تكفي فيها الحجج المنطقية البحتة، ولا يمكن التعامل معها عن طريق العلم الوضعي التجريبي، وهذا يعني استحالة الوصول إلى حل نهائي لهذه المسألة، ولذا يجب إقصاؤها هي الأخرى عن عملية بناء المجتمع، وهذا لا يشكل أية مشكلة، فبما أن هذه المسألة تحتاج إلى حكم عقلي، فهي إذن لا تتجاوز مستوى العقل، ويمكن تجاوزها عن طريق العقل إن اقتضى الأمر، ليصبح العقل بذلك سيد الموقف بالكامل، ويقرر بناء المجتمع بمعزل عن الدين والمسألة الإلهية، وقد «أثبت المجتمع السياسي تحت أشكال مختلفة في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة وفرنسا أنه يأخذ شرعيته من نفسه ومن السيادة الشعبية، لا من الله أو من عمق التقاليد أو من عرق من الأعراق»([3])، وهذا حصل أيضا في دول ومناطق أخرى من العالم المتقدم.
ومن المهم في ختام هذه الفقرة، الإشارة إلى أن مسألة إعادة بناء المجتمع والدولة بشكل مستقل عن الدين يروّجها المتشددون الدينيون عادة على أنها إلغاء للدين على غرار الطرح التالي: «"فصل الدين عن الدولة" لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة، ولو قيل إنها فصل "الدين عن الحياة" لكان أصوب، ولذلك، فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو "إقامة الحياة على غير الدين" سواء بالنسبة للأمة أو للفرد..»([4]).
وهذا الرأي يعبر عن نصف حقيقة فقط في كون العلمانية ليست مجرد فصل للدين عن الدولة. أما ادعاؤه فيما يتعلق بفصل الدين عن الحياة، فنرد عليه هنا بما يقوله آلان تورين:
«يتحول الدين في المجتمعات المعلمنة حديثا إلى أخلاق اجتماعية. وقد أشار مراقبو المجتمع الأمريكي، من توكفيل إلى روبرت بيلا إلى أهميته في تلك البلاد».([5])
5- التلازم بين العقل والإرادة الحرة ونسبية الحقيقة والديمقراطية
هذه السيادة للعقل، لا يمكن فصلها عن إنسانية الإنسان، ولا يمكن قطع ارتباطها الجوهري بمسألة حرية الإرادة والضمير الإنساني؛ فالعقل إن لم يكن حرّا تفقد أحكامه مصداقيتها وعقلانيتها الحقيقيتين، وإن هو توصل إلى أحكام وقرر بموجبها فرضها على الغير ومصادرة حرياتهم في التعاطي معها بصفتها حقائق مطلقة، فهو يخون نفسه كعقل ويحوّل نفسه إلى دين، وهذا ما فعلته الأنظمة الشيوعية؛ فالعقلانية في العقل تقتضي من العقل دوما الاعتراف بنسبية الحقيقة. أما الإيمان بحقيقة مطلقة، فهو من شأن الدين، ولذا لا ترضى الدولة الدينية التي تؤمن بامتلاكها الحقيقة المطلقة بالخلاف والاختلاف والتعدد، فالمختلف بالنسبة إليها هو يقين على باطل. أما الدولة العلمانية التي تقوم علمانيتها على العقل، فهي تعي نسبية الحقائق، وأنه ليس ثمة أية حقائق مطلقة أو مقدسة، ونسبية الحقائق هنا لا تعني اختلاط الصحيح بالخطأ، بل تعني أن كل حقيقة متوَصَّل إليها هي عقليا من حيث المبدأ غير منتهية وقابلة للشك والنقد والاختبار وللتطور، فنسبية الحقيقة العقلية هي موقف مبدئي عقلي يقوم على إمكانية الخطأ العقلي، ولا تنفي قدرة العقل على الوصول إلى حقائق تامة، لكن طالما أن العقل يخطئ؛ فالمنطق يقول بوجوب إسقاط العصمة عن الحقيقة العقلية خشية إعطاء صفة الحقيقة المطلقة عن طريق الخطأ لأطروحة خاطئة كليا أو جزئيا؛ وبما أن العقل هو وحده مصدر الحقائق، وكل حقائق العقل نسبية، فالدولة العلمانية المبنية على العقل تبقي نفسها من حيث المبدأ في موقع الحياد الإيجابي وعلى مسافة واحدة من كل الحقائق المفترضة الموجودة أو المحتملة، ولا تعتمد أيا منها فتجعلها بذلك حقيقة مطلقة مقدسة، ولتحقيق ذلك فهي تلتزم بالديمقراطية، التي تغدو شرطا لازما من شروط العلمانية وبالعكس. أما النظم الشمولية حتى وإن كانت لادينية أو حتى إلحادية، فهي تقع في فخ التحول إلى "دين بلا إله" عندما تستبدل المطلق والمقدس الدينيين بمطلق ومقدس وضعيين، وهذا لا ينطبق فقط على الديكتاتوريات السياسية؛ فالديكتاتورية الاقتصادية في الرأسمالية تسعى هي الأخرى لجعل السوق الحرة حقيقة مطلقة مقدسة، يحتكرها كهنتها من رجال المال والأعمال، كما يحتكر رجال الدين الحقيقة في الدين، والطغمة الحاكمة السلطة في الشمولية السياسة، وهذا يقتضي إعادة نظر جذرية في الديمقراطية النيوليبرالية، التي تقوم على الفصل بين الدولة والسوق، وتؤسس بشكل خفي لديكتاتورية رأس المال، مفرغة بذلك الديمقراطية من محتواها الحقيقي الذي يجب أن يغدو فيه كل فرد ذاتا فاعلة في بناء وإدارة مجتمعه، وهذه الفاعلية لا تعود ممكنة عندما يخرج الاقتصاد عن نطاق تأثيرها، ويدفع بثقله الهائل المجتمعَ في مسارات لا تخدم مصلحة أبنائه، ولا يستطيعون فعل شيء مؤثر حيالها، ولا يسعهم إلا الاستسلام لها؛ وفي سياق مقارب يقول تورين: «إن فكرة الديمقراطية تستدعي المسؤولية السياسية لكل شخص، وتحمي بالتالي التنظيم الإرادي للحياة الاجتماعية من كل فنون الإقناع غير السياسية، التي يدعي البعض أنها طبيعية، ومن السوق أو المصلحة القومية».([6])
6- جوهرية العلاقة بين الضمير الإنساني والعقل الحر
أما مسألة الضمير الإنساني، فهي الأخرى جوهرية في علاقتها مع العقل الحر، لأنها الناظم الذي يحدد بموجبه هذا العقل معيار الخير المرتبط كليا بالإنسان منطلقا وغاية، ويؤسس بذلك للمبدأ الأخلاقي في العلمانية بإعطائه قيمة محض إنسانية، فمفهوما الخير والشر علمانيا هما ذوا معنى وبعد إنسانيين تماما، فكل ما يتحقق فيه صالح الإنسان هو خير، وكل ما يسبب الضرر للإنسان- أي إنسان- هو شر، والعقل هو الفيصل في تمييز النافع من الضار في سعيه لخدمة الإنسان، التي يتخذ فيها الإنسان هنا معنى مطلقا بمعزل عن الدين والقوم والعرق والجنس والدور المجتمعي وما شابه، والخير هنا لا ينفصل عن الإنسان، وهو إنساني بالكامل، وليس مرتبطا بإرادة وشريعة رب سماوي منفصل عن الإنسان وعالمه، كما هو حال الإله المفترض في الدين.
فالأخلاق العلمانية تستند فقط على كليات الإنسان مثل العقل والمنطق والحدس الأخلاقي والتعاطف، وليست مشتقة من الوحي أو التوجيه الخارق للطبيعة، كما هو الحال عموما في الأديان، وتشير الأخلاقيات العلمانية إلى أيّ نظام أخلاقي لا يعتمد على ما هو خارق للطبيعة، مثل الإنسانية والعقلانية والتفكير الحر.([7])
وهذا النوع من التأسيس الأخلاقي له جذوره القديمة، وعدا عن فلاسفة الإغريق القدماء مثل سقراط وأفلاطون وغيرهما، نجده له حضورا أيضا في الفكر الصّيني القديم لدى حكماء مثل كونفوشيوس ولاوتزي وموتزي من القرنين السادس والخامس قبل الميلاد وسواهم، ممن قدموا أنفسهم بصفتهم حكماء محض، ولم يرجعوا تعاليمهم إلى أيّ مرجع إلهي أو سماوي، كما نجده أيضا عند حكماء هنود مثل ڤالّوڤار([8]) (Valluvar) واضع "النص الكُورالي (Kural text) في القرن الأول قبل الميلاد.
7- المعتقد هو شأن فردي خاص ولا يدخل في الشأن العام
بعد إبعادها للدين وللمسألة الإلهية عن عملية بناء المجتمع الإنساني، وربط هذه العملية بمعطيات إنسانية محض، لم تتوجه العلمانية من حيث المبدأ إلى محاربة الدين أو السعي لإلغائه، فانسجاما منها مع عقلانيتها وليبراليتها وإنسانيتها، اعتبرت المعتقد الديني وغير الديني، وكل ما يبنى عليهما أو يرتبط بهما شأنا فرديا خاصا، وتركت للإنسان الحرية في أن يختار ما يريد في هذا الشأن، فيتدين أو يتفلسف، ويؤمن أو يلحد كما يرضيه، ولا يترتب على ذلك أية تبعات تأثر سلبا أو إيجابا على وضعه كمواطن، وما يرتبط بذلك من حقوق والتزامات، بشرط أن يبقى كل نشاط ديني أو معتقدي سلميا آمنا، ولا يلحق أي أذى شخصي أو جماعي أو عمومي، وعلى مستوى الفرد- حتى الفرد صاحب المعتقد نفسه- والمجتمع والدولة، والدولة هي هنا الضامن لحق الفرد في حرية الاعتقاد والضامن لسلمية وأمان وأمن هذا الاعتقاد.
الدين علمانيا يـُعترف بوجوده بصفته شكلا من أشكال حرية الضمير الإنسانية والتعبير الثقافي الإنساني، وهذا يعني أنه في النظام العلماني يستمد الدين مشروعيته من الشرعية الإنسانية، فتتساوى بذلك الأديان. أما في النظام الديني، فالذي يحدث هو العكس، فالإنسان يستمد مشروعيته من الشرعية الدينية، فيتفاوت بذلك الناس.
8- الموقف العلماني من الجنس
في العلمانية الموقف من الجنس بسيط، فكما قلنا كل موقف من أية قضية يجب أن يبنى فيها على العقل والإرادة الحرة والصالح الإنساني، لذا تترك العلمانية للناس أن يحددوا بأنفسهم خياراتهم الجنسية، كما يحددون خياراتهم السياسية والاقتصادية وغيرها، وهي لا تفرض أو تمنع هذا الشكل أو ذاك من خيارات الناس في هذا الشأن، كما في سواه، مهما كانت، فهي ليست مع الزواج ولا ضده، ولا مع الجنس الحر ولا ضده، ولا مع المثلية الجنسية ولا ضدها، فهذه المسائل من حيث المبدأ لا تدخل في صلب المبادئ العلمانية واهتماماتها الرئيسة؛ فالأساس والأهم هنا هو حرية الاختيار الإنساني المعقلن، وهو ما يحدد الموقف من الدين والجنس والاقتصاد والسياسة وسواها؛ أي إن العلمانية هي كالهندسة التي تحدد قواعد عملية البناء لكنها لا تحدد أشكال المباني، ويمكننا وصف العلمانية بأنها هندسة بناء المجتمع الإنساني إنسانيا.
إنه لمن الإساءة والتقزيم للعلمانية، ربطها جنسيا بالشكل السائد اليوم للجنس في الغرب؛ فالعلمانية لا تحدد ولا تفرض قطعا أي شكل لشرعية العلاقة الجنسية وأسلوب ممارسة الإنسان للجنس، وهذا الكلام لا نقوله إرضاء لذهنيتنا التقليدية الشديدة المحافظة التي ترى في تقاليد الغرب الجنسية المعاصرة إباحية وفسقا وفجورا، فالكلام هنا يتم عن المبادئ المنطقية بمعزل عن الأحكام العرفية، فالعلمانية هي وبمنتهى الصراحة تقر كليا بمبدأ الحرية الجنسية كجزء لا يتجزأ من الحرية الشاملة للإنسان التي تتحقق فعليا في الديمقراطية، التي يدخل في أسسها الارتكاز على «حرية أساسية في الاختيار بالنسبة لكل إرث ثقافي»([9])، ووفقا للعلمانية الإنسان حر في شكل الحياة الجنسية الذي يختاره، وهي لا تلزمه بأي شكل محدد بتاتا، وله أن يختار الجنس الزوجي أو الجنس الحر أو حتى التبتل اللاجنسي إن أراد، وقد اتخذ الغرب الأوروبي والأمريكي العلماني شكله الجنسي الخاص في ظروفه الخاصة، لكن العلمانيات الآسيوية في اليابان وكوريا ج. والهند وتركيا وسواها لم تفرض على نفسها الشكل الغربي للجنس، وطورت خياراتها الخصوصية الخاصة الحديثة فيه.
9- المبادئ والوقائع في المفاضلة والاختيار
تعتمد العلمانية كفكر عقلاني إنساني حر على مبادئ أساسية في سعيها لبناء المجتمع الإنساني الأمثل، لكن أن يكون المرء علمانيا، فهذا لا يعني بالطبع أن يكون حـُكما شخصا صالحا، وأن يصبح ملاكا أو قديسا، فالإنسان كائن يخطئ عن قصد أو بدون قصد في كل مجالات وخيارات حياته، وهذا يعني أنه من الممكن أيضا ارتكاب شرور كبيرة أو صغيرة، عن قصد أو دون باسم العلمانية... كما يحدث باسم الدين أو الاشتراكية أو حتى العلم نفسه، وسوى ذلك من ميادين النشاط الإنساني! إذا ما هو الفيصل؟ وكيف نختار طالما أنّ إمكانية الشر قائمة عند الجميع؟!
الخيار يجب أن يتم بناء على المبادئ وحدها أولا، وعلى أساس منطقي محض، وليس بناء على ما يفعله الأشخاص الذين يرفعون لواء هذه العقيدة أو هذه الفلسفة أو تلك، أو ما يقوم به باسم أيّ منها هذا الطرف أو ذاك من حسنات أو سيئات!
فإن اعتُبر هتلر علمانيا، فالعلمانية ليست المذنبة في أفعاله، ولا تتحمل الاشتراكية وزر دكتاتورية ستالين، كما لا يجوز الربط بين المسيحية وفظائع الصليبيين، أو تمثيل الإسلام ببربرية داعش.
إن اعتُبر هتلر علمانيا، فالعلمانية ليست المذنبة في أفعاله، ولا تتحمل الاشتراكية وزر دكتاتورية ستالين، كما لا يجوز الربط بين المسيحية وفظائع الصليبيين، أو تمثيل الإسلام ببربرية داعش.
وعند المفاضلة المبدئية بين هذه الخيارات مثلا كنماذج محتملة لبناء مجتمع إنساني راقٍ، فيجب طرح النازيين والصليبيين والداعشيين بعيدا، ووضع ستالين وماو وأتاتورك جانبا، وهلم جرى، ومفاضلة الخيارات على أسس عقلانية إنسانية بناءً على مبادئها وتعاليمها وحسب؛ أي بناءً على مضامينها الفكرية وحدها.
لكن المفاضلة المبدئية وحدها لا تكفي؛ فالمبادئ واقعيا هي دوما عرضة لقراءات مختلفة ومتباينة، ولكي تكتمل دائرة المقارنة، فتاليا يجب مقارنة الأطروحات النماذجية المتنافسة... والنتائج الممكنة الترتُّب منطقيا أو المترتبة واقعيا على كل طرح فيما لو انتقل من الحالة النظرية إلى الحالة العملية.
10- تحديات محلية وعالمية أمام العلمانية
محليا تتعرض العلمانية لمقاومة شديدة، بل ولهجوم عنيف من قبل الإسلاميين، الذين يرون فيها وفي غيرها من المذاهب الفكرية والاجتماعية والسياسية العالمية الحديثة مؤامرة شيطانية على أمة الإسلام، وغزوا لها في عقر دارها، فيحاربونها بأعنف الأشكال الفكرية والمادية، فبرأيهم: «جاءت طلائع الغزو الفكري - كما هو الحال في سبل الشيطان- متعددة الشعارات، متباينة الاتجاهات عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل وإغراء أمة منبهرة مهزوزة، يخيّل لها أنها تستطيع معالجة دائها العضال باستعارات ساذجة ومظاهر جوفاء وترقيعات صفيقة تتلقاها جميعا من الكفار، الذين أصبحت تخجل من أن تسميهم بهذا الاسم، بل أسمتهم "العالم المتحضر" و"الأمم الراقية".
وهكذا جاءت الاشتراكية والقومية والوطنية والديمقراطية والحرية وفلسفة التطور واللادينية... وغيرها من المسميات والشعارات. وسرت عدوى هذه الأوبئة سريان النار في الهشيم.. ».([10])
وهذا التحدي المسيّس والموجه من قبل الإسلاميين هو جزء جدلي من تحدٍّ أكبر تشكله البيئة الاجتماعية العربية ذات الثقافة المتدنية المستوى، والذهنية المتردية عقليا وعلميا، والظروف الاجتماعية المأزومة.
لكن "العلمانية" تتعرض أيضا لنقد يأتي من الجهة المعاكسة، من جهة النخبة العلمية والثقافية، التي يعتبر بعض ممثليها كالدكتور جلال أمين العلمانيةَ صورة لنموذج الحياة الأمريكي، فيرى أن "العلمنة هي ليست تغريبا وحسب، وإنما أمركة"! فالحضارة الأمريكية هي حضارة الشخص العادي، والثقافة الأمريكية هي ثقافة الاستهلاك، وبالتالي فالمستهدف "يجب أن يكون شخصا عاديا، محدود الثقافة، عادي الذكاء! إذن، هنا تكمن فرص التسويق الواسع الانتشار، فنمط الثقافة السائد هو الذي يستجيب لنوازع الرجل العادي وميوله، وإذ بالثقافة الرفيعة تتراجع على استحياء إذ لا تجد لها ممولا، وإذ بوسائل الإعلام تخاطب أبسط غرائزه ونوازعه لمجرد أنها الأكثر انتشارا".([11])
وبالطبع، لا يمكن لقامة علمية وثقافية كبيرة كجلال أمين أن تهاجم العلمانية من حيث المبدأ، ولكن هنا يتم الكلام عن حالة التنمّط الذي يفرضها نمط الحياة الرأسمالي الأمريكي بشكل خاص على المجتمعات المعلمنة، والتي في طور العلمنة، حيث يفرض على العلمانية "التنسـّق" - أو التحول إلى نسق محدد- بما يناقض طبيعتها اللانسقية المفتوحة المبدئية، لتتحول بذلك إلى أمركة بفعل الثقل المركزي على مستوى الغرب والعالم لأمريكا، الرازحة بدورها تحت وطأة الشكلين الأحدّ من اقتصاد السوق المنفلت وثقافة اللاثقافة الاستهلاكية المرتبطة جذريا به، اللذين يفرغان النظم العلمانية المتقدمة من القيم الإنسانية، ويقصيان الإنسان عن عالمه الإنساني، بتغريبه عن نفسه وعن ذاته الإنسانية، وتحويله إلى كائن اقتصادي ونفعيّ حسابيّ محض، يعيش ليستهلك، ويستهلك بدون أية اعتبارات قيمية.
بالطبع القول هنا "نظم علمانية" هو حالة تعميم صفة أساسية على موصوفها، ولكنه لا يعني حكما التماهي بين الموصوف والصفة، وهو يشبه إطلاق تسمية "مجمعات إسلامية" و"دول إسلامية"، فما نسميه بدول ومجتمعات علمانية هي بنفس الوقت وعلى نفس الدرجة من المساواة تقريبا "ليبرالية" و"ديمقراطية" و"رأسمالية" و"صناعية" و"علمية" وأيضا "وضعية"، وغير ذلك... وصفتها "العلمانية" ليست المحدِّد الكلي لهويتها، ولكنها صفة متداخلة مع الصفات الأخرى، ومع أن عدم مماهاة هذه الصفات مع بعضها البعض ممكن، إلا أن الفصل بينها وتجريدها التام عن بعضها البعض ليس ممكنا، وبالتالي فالأزمة الإنسانية التي تعيشها المجتمعات العلمانية، لا تعني أن العلمانية حكما هي المذنبة في هذه الأزمة، كما هو حال الإسلام في المجتمعات الإسلامية المأزومة بشدة أيضا وإن اختلف الشكل، وأزمتها لا تنحصر بإسلامها مع إغفال تردي كل صعد واقعها وحياتها الأخرى!
ولذا يجب البحث عن الفواعل الأخرى والنظر في أدوراها في الأزمة الناتجة.
وبالخطوط العريضة يمكننا القول، إن الأزمة الإنسانية الناتجة في الغرب العلماني يمكن تحديد فواعلها الأساسية بنظام الاقتصاد الرأسمالي ذيٍ الطبيعة النفعية المفرطة وبهيمنة التفكير المادي العلموي (نسبة إلى علموية: scientism)، الذي أطّر الإنسان في الجسد وألغى الثوابت الإنسانية، فتضافر بذلك مع نزعة الربح الرأسمالية على عملقة نزعة الاستهلاك، وجعلها غاية حياة الإنسان التي لا تعرف حدودا في الأبعاد والضوابط، مما أغرق الإنسان فردا ومجتمعا في مستنقع الاستهلاك الحسي والمادي، وأقصى إنسانيته بعيدا!
إن الأزمة الإنسانية الناتجة في الغرب العلماني يمكن تحديد فواعلها الأساسية بنظام الاقتصاد الرأسمالي ذيٍ الطبيعة النفعية المفرطة وبهيمنة التفكير المادي العلموي
وهذا لا تتحمل وزره العلمانية بصفتها بناء على الإنسان والعقل الإنساني من أجل الإنسان العقلاني، ولا تتحمل وزره كذلك لا الليبرالية ولا الديمقراطية ولا الفلسفة العقلانية ولا العلم ولا التكنولوجيا!
لكن الواقعين الاجتماعي والفكري المعاصرين يتعرضان بالطبع، لنقد دائم من قبل المفكرين والنخب الثقافية في العالم المتقدم، وهذا يطال على حد سواء نمط الحياة الرأسمالي والمدارس الفكرية والسياسية المختلفة، وهو بالطبع يخضع فكرة العلمانية للنقد، ويعيد النظر إليها من زوايا جديدة، معيدا بذلك النظر في العلاقة بينها وبين الواقع ككل بما في ذلك الدين.
فمصطلح "دين" هو بحد ذاته هو مصطلح فضفاف، وقد غلب التعامل معه في مرحلة طويلة من التاريخ الغربي الحديث بصورة نمطية متأثرة بشكل أساسي بأشكال الأديان النسقية السلطوية المغلقة كالأديان الإبراهيمية، ولاسيما المسيحية الكنسية التقليدية، من جهة، وبنمط تفكير "ضد ديني" تاريخي، متموقع في موقع المواجهة والمنافاة مع هذه النموذج الديني، وتتداخل فيه عناصر علموية ومادية ووضعية وعلاقات سلبية مباشرة بين القوى النهضوية والمؤسسة الدينية المحافظة والساعية لحماية نفوذها التقليدي، وقد تراوحت هذه العلاقة بين المنافسة الشرسة أحيانا، والصدام العنيف في حالات أخرى كما حصل في الثورتين الفرنسية والروسية، حيث كانت الكنيسة في صف الملكية والقيصرية، من جهة أخرى، وقد كان لعلاقة التناقض الحاد بين هذين العاملين انعكاسها المؤثر على العلمانية، وإن لم يغدُ محركا أساسيا فيها، لكن حتى هذا الجزء من المشهد أخذ بالتغير من زمن ليس بقريب، وما يزال يتغير شيئا فشيئا مع تطور الفكر المعاصر باتجاه فهم أحدث للظاهرة الدينية، يتجاوز كلا من الفهم النمطي التقليدي لها والموقف المبني عليه ليراها في بعد ثقافي أوسع وأعمق، وهذا بالتالي يقود إلى تبني مواقف أكثر دقة للعلمانية من الدين في بعده وموقعه الإنسانين، وبهذا الشأن يقول إيفان سترينسكي: «كيف نتجاوز المذهب الوضعي في العلوم الاجتماعية في يومنا هذا، ونتجاوز هؤلاء الذين يكتفون نتيجة لذلك بالبحث في صفحات دليل الهاتف عن قسم بعنوان الدين ويعرّفون الدين بناءً على ما يجدونه فيه؟...فعلماء السياسة والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والجريمة ومعظم علماء الأنثربولوجيا وغيرهم يأخذون مصطلح "الدين" "جاهزا من على الأرفف"...».([12])
وهذا النقد الموجه للمنهج الوضعي لا يقتصر على موقفه من الدين فحسب، فالوضعية بعموميتها تسعى إلى إلغاء كل المقدسات بما فيها تقديس الإنسان لإنسانيته، وإلى تجريد الإنسان من مركزيته العالمية ومن ذاكرته التاريخية، حيث ترى في كل من التاريخ والدين والفلسفة أعباء على الإنسان، الذي يجب أن يعيش بكليته في الحاضر والواقع والجسد، ويعتمد على العلم التجريبي والتجربة وحدهما، ليقول لنا الفكر الوضعي في النهاية أن الإنسان وحده هو مصدر كل الحقائق والمعاني ولا مصدر إلّاه، لكنه كائن آني ظرفي محدود، وهو بالتالي لا يصلح مصدرا نهائيا للحقيقة... فـ "الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة القداسة، أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر للحقيقة" كما يقول ريتشارد رورتي.([13])
بهذا الشكل تضيع الحقائق، ويصبح كل شيء نسبيا بالكامل، وبالتالي مباحا، مما يعني ضياع القيمة والغاية الإنسانيتين، والإنسان نفسه معهما؛ وهذا الانهيار الإنساني نراه على سبيل المثال في سياسات الدول الرأسمالية، التي لا مانع لديها من شن الحروب المدمرة على الآخرين وتأجيج الصراعات الفتاكة بينهم من أجل مصالحها الخاصة!
وهذا بالطبع، ليس من فعل "الحضارة العلمانية" بالمعنى الدقيق لكل من مصطلحي "الحضارة" و"العلمانية"... وفعليا هو بشكل أساسي من عمل "الرأسمالية المتوحشة"([14]) والعقل الأداتي، العلموي النفعي، "المتحرر" من عقلانيته، والخادم لها أو المتواطئ معها!
11- لا للطروحات المستوردة
وفي الختام، نعود إلى السؤال المتعلق بالموقف العلماني من المثلية والجنس الحر الذي تطرقنا إليه في البداية، فنقول إن كل الآراء المطروحة فيهما باسم العلمانية هي دوما آراء خاصة لأشخاص علمانيين مختلفين، وحين نرى الاختلاف الكبير في المواقف فهذا دليل على حسنات العلمانية، التي يشكل كل من التعدد والاختلاف عنصرا أساسيا من مضمونها؛ ورأيي الشخصي في الموضوع، هو أن الفصل في قضايا المثلية والغيرية في الجنس، أو الجنس بزواج أو دون زواج، هو ليس من شأن العلمانية، التي لا يتعدى موقفها منها اعتبارها من حيث المبدأ خيارات شخصية! أما التركيز على طرحها في مجتمعنا المحافظ الراهن فهو عديم الجدوى، فهذه آخر مشاكلنا! ومن يطرحونها يستوردون مشاكل الغرب ويتجاهلون مشاكلنا الكارثية المستفحلة، من تخلف وفساد وقمع واضطهاد وفقر، وطائفية وقبلية وذكورية وجهل وهلم جرى، وبدلا من طرح المسائل الجنسية الهامشية بالنسبة إلينا، التي تشوه صورة العلمانية في ذهن جمهور محافظ ما يزال غير متقبل لها، يجب علينا التركيز على العقلنة ونشر العلم والثقافة الحديثة والديمقراطية، والاستفادة الواعية من تجارب الغير ومن نجاحاتهم وإخفاقاتهم، فهنا مكمن الجوهر.
المراجع:
1- آلان تورين، ما الديمقراطية؟ ترجمة عبود كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2000
2- إيفان سترينسكي، إشكالية الفصل بين الدين والسياسة، ترجمة عبد الرحمن مجدي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2016
3- سفر بن عبد الرحمن الحوالي، العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، دار الهجرة، السعودية، 1402هـ، 1982م
4- عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، 2002، القاهرة.
5- موسوعة ويكيبيديا بنسخها الإنكليزية والروسية والعربية.
[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤمنون بلا حدود، عدد 49
[2]- هنا يحب الحذر من الخلط بين المفاهيم والمصطلحات، فـ"اللادينية" (irreligion) تعني عدم الالتزام بدين محدد، ولكنها لا تعني حكما "العداء للدين" أو "الضددينية" (antireligion) أو "الإلحاد" (atheism)، واللاديني قد يكون شخصا مؤمنا بشكل حر بالله، وقد يكون إنساني الموقف من الأديان كلها، باعتبارها علميا وفلسفيا نتاجات بشرية تاريخية وواقعية، واللادينية سياسيا تعني "تأسيس وبناء المجتمع والدولة بالاعتماد على العقل والعلم وبشكل منفصل عن الدين".
[3]- آلان تورين، ما الديمقراطية؟ ترجمة: عبود كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2000م، ص 119
[4]- سفر بن عبد الرحمن الحوالي، العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، دار الهجرة، السعودية، 1402هـ، 1982م، ص ص 23-24
[5]- آلان تورين، المرجع السابق، ص 293
[6]- آلان تورين، مرجع سابق، ص 120
[7]- الموسوعة الحرة ويكيبيديا باللغة الإنجليزية، رابط المقال: https://en.wikipedia.org/wiki/Secular_ethics.
[8]- المرجع السابق نفسه.
[9]- آلان تورين، مرجع سابق، ص 118
[10]- سفر بن عبد الرحمن الحوالي، المرجع السابق، ص ص 8-9
[11]- د.عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، 2002، القاهرة، ج1، ص ص 116- 117
[12]- إيفان سترينسكي، إشكالية الفصل بين الدين والسياسة، ترجمة: عبد الرحمن مجدي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2016، ط1، ص 51
[13]- د.عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، ص 170
[14]- "الرأسمالية المتوحشة" هو تعبير من وضع عالمي الاجتماع الفرنسيين لوي واكان وبيير بوردو في الثمانينيات من القرن الماضي، وقد وضعاه لوصف وشجب السياسات الاقتصادية الرأسمالية في الدول الغربية بعد تحرير الأسواق في مطلع السبعينيات، وثمة كتاب يستخدم في عنوانه هذا التعبير للدكتورة الأنثروبولوجية في جامعة كاليفورنيا كريستا هاربر صدر عام 2006