خبرة الحوار الإسلامي المسيحي
خبرة الحوار الإسلامي المسيحي: تجربة مصر
بقلم سمير مرقس
القارىء في فصل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في كتاب التاريخ المصري، لا بد ان يثمّن كثيراً كيف استطاعت هذه العلاقة ان تصمد امام العديد من التحديات والتوترات على مر القرون، بل ان تقدم تجربة تاريخية متميزة تعايش فيها "دينان"، و"شعب واحد" انطلاقاً من مركب غني العناصر يتضمن: التجانس، والمسار التاريخي المشترك بحلوه ومره، والتداخل الجيوديمغرافي، والتواصل الثقافي، والاقليم الموحد.
لقد ساهمت هذه العناصر في ايجاد حياة مشتركة بين المسلمين والمسيحيين تتجاوز الوجود "الفيزيقي" لأفراد يعيشون في إطار نطاق جغرافي واحد الى مواطنين يشاركون ويتفاعلون معا في اطار وطن واحد بغية الاندماج - التماسك كونهم اعضاء في جماعة وطنية واحدة. نعم لم يتحقق ذلك دفعة واحدة، ولكن كان هناك نضال مشترك في هذا الاتجاه. وصحيح ان التاريخ يطالعنا بأن هناك عثرات واجهتها الجماعة الوطنية في ما يتعلق بالعلاقة بين مكوّناتها بسبب توترات لها اسبابها وظروفها في مراحل تاريخية مختلفة، الا ان ذلك لم يمنع ان تقوم الحياة المشتركة مرة بعد اخرى، متى تعثرت الجماعة في مسيرتها، مما جعل من التعثر خبرة حية للجماعة المصرية تدفع بها الى الامام في طريق مسيرة المواطنة.
كذلك يطالعنا التاريخ ان كل ذروة توتر تعقبها انفراجة في اتجاه التماسك والاندماج. والمراجع لمسيرة العلاقة بين المسلمين والاقباط منذ دخول الاسلام الى مصر، بداية بعصر الولاة ومروراً بالدولتين الطولونية والاخشيدية، وبالعصر الفاطمي الاول والثاني، ثم بالدولة الايوبية وبعصر المماليك وبالدولة العثمانية ثم الدولة الحديثة من محمد علي وحتى الآن، يمكن ان يدرك كيف كانت الحياة المشتركة بمثابة اختيار استراتيجي رغم العثرات والتوترات التي شهدتها العلاقة على مدى كل هذه العصور، الأمر الذي جعل النموذج المصري/ الحالة المصرية للحياة المشتركة نموذجاً /حالة الجديرة بالتفهم وبالتقدير، خصوصا وان هناك من يقرأ التاريخ بطريقة "اختزالية" حيث يختزل التاريخ في واقعة او حدث او شخصية، وهناك من يقرأ التاريخ بطريقة انتقائية فيتم انتقاء حدث ليتم تعميمه على التاريخ، ويخضع الامر في الحالتين لهوى وهدف المختزل والمنتقي. بيد ان التاريخ المصري اعقد وأعمق من ان يعامل بهاتين الطريقتين، ومن الظلم للتجربة التاريخية المصرية ان يتم تناولها بالاختزال او الانتقاء.
حقبة السبعينات
استكمالا للدراسة التاريخية الممتدة، عبر العصور، كان لزاماً في هذه المرحلة، منتصف الثمانينات، دراسة ما جرى في مصر خلال فترة السبعينات وكان له تأثيره المباشر على العلاقات الاسلامية - المسيحية. وعليه يمكن تصور كيف يمكن التعامل مع الواقع الذي أدى الى انكفاء الشباب وكان في الاساس هو الدافع لبدء النشاط الثقافي.
اتسمت مرحلة السبعينات بعد تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي عام ،1974 بتحول كبير طابعه "الارتداد" جملة عن مرحلة بأكملها هي مرحلة الناصرية، خصوصا في ما يتعلق بالتوجهات والسياسات الاقتصادية لهذه المرحلة. وفي الوقت نفسه لم تتمكن هذه المرحلة ان تستعيد المناخ شبه الليبرالي، الذي كان يسبق المرحلة الناصرية، على المستوى السياسي". أي ان مرحلة السبعينات رفعت شعارات اقتصادية ذات طابع ليبرالي من دون ان تمتد هذه الليبرالية لتشمل السياسي، وفي الوقت نفسه جارت على حقوق الفقراء فلم تستطع الحفاظ على الجانب الاجتماعي في السياسات الاقتصادية يضاف الى ما سبق حدوث تحول في بنية علاقات الدولة حيث اقيمت علاقات مع الرأسمالية العالمية الامر الذي أدى الى تغيرات هيكلية اساسية وصارت الاولوية للرأسمالية التجارية والمالية والمتناقضة في مصالحها وتوجهاتها وأولوياتها الاستثمارية مع مصالح طبقات وشرائح اجتماعية متعددة.
هذا التحول كانت له ردود فعل اجتماعية وثقافية حملتها معارضة ذات طابع ديني خصوصا ان التحولات الاقتصادية المشوهة حلت معها قيم ثقافية وافدة عمقّت من الاغتراب الثقافي والاجتماعي والحقت الضرر الاكبر بالقطاعات الشعبية والمتوسطة. ويعلق نزيه الايوبي حول حركات الاحتجاج الديني بقوله: "ان هناك ثلاثة جوانب على الاقل في ما يتصل بموضوع علاقة الجماعات الاسلامية الجديدة بالدولة. فمن ناحية يعبر ظهور هذه الجماعات وانتشارها عن إخفاق السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة. اذ تتركز هذه الجماعات بين ابناء الطبقة الوسطى الصغيرة... ومن ذوي الهجرة الحديثة الى المدن"... وبدأ الهجوم على رموز الدولة... (ومن ضمنه) "التعدي على المسيحيين (الذي) هو في الواقع تعد على الدولة من منظور هذا الفريق، فالمساواة بين المسلمين وغيرهم من مبادىء الدولة المعلنة، وحماية غير المسلمين من وظائفها ومهامها... (وعليه فإن) مفهوم الدولة الوطنية او القومية وفكرة المواطنة او الجماعة السياسية تصبح هي نفسها محل هجوم، لمصلحة فكر الجماعة الاسلامية او الامة الاسلامية. (الدولة المركزية في مصر - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 1989)".
ومن خلال الدراسة لحقبة السبعينات بات من المؤكد ان المشكلة الطائفية مثلت نقطة ضعف اساسية واجهت الجماعة الوطنية المصرية، حيث طرحت قضية المواطنة في علاقتها بالدين بسبب احياء مفهوم "الذمة" من جانب، وطرح مفهوم "الاقلية" من جانب آخر. وهو الامر الذي دفع الكثير من المفكرين والباحثين ان يجتهدوا حول هذه المسألة حيث طرح المستشار طارق البشري، منذ وقت مبكر ما أسماه "مبدأ المواطنة" حيث قال: "هل مقتضى القول بترجيح جامعة سياسية معينة، ان تنحسر بعض تلك الحقوق عن طائفة من طوائف الشعب" ويؤكد ان الفقه الاسلامي لديه من الادوات والوسائل كي يمكنه من تحريك الامور استجابة للواقع المعيش". (المسلمون والاقباط في اطار الجماعة الوطنية 1980).
في ضوء ما سبق حرص الخبرة الحوارية منذ الثمانينات والى الآن على التعامل مع ملف العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر من خلال المحددين الآتيين:
أ. السياق التاريخي.
ب. المواطنة.
اولا: فبالنسبة للسياق التاريخي، فان الالتزام بها يعني رؤية شاملة وتفصيلية لحركة المواطنين المصريين، المسلمين والاقباط، في الواقع الاجتماعي بأبعاده المتعددة، لأنه بغير ذلك تكون الرؤية ضبابية وسوف يتم التعامل مع هؤلاء المواطنين، وكأنهم يتحركون في فضاء اجتماعي وسياسي منفصل عن الواقع ككل. لذا فليس من الصعب على المتتبع لتاريخ مصر ولتاريخ العلاقة بين المسلمين والمسيحيين من خلاله ان يجد كيف ان درجة التكامل - الاندماج بين المسلمين والمسيحيين تزداد مع فترات النهوض والتقدم والعكس صحيح، فإن درجة التكامل - الاندماج تقل لصالح التجزئة - الشقاق مع فترات التخلف والتدهور مما يعني ان الازمات المجتمعية الحادة والتغيرات المركبة تؤثر بشكل مباشر على نوعية العلاقة وهو ما وضح تاريخياً بشكل عام ومن خلال حقبة السبعينات، بشكل خاص.
ثانياً: بالنسبة للمواطنة، المواطنة لدينا تعني: المشاركة والمساواة والحقوق بأبعادها واقتسام الموارد، وهذه العناصر المكونة للمواطنة هي التي تعكس مدى تحقق المواطنة او تراجعها. فالمواطنة شأنها شأن أي عنصر من العناصر المكونة للعملية السياسية في اطار العلاقة بين الحكام والمحكومين تتأثر ايجاباً وسلباً بالمنظومة المجتمعية العامة. وعليه فان المواطنة باعتبارها تجسيداً للمشاركة والمساواة واقتسام الموارد وحزمة الحقوق المدنية والاجتماعية فإنها "تبزغ" و"تتبلور"، وربما "تتجزأ"، وقد "تغيب" ثم "تستعاد" بحسب الظرف التاريخي المواكب وهي تعد محدداً هاماً بالنسبة لموضوع العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. فالمواطنة بالنسبة لمسيحي مصر (الاقباط) تعني تجاوز مفهوم الطائفة والملة والذمة حيث ان الوطن يستوعب كل ما سبق، كما تتجاوز المواطنة مفهوم الاقلية مما يترتب عليه من نتائج.
وبالاضافة الى ما سبق يمكن ان ينطبق على مسلمي مصر، فان النظرة الاسلامية لغير المسلمين قد تطورت من خلال الحياة المشتركة الى المواطنة.
خلاصة القول انه يمكن اعتبار "السياق التاريخي" و"المواطنة" من اهم المحددات التي يمكن ان تعين في ادراك مسيرة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر من جانب، كذلك هي التي حكمت الخبرة الحوارية التي نحن في صددها منذ الثمانينات حتى الآن من جانب آخر.
انواع الحوار
كانت الدراسة التاريخية لطبيعة العلاقات الاسلامية المسيحية في مصر ومسيرتها هي الاساس الذي انطلقت منه تجربة الحوار التي نحن في صددها والتي بدأت في نهاية الثمانينات كخبرة حوارية مصرية أخذت الخبرة التاريخية في اعتبارها وكانت في ذاتها اختياراً تاريخياً في لحظة حاسمة من تاريخ مصر كانت تشهد ذروة توتر حادة. وحتى يمكن الحديث عن هذه الخبرة الحوارية وأين تقف من خبرة الحوار الاسلامي المسيحي في مواقع اخرى، فانه لا بد من تحديد انواع الحوار المتنوعة في ضوء الممارسات الحوارية التي قامت على مدى زمني طويل. سوف نعتمد هنا اولا على تصنيف ثلاثي وضعه الراحل د. وليم سليمان قلادة من واقع دراسته لخبرات الآخرين مقارنة بالحالة المصرية وذلك كما يأتي:
أولا الحوار الموجه:
وهو الذي يدور من اجل هدف موضوع مقدماً لاتخاذ موقف معين من قضية بذاتها. وتتسم العلاقة بين الاطراف المتحاورة بالهيمنة من جانب احد الاطراف على الطرف الآخر الذي يكون في حالة تبعية، حيث يوجه الاول الثاني لبلوغ ما يريده من اهداف.
ثانياً: الحوار المجرد:
وينطلق اساساً من الفكر الديني في اطلاق غير موجه، يحاول اطرافه الوصول معاً الى المطلق حسبما يفهمه كل طرف والالتقاء معه بالفكر والتأمل.
ثالثاً: الحوار من خلال الحياة المشتركة:
حيث يمضي اصحاب الاديان فيها لبناء الواقع وتطويره ومواجهة التحديات التي تواجههم معا. وهنا يكون ثمة تناسق بين الاهداف المطلوب تحقيقها والفكر الديني.
وقد أكد صاحب التصنيف السابق على ان مصر اختبرت النوع الثالث من الحوار تاريخياً خصوصا في لحظات النهوض الوطني، وفي فترات التعثر قد يتراجع هذا الحوار الا انه لم يحدث الوقوع في خبرة النوعين الاوليين الا في اطار دوائر محدودة سرعان ما تنتهي ويعود المصريون الى حوار الحـياة المشتـركة.
4-2 ومن خلال خبرة العلاقات الاسلامية المسيحية في السبعينات والثمانينات تم رصد اربعة انواع اخرى من الحوار وذلك كما يأتي:
اولا: الحوار الدعوي التبشيري:
ويهدف فيه كل طرف الى تغيير عقيدة الآخر انه حوار يهدف الى نفي الآخر. وهو حوار حدث في نطاق ضيق وبفعل مؤثرات خارجية على الجانبين.
ثانياً: الحوار السجالي:
ويهدف فيه كل طرف الى ابراز افضل ما لديه بالنسبة للآخر وانه الاكثر صواباً وذلك من دون تجريح او تصريح بتغيير عقيدة الآخر.
ثالثاً: الحوار السكوني الاحتفالي:
حيث لا يهدف هذا الحوار الى حسم أي أمر أو اي موضوع، فلا يتم الالتفات الى الواقع بغية تصويبه او تفعيله وانما يقتصر اللقاء على حوار المجاملات.
رابعاً: الحوار الثقافي:
وهو حوار يحاول التأصيل النظري والفكري لحوار الحياة اليومية بما تتعرض له من قضايا وإشكاليات، أو يحاول رتق ما ينقطع على أرض الواقع. انه حوار يصب في اتجاه الاندماج الوطني وذلك بمعرفة كيفية استكماله او ما هي المعوقات التي تحول دون تحقيقه.
مما سبق يمكن القول ان مصر لم تعرف الا الحوار الحي المشترك بين ابناء الدينين المصريين خصوصا وان العلاقات الاسلامية المسيحية في مصر ارتبطت بمجمل الحياة الاجتماعية للمصريين في مختلف مجالاتها، فالعلاقة الحوارية بين الدينين من خلال البشر هي اساسا العلاقة الحية بين المسلمين والمسيحيين على ارض الواقع او ما يمكن ان يندرج تحت حوار الحياة اليومية المشتركة. نعم كانت هناك فترات مرت في تاريخ هذه العلاقة برزت فيها انواع اخرى حوارية، الا انها لم تستمر ولم تمثل توجها دائماً مستمراً. بيد ان السبعينات وما حملته من احداث توتر دفعت في الثمانينات الى توجيه النظر الى ما يسمى بالحوار الثقافي والذي يدعو الى ضرورة ان يلتئم الجميع للتحاور حول اسباب هذا التوتر وكيفية تجاوزه معا الى ما يحقق مصلحة الجماعة الوطنية، هذا هو الحوار الذي تم العمل به في هذه الخبرة.
الحوار الثقافي
بدأ الحوار الثقافي معتمداً على قاعدتين اساسيتين من واقع خبرة حوار الحياة المشتركة، هما:
أ. التفاعل الاجتماعي.
ب. التعددية الواقعية.
اولا: التفاعل الاجتماعي:
من خلال القراءة التاريخية اتضح ان العلاقات الاسلامية - المسيحية ارتبطت بمجمل الحياة الاجتماعية للمصريين بمستوياتها المتعددة. نعم كانت هناك فترات ضعف في تاريخ هذه العلاقة برز فيها التوتر في العلاقة الا ان ذلك كان دوماً يرتبط باللحظة التاريخية المنتجة له، ولم يكن هدفاً في ذاته وانما احد تعبيرات هذه اللحظة بابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومع لحظات النهوض الوطني سرعان ما يتم تجاوز التوتر، وينزع المصريون، مسلمين ومسيحيين، نحو اندماج وطني يتجسد في:
* تجاوز الانتماءات الاضيق.
* مواجهة مشتركة للظلم الذي يلحق بهم من دون تمييز.
* الحركة النضالية للجماعة الوطنية ضد الوافد الاجنبي: حاكماً او مبشراً او محتلا.
ثانياً: التعددية الواقعية:
ويقصد بها ان مجرد قبول التعددية الدينية تاريخياً واستمرارية التعايش بين "مطلقين" من الامور اللافتة للنظر والتي دعمت الحياة المشركة وجعلت منها امراً مميزاً رغم فترات التوتر. لقد أتاحت "التعددية الواقعية" والتي لم تأت بمنحة من حاكم او بقرار سياسي وانما وجدت في الواقع واستمرت، ان يتعايش المسلمون والمسيحيون عبر العصور، وان تتحقق حياة على ارض الواقع تتجاوز المقدسي والالهي الى ما هو زمني وانساني من خلال الحياة اليومية، والتجاوز هنا لا يعني الانكار او الاهمال وانما "الاستلهام".
على هذه الارضية بدأ الحوار الثقافي في ظل مناخ طائفي يحاول ايجاد ارضية فكرية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين حول قضايا وطنية عامة بهدف ان يصل الى افضل صيغة يكون من شأنها ان تصب في مصلحة الوطن كله. وبالفعل بدأ الحوار الاول في الاول من ايار 1989 باستضافة المستشارين وليم سليمان قلادة وطارق البشري حول موضوع:
"المسلمون... الأقباط والمستقبل".
وقد دشن هذا اللقاء من خلال ما طرح فيه من افكار هذا النوع من الحوار الثقافي، والديني رغم انه عكس بعض الاختلافات في وجهات النظر، الا ان الاصرار على اللقاء والحوار في لحظة ازمة، كان له تأثيره في أوساط الشباب وأكد ان الحوار هو اختيار حضاري. وهنا تجدر الاشارة الا ان الضيفين، بما أنجزا من جهد فكري معتبر في مجال دعم وحدة الجماعة الوطنية وباعتبارهما رمزين من رموز الحياة الفكرية المصرية، كان لحضورهما الاثر الاكبر في بدء النشاط الحواري لسنوات ممتدة تالية من خلال مجموعة التنمية الثقافية ثم المركز القبطي بعد ذلك. ولا يمكن إغفال ان إرهاصات ما نطلق عليه الحوار الثقافي قد بدأ في الكتابات المبكرة لكل من الاستاذ طارق البشري والدكتور وليم سليمان قلادة، الاول من خلال سلسلة مقالاته التي حملت عنوان "مصر الحديثة بين احمد والمسيح" والتي نشرت على حلقات في مجلة الكاتب في نهاية الستينات ونشرت مع اضافات في المجلد الهام "المسلمون والاقباط في اطار الجماعة الوطنية"، والثاني من خلال كتابه "الحوار بين الاديان" والذي أرسى فيه قواعد هامة للحوار في ضوء الخبرة المصرية وكتابه "المسيحية والاسلام في مصر".
انتظمت الحوارات وتوسعت وتطرقت لموضوعات عدة ثم برزت الحاجة الى تأسيس كيان مؤسسي له طاابع بحثي فكان تأسيس المركز القبطي للدراسات الاجتماعية في كانون الثاني ،1994 الذي مثل استجابة مؤسسية لجهد شبابي قاعدي.
الحوار على قاعدة المواطنة
تأسس المركز القبطي للدراسات الاجتماعية في كانون الثاني 1994 مستوعباً خبرة مجموعة التنمية الثقافية في الحوار مستكملة ما بدأته في اوساط الشباب - ولا زالت - ولكن في المجال البحثي، حيث اختار "المواطنة" لتكون الموضوع المحوري لنشاطه، الى جانب موضوعات اخرى، وقام بتأسيس وحدة بحثية لدراسة موضوع المواطنة، لعلها الاولى والوحيدة في الوطن العربي التي تعنى بهذا الموضوع.
وأخذ المركز على عاتقه تطوير الحوار على قاعدة المواطنة من دون ان ينقطع الحوار الثقافي القاعدي، وقد مر هذا التطوير بمرحلتين:
- مرحلة الحوار الاسلامي المسيحي حول مواطنية الاقباط.
- مرحلة الحوار الاسلامي المسيحي حول المواطنة في الواقع المصري.
اولا: الحوار الاسلامي المسيحي حول مواطنية الاقباط (1994 - 1999):
شهدت هذه الفترة محاولة للاجتهاد المشترك في التعامل مع الوضع القانوني للاقباط خصوصا بعد ما تردد حوله، والتعامل معهم اما بمنطق الاقباط - الذمة او الاقباط - الاقلية.
ومنذ الندوة الاولى التي عقدها المركز بعنوان: المواطنة... تاريخياً ودستورياًَ وفقهياً في ايار ،1994 تم تقديم اجتهادات ثمينة حول موضوع مواطنية الاقباط حيث رفض مفهوم الاقلية كذلك تم تجاوز مفهوم الذمية باجتهاد هام للدكتور محمد سليم العوا. وتعددت اللقاءات ووثقت الافكار والاجتهادات من خلال سلسلة كتب المواطنة.
ولا شك ان خبرة الحوار في هذه المرحلة كانت ثرية وحملت الكثير من النتائج او القواعد الحوارية نجملها كما يأتي:
- الصياغة الفكرية المشتركة لتجاوز "الآني" المحمل بالمصالح والتنازع والانقسام الى ما هو "مستقبلي" يحمل الاندماج والتكامل والصالح العام.
- مقاومة "المغايرة" التي تعني الالغاء او الاستبعاد او النفي ورفض ما يعوق الارتباط الوطني العام ويصب في اتجاه التفكيك او التفتيت.
- ليست العلاقة بين المسلمين والمسيحيين علاقة تقوم على الندية والتنافس او الخصومة والصراع، إنما علاقة تقوم على التكافؤ الوطني.
- ان العلاقة بين مكوني الجماعة الوطنية تتجاوز اللعبة السياسية بأهدافها وتميزاتها الى ما هو وطني جامع.
- التأكيد على الحوار الوطني الداخل خصوصا في ما يتعلق بمعوقات تحقــق مواطنيــة الاقبــاط ورفــض اي حوار خارج الاطار الوطــني كذلك التدخل الخارجي، مما يعني مواجهة العوامل الذاتية والظروف المحلية الداخلية التي تعوق دون تحقيق المواطنة بالنسبة للاقباط وتفتح المجال بالتالي للتدخل الخارجي.
ثانياً: الحوار الاسلامي المسيحي حول المواطنة في الواقع المصري:
مثل الجهد الفكري السالف الذكر حول مواطنية الاقباط قاعدة انطلق منها الجهد الحواري الاسلامي المسيحي كي يتناول موضوع المواطنة في الواقع المصري. ان الجهد الفكري المشترك حول قضايا العدالة الاجتماعية، الفقر، والتنمية، من شأنه ان يدعم المواطنة عملياً على ارض الواقع. فالجميع من دون تمييز يسهمون في بناء الوطن. وعليه نتج عن هذه المرحلة ما يلي:
- توسيع زاوية الرؤية للمواطنة من الوضع القانوني لفئة من فئات المجتمع الى المشاركة والمساواة الى التعرف على منظومة متكاملة من الحقوق الاجتماعية والمدنية الى المواطنة الاقتصادية، وكل ذلك معا.
- تأسيس قاعدة معرفية حول المفهوم وخبرات الآخرين.
- تناول القضايا المجتمعية وقراءة التاريخ المصري وليس القبطي فقط من منظور المواطنة.