المشترك الديني في مواجهة عقار التطرف
يحاول الكاتب في مقاله تحليل الخطاب المتطرف الذي يعده نتاجاً لعوامل ذاتية تتعلق بنفسية المتطرف، وأخرى موضوعية لها ارتباط بمؤسسات التنشئة الاجتماعية، وما خلفه من إقصاء وعنف وشيطنة مورست باسم الدين، كما قال، ضد المعارضين والمخالفين في الفكر والعقيدة، ومنه إصدار الأحكام الجائرة ضدهم بحجة حماية المؤمنين من تلبيسات الزنادقة وخطايا الهراطقة، وذلك بالاعتماد على الحشد الطائفي والتعبئة النفسية المستقاة من الكلمة المقدسة لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث، والتي تغذيها مصطلحات من قبيل الحب في الله والبغض في الله، الطاعة والمعصية، الولاء والبراء، الملك والشيطان، الإيمان والكفر، الخلاص والخطيئة، الجنة والنار.
مما لا شك فيه أن ظاهرة التطرف الديني تهدد الأمن القومي للدول، وتستهدف التراث الثقافي الذي يعكس الرقي الحضاري للإنسان عبر تاريخه الطويل؛ فتحديات الاستقرار السياسي والوئام الاجتماعي وكذا الإنتاج الاقتصادي، بالإضافة إلى حركية الإبداع الثقافي والابتكار العلمي، تتطلب في المقام الأول توفير الأمن والإحساس بالسلام والطمأنينة أفراداً وجماعات.
لذلك، كان لزاما التطرق لنزعات التطرف الديني، وما تفرزه من تعصب للرأي واستعمال للعنف عند أتباع الرسالات السماوية الثلاث ضد الآخر.
وهذا بالذات ما يدفع إلى البحث عن الخلفيات المشتركة التي تؤدي إلى إنتاج عقار التطرف معرفياً ووجدانياً وسلوكياً في الشرائع التوحيدية الثلاث، ومدى مسؤولية رجال الدين في تفريخ محاضن التشدد والغلو وممارسة الوصاية الفكرية والإرهاب الجسدي.
ومحاولة لفهم الخطاب المتطرف كنتاج لعوامل ذاتية تتعلق بنفسية المتطرف، وأخرى موضوعية لها ارتباط بمؤسسات التنشئة الاجتماعية، سنكتشف حجم الإقصاء والعنف والشيطنة التي مورست باسم الدين ضد المعارضين والمخالفين في الفكر والعقيدة، وإصدار الأحكام الجائرة ضدهم بحجة حماية المؤمنين من تلبيسات الزنادقة وخطايا الهراطقة.
من سمات خطاب التطرف أنه يجدد أزمات التاريخ وجروحه، بيد أنه يعجز عن إحياء روابط التعامل الدنيوي بمفهومه الإنساني
غير أنه وبالرجوع إلى ألسن السماء نفسها، نجدها تؤكد على وحدانية المصدر الإلهي وتقرر وحدة الأصل الإنساني.
من هنا تتجلى أهمية تحليل خطاب التطرف، باعتباره لا يرتبط بشريعة دون أخرى، ثم في الإحالة على الارتباك الفكري لرجال الدين في تدبير الخلاف، مما يفضي إلى إنتاج مفاهيم خاطئة ومعارف مغلوطة، ويولد سلوكيات عنيفة لا تتوافق مع معطيات التاريخ والجغرافيا، حيث تبقى أنسنة الخطاب الديني والعمل على تدبير المشترك السماوي خير استجابة للفطرة الإنسانية التي تتناغم في جوهرها مع تعاليم الدين ووظيفته التنويرية في إرشاد الناس وتوجيههم نحو معاني الحب والإخاء والإحساس بقيمة الحياة.
في خطاب التطرف
إن المتتبع للخطاب المتطرف عند أتباع الرسالات السماوية الكبرى، يستغرب لحجم الحشد الطائفي والتعبئة النفسية المستقاة من الكلمة المقدسة، سواء في التوراة أو الإنجيل أو القرآن من خلال تنظيمات متشددة تتولى تفكيك البنية الدينية للفئة المستهدفة، وإعادة تركيبها وفق مخطط متشدد وصارم له أهدافه وأنشطته ووسائله ومصادر تمويله.
هذا التطرف مرتبط بصيرورة التنشئة الدينية ومعامل الاستدماج الدوغمائي للنواظم المتحكمة في تفاعل الوسط، وتحديد أدوار الفاعلين فيه داخل بنية تنظيمية تتوسل بثنائيات تتغيا رفع الشعور المعنوي لأعضاء الجماعة من قبيل الحب في الله والبغض في الله، الطاعة والمعصية، الولاء والبراء، الملك والشيطان، الإيمان والكفر، الخلاص والخطيئة، الجنة والنار.
لذلك، يجد له صدى منقطع النظير في أوساط الشباب المتدين بسبب الفقر والقهر والخواء الروحي، وهي معاناة مشتركة بين اليهودي والمسيحي والمسلم، لأنه في آخر المطاف هو إنسان له أحاسيس تنتظر الإشباع، وآمال تتوق إلى الاهتمام، وأحلام تبحث عن الاحتضان؛ فالذات الإنسانية لا تولد متطرفة، ولكنها تتقلب ذات اليمين وذات الشمال بفعل الأوصياء والوكلاء الذين لا حظ لهم في ميراث الأنبياء وفتوحات الحكماء.
من سمات خطاب التطرف أنه يجدد أزمات التاريخ وجروحه، بيد أنه يعجز عن إحياء روابط التعامل الدنيوي بمفهومه الإنساني، ويجبن عن قبول القواسم المشتركة معرفياً وروحياً وسلوكياً.
والسبب أنه "ليس لدى الأصوليين متسع للديمقراطية أو التعددية أو التسامح الديني أو الحفاظ على السلم أو حرية التعبير؛ فالأصوليون المسيحيون يرفضون اكتشافات علم الأحياء والفيزياء التي تتعلق بأصل الحياة (...) ويفسر الأصوليون المسلمون واليهود ـــ على حد سواء ـــ النزاع العربي- الإسرائيلي بطريقة دينية استثنائية"[2].
من منزلقاته كذلك، أنه يعتمد على نصوص ثانوية ويهمل النص الأصلي للكتب السماوية، ويستنجد بالتقديس المزور لإضفاء الشرعية على اجتهادات بشرية وتأويلات آنية وتصورات لحظية.
فتُهم الهرطقة والزندقة والتكفير التي تُكال للأدباء والعلماء والمفكرين هي تعبير متطرف للارتباك الديني، وللانزياح المشوه لكلمات الله الأزلية طيلة تاريخ تلك الأديان نتيجة الفهم المنحاز والأفق الضيق والسياسة الوقتية في التعامل مع الخطاب الرباني المبثوث في النص المقدس من طرف السلطة الكهنوتية في تحالفها الهجين مع متغيرات الممارسة السياسية التواقة للاستبداد باسم الحق الإلهي.
إن المتطرف "من داخل الأديان الثلاثة يتبع نموذجاً محدداً وأشكال تعبئة روحية انبثقت كاستجابة لكارثة مدركة حسياً، ومن ثم نراهم ـــ المتطرفين ـــ ينخرطون في نزاع مع أعدائهم سياسياً ومعتقدياً"[3].
فأخلاقيات المتطرف تعبر عن معدنه الجبان وشخصيته السادية، وتنعكس على سلوكه المنحرف الذي يمارسه خارج التاريخ والجغرافيا، لأن منطقه فاسد ولا يتغير، وينبني على كراهية الآخر، والسعي للقضاء عليه باسم كلمات الله.
تُهم الهرطقة والزندقة والتكفير التي تُكال للأدباء والعلماء والمفكرين هي تعبير متطرف للارتباك الديني، وللانزياح المشوه لكلمات الله الأزلية طيلة تاريخ تلك الأديان
وعلى الرغم من وجود النصوص الدينية التي تقرر وحدة المنبع وتتمسك بأصالة المصدر وتدعو إلى الأخوة الإنسانية، فإننا نصطدم في واقع الحال بممارسات متطرفة تجعل من العقيدة الدينية أساساً للإبادة الجماعية.
ففي عام 1499 "خُيِّر المسلمون في إسبانيا بين اعتناق المسيحية أو الترحيل (...) ثم وقع فرديناند، وإزابيلا مرسوم الطرد لتخليص إسبانيا من اليهود الذين خُيِّروا بين قبول التعميد أو الطرد". [4]
يعتقد الخطاب المتطرف أن التصورات التي يملكها مقدسة ولا تقبل الشك ولا النقد؛ فهي إجابات يقدمها كحلول لواقع الناس، ولذلك فهو ينهج أسلوب الإقصاء والتهميش والإلغاء والاغتيال الفكري والتصفية الجسدية ضد المخالفين.
لذلك لم تستوعب الكنيسة المسيحية ما قاله جليليو جليلي بأن "النص المقدس يعلمنا كيف نسير إلى السماء وليس كيف تسير السماء"[5]؛ أي سير يربط الأرض بالسماء، تعرج الروح إليها بمقدار شفافيتها التي لا تعرف الكراهية، ولا تعيش التطرف، بل إنها تستوعب الناس؛ كل الناس؛ باعتبارهم ذواتا، "أو ليست ــ الذات الإنسانية ــ نفسا ؟"[6].
التطرف لا دين له
أ- التلمود والحرب المقدسة باسم الرب:
في الفكر اليهودي، كثير من التيارات المتطرفة "رفضت مظاهر العلمنة في التجمع الصهيوني. وفي إطار سعيها لفرض ما تراه التعاليم الصحيحة لليهودية أحرقت سيارات من أقدموا على انتهاك حرمة يوم السبت، ومحلات اللحوم التي لا تلتزم الشريعة اليهودية في إجراءات الذبح"[7].
هذا التطرف راجع بالأساس، إلى الإيمان الراسخ خاصة لدى طائفة الحريديم، أن الرِّبِّيِّين وحدهم "يملكون الحقيقة لفهمهم واطلاعهم على الكتب اليهودية المقدسة (وبصفة خاصة التلمود)، وأن طريقهم هو الطريق الصائب الوحيد، وهم يستخدمون وسائل الإكراه الديني (هكفياه هداتيت) والتدخل في حياة الآخرين وكل الوسائل بالنسبة إليهم مشروعة بما في ذلك استخدام السلاح (...) ويعتبرون أنهم يشنون حرباً مقدسة باسم الرب"[8].
هذه العقيدة المتطرفة حالت دون اندماج اليهود على أساس المواطنة في بلدانهم الأصلية؛ فحرصوا على العيش في "الجيتو" اليهودي من أجل مملكة صهيون.
يعتقد الخطاب المتطرف أن التصورات التي يملكها مقدسة ولا تقبل الشك ؛ فهي إجابات يقدمها كحلول لواقع الناس، ولذلك فهو ينهج أسلوب الإقصاء والاغتيال الفكري والتصفية الجسدية
وقد كان لحركة الإصلاح الديني في الفكر اليهودي دور مهم في اعتبار اليهودية انتماء دينيا فحسب، وليست خرافات حول أرض الميعاد؛ فقد ظهرت حركة الهاسكالا؛ أي الاستنارة التي تزعمها "رؤساء أسر يهودية معروفة، مثل موسى مندلسون (1729- 1786) الذي كان يقول في ألمانيا بأن اليهودية عقيدة دينية، لليهودي أن يتبعها في حياته الخاصة، ولكن عليه أن يندمج في الشعب الذي يعيش في وسطه، وأن يأخذ بعاداته وثقافته"[9].
ب- حقائق العلم وسلطة الكنيسة:
لقد عاشت أوروبا المسيحية الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، واستظلت بظلمات الانحطاط والتخلف والتعصب الديني حيناً من الدهر.
كان التطرف المسيحي يسعى إلى أن تستمر مؤسسة الكنيسة كجهاز مراقبة على إيمان الناس ومحاسبة أفكارهم وكبت تحررهم اللاهوتي، بل إنها كانت تحرم قراءة الإنجيل دون الأخذ بتأويلات القسيسين وانتحالات الرهبان التي كانت تحتل نفس مرتبة القداسة إلى جانب الكتاب السماوي.
ولذلك، لم يتقبل التشدد المسيحي آنذاك أطروحة جليليو جليلي بأن "الشمس مركز الكون ولا تتحرك، والأرض ليست مركز الكون وتتحرك. فاتهمته محكمة التفتيش عام 1633 بالهرطقة وحكمت عليه بالإقامة الجبرية"[10].
وكان ذلك كله باسم الدين ورعاية رجاله.
ولهذا، نجد مارتن لوثر من أبرز المصلحين الدينيين المسيحيين الذين وقفوا ضد احتكار الكنيسة للمعرفة وجعلها مطية للسلطة الوقتية؛ حيث دعا في مقالاته الخمسة وتسعين إلى تحرر العقل، ورفض فكرة الوساطة بين الله والإنسان، وأعلن أن "الخلاص يتحقق بالإيمان لا بصكوك الغفران"[11].
ج- السلطة السياسية والحكم بما أنزل الله:
في تاريخ المسلمين، نجد أن منطق "الأخوة الإيمانية" ومبدأ "وأمرهم شورى بينهم" كما قررتهما الآيات القرآنية، والوصايا النبوية لم يتم ترجيحهما البتة في معركة "صفين" وقضية "التحكيم" وواقعة "الجمل"، وما زال تغييبهما يتكرر ــ للأسف الشديد ــ نسخة طبق الأصل في كثير من بلدان الربيع العربي نتيجة تطويع الآيات والأحاديث، واستنطاقها بطريقة جامدة وتقليدانية لخدمة التصور المستبد، وتبرير استعمال العنف والاستئصال ضد المخالف في الرؤية والرسالة والحكم بضلاله الإيماني وفساده السياسي.
يروي لنا ابن خلكان كيف تم اتهام الأديب عبد الله بن المقفع بالزندقة سعياً لعزله عن أفراد المجتمع، فيتسنى للسلطة السياسية آنذاك تصفيته جسدياً بحجة المروق وإفساد دين المسلمين.
ويذكر في وفيات الأعيان أن "ابن المقفع كان كاتباً لعيسى بن علي، فكتب ابن المقفع الأمان وشد فيه حتى قال في جملة فصوله: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حُبُس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته (..) إلا أن المنصور عظم ذلك عنده، فكتب إلى سفيان بن معاوية متولي البصرة بأمر قتله (يقصد ابن المقفع) وأمر سفيان بتنور فسجر، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه عضواً عضواً، وهو يلقيها في التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق عليه التنور، وقال له: ليس علي في المثلة بك حرج، لأنك زنديق وقد أفسدت الناس"[12].
غير أن كثيرا من البحوث المعاصرة التي درست مؤلفات ابن المقفع تقول: "إن ليس فيها ما يؤكد زندقته، لا الزندقة العلمية التي عرف الأدباء والمفكرون، ولا الزندقة المعروفة عند الناس. فكيف يكون زنديقا من يقول: "وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب...ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها إصلاحه" (...) ولعل الأقوال الكثيرة لابن المقفع في العديد من آثاره تدل بما لا يقبل الشك على صدق إيمانه بالإسلام، وإخلاصه لبناء نهضة الأمة الإسلامية في إطار نزوع ثقافي إصلاحي إنساني مبني على منهج عقلي صرف"[13].
في البحث عن المشترك الديني
إن التطرف في منطق الملة الإبراهيمية بتنوع تجلياتها الموساوية والعيساوية والمحمدية لا يرتبط أبداً بالأديان السماوية شِرْعة ومنهاجا، ولا بنصوصها منطوقاً ومفهوما، بل يعود إلى ممارسات طقوسية وتأويلات منحازة وغير موضوعية للنصوص المقدسة التي تخضع بدورها عبر المنطق الداخلي لجماعة الارتباط العضوي للفرد لإعادة إنتاج المعنى للمفاهيم التوراتية أو الإنجيلية أو القرآنية، أسفاراً وإصحاحات وسورا.
نقرأ في التوراة المقدسة:
"بل يكون اسمك إبراهيم، لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم. وأثمرك كثيراً جدا وأجعلك أمما. وملوكا منك يخرجون. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا. لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك"[14].
ونجد في سفر أعمال الرسل أحد كتب العهد الجديد:
"أيها الرجال الإخوة بني جنس إبراهيم، والذين بينكم يتقون الله، إليكم أرسلت كلمة هذا الخلاص"[15].
ويقرر لنا القرآن الكريم:
"وإذِ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن. قال إني جاعلك للناس إماما. قال ومن ذريتي. قال لا ينال عهدي الظالمين"[16].
هذا التذكير الرباني للعالمين بأن الدين لله، وأن رسالاته هي بشارة أبينا إبراهيم ـــ عليه السلام ـــ يدفع بالضرورة رجال الدين المتنورين إلى تجديد عهد الأخوة الإبراهيمية في أفق صياغة رؤية مشتركة، وبلورة رسالة عليا وفق بصيرة مستنيرة، تتجاوز المحلية إلى الكونية بربط الوحي السماوي بمقاصده العليا وقيمه الإنسانية، وتحريره من السياسة الأرضية المتقلبة وفق مقاربات فعالة تروم خفض مستويات التعصب والتشدد، وتعزز استمرارية حالة النظام العام والأمن المجتمعي.
إن أي خطاب خارج سياقه الحضاري يحاول أن يموقع الدين تعسفاً في صراعات مدنّسة؛ دون استيعاب خلفياتها الأيديولوجية سينتج تبعاً لذلك أزمات فكرية وعقداً نفسية وعوائق سلوكية
خاتمة
لا غرو أن التجربة الدينية التي تبدأ مسالمة ومتصوفة في بيئة آسنة من الكبت والتسلط والعنف الاجتماعي والجهل بحقيقة الدين تتحول عاجلاً أم آجلاً، إما إلى صرخات ومطالبات من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، أو إلى منظمات وظيفية للعنف والإرهاب؛ وبذلك يكون الإقبال المتزايد على خطاب التطرف والنفير إلى ساحات العنف والعنف المضاد بمثابة تعبير فئة عريضة من الشباب عن الإحساس المزعج بغياب الأمن والخوف من المستقبل المجهول، وفقدان بوصلة الهوية الجمعية.
في هذا الإطار، فإن أي خطاب خارج سياقه الحضاري يحاول أن يموقع الدين ــ أي دين ـــ تعسفاً في صراعات مدنّسة؛ دون استيعاب خلفياتها الأيديولوجية سينتج تبعاً لذلك أزمات فكرية وعقداً نفسية وعوائق سلوكية، تجعل أفراد المجتمع دائماً عرضة للدجل الديني الخداع ومرتعاً للتطرف والبغي في الأرض بغير حق.
إن سحب بطاقة التزكية الدينية التي يطرح من خلالها رجال الدين أنفسهم خلفاء الله في أرضه ومخلصين للبشرية نيابة عنه، سيؤثر على بنية التصور الديني الذي سيضطر إلى تكييف أطروحاته التراثية وتعاليمه التأويلية مع مستجدات الواقع ومراجعة فكرة الزحف الفردي نحو مملكة الله وإعادة إنتاج معاني أخرى من داخل المؤسسة الدينية أكثر ارتباطا بسعادة الإنسان وبناء التفكير الإيجابي والمساهمة في السلم الاجتماعي والإصلاح بين الناس.
كما أن البحث في دلالات النصوص الدينية وسياقاتها التاريخية، سيساعد على فهم العروض المستقبلية ومخاطر الصراعات الدينية في عالم اليوم.
يجب أن نعي تمام الوعي أن البشرية في أمس الحاجة إلى قراءة نقدية شجاعة للتراث الديني في الموضوع وفي المنهج لإيجاد الانسجام بين أشواق الفطرة وتطور المدنية، من أجل ضمان تناغم حركية التدافع الأرضي بين الناس، أو كما يسميه الشيخ محمد عبده "الأدب السياسي".
من خلال ما سبق، يتضح أن التطرف لا دين له، وأن الرسالات السماوية تدعو في كليتها إلى حفظ النفس البشرية وتحرم الاعتداء على الغير.
"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا".[17]
[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 6
[2] النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام - كارين آرمسترونغ، ترجمة محمد الجورا - دار الكلمة للنشر والتوزيع 2005. ط 1، ص:17
[3] Les combats de Galilée-P. Marage, Faculté des sciences Artichaut , Revue du CEPULB. Octobre 2009, p: 8
[4] النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام - كارين آرمسترونغ، ترجمة محمد الجورا - دار الكلمة للنشر والتوزيع 2005. ط 1، ص: 11
[5] Les combats de Galilée-P. Marage,Faculté des sciences- Artichaut, Revue du CEPULB. Octobre 2009, p: 5
[6] صحيح البخاري – دار ابن كثير دمشق بيروت، 2002 كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي، رقم الحديث: 1312
[7] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الجزء 7 – عبد الوهاب المسيري – دار الشروق. القاهرة 1999 ط 1، ص: 112
[8] القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة – رشاد عبد الله الشامي – سلسلة عالم المعرفة، يونيو 1994، العدد: 186 ص: 246
[9] الصهيونية وإشكالية بناء النموذج، عبدالغني عماد، أستاذ في الجامعة اللبنانية، دراسات في القضية الفلسطينية:
http://www.tourathtripoli.org/phocadownload/dirasset_fi_alkadia_alfilsst...
[10] Les combats de Galilée-P. Marage, Faculté des sciences Artichaut , Revue du CEPULB. Octobre 2009, p: 8
[11] Martin Luther(1517). les 95 thèses. Dans: ouvres. Paris: Gallimard, coll. La Pléiade, 1999
[12] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان – المجلد 2، أبو العباس بن خلكان، تحقيق إحسان عباس – دار صادر بيروت 1968، ص: 152/153
[13] ابن المقفع وتهمة الزندقة، نظرة في مؤلفاته، ثقافتنا للدراسات والبحوث، المجلد:5، العدد:18، 2008، حسين جمعة، ص:77/78
[14] التوراة، كتاب أسفار موسى الخمسة مع الرسالة إلى العبرانيين- الجمعية البريطانية والأجنبية - بيروت 1862، سفر التكوين، الإصحاح: 17
[15] سفر أعمال الرسل، القديس لوقا، الإصحاح: 13 /26
[16] القرآن الكريم – سورة البقرة، الآية: 123
[17] القرآن الكريم – سورة المائدة، الآية: 32
المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D...