أهميّة الحوار في بناء المجتمع

سامية جاء بالله

 

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:

 من حكمة الله في خلقه أنه خلق عباده مختلفين في طباعهم وألوانهم ولغاتهم وعقولهم وذكائهم وأموالهم: « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ  إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ »، فهذه العقول المختلفة والأفهام المتباينة كيف تجتمع وتلتقي ؟.. جاء في الكتاب والسنّة الدّعوة إلى لغة الحوار والحكمة والدّعوة بالتي هي أحسن، حتى في مقام الدّعوة أمرنا الله بقوله: « ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ »..

وعلّمنا الإسلام حسن الاستماع للآخرين حتى ولو كانوا على الباطل، وإقامة الحجّة عليهم بالدليل القاطع والبرهان السّاطع، فالحقّ تعرفه الفطرة النقيّة وتقبله العقول السّويّة..

روى أحمد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرًا ما يدعو: « يا مقلب القلوب: ثبّت قلبي على دينك »، قلت: يا رسول الله: ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ؟! فقال: « ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله تعالى: « رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ »..

 ذكر القرآن الكريم الحوار في قصّة خلق الإنسان، وسؤال الملائكة لرب العالمين، قال تعالى: « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ»، فاستجابت الملائكة لأمر الله تعالى كما قال عزّ من قائل: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ»..

وسأل الله تعالى إبليس عن سبب عصيانه فقال سبحانه: « يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ  قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ »، لا يأبى الحقّ إلاّ شيطان، ولا يجادل بالباطل إلاّ ذو قلب مريض وصاحب هوى..

 ونحن مع صورة رائعة من صور الدّعوة تقوم على الحوار والمناظرة وإقامة الحجّة بالحكمة والموعظة الحسنة، إنّنا أمام حوار إبراهيم عليه السلام مع قومه، وكيف حرّك فيهم العقول للنّظر والتأمّل للخروج بنتيجة يصدّقها العقل السليم وتقبلها الفطرة السّويّة وفي ذلك تعالى: « وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ  فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ  فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ  فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ  إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ »..

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل إبراهيم لا يعرف ربّه حتى يبحث عنه ؟.. حاشا لله وكلاّ، والدّليل أنّه يدعو إليه ويتبرّأ من قومه ومن عبادتهم للأصنام والنّجوم والكواكب، إذًا فلماذا هذا البحث والتّنقيب وطرح الأسئلة ؟! إنّها إقامة الحجّة على قومه الذين عميت قلوبهم وانطفأت فيها أنوار بصائرهم، فأراد أن يزيل الظّلمة والغشاوة عن هذه القلوب العمياء، فالمقام هنا ليس مقام بحث ونظر، وإنّما مقام مناظرة وإقامة حجّة.. ولنا في هذه الآيات دروس وفوائد منها:

أولاً: يقين الدّاعي بالحقّ هو الذي يحرّكه للدّعوة إلى هذا الحقّ، ففاقد الشيء لا يعطيه، والقلب الميّت لا يحرّك قلبًا ميّتًا، والأعمى لا يقود أعمى، والغريق لا ينقذ غريقًا، والأنبياء هم أرسخ النّاس إيمانًا وأقواهم يقينًا وأصدقهم حجة وبيانًا..

ثانيًا: استعمال الجوارح في مرضاة الله « طاعة »، واستخدامها للنّظر في ملكوت الله « عبادة »، وتعطيل الجوارح عن هذه المهمّة جريمة ومصيبة، لأنّ الله أعطاها للإنسان من أجل مهمّة، فإذا لم يستعملها لهذه الغاية فقد عطّل الحكمة منها وأهدرها وضيّع قيمتها، والمؤمن ليس هكذا، المؤمن لا يمرّ على الآيات مرور الغافلين النّيام، وإنّما له مع كلّ مخلوق وقفة يأخذ منها عبرة، وكلّما نظر وتأمّل ازداد إيمانًا بالله ومحبّة له وخشية منه: « إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »..

ثالثًا: قام إبراهيم عليه السلام بالاستدلال والنّظر على منهجٍ غاية في الدقّة والنظام، وهو ما يُسمى الآن بالمنهج التجريبي، وهو عماد العلم الحديث، وتقوم عليه حضارة الإنسان اليوم، ويتلخّص هذا المنهج في ثلاثة أمور:

النظر في الأدلة والمعطيات.. والبحث والاستقراء.. والنتيجة والوصول إلى حقيقة مستقرة..

وهذا ما فعله إبراهيم عليه السلام مع قومه حينما نظر أوّلاً إلى الكوكب الدرّي اللامع، فقال لقومه: « هَذَا رَبِّي»، يقول بعض المفسّرين: هذا ما يُسمى بمنهج مجاراة الخصم لإقامة الحجّة عليه من نفسه، بمعنى: أهذا ربّي ؟! ولمّا غاب الكوكب وتوارى أقام هنا الحجّة على عدم صحّة العبادة لإله يغيب و يأفل ويتوارى، ونفس الحجّة أقامها على القمر والشّمس، ثمّ خلُص إلى النتيجة المنطقية التي يقبلها العقل وهي أنّ وراء هذه المخلوقات خالق وهو الله الواحد الأحد المعبود بحقّ، وما سواه مخلوق لا ينفع ولا يضرّ ولا ينبغي أن يُعبد من دون الله..  

رابعًا: لغة الحوار الرّاقي هي منهج القرآن وطريقة الأنبياء والرسل في دعوة الناس إلى الله، فليس هناك إكراه على قبول الحقّ، ولا تهديد ووعيد وإجبار على تغيير معتقد وفكر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وما على الدّاعي إلا البلاغ المبين، والهداية بيد الله، ولم يكن الحوار منهج إبراهيم وحده بل منهج كل الأنبياء قبله وبعده، فقد تحاور نوح وهود وموسى وشعيب، وقصّ علينا القرآن محاوراتهم مع أقوامهم..

وجاء في القرآن الكريم حوار جرى بين رجلين أنعم الله تعالى على أحدهما بجنّتين، آية في الجمال وتنوّع الثمار، فسوّلت له نفسه فاغترّ بما عنده، وأنكر الإيمان والدّار الآخرة، فكان صاحبه المؤمن يحاوره بأدب، وينصحه بلطف، قال تبارك وتعالى: « قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً»، وفي نهاية القصّة ندم الرجل على ما اقترف، قال تعالى مخبرًا عنه: « يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً»، ونتعلّم من هذه القصّة أدب الحوار واللّين مع الآخرين، حتى لو كان المدعو فرعونًا، أما قال الله لموسى وهارون: « اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى  فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»..

ما أحوجنا إلى الحوار في حياتنا بدل لغة التهديد والوعيد، ما أحوجنا إلى الكلمة الطيّبة والنبرة الهادئة، علينا أن نعلمه أبناءنا وبناتنا، ونمارسه بآدابه وأخلاقه بين الأزواج والزوجات، وبين الآباء والأبناء، وبين المعلّمين والطلاّب..

ومن الناس من يفهم الحوار على أنه إملاء الرأي وفرضه بالقوّة، ولا يريد أن يسمع إلا صوت نفسه، وقد ذكر القرآن مثالاً لنوعية الحوار المثمر في مقابل فرض الرأي:

فرعون ما تحاور مع أحد من قومه، بل قال لهم: « مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ»، فكانت النتيجة أن هلك هو وجنوده.. أمّا بلقيس فإنها تشاورت مع قومها وقالت: « مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ»، فنجّاها الله وقومها من الهلاك وأسلمت بعد مع سليمان لله رب العالمين..

من أسباب نجاح أي حوار: الابتعاد عن الجدال بالباطل، لأنّه يستخدم لقلب الحقيقة من غير دليل ولا حجّة ولا برهان، قال تعالى: « وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِير»،  فالحوار الهادف ينجح بالحكمة وسبل الإقناع..

والحوار بالتي هي أحسن يستلزم احترام الآخر، والصبر عليه، وعدم مقاطعته أثناء حديثه أو تسفيه رأيه، كما يستلزم حسن الظنّ به والحرص على عدم تحويل الحوار إلى جدل وخصام، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».. وهذه صورة من صور تأييد الله للصحابة في ميدان الدعوة إلى الله بالحجّة الساطعة التي بهرت من استمعوا إليها، حتى وصفوهم بالعقل والحكمة، روى أبو نعيم في الحلية عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزل فأقمت عنده ليالي، ثم بعث إليَّ وقد جمع بطارقته فقال: إنّي سأكلمك بكلام فأحبّ أن تفهمه منّي، فقلت: تكلم، فقال: أخبرني عن صاحبك، أليس نبيًّا ؟! فقلت: بلى وهو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حين أخرجوه من بلده ؟! فقلت: عيسى ابن مريم، أليس نبيًّا ؟! قال: أشهد أنّه رسول الله، قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلّبوه أن لا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه في سماء الدنيا ؟! قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأبعث معك ببدرقة أي جنود وحرس يبدرقونك أي يؤمّنونك إلى مأمنك، قال فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جوارٍ، منهن أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواحدة وهبها رسول الله لأبي جهم بن حذيفة العدوي رضي الله عنه، وواحدة لحسان بن ثابت رضي الله عنه، وأرسل إليه بثياب مع طُرَف الطرفة ما يستطرف أي يستلمح والجمع طرف من طرفهم..

اللهمّ اجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، و بارك لنا اللهمّ في أبصارنا و أسماعنا و قدّرنا على توظيفهما فيما يرضيك يا أرحم الرّاحمين..

المصدر: http://www.essahafa.tn/wordpress/2014/07/03/%D8%A3%D9%87%D9%85%D9%8A%D9%...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك