مراجعة نقديّة للذّات في زمن المخاضات الصّعبة

معاذ حسن

 

(1)

” حياة الرّوح ليست ممكنة إلاّ بالرّجوع المتواصل إلى ما هو ماض، إلى التّاريخ”

(هرمان هيسه)

تقديم .. من ذاكرة شخصيّة

بدأت قراءاتي منذ منتصف العقد الثّاني من عمري وكنت في صف الأول ثانوي، بكتب من التراث العربيّ الإسلاميّ بحكم وجود عناوين هامّة منها في مكتبة والدي، وأذكر أنّ أوّل كتاب قرأته كاملا كان عن “نظريّة الفيض” عند (الفارابي)، الّذي شدّني لمتابعة الاستزادة في التراث، لكن وبينما أبحث عن عناوين جديدة في المكتبة وقعت عينيّ على كتاب بعنوان (الماركسيّة في الفلسفة) لكاتب لبناني أذكر أنّ اسمه كان (حسني ناثان) ممّا جعلني أتوقف عنده وأسحبه للتصفح، ثمّ بدأت بقراءته كاملا كونه شدني لسببين الأوّل أنّ كلمة “فلسفة” كانت منذ ذلك الوقت تستهويني، والثّاني هو أنّي كنت أسمع كثيرا عن مصطلحي “الماركسيّة والوجوديّة” ولا أعرف عنهما شيئا يذكر. ممّا شكّل عندي فضول كبير لأقرأ في الكتاب الّذي ساعدني في قراءته لغته البسيطة والسّهلة.

ورغم أنّ غاية وهدف الكتاب كانت تفنيد الأساس الفلسفي للماركسيّة وفضح الإدعاء الإنساني في دعواها، إلّا أنّ السياق العام للكتاب بحججه الضّعيفة وتحليلاته البسيطة لم تكن لتقنعني بفكرة الكتاب، ممّا حرّك فضولي أكثر بالاطلاع على الفكر الماركسي من نصوصه وأدبياته المتوفرة آنذاك، وكانت أغلبها سوفيتية. فكان ذلك على حساب الاهتمام بكتب التراث..

لكن ما جعلني أغادر الاهتمام بقراءة التراث نهائيا هو وعيي السّياسي المبكر الّذي كان يتشكل على خلفية هزيمة حزيران 1967، الّذي دفعني أكثر إلى تبني مواقف وطنيّة، اجتماعيّة وقوميّة على خلفية يساريّة – ماركسيّة، تهتم فقط بمسائل وقضايا التّحرر الوطني والعدالة الاجتماعيّة والثّورة والتّقدم والمستقبل. ولا شك أن ذلك كان بالنسبة لجيلي مشروعا جدّا.

مع ذلك كنت أحسّ أنّ بنائي الثّقافي يفتقد أساسا روحيا له علاقة بالتّاريخ القديم وتراثه، ففكرّت مرّة أخرى بإعطاء كتب التراث بعض الجهد خصوصا أنّني منذ بداية السبعينات كنت قد بدأت بدراسة الفلسفة في الجامعة وفيها مقرّرات وكتب في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، لكنّ حوارا مع مثقف سوري كبير كنت وما زلت أحترمه وأقدّر ثقافته، جعلني أحسم أمري نهائيا مرّة أخرى من الانشغال في دراسة التراث وذلك عندما أجبته على سؤال حول مشروعي التّالي في القراءة: أنّي أرغب بقراءة التراث كلّه حسب مواضيعه الكبرى وبكلّ تفاصيلها.

فأذكر تماما أنّه قال لي فكرة قويّة أقنعتني جدّا يومذاك، مفادها أنّه  لا داعي ليأخذ منك التراث وقتا طويلا في القراءة فالّذين اشتغلوا عليه كثر في الغرب والشّرق وفي العالم العربيّ ولا يمكن لأحد أن يضيف شيئا هامّا عليهم، ثمّ إنّ العلوم الحديثة تحوي العلوم القديمة وبما هو أفضل منها، فالاطلاع على العلوم الإنسانيّة الحديثة، تغني عن الإنكباب الطويل في قراءة التراث ومعرفته كونه متضمّن أصلا في كلّ الفروع النظرية للعلوم الإنسانيّة الحديثة من خلال المختصين والباحثين في التاريخ وتراث الإنسانيّة، مستشرقين وغير مستشرقين.

وهكذا تابعت بناء شخصيتي الثقافيّة والسياسيّة محمولة على أجنحة الإيديولوجيا وثقافة الحداثة الأوروبيّة بحماس شديد، لست بنادم عليه اليوم أبدا كونه ساهم في إغناء معرفتي بتجربة الحداثة البشريّة ممّا أثمر شخصيتي بتطلّع إنساني مفتوح خارج كلّ الانتماءات الصّغيرة اللّئيمة الضّيقة والمقفلة للواقع الّذي أنتمي إليه، خصوصا تلك الّتي تفعل فعلها الشرير اليوم في تزرير مجتمعاتنا وتشظيها..

قلق روحي يتجدّد-:

مع ذلك كنت أحسّ أنّ بنائي الثقافي والإنساني يفتقد أساسا روحيا، إلى أن تحوّل هذا الإحساس إلى أزمة وجدانيّة حقيقيّة، مع انفجار المخاضات الصّعبة والمؤلمة الّتي تعيشها مجتمعاتنا العربية منذ عام 2011، وذلك لسببين:

أولاهما-: الظّهور الجديد الطّاغي المسلح والمتعدّد للحركات الدينيّة الإسلاميّة الأصوليّة المتطرّفة، على أرضية هذه المخاضات. والّتي أساءت كثيرا للتاريخ الّذي تدّعي الانتساب إليه، وبشكل خاص للتراث الإسلامي الّذي لم تر فيه إلاّ الجانب  الفقهي النّصي السلفي وهي تتمسك بتفسير قديم جامد لا تاريخي له كي تبرر من خلاله جرائمها وتجاوزاتها غير المقبولة قياسا على نمط حياة الزمن الحديث وتفكيره.

تلك الحركات الّتي قويت على الأرض بضوء أخضر وتسهيل من قبل الأنظمة الاستبداديّة الحاكمة، الّتي ثارت شعوبها ضدها، لغايات وأجندات باتت معروفة جدا لعلّ أهمّها إجهاض الحراك المدني السياسي السلمي الّذي بدأت فيه المخاضات، لصالح إعادة  التّموضع المجتمعي على أساس البنى الدينيّة الطائفيّة والمذهبية والعشائريّة بقصد تذرير المجتمع وتشتيته، ثمّ ليتمّ الاصطفاف الواسع لشعوب هذه المجتمعات التي خرجت عن السيطرة من جديد في إطار التنظيمات الأصوليّة الجهاديّة الطائفيّة المتطرّفة إياها ممّا يعطي كلّ المبررات لهذه الأنظمة لقمع هذه الانتفاضات بشكل دموي عنيف، وتأديب الّذين ثاروا، تحت ستار مكافحة الإرهاب.

ثانيهما-:  ظهور أصوات عرقية ماضويّة جدّا ومتعدّدة أيضا على أساس من عُصاب الحنين لانتماء عرقي ثقافي أحادي واهم يفتقر الحد الأدنى موضوعيا في فهم حركة التّاريخ، أصوات تستهدف تراث الحضارة العربية الإسلامية الّذي تشكل واغتنى من كلّ الثّقافات الّتي كانت قبله في منطقتنا العربية اليوم. أصوات تعتبر هذا الوجود منذ بداياتهمجرد غزو بدوي همجي فرض نفسه بقوة السيف فقط ولم يؤسس لأي حضارة حقيقية، لذلك فهو ما يزال “يستعمر” هذه المنطقة منذ 1400 عام وما عليه سوى العودة إلى الصحراء التي جاء منها وترك هذه المنطقة لأهلها الأصليين وثقافاتهم ولغاتهم القديمة (أراميّة، سريانيّة، آشوريّة …أمازيغيّة) الّتي حاول استئصالها ولم ينجح؟!.

طبعا، أفترض هنا، أن لا أحد يدّعي الوعي العلمي والموضوعي بالتّاريخ والوعي بحقوق الإنسان والثّقافات الّتي تشكلت وتتشكّل عبر التّاريخ، وبحقّ المواطنة في الدولة المدنية الحديثة المنشودة في مجتمعاتنا. يتجاهل أو يتنكر لدور كلّ هذه الشّعوب والأقوام والأعراق الّتي مرت على هذه المنطقة، ولثقافاتها المؤثرة في سياقها التاريخي. والّتي هي مكّون هام من مكّونات تاريخ وثقافات هذه المنطقة، ومن حقّها أن تعيش اليوم بكامل حقوقها الثقافيّة والروحيّة والتاريخيّة ضمن دول قانون ومواطنة حديثة.

لكن لا يعني ذلك أن يكون على قاعدة العداء والهجوم والتجني الفظيع على تراث وحضارة استمرت حوالي سبعة قرون، من القرن السّابع وحتّى الثّالث عشر ميلاديين، وكانت هي الأقوى تأثيرا في محيطها والعالم حتّى اليوم، كما هي الحضارة العربية الإسلامية الّتي ساهمت أغلب هذه الثّقافات في التّفاعل معها وإغنائها.

وعلى ما يبدو فإن هذه الأصوات والدّعوات غالبا ما تظهر، أو تكون مرافقة دوما لكلّ بدايات التحول الاجتماعي العميق، كما في مجتمعاتنا العربية اليوم، وما يرافقه من مخاضات أليمة موجعة وانفجارات مجتمعيّة ضخمة تشبه انفجارات البراكين، فتقذف حمما لاهبة تحمل معها كلّ عفن الاحتقانات المترسبة في القاع المجتمعي المستقر سابقا لفترة طويلة من الزّمن بفعل الاستبداد الطويل. الأمر الّذي يستدعي إعادة بناء معرفة علمية تاريخيّة جديدة مفتوحة بالتراث بعيدا عن التّنميط الإيديولوجي المغلق في فهم التاريخ.  كمحاولة لفهمه جيّدا في سياقه التاريخي الّذي تشكل فيه. ربما بذلك تستعيد الروح بعض توازنها المفقود نسبيا جراء مما يحصل اليوم في عالمنا العربي من كوارث ومآسي وتشظي مجتمعي مخيف.

لا أنكر أنّه واجهتني هنا مشكلة أقلقتني كثيرا لدرجة أنّي صرت أقول بيني وبين نفسي: إنّها لمفارقة أن أعود اليوم بقوة للماضي والتراث بينما نحن نعيش نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وكثيرا ما ساءلت نفسي أهي فعلا ردة وصحوة الماضي في تفكيري.. أم ماذا؟

ورغم معرفتي أنّ الدافع لي ليس الاستغراق في الماضي التراثي أبدا، وليس لديّ أي وهم في أن نستمد منه منطلقات نهضة مجتمعية حداثيّة جديدة. وإنّما هو الدفاع عن التّاريخ وبالتّالي ضرورة فهم التراث في سياقه ونصابه التاريخيين، لأنّه لا قيمة ولا معنى لتراث أو حدث أو فكرة أو شخص ما إلاّ من خلال فهمه في سياقه التاريخي الّذي شكله وأنتجه.

وحدث أن قرأت منذ فترة قريبة كتابا ممتعا وهاما بعنوان “هيرمان هيسه – سيرة مصورة”[1] عن نشأة وحياة الكاتب والشاعر السويسري – الألماني، المتمرد (هرمان هيسه 1877 – 1962م) الّذي عاش فترة حرجة جدّا على خلفية الحرب العالميّة الأولى وكوارثها العديدة، أغنت تجربته وأنضجت وعيه وشخصيته الثقافيّة وعمقت رهافته الشخصيّة في مستوى إبداعي كبير كشاعر وروائي وناقد، حيث يقول في صفحة من فصل بعنوان “قصّة حياتي باختصار”:

“… لكنّي لاحظت بعد حين أن الحياة في الحاضر وحده، وفي الحديث الأحدث، هي، في مسائل الرّوح، حياة لا تطاق ولا معنى لها، وأنّ حياة الرّوح ليست ممكنة إلاّ بالرجوع المتواصل إلى ما هو ماض، إلى التّاريخ، إلى القديم والبدئي.”

فوجدت روحي ضالتها، في هذه العبارة، كونها لا تتجاهل التّاريخ وهي تعيش مآسي الحاضر كما هي تتطلع نحو المستقبل.

وثمّة رأي هام  للمفكر التونسي (هشام جعيط) قرأته مؤخرا في حوار معه على موقع “عربي21”https://m.arabi21.com/Story/1163723?fbclid=IwAR2WCAY0qhAnIuXvnge8PBpFuqIM-brV864qHxMXIHZIBe5ZqmI0li4vIY4 حيث يقول: ” لا يمكن فهم الواقع دون قراءة التّاريخ ودراسة المجال الديني بأبعاده الأنتروبولوجيّة والسوسيولوجيّة، مع قراءة التاريخ المعاصر وملابسات ظهور التيّارات الحداثيّة العلمانيّة في أوروبا ثمّ في مستعمراتها ….”

وهذا يعني – كما أفهم هنا – أنّه لا يمكن فهم الحاضر، رغم القطع التاريخي الحضاري الكبير الّذي يمكن أن يوجد بين الماضي والحاضر، دون العودة للماضي، عودة تعني قراءة علمية موضوعيّة للتاريخ وفق مناهج البحث التاريخي الحديثة. وعلى ضوء مستجدات التّاريخ الحديث المتواصلة.

فالعلاقة بين التّاريخ القديم والحديث فالمعاصر هي علاقة جدل تتضمّن القطع كما تتضمّن الوصل.

القطع في مفاصل تاريخية نوعيّة، والوصل من حيث أن تراكمات الماضي القديم هي الّتي أدت إلى اللّحظات والقفزات النوعيّة الجديدة في التّاريخ سواء كانت سلبا أم إيجابا، كما أن المحلي بكلّ خصوصياته التاريخيّة هو متضمّن في العالمي المستجد دوما.

التراث – الرّوح-:

وبتقديري ربّما يكون الفيلسوف الألماني (هيجل 1770 – 1831) أهمّ من قارب فلسفيا هذه العلاقة بين الماضي والحاضر عبر الرّوح – العقل، لاسيّما في تأملاته الفلسفيّة العديدة حول الحضارات البشريّة وتحقيبها في مسار تطوري تاريخي أنهاه في تاريخ الأمة الجرمانيّة كنموذج أكمل للعقل الكلي.  حيث يرى، حسب فهمي المتواضع له، أنّ “الرّوح” بمعنى “العقل” الّذي يبدأ بوعي النفس الفرديّة لذاتها لحاجاتها ومتطلباتها أولا، ثمّ يتحقق في الوعي الموضوعي للعالم الخارجي حيث العلاقة التبادليّة بين النّاس، وصولا لمرحلة الوعي الكامل كما يتجلى في أشكال الدين والفلسفة والفنّ.

فـ“الرّوح” بهذا المعنى نتعرّف عليها بالتوق الدائم نحو التّجديد والحريّة بحيث يكون التّاريخ هو المجال المادي، البشري والحيوي، لتحقيق هذه الحريّة فكل مرحلة نوعيّة صاعدة ومتقدمة في التاريخ تمثل نقطة وصول إلى مستوى جديد من مستويات الحريّة إلى مستوى جديد في تعقل الحريّة والعالم. وهنا حيث يبرز دور الدولة في كل مرحلة حضارية متقدمة، كإطار يحمي حريّة الرّوح هذه.

طبعا، نعرف أنّ (هيجل) يقفل هذا المسار التاريخي في الوصول إلى العقل الكلي والمطلق كما يتجلّى في دولة الأمّة الجرمانية الّتي يتصورها كأرقى نموذج ممكن لحريّة الروح والعقل. وهذا أمر لا يعنينا هنا بقدر ما يعنينا تصوره الفلسفي لآلية تحقّق ذلك.

لذا فإنّي أستعير من تصور “هيجل” حول الروح لأماثل بين الروح كما يعقلها “هيجل” وبين التراث العربي الإسلامي كتعبير عن روح جمعيّة “عربية إسلاميّة” توقف مسارها التاريخي الصّاعد مع بدايات ظهور المقدمات الأولى للعصور الحديثة في أوروبا، والّتي كانت تأخذ في بداياتها تلك من أخر ما توصلت إليه فلسفة وعلوم الحضارة العربيّة الإسلاميّة في القرن الثالث عشر.

فالتراث، على أساس هذا الفهم، يكون بمثابة الروح الجمعيّة لشعوب عربية إسلاميّة توقف مسارها الحضاري الصّاعد في مفصل تاريخي بشري هامّ بحيث انتقل هذا المسار الصّاعد إلى مجال جيوسياسي وثقافي أخر مجاور. لكن ما يزال هذا التراث “الرّوح” يشد الجميع، “سلفيين – حداثيين، مستشرقين ومفكرين ومؤرخين غربيين، مفكّرين ومؤرّخين عرب”، بقوّة للنّظر إليه والتّأمل فيه من جديد بمنظور ومناهج علوم التاريخ والاجتماع والأنتروبولوجيا الحديثة، وتلك من أهم ّمآثره الباقية حتّى اليوم..

أيضا، على أساس هذا الفهم كما أزعم، تكمن ضرورة الدّفاع عن الرّوح الجمعيّة لشعوب ومجتمعات، لها شخصيتها الحضاريّة قديما، لكنّها تعاني اليوم من لحظة سلب قويّة وهي مستهدفة، ظلما في سلبها هذا، بتحميل مسؤوليّة ما يحدث لها بشكل كبير على تراثها القديم الذي يكون بمثابة الجذر الروحي لشخصيتها الرّاهنة. الأمر الّذي يشل تطلعها أو تصورها المستقبلي، تماما مثلما يتمّ إخصاء الشّجرة الباسقة أو المثمرة وموتها، عندما نحاول نزع لحاءها الخارجي من منتصفها السفلي والّذي يصل بين الجذور الموغلة في الأرض ونموها الدّائم والباسق نحو الأعلى.

 
 
(2)

الجذور تُقيّد وتأسر.. أم تُحرّر وتُطلق؟!.

سؤال إشكالي فعلا، إذ ثمّة من يدعو إلى القطع النهائي مع كلّ الماضي كحاضن أو كتربة نمت فيها الجذور الأولى لماضينا التراثي القديم بكلّ سلبه وإيجابه، كي نستطيع الانطلاق من جديد. وكنت أنا كاتب هذه السّطور، حتّى وقت قريب نسبيّا، من أشدّ الدّاعين إلى هذه الفكرة.

وثمّة من يقول: لا بد ّمن العودة للماضي قراءة ومعرفة وفهما لشخصيتنا التاريخيّة القديمة، فمن لا ماض له لا مستقبل له.

ربّما كان في الرأيين جانب من الصّواب، وجانب أخر من المغالاة. فالعودة إلى الماضي، لاسيّما بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، دونها محاذير الجاذبيّة والانشداد العاطفي القوي إلى درجة الاستغراق، كتعويض عن غياب حالة حضارية حديثة فاعلة لنا.

كما أنّ القطع النهائي مع الماضي وجذور شخصيتنا في التّاريخ فيها جلد للذّات وإنكار أو تجاهل متعمد للتاريخ. كما يعني محاولة التّأسيس من فراغ في الوقت الّذي يهتمّ فيه كبار المؤرّخين والمفكّرين والباحثين في العالم بإرث هذا التاريخ وتراثه بمناهج علمية حديثة منذ قرن من الزّمن. وهذا ما يؤسّس لإشكالية في فهم السؤال وكيفيّة التّعامل معه.

لكن لنقارب سؤالنا هذا بسؤال بسيط الجواب:

هل نقطع الاهتمام مع جذور الشّجرة كي تكبر وتعلو وتثمر، أم نهتمّ أكثر بتسميد هذه الجذور وفلاحتها وسقايتها بشكل دائم؟.

ثمّة مثال مجتمعي بشري تاريخي كبير يناظر مثال الشّجرة المثمرة هذه.

فكرة عصور النّهضة الأوروبيّة، الّتي جاءت بعد حقبة ظلاميّة طويلة في أوروبا استمرّت 1000 عام منذ القرن الخامس الميلادي وحتّى القرن الخامس عسر الميلادي هي ما اتّفق على تسميتها بالعصور الوسطى الأوروبيّة، بدأت مقدماتها الأولى في القرن الخامس عشر على أساس إعادة الاعتبار لفترة الفكر الفلسفي الإغريقي اليوناني  القديمقبل سيطرة المسيحيّة على أوروبا في القرن الخامس ميلادي، وبالتّالي النّهوض بمجتمعات أوروبا من جديد بناء على هذا الأساس، الّذي تمّ تجاوزه معرفيا لاحقا بما لا يقاس، لكن دون أن يتمّ القطع معه أو إنكاره وتجاهله. فمنطق أرسطو الصوري والميتافيزيقي ونظريات أفلاطون في “المثُل” ما تزال تدرس باهتمام بالغ كمرحلة مؤسّسة للفكر الفلسفي الأوروبي والعالمي، ولهما تأثيرهما على العديد من أعمال المفكّرين في الغرب حتّى اليوم، دون أن يكون لهما أي دور مباشر في إنتاج العلوم الحديثة وثوراتها المتتابعة.

فالجذور الحقيقية للتّفكير الفلسفي والعقلاني الحداثي هي هناك في التّاريخ البعيد في فلسفة وأفكار فلاسفة بلاد الإغريق منذ القرن الخامس قبل الميلاد، بعد أن حاربتها الكنيسة الأوروبيّة كجذور تفكير وثني وقطعت معها حتّى القرن الثّالث عشر حين ظهر القديس – الفيلسوف (توما الأكويني 1225 – 1274م) الّذي حاول أن يعقلن الإيمان المسيحي بمحاولته التّوفيق بين فلسفة أرسطو والإيمان المسيحي.

أمّا عصور النّهضة الأوروبيّة فتعاملت معها كنتاج فكري فلسفيّ معرفيّ عقلانيّ مؤسّس، في الوقت الّذي تجاوزته لاحقا لكن دون أن تقطع معه أو تتجاهله. أي أنّها قامت بتحقيب تاريخي لتلك المرحلة التاريخيّة، ومن ثمّ تحقيب تاريخي لكلّ الحضارات السّابقة واللاّحقة لحضارة الإغريق، في الغرب والشّرق.

تصوّر حول الموقف من التراث-:

ما أودّ قوله جوابا على السّؤال الإشكالي الّذي بدأت به، وعلى ضوء ما أسلفت به من أمثلة تاريخيّة أنّه لا يمكن القطع المعرفي والتاريخي مع تراثنا العربيّ الإسلاميّ وتجاهله كما لا يجوز العودة إليه للتّباهي فقط أو مجرّد التفاخر الأجوف، أو للاستغراق الدّائم فيه.

كما أزعم، أنّه ليس من المفيد النّظر الانتقائي في التراث، بمعنى أن نشطره نصفين أو أكثر، بما يلائم أهواءنا وميولنا الدينيّة والمذهبيّة، أو متطلّبات أفكارنا الحديثة المؤدلجة مسبقا:

نصف مضيء يرضي ميولنا وأفكارنا، نقف عنده نفاخر به ونستمد منه، ونصف مظلم نكفره أو نهمشه ونسقطه.

التراث كلّ واحد في جدليته ومفارقاته وتناقضاته، في كلّ عناوينه الكبرى “فقه، علم كلام، فلسفة، تصوف وعلوم أخرى”. ولكلّ تفصيل أو مفارقة يندرجان تحت أحد عناوينه تلك، سياقهما اللّحظي التّاريخي الخاصّ الّذي أنتجهما.

من هنا تنبع، كما أفترض، أهميّة دراسته وفهمه كحلقة وصل نوعيّة بين حضارات سابقة له ولاحقة عليه، كحوض ثقافي تاريخي كبير صبت وتفاعلت فيه نتاجات ثقافيّة حضاريّة سابقة متعدّدة اكتسبت فيه طورا نوعيّا جديدا ومختلفا، لدرجة صارت حضارات وليدة لاحقة أو مجاورة تأخذ في بداياتها منه.

هكذا هو التّاريخ لا يستمر فيه إلاّ القوي، ليس بالسّيف فقط، وإنّما بدرجة أساسيّة وكبيرة القوي بإرثه الحضاري الثّقافي المدون والمكتوب المتعدّد والغني. فالحضارات الّتي تترك أثرا عظيما مكتوبا هي الّتي يبقى ذكرها شاهدا على التّاريخ في مفصل حضاري نوعي دونته. وإلاّ لماذا يتمّ حتّى اليوم ذكر “شريعة حمورابي” بافتخار على حساب الإشارة إلى قوّة سيفه وعظمته الشخصيّة كملك.

وهذه كانت حالة الحضارة العربيّة الإسلاميّة في العصر الوسيط إنّها حلقة في سلسلة حلقات تطور التراث الإنساني والعالمي عبر التّاريخ ولذا فهي ليست ملكا حصريا للعرب أو المسلمين الّذين أثبتوا منذ سقوط بغداد على يد المغول في القرن الثّالث عشر 1258م وحتّى اليوم أنّهم خارج التّاريخ، بل صارت ملك الحضارة البشريّة ككلّ كونها جزءا هامّا من تراث الإنسانيّة عبر التّاريخ.

فمعرفة التاريخ على هذا الأساس تتيح بداية إمكانيّة توازن جديد للشخصيّة المأزومة والمستلبة راهنا، والّتي تنتمي ثقافيا وروحيا إلى هذا التراث وتاريخه، كما تؤسّس بدورها لبداية وعي عقلاني موضوعي بالتاريخ وأحداثه ممّا يؤدّي إلى مبادرات خلاقة في صنع تاريخ جديد لها، ولعلّ الانفجارات المجتمعيّة العربية الرّاهنة بكلّ مخاضاتها الصعبة تشكّل المناخ الملائم لكلّ محاولات إعادة النّظر النقديّة بالذّات سواء على صعيد فردي أم جماعي فمجتمعي.

الاهتمام بالتراث ومعرفته هو اهتمام ومعرفة بالتّاريخ بدرجة أولى، تاريخ منطقتنا العربية كما هو تاريخ العالم في تلك الفترة، فالتّاريخ البشري حلقات مترابطة ومتداخلة دوما.

وليس للنّكوص نحو الماضي البعيد والاستغراق فيه كما يريد أغلب أصحاب الدّعوات الأصوليّة الجهاديّة والسلفيّة الدينيّة أو الدّعوات الإثنيّة العرقيّة الماضويّة القديمة، الّذين ليسا إلاّ وجهين لعملة واحدة، خصوصا أنّهما نتاج معادلات إقليميّة دوليّة حديثة ومعاصرة بدأت منذ عهود الاستعمار الأوروبي لمنطقتنا مرورا بمرحلة الحرب الباردة. وتستثمرهما أنظمة القمع والاستبداد في عالمنا العربيّ بدهاء أمني مخابراتي فظيع.

على هذا الأساس أوضح فأزعم أنّي علماني حداثي حتّى النّهاية بثقافتي وميولي وهذا ما يتيح لي دائما حافزا متجدّدا لإعادة النّظر بكلّ قناعاتي ومسلّماتي السّابقة خصوصا فيما يتعلّق بزاوية النّظر للتراث العربيّ الإسلاميّ والموقف منه. وأحاول أن أفهم وأفسّر أي ظاهرة أو رأي أو شخصيّة تراثيّة ضمن وضعها قي سياقها الزّمني والمجتمعي والتاريخي الّذي وجدت فيه. وأن أرى في أي شخصيّة تراثيّة هامّة جوانب متعدّدة يمكنني الاختلاف مع بعضها ويمكنني الاتّفاق بل والانبهار مع بعضها الأخر.

 فالشّيخ (ابن تيمية) الملقب بشيخ الإسلام، مثلا، لا أسمح لنفسي بأن أختطفه في جانب الفقيه المتشدّد، فقط، وأغلق عليه وأبدأ بإطلاق أحكام القيمة عليه على هذا الأساس، ثمّ بتحميله شخصيا، كما يفعل كثيرون اليوم ممّن يدّعون بتبجح واضح  العلمانيّة والثوريّة ووو، أو بخلفيّة طائفيّة واضحة أحيانا، مسؤوليّة إرهاب وفتن وجرائم “داعش” و”القاعدة” و”النصرة” وأخواتهم العديدة في العالم العربيّ والإسلاميّ.. ؟!.

دون أن يأخذوا بعين اعتبار الفاصل الزّمني الكبير، سبعة قرون من الزّمن، بين (ابن تيمية) وبين التّطرف الإسلاميّ الأصوليّ السّلفي الرّاهن، بين لحظته وسياقه التّاريخيين الخاصين بمرحلته، وبين سياق اللّحظة العالميّة الرّاهنة بتشابكاتها العديدة الّتي أنتجت ودعمت كلّ تلك العصابات الإرهابيّة الفاجرة والقاتلة اليوم، باسم الإسلام.

بل أرى نفسي ملزما أوّلا أن أتفهّم السياق التّاريخي المضطرب الّذي كانت تعيشه الدولة الإسلاميّة في زمنه، لاسيّما في مصر والشّام مع الأخطار الخارجيّة، مغول من الشرق وفرنجة صليبيين من الغرب، الّتي كانت تتهددها آنذاك. والّتي جعلت منه متشدّدا في الأصول الأساسيّة والعليا للإسلام. والّتي جعلته يتعرض للاعتقال بأمر الخليفة السلطان المسلم، وبتحريض من بعض صغار الفقهاء ورجال الدين الإسلامي من مجايليه الّذين لم ترق لهم مبدئيته وعصاميته، أكثر من مرة في سجون القاهرة والإسكندريّة ودمشق حتّى توفي في سجن القلعة في دمشق لأنّه كان أمينا لما يفكر فيه و صلبا صادقا حتّى النهاية.

إلى جانب الفقيه المتشدّد في شخصه، الّتي حاولت أن أتفهمه في ظرفه التاريخيّ فقط، دون أن يعني ذلك دفاعا راهنا عنه كما قد يريد البعض أن يفهمني. فلا بدّ من رؤية الجانب الآخر والأهمّ عند (ابن تيمية) والوقوف عنده طويلا، وهو شخصيّة المفكّر النّاقد الفذ الّذي كتب في “نقد المنطق الأرسطي الصوري” قبل الحداثة الأوروبيّة بقرون عديدة وكتب في محاولة “درء تعارض العقل مع النقل” صونا للعقل والنقل.

ختام القول-:

أجد نفسي أنا كاتب هذه السّطور، متصالحا بوضوح مع إلحاد (ابن الراوندي) العقلاني الجريء والمبكر جدا. ومع التّشكيك الهادئ والمناور لـ(أبي حيان التوحيدي) ومع الإشارات المضمرة للإلحاد في شعر (أبي العلاء المعري).

ورغم ذلك تتوازن نفسي وترتقي ذائقتي أكثر وأنا أستمع أو أقرأ أفكار وتأملات وسير وأشعار كبار المتصوفّة كابن عربي والسهروردي والحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية .. إلخ 

وأحسّ بتجربة روحيّة غنيّة ومتعة معرفيّة كبيرة، وأنا أقرأ عن سيرة حياة وأفكار وكتب الإمام الغزالي وابن تيمية والإمام الشافعي وجماعة “إخوان الصفا” وووو إلخ. تماما مثلما أحسّ وأنا أقرأ عن أعلام الفلسفة العربيّة الإسلاميّة بدء من الكندي والفارابي حتى ابن رشد.

فالتراث العربي الإسلامي هو بنية غنيّة متعدّدة ومتكاملة ولا يمكن تنقيتها وتجزئتها على هوى وميول الشّخص.. أي شخص كان.

 لذلك أعتبر نفسي منتميا بهويّتي الروحيّة تاريخيا، لكلّ هذه التجربة التاريخيّة الحضارية العظيمة بكلّ تناقضاتها وسلبها وإيجابها.. الّتي هي في النهاية درس تاريخي عظيم، لكن دون التّعلق بأي وهم خاص حول إمكانيّة الانطلاق منها في بناء نهضة مجتمعية جديدة بعيدا عن ثقافة وفكر وفلسفة وعلوم الحداثة.

مثلما أعتبر نفسي وثقافتي ومجمل تكوين شخصيتي الحاليّة، مثل كلّ أبناء جيلي والأجيال المتتالية منذ أوائل القرن العشرين، هي نتاج العصور التنويريّة العلميّة الحديثة الّتي ولدنا فيها وتعلمنا من علومها وثقافتها وفلسفاتها قراءة، واحترام، أي تجربة تاريخيّة حضاريّة بشكل عقلاني نقدي موضوعي وأسلوب بحثي علمي دون أي انحياز مسبق.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/03/13/%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B0%D9%91%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%A7%D8%B6%D8%A7%D8%AA-%D8%A7-2/

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك