تأثيرات المستشرقين الألمان

تأثيرات المستشرقين الألمان

رضوان السيد*

I

في معرض مناقشته لأطروحة صمويل هنتنغتون حول "صدام الحضارات"، يقول فرتز شتبات F. Steppat في كتابه الصادر عام 2001 عن المعهد الألماني ببيروت، بعنوان: الإسلام شريكاً: Islam als Partner "إنّ الغرب الأوروبي ما عرف الإسلام والمسلمين باعتبارهم خصوماً أو منافسين وحسب؛ بل عرفهم أيضاً، وفي الماضي والحاضر، باعتبارهم شركاء في الثقافة الدينية والحضارية والكلاسيكية. كما عرفهم باعتبارهم ثقافة "عالمية" ظهر للعناية بها ودراستها علمٌ خاصٌّ سُمّي بالاستشراق". وهناك عربٌ ومسلمون كثيرون اليومَ يحملون على الاستشراق حملةً شديدة، لكنّ أحداً من الجيلين السابقين ما كان يُنكرُ إسهامات المستشرقين في التعريف بالإسلام باعتباره ديانةً عالمية كبرى، واعتبار ثقافته التاريخة حقيقةً بالاهتمام والدراسة. بل إنّ كثيرين من العرب والمسلمين أفادوا من طريق التعلُّم لدى المستشرقين، أو من طريق قراءة دراساتهم، على المناهج الحديثة في كتابة التاريخ الإسلامي، والعمل في مجال الدراسات الإسلامية بشكلٍ عام.

وقد ذكر الدكتور محمد عوني عبد الرؤوف، الذي درس لدى المستشرق ألبرت ديتريش في الستينات، في كتابه الصادر أخيراً بعنوان: "جهود المستشرقين في التراث العربي بين التحقيق والترجمة" (المجلس الأعلى للثقافة، 2004) ما ذكره شتبات Steppat وأضاف: "بدلاً من لعن المستشرقين، تعالوا نستعرض ما قدّموه نشراً ودراسة، ونرى كيف يمكن الإفادة منه".

والواقع أنّ ما ذكره الأستاذ شتبات وعبد الرؤوف صحيحٌ من جهتين. فهناك في العقود الأربعة الأخيرة، وفي العالم العربي بالذات هجماتٌ قويةٌ على إنتاج المستشرقين في مجال الدراسات الإسلامية الكلاسيكية على الخصوص. وقد بلغت تلك الهجمات الذِروةَ في دراسة إدوارد سعيد الصادرة عام 1978، والتي يمكن اعتبارُها حداً فاصلاً في التحول عن الاستشراق والإفادة منه. فقد اعتبر سعيد أنّ الاستشراق ليس علماً وإنما هو من نتاج عصور الاستعمار وموروثاته في تأمُّل الثقافات غير الأوروبية. لكنّ شتبات مُحِقٌّ في إفادة العرب والمسلمين كثيراً من نتاجات المستشرقين، والمستشرقين الألمان على الخصوص، وفي ثلاثة مجالاتٍ بالذات: التاريخ الإسلامي، والدراسات الإسلامية الدينية والفلسفية، وتاريخ العلوم العربية والإسلامية. وسأركِّزُ في هذا الموجَز على التاريخ، والدراسات الإسلامية، دون تاريخ العلوم، ثم أتعرضُ للإشكاليات التي أحاطت بدراسات المستشرقين الألمان في المجال العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.

أكثر الدراسات الاستشراقية الألمانية تأثيراً في الكتابة الأكاديمية العربية عن التاريخ الإسلامي المبكر، وإلى عقود قليلةٍ مضت، دراسةُ يوليوس فلهاوزن J. Wellhausen بعنوان: الدولة العربية وسقوطها Das Arabishe Reich und sein Sturz - عرف الأكاديميون العرب دراسة فلهاوزن في البداية من خلال ترجمتها الإنجليزية، ثم ترجمت إلى العربية مرتين في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين. ومنذ الثلاثينات وحتى الثمانينات ظلّت محلَّ اعتماد الدارسين العرب وثقتهم في ثلاثة مجالات: تحديد حقبة ما يُسمَّى بالدولة العربية بأنها الفترةُ الواقعةُ بين وفاة النبي عام 632م وحتى سقوط الدولة الأموية عام 750م. و اعتماد تاريخ الطبري (الذي نشره دي غويه للمرة الأولى) مصدراً رئيسياً للتأريخ لتلك الحقبة أو ذلك العصر. وأخيراً اعتماد الطريقة الهرمونوطيقية في قراءة النصّ وتأويله ومقـارناته. والمعـروف أنّ فلهاوزن – وهو من كبار دارسي العهد القديم في الأصل – اعتبر الإشكالية الرئيسية في الدولة العربية الأولى، إشكاليةً ذات طابع قومي، أي بين العرب والعجم، أو العرب والفُرس. وقد وافق ذلك هوى كُتّاب التاريخ العربي في المرحلة القومية، أي في ما بين الخمسينات والثمانينات. ولذلك فقد انطلقوا من هذا التحـديد الفلهاوزنـي ليتحدثوا عن وعـيٍ قوميٍ عربيٍ مبكّرٍ يعودُ للقرن السابع الميلادي. نجدُ ذلك لدى كبير المؤرخين العرب المعاصرين: عبد العزيز الدوري، كما لدى آخرين كثيرين من أساتذة الجامعات المصرية والسورية والعراقية في الخمسينات والستينات والسبعينات. ويُضاهي ذلك في الأهمية لدى المؤرخين العرب تلك الثقة التي أظهرها فلهاوزن بالمصادر العربية للتاريخ وعلى رأسها كما سبق القول "تاريخ الطبري". وطريقتُهُ كما هو معروف فيلولوجية، تظلُّ قريبةً من النصّ، وتقارن وتصدّق أو تنفي بعقلانيةٍ انتقائية يغلبُ عليها الذَوق أوالنزوع الشخصي. وقد صمدت هذه الطريقةُ طويلاً لدى العرب المُحْدثين والمعاصرين، سواءٌ ذكروا فلهاوزن في كتاباتهم عن التاريخ الإسلامي الأول أم لا، بيد أنّ ما لم يصمدْ ذلك الربط الفلهاوزني بين فترة الخلفاء الراشدين (632-661م) وفترة الخلفاء الأُمويين (661-750م)، ذلك أنّ الراديكاليين من اليساريين والإسلاميين ما لبثوا أن فصلوا الراشدين عن الأُمويين، باعتبار الأُمويين مغتصبين للسلطة ومستبدين تارةً، أو باعتبارهم منحرفين عن الإسلام تارةً أُخرى.

ومع أنّ عبد الرحمن بدوي قام في الخسمينات أيضاً بترجمة بحث فلهاوزن عن "الخوارج والشيعة" وهما الحزبان السياسيان/ الدينيان اللذان ظهرا في القرن السابع في نظره؛ فإنّ مقولته عن طرائق ظهور الجماعات الدينية في الإسلام ما تركت تأثيراً كبيراً بعكس كتابه عن الدولة العربية. ويبدو أنّ ذلك عائدٌ لِغَرق فلهاوزن في تفصيلات نصوص الطبري عن هذين الحزبين، دونما محاولة للتنظير، إلاّ ما قاله عن الأصول الإيرانية الممكنة للتشيع، والأصول القبلية للخوارج، وهما أمران سُرعان ماتخلَّى عنهما الدارسون؛ في الوقت الذي عرف فيه الدارسون العرب في الستينات نظرياتٍ أُخرى عن ظهور الجماعات الدينية، من بينها فَرَضيّة ماكس فيبر. وما ترجم أحدٌ لسوء الحظّ مقالة فلهاوزن عن ظهور الجماعة الدينية الإسلامية الأولى بالمدينة، وبالتالي ما عرف الدارسـون العرب طريقته في نقد النصّ، وفي تأمُّل النصوص الدينية بالذات.

والطريف أنّ مستشرقاً ألمانياً معاصراً لفلهاوزن هوتيودور نولدكه Theodore Noldeke لقي كتابُهُ عن "تاريخ القرآن" شـهرةً كبيرةً لدى الأكاديميين العرب، مع أنَّ أحداً لم يترجمه، وما قرأه كثيرون بالألمانية أيضاً. وقد سألْتُ عبد الرحمن بدوي بالقاهرة أواخر الستينات عن سبب شُهرة نولدكه وكتابه لدى العرب والأتراك، وتكرار اسمه في الدروس – مع أن أحدا لم يقرأه تقريبا، فأخبرني أنّ الشيخ أمين الخولي قرأ الكتاب، ورغب في ترجمته، ثم ما تحقق ذلك(**). وما تُرجم لنولدكه غير كتابه الصغير عن إمارة الغساسنة بالجُولان قبل الإسلام، لكنّ أحداً لم يهتمَّ لها، لاقتصاره على محاولة تركيب أو إعادة تركيب سلاسل نَسَب الأُسرة الغسّانية استناداً إلى أبيات من الشعر الجاهلي، وأخبار المؤرخين البيزنطيين عنهم.

أمّا جهـودُ المستشرقين وعلماء الساميات الألمان في تاريخ العرب قبل الإسلام، ومن Glaser وحتى Von Wissmann وألتهايم وماريا هوفنر النمساوية، فقد استوعبها العراقي جواد علي في كتابه: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام. فقد أحصيتُ له رجوعهُ إلى ستةٍ وعشرين كتاباً ألمانياً وزُهاء الخمسمائة مقالة في المجلدات التسعة لكتابه المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام. وهي تعودُ جميعاً إلى ما قبل الستينات من القرن العشرين.

ولا يُضاهي فلهاوزن في التأثير على الكتابة التاريخية العربية الحديثة غير كارل بروكلمان Carl Brockelmann، الذي تُرجم له أولاً كتابُهُ: تاريخ الشعوب الإسلامية؛ لكنْ عن الترجمة الإنجليزية. وما انتهت ترجمةُ عمله الضخم: تاريخ الأدب العربي حتى الثمانينات، لكنّ الكتابين كانا وما يزالان عظيمي التأثير. أما الأول فلإيجازه وشموله ووصوله لأربعينات القرن العشرين. ولذلك فقد صار بمثابة Textbook للطلبة في السنوات الجامعية الأولى، وسار على نهجه كثيرون في تأليف مذكّراتٍ لطلبتهم. وهو بخلاف فلهاوزن لا يملكُ نظريةً لتفسير التاريخ الإسلامي الأول أو المتأخّر، ولذلك لم يُير حساسية أحد. أمّا كتابُهُ الآخر عن التُراث العربي حتى القرن التاسع عشر؛ فقد سحر كلَّ دارسي الكلاسيكيات بالمعلومات الهئالة التي أَوردها عَبْر عملٍ دؤوبٍ لأكثر من أربعين عاماً عن المخطوطات العربية في شتى المجالات، وشتى العصور، وفي ترتيبٍ لما يشبه أن يكونَ تاريخاً ثقافياً للإسلام العربي خلال أثني عشر قرناً. والمعلوماتُ التي أوردها بروكلمان ما عادت صحيحةً إلاّ بنسبة 50%، لكنّ تحقيبه لعصور الآداب والدول والثقافات ما يزالُ محلَّ اقتباسٍ من أكثرالدارسين والعاملين في مجال الثقافة العربية الكلاسيكية. وقد حلَّ محلَّه الآن للقرون الأربعة الأولى من تاريخ الثقافة العربية – الإسلامية كتاب فؤاد سزكَين، الذي تُرجم أكثره أيضاً إلى العربية. لكنّ كتاب سزكين لا يُستخدمُ فقط بسبب معلوماته الغزيرة؛ بل بسبب اتجاهه الأيديولوجي الذي يُدافعُ عن صحة السُنّة النبوية، وعن التاريخ المبكّر للتدوين في الإسلام، وعن عبقرية المسلمين في الإنتاج العلمي.

قلتُ في ما سبق إنّ كتاب نولوكه Noeldeke عن القرآن اشتهر كثيراً لدى الدارسين العرب والمسلمين، لكنه لم يؤثّر لأنَّ أحداً لم يقرأْهُ أو يُترجمه. أما الذي أثَّر كثيراً في الدراسات الدينية الإسلامية وما يزال فهو إغنتس غولدزيهر Goldziher من خلال كتابيه: العقيدة والشريعة في الإسلام (الذي تُرجم عن الفرنسية)، ومذاهب التفسير القرآني (الذي تُرجم عن الألمانية في الخمسينات). فمنذ ترجمة هذين الكتابين صارا مقروءَين ومعتمدين سواءٌ لجهة تحديد علم الكلام، وعلم الفقه، أو لجهة تقسيـم اتجاهات التفسير القرآني إلى: تفسير عقلاني، وتفسير بالمأثور، وتفسير فيلولوجي، وتفسير صوفي، وتفسير باطني. وكان أُستاذُ مادة التفسير بالأزهر يقول لنا في درس التفسير: نحن نبدأُ دائماً بذَمّ غولدزيهر، ثم نعود للاقتباس والتعلُّم منه. وقد ظلَّ كتاب غولدزيهر في العقيدة والشريعة معتمداً لدى الدارسين والطلاب، حتى تُرجم في الستينات كتاب لوي غارديه وقنواتي في اللاهوت المقارن بين المسيحية والإسلام، عن الفرنسية.

أمّا الدراسات الفلسفية الإسلامية، وتاريخ الفلسفة فقد أثَّر فيها كثيراً كتاب دي بور de Boer القديم: تاريخ الفلسفة في الإسلام، الذي ترجمه محمد عبد الهادي أبو ريدة، المتخرج من ألمانيا قبل الحرب الثانية. ثم ترجم أبو ريدة كتاب: مذهب الذَرّة عند المسلمين في الأربعينات أيضاً. وقد اهتمّ أبو ريدة أيضاً بترجمة كتاب آدم متز A. Metz نهضة الإسلام، إلى العربية بعنوان: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. فصار إلى جانب كتاب "حضارة العرب" لغوستاف لوبون، معتمداً لدى الطلاب والدارسين باعتباره أول تاريخٍ ثقافيٍ للإسلام وحضارته. وعرف الدراسون العرب دراسات شيدر Schaeder وباول كراوس وماكس مايرهوف من ترجمات عبد الرحمن بدوي لها. وعندما ذهبْتُ للدراسة بالأزهر أواسط الستينات كانت تلك الدراسات ما تزال سائدةً بين الأساتذة والطلاب. والمعروف أنّ نزاعاً كبيراً نشِبَ حول مسألة "الأصالة" وعلاقة الفكر الفلسفي العربي بالترجمات عن اليونانية والسريانية بالجامعة المصرية في الأربعينات. وفي حين اتجهت مدرسة مصطفى عبد الرازق للبحث عن الفكر العربي الإسلامي الأصيل، ظلَّ عبد الرحمن بدوي وآخرون من تلامذته يعتبرون الفلسفة الإسلامية الحقيقية هي تلك العاملة والمؤوّلة والمتناغمة مع الفلسفة الكلاسيكية. وبدوي أثَّر في أجيال من دارسي تاريخ الفلسفة ليس فقط من ترجماته عن المستشرقين الألمان؛ بل ومن خلال ترجماته لغوته وشوبنهاور وشليغل وكانط وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الألمان وكتاباته الكثيرة عنهم أو المتأثرة بهم.

II

تبدو تأثيرات المستشرقين الألمان اليومَ أثراً من آثار الماضي. ولا يرجعُ ذلك للنزعة الإسلامية الجديدة المتنكّرة لكل ما هو استشراقي أو غربي فقط؛ بل لقلة الترجمات عن الألمانية بشكلٍ عام. ثم لسيطرة الفرنسية، والآن الإنجليزية في مجال الدراسات الجديدة عن كلاسيكيات الإسلام، وعن الظواهر الإسلامية الحديثة والمعاصرة، وأخيراً بسبب تغير مناهج البحث، وثورة العلوم الاجتماعية. فكتاب Fuck عن فقه اللغة العربية ظلَّ مؤثراً عند العرب لأنّ عبد الحليم النجار ترجمه في الخمسينات، بينما ترجم رمضان عبد التواب كتاب بروكلمان عن فقه اللغات السامية، فترك نفس التأثير. والطريف أنه لا أحد من شبان الدارسين العرب للكلاسيكيات يعرفُ أنَّ De Goeje هو الذي نشر تاريخ الطبري للمرة الأولى؛ بينما يعرفون جمعياً كتيّب دي غويه الصغير عن القرامطة، إحدى الفِرَق الدينية المتطرفة في الإسلام؛ لأنه تُرجم إلى العربية – وقد ظلَّ مستعملاً حتى تُرجمت كتابات هاينز هالم الألماني عن القرامطة والفاطميين قبل عقدٍ من السنين. وقد تحدث كثيرون في عدة مراجعاتٍ عن كتاب هلموت ريتّر عن التصوف الإسلامي: بحر الروح Das Meer der Seele، لكنّ الكتاب نُسي لأنه لم يُترجَمْ، ولأنّ كتاب ماسينيون عن الحلاّج سيطر في السوق لكثرة العارفين بالفرنسية(***). ولا يعرفُ الدارسون العرب عن ريتّر الآن إلاّ أنه نشر مقالات الإسلاميين للأشعري، وأسرار البلاغة للجُرجاني. وفي العقدين الأخيرين اشتهرت لدى العرب أنّا ماري شيمّل بسبب ترجمة بعض كتاباتها الصوفية عن الإنجليزية وليس عن الألمانية، وما اشتهر عنها من حبٍ للإسلام والمسلمين.

والواقع أنّ الباقي من الاستشراق الألماني في وعي الدارسين العرب في العقود الأخيرة آتٍ من مؤسستين: المعهد الألماني ببيروت، بمنشوراته الكثيرة بالعربية والإنجليزية والألمانية – ومعهد دراسات العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت، والذي يديره الأستاذ فؤاد سزكَين، ويُصْدرُ مجلة علمية، وقد جمع ونشر وصوَّر ما يزيد على الخمسمائة نص ومخطوط ودراسة في العقود الثلاثة الأخيرة – وأخيراً وليس آخراً مجلة "فكر وفن" التي تُعرِّفُ بالنتاجات الألماني عن العرب والإسلام والشرق، ومن ضمنها أعمالُ المستشرقين الدارسين الألمان الشباب؛ في الترجمة عن العربية وفي دراسة الظواهر العربية المعاصرة.

قبل شهور صدر في ترجمةٍ عربيةٍ جيدة كتاب البارون فون أوبنهايم عن البدو في أربعة مجلدات. وقبل ثلاثة شهور صدر كتاب شتبات السالف الذكر بعنوان "الإسلام شريكاً" في سلسلة عالم المعرفة الكويتية الشعبية. وقبل أسابيع أخبرني ناشرٌ عربيٌّ أنّ كتاب أُستاذنا جوزف فان إس van Ess: اللاهوت (علم الكلام) والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة سيصدر قريباً بالعربية.

وفي إحدى عشيات الربيع الماضي جاء إليَّ ناشرٌ عربيٌّ بترجمةٍ مخطوطةٍ لكتاب نولدكه في تاريخ القرآن السالف الذكر، لأنظر فيها، وأكتب لها تقديماً إنْ أعجبتني، ووجدتُ الترجمة جيدةً فعلاً، لكنّ الكتاب ما عاد له ذلك الوهج الذي يستحقُّ معه الترجمة، مثلما كان عليه الأمر أيام الشيخ أمين الخولي قبل خمسين عاماً. وهذا سببٌ آخَرُ لتضاؤل تأثير الاستشراق التاريخاني والفيلولوجي الألماني وغير الألماني. أما الاستشراق الجديد فتسودُهُ نزعةٌ مُراجعةٌ تفكيكية تتصل بالأجواء السائدة في حقبة ما بعد الحداثة، ووسط الهجمة المستشرية على الإسلام. وتظلُّ المعرفةُ متعة، لكنّ "التشاؤمية الثقافية" في بيئاتنا تعطيها طعم العلقم، سواءٌ أكانت من نتاج المستشرقين، أو أساتذة العلوم السياسية، أو الاستراتيجيين.

ما كان الاستشراق الألماني أو غير الألماني قناةً رئيسيةً في التعريف بالعرب والإسلام، أو التواصُل بين الغرب والشرق. وقد انفتحت قنواتٌ ونوافذ كثيرةٌ، وانسدَّت أُخرى، ومن بينها الاستشراق بمعناه القديم. وقد حلَّ محلَّ المستشرقين الأنثروبولوجيون من دُعاة الطبائع الأصولية والدموية للإسلام، وصراع الحضارات. ويتهرب الشبان المهتمون بالتراث أو الحاضر العربي من أوروبا وأميركا وآسيا من التسمية بالمستشرقين، ويقولون: إنهم معنيون أو مهتمون أو متخصصون بهذا الأمر أو ذاك من الماضي أو الحاضر العربي والإسلامي. ويحب الأمريكيون التسمية بدراسات الشرق الأدنى والأوسط كما هو معروف. وهكذا ينقضي الاستشراق تدريجياً دون أن يجد من يترحم عليه، في الغرب أو في الشرق.

*****************
الهوامش
*) مفكر لبناني، ومستشار التحرير في مجلة التسامح.

**) صدرت قبل شهرين (تشرين الأول/ أكتوبر 2004م) ترجمة عربية للكتاب قام بها د.جورج تامر بدعم من مؤسسة أديناور. وتصدر ترجمة عربية أخرى للكتاب نفسه عن دار المدار الإسلامي، قام بها الأستاذ عمر لطفي العالم وآخرون، عام 2005م. وقارن بمراجعة أولية للترجمة الجديدة في باب "متابعات" في هذا العدد.

***) صدر أواخر العام 2004م جزؤه الأول مترجما إلى العربية.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=180

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك