الخريطة الوراثية بين العلم والإعلام

استحوذ إعلان الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني في السادس والعشرين من شهر حزيران الماضي عن توصل العلماء إلى حل الجزء الأكبر من رموز خريطة المادة الوراثية أو ما يسمى بِـ (مشروع الجينوم البشري) على اهتمام بالغ من قبل وكالات الأنباء والصحف، واعتبر البعض أن السادس والعشرين من حزيران لعام ألفين هو يوم تاريخي للأجيال القادمة.

       لقد وقف الكثير من الناس في حيرة من أمرهم أمام هذه الموجة من الأنباء المتعلقة بتكوينهم الوراثي، وقد تساءل الكثيرون عن ماهية الخريطة الوراثية الجينوم البشري وعن سبب الضجة المرافقة للإعلان، والبعض الآخر أنكر صحة الأخبار جملةً وتفصيلاً واعتبرها من الهرطقات الكفرية، ووقف فريق ثالث موقف المعجب بما أنجزته الدول الغربية في هذا المضمار وراح يتهم الأمة الإسلامية بالعقم العلمي والتخلف. تلك هي بشكل مجمل الآراء التي سادت أوساط الأمة تجاه هذه القضية.

       في ما يتعلق بالتساؤلات حول ماهية هذه الخريطة وماهية مشروع الجينوم البشري، فالمشروع ببساطة هو محاولة للتعرف على الترتيب المحدد لأربعة أنواع من المركبات الكيماوية والتي يرمز لها بالأحرف (أي ـ سي ـ جي ـ تي) وهذه المركبات الأربعة تشكل الأحرف الأساسية لحمل الأوامر الوراثية داخل الخلية، ويوجد في الخلية البشرية الواحدة ما يقارب ثلاثة آلاف ومئتي مليون من هذه المركبات الأربعة مرتبة ترتيباً معيناً في أزواج على امتداد شريط الحامض النووي أل (DNA) المكون لكروموسوماتنا أل (46) والتي ورثنا 23 منها من جهة الأب وأل 23 الأخرى من جهة الأم.

       والحقيقة أن الفهم الدقيق لجوانب الموضوع المختلفة تستلزم أبحاثاً مطولة ليس محلها هذه المقالة، ولذلك رأيت أنه بدلاً من البحث العلمي المفصل للموضوع قد تكون الفائدة أعم وأشمل إذا ما بحثت النقاط ذات الطابع العام والتي تناولتها الصحف وجذبت اهتمام الشارع، وهذه النقاط هي:

  1ـ   هذا الاكتشاف وأثره على العقيدة:

       العديد من الناس رفضوا فكرة البحث واعتبروها حراماً بل إن البعض عدها كفراً لظنهم أنها تدخلاً في الخلق. والحقيقة أن حل الشيفرة الوراثية هو ليس حراماً ولا كفراً ولا تدخلاً في خلق الله تعالى وما هو في الحقيقة إلا اكتشاف جديد يضاف إلى قائمة الاكتشافات التي وصل إليها الإنسان ـ بما حباه الله من قدرات ـ فيما يتعلق بالسنن والقوانين التي أودعها الله في الكون والإنسان ولا يعتبر هذا الاكتشاف حاسماً في فهم طريقة عمل الخلايا فهماً مطلقاً، بل إن هذا الاكتشاف مضافاً إلى كل ما سبقه وما سيلحقه من الاكتشافات سيبقى قطرة في محيط لا آخر له من السنن الربانية التي أبدعها العليم الحكيم سبحانه وتعالى وصدق الله العظيم إذ يقول: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) الكهف109. والحقيقة أن هذه الاكتشافات هي من أروع الأدلة والبراهين على عظمة الخالق المدبر وقدرته وحكمته وإتقان صنعه، والوقوف على الأنظمة الدقيقة والقوانين البالغة الإحكام والروعة في الخلية التي لا يتجاوز قطرها (0.02) ملم لينفي بشكل ساخر مسألة الصدفة في الخلق لأن الصدفة لا يمكن أن توجد القوانين الدقيقة التي لا تتخلف. والجدير بالذكر أن العالم الأميركي البرفيسور فرانسيس كولينز وهو مدير الجانب الحكومي لمشروع الجينوم البشري قد صرح لجريدة نيويورك تايمز بتاريخ 27/06/2000 قائلاً «إن مشروع الجينوم البشري يملؤني خشية من الله لأنه كشفَ الستار عن إبداع الخالق» وصدق الله إذ يقول (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) الآية، فصلت 53.

  2ـ   الفرق بين الخلق ومحاولة تبديل الخلق:

       العديد من الصحف ووكالات الأنباء في العالم الإسلامي تناولت الموضوع كعادتها في اجترار الأخبار الصحفية من وكالات الأنباء الغربية المهووسة في الجذب الإعلامي حتى ولو كان عن طريق الخداع والكذب والتضليل فمنها من قال (سيصبح بالإمكان خلق الإنسان) وأخرى قالت (قريباً سيكون خلق الإنسان ميسوراً) وثالثة قالت (علماء البيولوجيا يكتشفون سر الخلق والحياة). إن كل هذه الجمل ليست إلا مفرقعات صحفية غاية في السخف والسذاجة، فالخلق في الحقيقة هو الإيجاد من عدم وهو أمر تفرد به الخالق سبحانه وتعالى، وأما ما يقوم به علماء البيولوجيا فما هو إلا دراسة للقوانين والخصائص التي أودعها الله في الكائنات الحية، وهو ليس بخلق مطلقاً، لأنه ليس إيجاداً من عدم، فالله سبحانه هو الذي خلق تلك القوانين والخصائص، والباحثون والعلماء في هذه التجارب مقيدون بشكل مطلق بما توفر لديهم من فهم للقوانين ولمواد أولية خلقت قبل أن يخلقوا هم أنفسهم.

       وأما بخصوص ما أوردته بعض الصحف عن أن كشف الشيفرة الوراثية وتركيب مادة الـ DNA هو كشف لسر الخلق والحياة فما هو إلا محض هراء. والجدير بالذكر أنه في أحد الحوارات العلمية التي أعقبت الإعلان وقف أحد الباحثين المشاركين في هذا المشروع قائلاً «إن مادة الـ DNA ليست هي سر الحياة كما نقل على ألسنتنا في الصحف لأنها لو كانت كذلك لكان وجودها يعني وجود الحياة وغيابها يعني غياب الحياة، إلا أننا نرى أن الشخص الذي فارق الحياة لا تزال خلاياه تتمتع بوجود مادة الـ DNA بل إن بعض أعضائه تبقى صالحه لساعات عديدة لأن تُنقل وتُزرع في شخص آخر، ومع هذا كله فهذا الشخص يعتبر فاقداً للحياة التي لا يمكن لأحد منا نحن الباحثين أن يعيدها إليه» وما كان من أحد العلماء وهو البرفيسور أ. بانيت الذي كان يعمل في المعهد القومي الأمريكي لبحوث الصحة إلا أن عقب على كلام زميله قائلاً «إن الخريطة الوراثية ما هي إلا برنامج عمل لمركبات عضوية أما سر الحياة فلا يعلمه إلا الله» وصدق الله العظيم إذ يتحدى كل البشر في إرجاع الحياة إلى الميت: (فلولا إن كنتم غير مدينين @ تَرجِعُونها إن كنتم صادقين) الواقعة 86 ـ87.

   3ـ   الرأسمالية وبحوث الجينوم البشري:

       إن هذه البحوث وما نتج عنها من اكتشافات يعتبر مسألة علمية لا تخص وجهة نظر معينة دون أخرى، إلا أن القضية الحساسة في الموضوع هي كيفية استخدام واستثمار هذه الاكتشافات. ولا شك أن العقيدة أو وجهة النظر في الحياة هي التي تحدد كيفية الاستخدام. وبما أن العالم الغربي يتبنى وجهة النظر المبنية على فصل الدين عن الحياة فهو لا ينظر عند استخدام هذه الاكتشافات إلا إلى تحقيق القيم المادية والنفعية التجارية البحتة، بغض النظر إذا اتفق هذا الاستخدام مع القيم الروحية والخُلقية والإنسانية أم لم يتفق، لأن هذه القيم ليست مقياساً عندهم ولا اعتبار لها في تصرفاتهم.

       وما أن أدرك الرأسماليون الجشعون أهمية الأبحاث في علم الوراثة والإمكانيات المتاحة لاستخدام نتائجها في الكشف المبكر عن الأمراض والعلاج بطرق جديدة حتى بدأوا بإنشاء شركات التكنولوجيا الحيوية ليحتكروا نتائج هذه الأبحاث وما يترتب عليها من تطبيقات مستقبلية. والجدير بالذكر أن هناك ما يقارب 6 آلاف جين للإنسان ولكائنات أخرى تخضع لحقوق براءة الاختراع التجارية، أي أنها مملوكة لشركات تجارية بحيث لا يمكن استخدامها أو الانتفاع من المعلومات المتعلقة بها إلا عن طريق التعاملات التجارية البحتة. وإضافة إلى هذه الأرقام المرعبة أوردت مجلة نيوساينتس في عددها الصادر في 20/05/2000 أنه في الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها ما يقارب 20 ألف طلب مقدم من شركات مختلفة تنتظر المصادقة عليها من قبل الدولة لتصبح ملكية خاصة لهذه الشركات وفق ما يسمى بقانون براءة الاختراع. ومن الملفت للانتباه أن العديد من العلماء في الهيئات الأكاديمية والجامعية يعارضون بشدة الهجمة التجارية المسعورة التي تقوم بها شركات التكنولوجيا الحيوية من أجل الحصول على براءة اختراع لكل جين يتم الكشف عنه مما سيترتب عليه عدم تمكن أي جهة أخرى من مواصلة البحث في ذلك المضمار إضافة إلى أن أية آلية تشخيص أو علاج مرتبطة بهذا الجين ستصبح ملكاً لتلك الشركة بشكل عالمي، ويرى البعض منهم أن الكشف عن جين معين لا يعتبر اختراعاً ذا طابع تجاري مثل الهاتف النقال لأنه شيء موجود في جسم كل واحد منا أصلاً ولذلك لا يصح أن يصبح ملكاً لأحد، ولقد علق البروفيسور جونثان كينج أستاذ علم الجينات في معهد ماساشوسيست للتكنولوجيا على هذا الموضوع قائلاً «إن التوجه الحاصل عند الشركات لاحتكار جيناتنا هو أشبه ما يكون بادعاء شخص ما أنه يملك الهواء الذي نتنفسه» ومن جهة أخرى انتقد البروفيسور اينار ارناسون أستاذ علم الجينات في جامعة ريكيافيك بآيسلندا في مقابلة له مع هيئة الإذاعة البريطانية ما قامت به حكومة آيسلندا من بيع لجميع الأسرار الوراثية للشعب الآيسلندي البالغ تعداده 270 الف نسمة لشركة ديكود الممولة أمريكياً مقابل 8 ملايين دولار إضافة إلى نسبة من الأرباح المستقبلية حيث قال «إن مصلحة المواطن التي يجب أن تأتي أولاً أصبحت في المرتبة الثانية بينما وضعت مصلحة الشركة التي تحقق الأموال في المرتبة الأولى».

       إن التقدم العلمي الهائل في الأبحاث الجينية يمكنه إذا أُحسن استخدامه واستغلال نتائجه أن يؤدي إلى تحسين كبير في الخدمات الطبية وغيرها من المجالات، إلا أن هذه النتائج ولكونها أنجزت في العالم الغربي ابتداءً فإن كيفية استخدامها قد خضعت للنظام الرأسمالي الجشع الذي يتبنى النفعية المطلقة، وعلى هذا فان الآثار المترتبة على هذه الكيفية في الاستخدام ستكون وبالاً على الإنسان ونقمة على أجياله القادمة، وعليه فان العديد من المفكرين والباحثين في مجال أخلاقيات البحث البيولوجي (بيوإثكس) يرسمون صورة مستقبلية قاتمة للمجتمعات الغربية، بل إن البعض منهم يتوقع انهيار المجتمع بأكمله إذا استمرت الأمور على ما هي عليه من تمكين للأغنياء ولأصحاب المال من التحكم في الخدمات الصحية للناس والحيلولة بينهم وبين الانتفاع من طرق العلاج المبنية على أساس علم الجينات.

       والحقيقة أن وضع الأمور في نصابها على المستتوى العالمي لتُستثمر هذه الأبحاث في رفع القيمة الإنسانية يحتاج إلى مبدأ يضمن تحقيق القيم الروحية والخُلقية والإنسانية، وهذا المبدأ لا بد أن لا يكون خاضعاً لأهواء أصحاب المال والنفوس المريضة، وهذه الشروط لا يمكن أن تنطبق إلا على مبدأ الإسلام الذي هو من عند اللطيف الخبير وكل ما عداه من المبادئ والأنظمة لن تزيد البشرية إلا شقاءً وضنكاً وصدق الله العظيم إذ يقول: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)…الآية، طه 123ـ 124

المصدر: https://www.al-waie.org/archives/article/12766

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك