الحوار القرآنيّ.. عناصره وشروطه

محمد حسين فضل الله

 

لا بُدَّ للحوار من مُناخ يعيش فيه، كي يتحوّل إلى عملية منتجة، بدلاً من أن يكون عملاً ضيقاً عقيماً في الشكل والمضمون.

وقد أراد الله للرسول، في القرآن الكريـم أن يوجد القاعدة الأساسية لهذا المناخ، بالتخطيط العملي لتوفير الخصائص الضرورية لذلك، وفي مقدمتها، شخصية المحاور الذي يقود عملية الحوار ويتبناها وشخصية الطرف الثاني للحوار، حيث الحالة النفسية التي تعيش مع الحوار في طريق المعرفة والإيمان، لا في الجدل العقيم.

ثُمَّ... المحاولة الجادة لخلق الأجواء الهادئة للتفكير الذاتي المستقل، الذي يبتعد عن التأثيرات الانفعالية، التي تُربك ذهن الإنسان وتفكيره، وتبعده عن الآفاق التي يمثل فيها شخصيته الخاصة، لا شخصية الآخرين؛ لئلاَّ يكون مجرد ظل للآخرين، لا يملك أن يريد وأن لا يريد، لأنه لا يملك أن يفكر أو أن لا يفكِّر...

وخلاصة ذلك، أنّ العناصر التي يجب توفرها في عملية الحوار منها...:

1 ـ شخصيّة المحاور الذي يدير عمليّة الحوار:

من الطبيعي لأي حوار يدور بين اثنين، لينتهي ـ في هدفه ـ إلى النتيجة الحاسمة من الإيمان العميق المنفتح والمتقبل لنتائج الحوار، أن يحقق شرطاً أساسياً، هو أن يملك كلٌّ من الطرفين حرية الحركة الفكرية، التي يملك معها الثقة بشخصيته الفكرية المستقلة؛ فلا يكون واقعاً تحت رحمة الإرهاب الفكري والنفسي، الذي يشعر معه بالانسحاق أمام شخصية الآخر، نتيجة إحساسه في أعماقه بالعظمة الكبيرة والمطلقة التي يملكها الآخر، فتتضاءل ـ إزاء ذلك ـ ثقته بنفسه، وبالتالي، ثقته بفكره وبقابليته لأن يكون طرفاً للحوار، فيتجمّد عند ذلك، ويفقد قدرته على الحركة الفكرية، فيتحوّل إلى صدى للأفكار التي يتلقّاها من الآخر.

وقد عمل الرّسول الكريم ـ من خلال تعاليم الله في القرآن الكريم ـ على توفير ذلك الشّرط للآخرين عندما كان يتحدَّث إليهم، فحاول، انطلاقاً من ذلك، أن يؤكّد ـ في أكثر من مناسبة ـ على جانب البشريّة فيه؛ فهو بشر مثلهم، لا يملك أيَّة قوّة غير عادية في تكوينه الذاتيّ...

قال تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف:110).

{قُل لا أَملِكُ لِنَفسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَو كُنتُ أَعْلَمُ الغيبَ لاستكثَرتُ مِنَ الخَيرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِن أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ} (الأعراف:188).

2 ـ شخصيّة الطّرف الآخر للحوار:

لا بُدَّ لمن يدخل في عملية الحوار من إعداد جوّه الداخلي، للاقتناع بالنتائج الحاسمة التي يقوده إليها، وإلا انقلب الموقف إلى جدل عقيم، لا يُراد منه إلا عرض العضلات الكلامية والمزايدات الجدلية، التي لا تقدّم أو تؤخِّر في الموضوع؛ لأنّ الفكرة قد أُعدّت سلفاً بشكل لا مجال للتراجع عنه على قاعدة من الدوافع الذاتية والاجتماعية التي لا ربط لها بالقناعة الذاتية الفكرية، المرتكزة على أساس من الحجّة والبرهان.

وقد ركّز القرآن على هذا الجانب، فتحدَّث عن أولئك الذين لا يريدون أن يؤمنوا أو يقتنعوا، وذلك في قوله تعالى:

{وَمِنهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفي آذانِهِم وَقْراً وإِن يَرَواْ كُلَّ آيةٍ لاَّ يُؤمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِين كَفَرُوا إِن هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الأوَّلِينَ* وَهُمْ يَنْهَونَ عَنْهُ وَينأونَ عَنْهُ وإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون}(الأنعام: 25-26).

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ كَفَروا سَوَاءُ عَلَيْهِم ءَأَنذَرْتَهُم أَم لم تُنذِرْهُم لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمِعِهم وَعَلَى أَبْصَارِهِم غِشَاوةٌ وَلَهُمْ عَذَابُ عَظِيم}(البقرة: 6-7).

إنها الصورة الحية لأولئك الذين يستمعون إلى الدعوة، وقلوبهم مغلقة عن وعي ما يسمعون، وآذانهم مسدودة عن الإصغاء إليه؛ فإذا جاءتهم آيات الله بكل جلاء ووضوح، أعرضوا عن الإيمان بها، لا لأن لديهم ما يواجهون به هذه الآيات، ليبرروا به إنكارهم ورفضهم ـ فهم لا يملكون شيئاً من ذلك ـ بل لأنهم يريدون أن ينكروا عناداً وكفراً...

وربما نجد نماذج حية من هؤلاء في الواقع المعاصر من الكثيرين من أعداء الدين، الذين لا يملكون علماً يواجهون به الفكر الديني، في عقائده ومفاهيمه العامة في شؤون الحياة، إلا كلمة الأسطورة و"الخرافة" يدمغونه بها، أما لماذا؟ وكيف؟ فهذا ما لا يحاولون الإفاضة فيه؛ وربما يلجأون إلى طريقة يغلقون بها باب الجدل في الموضوع، بالإيحاء بأنّ الدين قد انتهى دوره وتجاوزه العصر، ليحلّ محلّه العلم، ولكنهم لا يدعمون ذلك بالحجة الواضحة والبرهان القاطع، لأنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً.

وقد نجد هناك بعض الآيات التي تجسّد هذا الموقف تجسيداً حيّاً، يظهر ـ بوضوح ـ فظاعة المكابرة التي يلجأ إليها هؤلاء في موقف الإنكار والجحود الأعمى، وذلك في قوله تعالى:

{وَأَقسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِم لَئِن جَاءَتهُمْ آيَةٌ ليُؤمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشعِركُمْ أَنَّها إِذا جاءَت لا يُؤمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة وَنَذَرُهُم في طُغْيانِهِم يَعْمَهُونَ* وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلنا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمَ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيءٍ قُبُلا ما كَانُوا لِيؤمِنَوا إِلاَّ أن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ يَجْهَلونَ}(الأنعام: 109-111).

فإنَّ هؤلاء لا يريدون الإيمان بالله، ويطالبون بآيات خارقة للعادة، يقترحونها على النبي محمَّد(ص) كشرط من شروط الإيمان، لعلمهم بأنَّ ذلك غير وارد في رسالته، فإنَّ الآيات ليست لعباً...

فليست القضية آيات تقترح ليستجاب لها أو لا يستجاب؛ بل القضية قضية فقدان الاستعداد للإيمان، مهما كانت الآيات والبراهين.

ونلتقي في هذا النموذج مع الناس الذين يكابرون ولا يريدون أن يقتنعوا أو يؤمنوا، ببعض الأشخاص الذين يصورهم لنا القرآن الكريم بصورة رائعة، في قوله تعالى:

{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَو تَأْتِينَا ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثلَ قَولِهِم تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَومٍ يُوقِنُونْ}(البقرة: 118).

وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمِطرْ عَلَيْنَا حَجارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَو ائِتَنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(الأنفال: 32).

إنها الأساليب السّاذجة التي تحاول أن تتلمَّس الإيمان من خلال طلب مواجهته بالرؤية، أو سماع كلامه مباشرة، أو طلب تلمّس عذابه على أساس موقف الإنكار، كما هي الحال لدى بعض النّاس ممن يريدون خداع البسطاء والسّاذجين من الناس...

وفي مقابل تلك الصورة القاتمة التي يعطيها القرآن الكريم للمعاندين والمكابرين الذين لا يريدون أن يؤمنوا، مهما كانت وسائل الإيمان موفورة لديهم، تواجهنا الصورة المشرقة للنموذج الحيّ الرّائع الذي يبحث فيه الإنسان عن الحقّ ويسعى إليه، وهي صورة النبي العظيم إبراهيم(ع)، في مواقفه التي كان فيها هو نفسه طرفاً للحوار الذاتي أمام دعوة الحقّ والباطل...

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهيم مَلَكُوتَ السَّمَواتِ والأرِض وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْه الَّيْلُ رَءَا كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبرُ فَلَمَّا أَفَلتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشْرِكِينَ}(الأنعام: 75-79).

فقد بدأت القضيّة لديه كما بدأت عند البسطاء والساذجين من قومه، من الخضوع للظواهر الكونية، بما تمثله من عظمة، وبما يكتنفها من أسرار، فكانت عبادة الكواكب، وعبادة القمر، وعبادة الشّمس، وكانت الأوضاع المختلفة لها، هي التي تقرّر طبيعة العبادة لهذه أو تلك، في وعي أولئك الناس، على ضوء ما نفهمه من التدرّج في قضية الألوهيّة المدّعاة من الصغير، إلى الكبير، إلى الأكبر، ما جعل إبراهيم ـ وهو يصوّر تفكير قومه ـ يشعر بالخضوع للشمس ـ في النهاية ـ فيعتبرها ربّاً يستحقّ العبادة، لأنها أكبر من الكوكب ومن القمر، فهي أحقّ بالعبادة، لأنها تحمل من مظاهر العبادة ما لا يحملانه.

وكانت الفكرة تنمو في ذهنه، أمام عظمة هذه أو تلك، ولكنها لم تلبث أن تراجعت إزاء حالة الأفول التي تمثِّل الضعف والغيبوبة عن الكون، مما يجردها عن صفة الألوهية التي تخلق الكون وتديره وترعاه وتدبره...

وينقل لنا القرآن الكريم صورة أخرى عن إبراهيم النبيّ(ع) في موقف آخر، يجسّد لنا فيه طبيعة الإنسان الذي يريد أن يؤمن، ويعمل علـى أن يتجـاوز الإيمـان إلى مستـوى الاطمئنان الروحي، ولذا فهو يبحث عمَّا يركِّز هذه الطمأنينة في القلب، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبراهِيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي المَوتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيز حَكِيمٌ}(البقرة: 260).

فهو يؤمن بقدرة الله المطلقة إيماناً ينبع من التّفكير والملاحظة، ولكنّه يطلب أن ينطلق الإيمان من الحسّ، لأنه يربط القلب بالفكر، والعقل بالنَّظر وبكلّ قوّة... ولم يكن هذا الطلب تحدّياً، بل كان دعاءً ورجاءً حاراً يتمنى فيه على الله ـ بشعور صادق ـ أن يستجيب له لقدرته على ذلك، وحاجته إليه من خلال مسؤوليّته الرسالية في مجتمعه الكافر الذي اضطربت فيه جوانب العقيدة وتعددت فيه طرق الضلال.

وهكذا استطعنا أن نجد في شخصية إبراهيم، من خلال هاتين الصورتين اللتين يعرضهما القرآن له في حواره المتحرك في طريق الإيمان، الشخصية الدينية للطرف الثاني للحوار، الذي يريد أن يصل إلى الحقّ، فيعمل كل ما في طاقته لتحقيق هذا الهدف الكبير، دون أن يمنعه من ذلك مانع قريب أو بعيد.

3 ـ خلق الأجواء الهادئة للتفكير المستقلّ:

لعلّ من أشدّ الأمور ضرورةً لوصول الحوار إلى هدفه، وجود الأجواء الهادئة للتّفكير الذاتي الذي يمثّل فيه الإنسان نفسه وفكره، والابتعاد عن الأجواء الانفعاليّة التي تعيق الإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمّل وتفكير...

وقد صوَّر لنا القرآن الكريم ذلك، في ما نقله لنا من أسلوب النبي محمد(ص) في الحوار مع خصوم العقيدة، عندما واجهوه بتهمة الجنون. فقد دعانا إلى أن نتجرَّد عن هذا الجوّ الانفعالي، إذا ما أردنا أن نتبنّى فكرة أو نرفضها، أو ننسجم مع موقف، أو نبتعد عنه.

قال تعالى: {قُلْ إِنَما أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}(سبأ: 46).

فقد اعتبر القرآن الكريم اتهام النبيّ بالجنون، خاضعاً للجوّ الانفعالي الذي كان يسيطر على التجمّع العدائي لخصومه آنذاك، ما جعلهم لا يملكون ما يستطيعون أن يَزِنوا به صحة القضايا وفسادها، بل ظلّت أفكارهم صدى لأفكار الآخرين، ولذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجوّ المحموم بأن يتفرقوا مثنى وفرادى، في موقف فكر وتأمّل، يُرجع إليهم أفكارهم وشخصياتهم، ليصلوا إلى النتيجة الحاسمة بأسرع وقت، لأنّ طبيعة الفكر الهادئ الواعي الذي يواجه شخصيّة النبيّ محمَّد(ص) وأفكاره وتعاليم رسالته، سوف يضع القضية في موقعها الطبيعي الذي يرفض هذه التهمة جملة وتفصيلاً، لينتهي ـ بعد ذلك ـ إلى الإقرار بأنه رسول الله إلى الناس لينذرهم بالعذاب الأليم.

وقد نجد مثل هذه الأجواء الانفعاليّة في كلّ مكان واجهنا فيه واقع الصّراع المرير الذي يخوضه الإسلام مع أعداء الله، سواء منهم الملحدون، أو غيرهم ممن يختلف معهم في تفاصيل العقيدة والشريعة، فنلتقي بالاتهامات التي تُطلق بلا حساب في أجواء الجماعة، كنتيجة لمواقف الدّعاة إلى الله الذين يتوجّهون إلى المجتمع بالفكر الإسلامي الأصيل، مما لا ينسجم مع واقع الانحراف الفكري أو العملي الذي تعيشه مجتمعات الكفر والضّلال... فينطلق أعداء الله باتهاماتهم الظالمة المدروسة التي تصفهم بالرجعيّة تارةً، في إطار قضية التقدّم الفكري والاجتماعي، وبمحاربة الوطنية أخرى، وبالتّعاون مع الاستعمار ثالثة، في نطاق قضيّة التحرّر الوطني السياسي...

ثم لا يقف الأمر بهم عند هذا الحدّ، بل يحاولون أن يتخذوا من ابتعاد المجتمع عن قوانين الإسلام، وعن روحه واستسلامه لقوانين أخرى وعقليات كافرة، مجالاً لتأليب الناس على هذا الفكر وهذا الدين...

ثم يضيفون إلى هذه الصورة أسلوباً جديداً في مواجهة هذا التشريع، فيقولون إنه يخلق في المجتمع مجموعة من الأفراد الذين يعيشون عالةً عليه، لأنهم لا يملكون إمكانية العمل، بسبب فقدان أيديهم التي يعملون بها إذا أرادوا ممارسة العمل الشريف، وينطلقون بهذا الأسلوب وأشباهه في أجواء انفعالية وعاطفية، ويغفلون الجوانب الأساسية التي انطلق منها التشريع في حساب الربح والخسارة في حياة المجتمع، ويثيرون المشاعر العدائية على أساس ذلك، مما لا يجعل للعاملين مجالاً للمناقشة في هذا الجوّ المحموم.

وقد يتمثل ذلك في الحديث عن المرأة وحقوقها، وقضية السفور والحجاب، وتعدد الزوجات، وقانون الطلاق، وغير ذلك من الأحكام، التي قد يكون لها بعض الآثار السلبيّة في بعض المجتمعات التي نشأت على مفاهيم منحرفة وأفكار ضالَّة...

وهكذا يجد الدّاعية المسلم كلّ هذه القضايا التي لا يطلقها أعداء الله من قاعدة فكرية تفسح المجال للمناقشة الحرّة، بل يحاولون إثارتها في أجواء عاطفيّة وحماسيّة، تعطي الأساليب المتّبعة في ذلك أجواء الانفعال التي تغرق الجماهير في حالات لا شعوريّة متوترة، لا تترك للتفاهم سبيلاً.

وفي ضوء ذلك، لا بدّ لهذا الداعية من العمل الجادّ للابتعاد بجوّ الحوار عن هذه الأجواء الانفعالية المشدودة إلى الجوّ العدائي العام، ليجرهم إلى الجو الهادئ الذي يعيدهم إلى جذور الفكرة وأسسها الأصيلة من جديد، لتبدأ رحلة الحوار من بدايات الفكر لا من نهاياته..

وقد يحتاج الإنسان الداعية ـ في عملية خلق الأجواء الهادئة للحوار ـ إلى الالتفات إلى بعض الحالات، التي يخضع فيها أطراف الحوار إلى إحساس عميق بقداسة الفكرة التي يؤمنون بها ويدافعون عنها، انطلاقاً من جوانب عاطفية ترتبط بالذات وبعلاقاتها، بعيداً عن أيّ منطق فكري أو عقلي...

ولا يقتصر هذا على العقيدة، بل يمتدّ إلى العادات التي تحكم سلوك الناس في حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، كما هي الحال لدى الشعوب البدائية التي ترتفع عاداتها المتوارثة إلى مستوى القداسة في حياتها، من دون أن يكون لهذه القداسة أيّ أساس فعلي، إلا ارتباطها بالآباء والأجداد الذي يُخضع الأبناء إلى الشعور العميق بقداسة ذكراهم...

فإن قضايا الفكر تنبع من عقل الإنسان وذهنه، بعيداً من أيّ تأثير عاطفي أو خارجي، فليس أمام الإنسان ليؤمن أو لا يؤمن، إلّا أن يدرس القضيّة في إطارها الطبيعي من خلال الجوانب التي تؤثّر فيها وتتأثر بها من ناحية فكريّة.. ولولا ذلك، لم يستطع النبيّ(ص) أن يصل إلى نتيجة حاسمة في هذا المجال، لأنهم ـ مع إصرارهم على قداسة الماضي ـ لا يوافقون على مناقشة الفكرة من حيث المبدأ، فكيف يمكن إقناعهم بها وجرّهم إليها.

وتتّضح لنا الصورة الجيّدة، في عرض الفكرة ومناقشة المنهج في الآيات القرآنية الكريمة:

قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنَزَل اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنا أَوَلَو كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونْ}(البقرة: 170).

{قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَم لَمْ تَكُن مِنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(الشعراء: 136-138).

{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيهِ ءَاباءَكُمْ قَالُوَاْ إِنَّا بِمَا أُرسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ}(الزخرف: 22-24)...

وقد لا يقتصر ما نواجهه ـ في هذا الجو ـ على تقديس التراث، بل قد نصطدم بالنموذج الذي قد يرفض مناقشة الفكرة المضادة، لتقديسه الحزب الذي ينتمي إليه إذا ما كان منتمياً إلى بعض الأحزاب التي تغرس في نفوس أفرادها روح التقديس للحزب وأفكاره، دون أن تسمح لهم بمناقشتها أو التفكير في خطئِها وصوابها، أو لتقديسه شخصية اجتماعية معيّنة تتبنى هذه الفكرة كأستاذ أو زعيم أو غير ذلك.

إن الأسلوب العملي هو مناقشة أطراف الحوار، في المنهج الّذي يجعلهم يتحررون من الخضوع للشعور بالقداسة التقليدية، لينطلقوا ـ بحرّية وقوّة ـ مع أفكارهم، كشرط أساس لوصول الحوار إلى هدفه.. وهكذا، حاول القرآن أن يوحي إلى النبي(ص) بضرورة التوفر على إيجاد هذا المناخ الطبيعي الذي يستطيع أن يصل بالحوار إلى غايته الطبيعيّة دون سلبيات أو انفعالات؛ ليكون الحوار رحلة طيّبة في طريق الوصول إلى الإيمان، لا حركةً تشنجيّةً تؤدي إلى الحقد والعدواة والبغضاء.

المصدر: http://arabic.bayynat.org.lb/ArticlePage.aspx?id=26389

الأكثر مشاركة في الفيس بوك