الجذور التاريخيّة للقراءة السلفيّة للدين
فهمي رمضاني
ولّدت الرجًة الحضارية الّتي فجًرتها مدافع نابليون، خلال حملته على مصر وعيا عميقا لدى النّخب العربيّة الإسلاميّة بضرورة الانخراط في تيّار التّحديث والانعتاق من العصور المظلمة وبناء رؤية حديثة وعصرية للمجتمع و للدين.
وقد تعدّدت تبعا لذلك محاولات التّحديث، كما تنوّعت مجالاتها وضمن هذا الإطار فقد كان هاجس تجديد الفكر الديني وتحديثه قضية مركزية استولت على اهتمام جل رواد التّنوير. بيد أنّ ما يسم عالمنا الإسلامي اليوم، من تصاعد للتيّارات الأصوليّة الّتي تزرع التّعصب والتّطرف وتفرض الإرهاب والعنف، مُدشًنة في ذلك ما أسماه عالم الاجتماع الألماني “ولفانغ نوفسكي” بـ”عصر الخوف” يؤكد فشل عمليات التّحديث وانتكاس المشروع التنويري خاصّة المتعلق بتحديث الفكر الدينيّ. ولئن أثار ذلك تساؤلات جمًة من لدن عديد المفكرين، فإنّ جلهم قد أكد على وجود عوائق إبستيمية ثاوية داخل المخيال الجمعي الإسلامي لم تنفك عن عرقلة عملية التحديث و لعلّ أهمّها الاعتماد على قراءة سلفيّة للدين مغرقة في الماضوية ومستندة لرؤية غير نقدية للتراث تنفي حركة التاريخ ولا تستأنس بمنجزات الحداثة الغربية وما أبدعته من قيم ومفاهيم ما انفكت تعلي من قيمة الإنسان وترتقي به.
ولا ريب أنّ هذه القراءة السلفية للدين الّتي ظلت تعتمل داخل المخيال الإسلامي قد أسهمت بحظ وافر في صعود التيارات الأصوليّة المتطرفة الّتي جعلت العالم الإسلامي يبدو غريبا عن الحداثة بل منعته من ولوجها و الانتصار لقيمها، الأمر الّذي يجعلنا نحفر عميقا في تاريخنا للكشف عن الجذور الّتي ساهمت في تبلور هذه القراءة السلفية وما ترتب عن ذلك من تراكمات جعلت من تراثنا عائقا إبستيميا منعنا من اكتساب العقل النقدي الكفيل بجعل المرء يفهم الإسلام نصا وتاريخا في خضم عصر يتسم بالتقدم العلمي الغربي المهول واتساع الفجوة بين ضفتي المتوسط.
اللّحظة الأولى: الإسلام في فترته التأسيسيّة:
الأمر الّذي لا يختلف فيه اثنان هو، أنّنا لا يمكننا أبدا أن نفهم هذا الصعود الأصولي المهول الّذي يميز عالمنا الإسلامي وما يستند إليه من قراءة سلفية للنّص تنفي حركة التّاريخ وتطور المجتمعات الإنسانيّة وتبحث في مقابل ذلك في الذّاكرة الجمعيّة عن الأنموذج القديم المتجسد في ماض غابر ونوستالجي دون العودة إلى صدر الإسلام الّتي يعتبرها البعض فترة تأسيسيّة تبلور فيها تاريخ العرب بعمق وخاصّة تلك العلاقة الاندماجيّة بين الدين والدولة.
فبتأملنا العميق لهذه الفترة وبغوصنا في النّصوص التأسيسيّة والحفر الأركيولوجي فيها، نلاحظ تبلور عديد القضايا والمسائل الّتي تكتسي من الأهميّة بمكان. فلا ريب أنّ الدولة الإسلاميّة الّتي اكتملت بناها واشتدّ ساعدها بعد نهاية العهد النبوي قد استندت إلى المقدس في العديد من الجوانب لفرض رؤية وقراءة حرفية للنّصوص سيكون لها تداعيات جد خطيرة تخصّ علاقة الدين بالدولة بل إنّها ستؤدي إلى قرون من “التلمودية “على حدّ عبارة المفكر التونسيّ “عبد المجيد الشرفي”.
إنّ ذلك يظهر أساسا من خلال ما أخذ يعتمل في رحم الإسلام التأسيسي من بذور ستشكل عقل يعتمد رؤية دينيّة للعالم سيصبح فيما بعد عقلا لاهوتيا يستند إلى الحاكمية ويعتمد مبدأ التأويل الحرفي للنصوص: الأزمة الأولى في تاريخ الإسلام التأسيسي هو يوم السقيفة تلك الحادثة الّتي أبانت عن بداية تشكل للصراعات من داخل جسم الإسلام سرعان ما ستتحول لانشقاقات ستمزق الدولة الإسلاميّة الفتية و تطبع المخيال السياسي بعمق. لقد كانت أزمة مبكرة أكدت على وجود تلك العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة وغياب التأويل الحرّ والعقلاني للنّص الديني. فإقصاء الأنصار تماما من السّلطة وحصرها في فئة معينة تكون قرشية بالأساس قضى على مفهوم الشورى في الإسلام الّذي هو مفهوم ليبرالي نسبيا وأدى إلى ترسخ أنموذج لعلاقة اندماجيّة بين الدين والسياسة مدعوم بمسوّغات ومبرّرات دينيّة.
يمكننا أن نطرح هنا عديد الأسئلة الخطيرة الّتي يمكن أن تتبادر إلى الذّهن عند التّأمل في أزمة يوم السقيفة: من ذلك مثلا كيف تراجع سعد بن عبادة ثم الأنصار عن الخلافة؟ هل كان ذلك تحت تهديد؟ ولماذا أصبح النسب القرشي حتميّة تاريخيّة؟
تكثيفا للقول، فقد تمّ الربط في صدر الإسلام بين الدين كعقيدة والسياسة كممارسة بشريّة وتاريخيّة تدخل في مجال النسبي وبالتّالي تمّ التوصّل إلى اعتبار الخلافة أصلا من أصول الدين. و لا ريب أنّ ذلك أيضا مثل أمرا خطيرا جعل المخيال الإسلامي يتمثّل الخلافة كمؤسسة دينيّة لا بشريّة ولم يتفطن إلى كونها نظاما تاريخيا جاء “لينقلب و يسطو على المقدّس” على حدّ تعبير البعض. يكفي هنا أن نشير إلى ما صاحب سقوط الخلافة العثمانيّة في عشرينات القرن الماضي من دعوات من فقهاء وعلماء دين إلى ضرورة إعادة إحياء هذا الأنموذج وتأسيسه من جديد.
وبذلك بقي العقل الإسلامي أسيرا لهذه النظرة الفقهيّة قرونا من الزّمن منعته من تحديث كيانه السياسي وتجديده وبناء النظام الأكثر تماشيا مع العصر وهذا خلافا لما عاشته أوروبا بعد انبلاج عصر النهضة حيث عمدت إلى التّخلي عن الأنموذج القروسطي العتيق واعتمدت مبدأ الدولة القوميّة الّذي كفل لها أسباب التقدم والرقيّ والتحرّر. يمكننا أن نستجلي كذلك عبر تتبعنا لملامح الممارسات السياسيّة للسلطة خلال صدر الإسلام، أنّه تمّ الاستناد إلى المقدّس والمسوّغات الدينيّة لإكساب الأفعال البشريّة والتاريخيّة شرعية ذلك أنّ “هاجس الشرعية” مثًل أهمّ قضية أرقت السلطة آنذاك وأقضّت مضجعها وسيتواصل ذلك مع مختلف الكيانات السياسيّة الّتي تشكلت عبر التاريخ الإسلامي. أمّا الأمثلة بخصوص هذه المسألة فهي كثيرة: فقد تميّزت خلافة أبي بكر مثلا بظهور ما تمّ تسميته بحركة الردّة الّتي أكّد معظم الدارسين أنّها كانت ردّة بالمعنى السياسي وليس الديني. ولكنّ أبا بكر فرض الطّاعة وحارب بحدّ السيف المرتدين الّذين امتنعوا فقط عن دفع الزكاة لأنّهم اعتبروها علامة على الخضوع السياسي للسلطة. فنرى بذلك اعتماد الدولة على المقدّس وتوظيفه من أجل السيطرة السياسيّة وفرض الطّاعة فيكون هنا الدين في خدمة السياسة أو بعبارة أخرى المقدس في خدمة المدنس. نجد كذلك آخرين قد استندوا في خلافتهم إلى الرّافد الإلهي واعتبروها ممنوحة من الله لا من البشر: فهذا عثمان مثلا حينما طالبه ثوار الأمصار بالتّخلي عن الخلافة (ما عرف بيوم الدار) بعد أن أظهر انحيازا واضحا للأسرة الأمويّة يجيبهم بأنّه “لا ينزع سربالا سربلنيه الله و لا ينزع قميصا قمصنيه الله”. فكأنّ الخلافة هنا مستمدة من الله وبذلك تعد أصلا من أصول الدين، فكل خروج عن السلطة السياسيّة أو مقاومتها يصبح عصيانا لتعاليم الدين و تمردا موجّها ضدّ الله .
قد لا نجانب الحقيقة في الإقرار إذن، بأنّ الرؤية السلفيّة للدين قد أخذت في التّكون من رحم الإسلام التأسيسي وقد نزداد يقينا حينما نتأمل حادثة أخرى تعدّ المفترق الأكبر في تاريخ الإسلام ألا وهي الفتنة الكبرى ذلك الحدث الّذي مزق جسم الإسلام تمزيقا وفجّر بذور الانقسامات والملل والنحل. لقد أبان هذا الحدث – الّذي تعود جذوره الأولى إلى حادثة السقيفة – عن تبلور ما يعرف بظاهرة العنف الديني: إذ تمّ قتل عثمان وهو محاصر في بيته قتلا وحشيا ثم سيلاقي علي بن أبي طالب نفس المصير التراجيدي ليتوالى بعد ذلك سفك الدماء من جانب الخوارج لتصبح هذه الظاهرة راسخة في المخيال العربي الإسلامي رسوخا عميقا وما ممارسات الدواعش الوحشية اليوم إلا تواصل لهذه الميكانيزمات التي ظلت ثاوية تحرك العقل العربي الإسلامي بين الفينة والأخرى.
ظاهرة أخرى يمكننا أن نسبر أغوارها وهي نظرية الحاكمية الّتي انبثقت من رحم حادثة صفين، ذلك الصراع المسلح الّذي جمع بين معاوية وعلي والّذي نتج عنه تصدع وانقسام في جيش علي أدى إلى بروز الخوارج الّذين نادوا بأن” لا حكم إلا لله ” أي أنّ البشر غير قادرين على تأويل القرآن واستجلاء الأحكام الموجودة فيه ولعلّ ذلك دليل واضح على بداية تبلور عقل لاهوتي يؤمن بأن القرآن كلام أزلي قديم لا يمكن للبشر تأويله أو الاجتهاد فيه ويرى المؤرخ التونسي ” عبد الحميد الفهري” الّذي أنجز أطروحة حول” الفرق والملل والنحل خلال صدر الإسلام” أنّ انقسام صفين هو اختلاف مبكر في فهم عملية الانتقال من الأحكام الشرعية في النص إلى الأحكام التشريعيّة الّتي كانت بيد السلطة.
وبذلك يمكننا أن ننتهي هنا إلى أنّ الفترة التأسيسيّة من تاريخ الإسلام شهدت بداية تكون العقل الفقهي الّذي يعتمد رؤية حرفية للنصوص ويقيم كلّ شيء وفق نظرية الحاكميّة، كما ترسّخت كذلك في المخيال الجمعي فكرة العلاقة الإندماجية بين الدين والسياسة. في مقابل ذلك تمّ قمع العقل النقدي ووأد الاتّجاهات ذات المنزع العقلي والتخلي عن القيم الليبرالية في الإسلام لذلك سيتواصل الصراع بين العقل والنقل حيث ستشهد الفترة الوسيطة الّتي تعدّ خصبة وثرية من الناحية الفكريّة صراعا بين هذين الاتجاهين سينتهي بسيادة العقل الفقهي وهو ما يجعلنا ننتقل إلى اللّحظة الثانية.
اللّحظة الثانية: انتكاس التّوجه العقلاني وسيادة سلطة السّلف:
لقد تعدّدت الاتّجاهات ذات المنزع العقلي الّتي أرادت التخلص من تلك الرؤية الفقهيّة الّتي لم تنفك عن فرض قراءة جامدة للنّص الديني. وقد تبلور هذا التوجه خاصة مع جماعات سياسيّة وفكريّة وفرق كلاميّة كالمعتزلة الّتي ظهرت خلال العصر العباسي ثمّ إخوان الصفا فيما بعد. وقد بلغت العلوم العقلية شأوا عظيما خاصّة الفلسفة الّتي شقت طريقها في المشرق في خط تصاعدي مع الفارابي وابن سينا وغيرهما إلّا أنّ نقد الفقهاء وتصاعد التيارات المعارضة باسم الدين لهذا التّوجه ساهم في إجهاض جلّ المشاريع العقلانية الّتي كانت تروم التّجديد وإحياء الدين. فقد نقد الغزالي بشدة الفلسفة في ذلك الكتاب الشهير “تهافت الفلاسفة” ليخفت بذلك صوت العقل وتعود السّيادة من جديد للعقل الفقهي. كما أنّ الرشديّة الّتي ازدهرت في بلاد الغرب الإسلامي وكاد أن يكون لها تأثير كبير في تحديث الفكر تمّ تأليب السّلطة الموحدية ضدّها ولم تجد من بيئة حاضنة سوى أوروبا المسيحيّة الّتي استفادت أيّما استفادة من المشروع الرشدي لتشرع بذلك في تأسيس عالم جديد كفل لها النّهضة والرقي والتّقدم.
في مقابل ذلك لم يتمكن الفكر العربي الإسلامي من إبداع واستحداث اتجاهات جديدة أخرى بل إنّه دخل في “غيبوبة” سادت فيها ثقافة التّقليد وثقافة الشّروح والمتون وإعادة اجترار الماضي، وفي خضم ذلك كلّه تواصلت الحركات المعارضة للتوجه العقلاني والّتي تعتمد نفس تلك القراءة السلفيّة للدين بل إنّ المفكّر المصري ناصر حامد أبو زيد لا يتوانى في تسمية ذلك “بسلطة السلف” حيث أن الاستناد إلى التراث وإلى الماضي والتّمسك الهوسي به منع كل محاولة لضخ دماء جديدة في التراث والدين، فابن حنبل مثلا أقرّ أنّه ليس من حق البشر تجاوز ما جاء ظاهرا في النص ليؤكده من بعده ابن تيمية الّذي سيكون المرجع الأول للوهابيّة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنّ أغلب رواد العلم والعقلانيّة كُفروا: الرازي، ابن سينا، الزهراوي، ابن النفيس، ابن الهيثم، الكندي، الفارابي، ابن رشد، عمر الخيام وذلك كله باسم الدين إذ أصبح العقل الفقهي متمسكا بأهداب الجهل والخرافات مستلذا بالعودة إلى ماض تليد غابر من أجل تأويل النّصوص تأويلا ماضويا يكون في صالحه ويخدم أغراضه خاصة السياسيّة منها: أتذكر أنّي قرأت يوما قصّة ذلك العالم والفلكي الّذي عاش في القرن السادس عشر في كنف الإمبراطوريّة العثمانيّة والّذي دخل إلى مختبره ذات ليلة مجموعة من الفقهاء المتزمتون فحطموا جل آلاته الفلكيّة ودراساته وذلك بتعلة سخيفة وواهية. لقد قالوا له “أنت تتجسس على السّماء وهذا كفر”.
ستتواصل هذه القراءة السلفية للدين مع بروز الوهابية ثمّ جماعات الإسلام السياسيّ وصولا اليوم إلى داعش. وهو ما سنتناوله في هذا العنصر الأخير.
اللّحظة الثّالث: التّطرف الديني من الوهابيّة إلى داعش:
لقد استندت الدّعوة الوهابيّة إلى نفس تلك القراءة اللاتاريخيّة والسّلفية للدين فهي قد اعتمدت على إرث ابن حنبل وابن تيمية لبناء قراءة مغرقة في الماضويّة لا تأخذ في عين الاعتبار التّطور التاريخي الّذي شهدته الحضارة الإنسانيّة ولا القيم والمُثل الّتي أسس لها الفكر الغربي الحديث. وقد طالب “محمد بن عبد الوهاب” زعيم الدّعوة الوهابيّة بالعودة إلى الإسلام الأًولي وبضرورة توحيد العقيدة وهدم البدع ولو أدى ذلك إلى استعمال العنف والقوّة. كما أكدّ أنّه لا يوجد أي مصدر للتشريع إلا القرآن والسنة وعلى هذا الأساس فقط يمكننا إعادة مجد الأمّة وقوّتها. ويمكننا هنا أن نلحظ مدى ضيق رؤية بن عبد الوهاب للعالم ولقضايا التّجديد والتّحديث وهذا يعود أساسا لطبيعة تكوينه الثقافي وكذلك لبيئته القاحلة الّتي أسهمت في إنتاج هذا الفكر المتعصّب والمتزمت.
لقد كانت الدعوة الوهابيّة خطيرة في توجهها فقد قاموا بتهديم قباب مكّة كقبة السيدة خديجة وقبّة مولد الرسول الأعظم كما قاموا بنهب المعالم الشيعيّة في كربلاء وذلك كلّه باسم القضاء على البدع ومقاومة الكفر والوثنية. وقد ارسل بن عبد الوهاب رسائل ودعوات للعديد من الدول العربية الإسلامية ينشد فيها المساندة والإيمان بدعوته إلّا أنّ أغلبها كان قد رفض ذلك بل اعتبرت الوهابيّة في حدّ ذاتها دعوة خطيرة لا تتماشى مع جوهر الدين وروحه. ويمكن هنا أن أذكر الرسالة الّتي ردّ فيها الشيخ “إسماعيل التميمي” شيخ جامع الزيتونة بتونس على “الضلالة الوهابيّة”.
سيكون لهذه الأفكار الوهابيّة تأثير قوي بعد قرون عند جماعات الإسلام السياسي الّتي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وذلك بعد سقوط الخلافة الإسلاميّة وبداية تحديث المجتمع العربي ونزوعه نحو العلمنة. وقد اعتمد هذا التيّار كذلك نفس تلك القراءة السلفيّة الّتي تؤكد على حاكمية الله وأن البشر غير قادرين على تحديد مصيرهم وأنّ الله خالق لأفعال الإنسان.
وقد استند هؤلاء إلى رؤية لا تاريخيّة استمدوها خاصة من “المودودي” الذّي تعج كتاباته بالتّكفير والتّعصب والتّطرف إذ دعا إلى ضرورة تطهير المجتمع من الكفرة أو إلى هجرانه والابتعاد عنه وجهاده كما أنّه يعتبر أنّ المجتمعات المعاصرة تعيش جاهلية جديدة وأنّها بعيدة كل البعد عن تعاليم الشريعة ومبادئها. سيطور”سيّد قطب” -وهو مفكر إسلامي أصولي ينتمي إلى تنظيم الإخوان المسلمين- هذه الأفكار فيما بعد في كتابه” معالم في الطريق” ويعتبر هذا الأخير أوّل مؤسّس للخطاب التكفيري لدى الإسلاميين الأصوليين وقد وصل الأمر به إلى حدّ الإفتاء بإزالة أهرامات مصر لأنّها ترمز إلى الوثنية. وبإمكاننا أن نتصوّر مصر العظيمة دون الأهرامات.
لا يمكننا أن ننسى كذلك” محمد رشيد رضا” الّذي تحوّل من مصلح إسلامي معتدل إلى إسلامي أصولي موال للوهابيين ولجماعات الإسلام السياسي. وقد قام بحملة شعواء على مظاهر التفرنج الّتي اكتسحت المجتمعات العربية من ذلك مثلا خروج المرأة للمجتمع وحلق اللّحية عند الرّجال والاختلاط بين الجنسين في المدارس والجامعات.
وعموما فإنّ جماعات الإسلام السياسي لم ينفكوا عن المطالبة بحكومة دينيّة وذلك استنادا لنظريّة الحاكميّة وضرورة الاعتماد على النقل لا العقل كما ترفض هذه الجماعات أي تفسير للتاريخ الإسلامي يقصي الدين من أدواته التحليليّة وهي تؤول كلّ الأحداث من وجهة نظر دينيّة خالصة. وتعدّ داعش اليوم المتكونة من جماعات مسلحة ومتطرفة تريد تطبيق الشريعة بحدّ السيف أكثر الكيانات تجسيدا للقراءة السلفيّة للدين إذ أنّها تعيش خارج التاريخ ولا تزال تعتقد في استمرار دار الإسلام ودار الكفر ممّا يحتم الجهاد والقتل والعنف. وقد التحقت بداعش أعداد غفيرة من الشباب العربي الّتي تربط مفهوم الجهاد بالقتل وسفك الدّماء فقط في حين أنّ هذا الأخير يحمل دلالات متعدّدة لا علاقة لها بالعنف. وقد مارست هذه الجماعات أي داعش ممارسات لا يمكن نعتها إلّا بالقروسطيّة من ذلك استرقاق النّساء وجعلهنّ سبايا.
وعموما فقد عمدت داعش إلى إحياء الخلافة الإسلامية وبالتّالي العودة إلى الماضي والتراث الّذين يرون فيه أن الخلافة مؤسسة دينية تعد أصلا من أصول الدين.
من الأهميّة بمكان الإشارة في نهاية هذا العمل إلى أنّ المعضلة الكبرى الّتي ما انفكت تؤرق الفكر العربي الإسلامي وتمنعه من ولوج عالم الحداثة هو عدم انتصار العقل على النقل إذ لا يزال العقل الفقهي أو اللاّهوتي يفرض تصوّراته على حساب العقل النقدي والعقلي وذلك على الرّغم من أنّ الرسول الأعظم كان يوصي دائما بأنّنا أدرى بأمور دنيانا فالفقه ليس سوى بناء بشري تاريخي وآن الأوان للكفّ عن اعتبار الأحكام الفقهيّة وصفات نهائية: فالشريعة في النهاية عمل تاريخي من إنجاز البشر إذ يتوجب علينا التفريق بين النّص الدينيّ كخطاب إلهي وبين ما أنتجه المسلمون الّذي يندرج في خانة البشري والتاريخي. وفي النهاية، فإنّه من غير الممكن أن نعيش اليوم عصر العولمة وعصر التطور التكنولوجي المهول وعصر غزو الفضاء بذهنيّة وفكر ماضوي يستند لقراءات سلفيّة بل إنّه يتوجّب منّا ضرورة تفعيل الفكر النقدي والإيمان بقيم الحداثة الغربية دون أن يعني ذلك إهمال التراث وإنّما قراءته قراءة معاصرة تستأنس بروح العصر وذلك حتّى لا نعيش غرباء في عالم أصبحنا فيه “أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام”.