في مديح التجربة كاختبار للمنظومة الأخلاقية
شكلت التجربة من حيث هي تطبيق عملي، أكبر اختبار للمنظومة الأخلاقيـة من حيث هي تذهين عقلي، إذ يتم إخضاع عالَم المعقولات، تحديداً ما تعلّق منه بالأخلاقيات؛ لاختبار تجريبي في عالَم الماديات، يتم التأكّد بموجبه من صدق هذه الأخلاق في تربية الإنسان واقعاً، عوضاً عن تربيته ذهناً. ففي التجربة تحدث -بعيداً عن المثاليات القَبْلية التي يمكن أن يتغنّى بها الإنسان، ويدعّي أنه يتمثلها أحسن تمثّل- السقطة المدويّة في الهاوية أو يحدث وفقاً لاعتباراتها الارتقاء القيمي لهذه المنظومة، وقدرة الإنسان على أن يجمع بين فضيلة كونه أخلاقياً، سواء في جانبه النظري أو في تطبيقه العملي.
ثمة شغف إنساني كبير بموضوعة الأخلاق على المستوى الذهني، بصفتها عتبة ارتقاء كبرى
في حالة السقوط في الاختبار، لا يتهشّم الإنسان تهشمّا معنوياً فقط، بل وواقعياً أيضاً. إذ يكون التبجّح بتلك النواظم محض طوبى، يتم الإدعّاء بطهرانيتها في الخيال، وقدرتها على تقديم حياة كريمة للإنسان والحفاظ عليه نظيفاً. لكن بمجرد اختبار هذه النواظم والتأكد من صدقها في الواقع المعيش، تنهار ولا يعود لها ثمة معنى، لا سيما إذا ما تعارضت مع مصالح مُدعِّيها على أرض الواقع.
وفي حالة الارتقاء لا تتعاظم المنظومة الأخلاقية تعاظماً معنوياً فحسب، بل وواقعياً أيضاً. إذ يكون الإنسان قد عبر طقس الاختبار الصعب، بما جعل منه صادقاً مرتين: مرة في الخيال، إذ أدعّى أنه خيِّر مثلاً؛ ومرة في الواقع ساعة طبّق تلك الخيرية أمثل تطبيق.
نعم، ثمة شغف إنساني كبير بموضوعة الأخلاق على المستوى الذهني، بصفتها عتبة ارتقاء كبرى، مرحلة ما بعد التصنيف الفلسفي للإنسان: "الإنسان حيوان عاقل". فالعبور الذي يتمثله المرء على المستوى الذهني، من خلال تبنّي حزمة من النواظم الأخلاقية وتذهينها عقلياً، هو عبور كبير في رحلة الارتقاء الإنساني. ففي نهاية المطاف، الإنسان ليس محض حيوان عاقل، أي أنه يُعقلن غرائزه فقط، بل هو أيضاً كائن يُخَلْقِن عقلانيتـه، أي يمنحها بُعداً أخلاقياً، ويرقى بها مرتقىً عظيماً. فالعقل أيضاً قد يتحوّل إلى أداة فتّاكة للتدمير والتخريب، والمصيبة الأكبر أنه يُدمّر ويخرّب هذه المرة بموجب قرار عقلاني! أي أنه ينتقل من مرحلة التدمير والتخريب العشوائي، الغرائزي، الفطري؛ إلى مرحلة التدمير والتخريب المُنظّم، العقلاني، الواعي.
ففي سعي الإنسان للانتقال من مرحلة الوعي العاقل إلى مرحلة خَلْقَنَة الوعي، ثمة إنجاز معرفي كبير، إذ يتحوّل العقل إلى حامل لمدونـة أخلاقيـة، تطبع الإنسان بطابع قيمي، ينفصل فيه انفصالاً أخيراً عن حيوانيته التي تبقى تركتها الهائلة تضغط عليه طالما هو في مرحلة العقلنة فقط. لكن هذا السعي، سيبقى في دائرة الطوبى الفكرية، إذا لم يتم اختباره في الواقع المعيش. ففي الأخير، شيء ضروري أن يختبر المرء قدرة قيمه العليا على أرض الواقع، أو بالأحرى قدرته على تمثّل قيمه العليا التي أنجزها في ذهنه في الواقع المعيش. إذ ليس من المعقول أن تبقى الأخلاق في دائرة المعقولات، كإثبات لقدرة الإنسان على التفلسف حول انشغالاته القيمية وتذهينها عقلياً، بل لا بد من امتحان تلك الأخلاق في عالم الماديات، ليتم إثبات جودة تلك الأخلاق أو عدم جودتها. فمن السهل على إنسان ما أو ثقافة ما أو دين ما أن يدعّي تمثّله لمُدونـة أخلاقيـة على المستوى التنظيري، لكن سيكون الاختبار الكبير لتكل المُدونة ومقولاتها على أرض الواقع.
لكن دائماً ثمة تحايل على التجربة، لناحية الهروب منها، بصفتها المعيار الذي تُقاس وفقاً لاعتباريته صمود المُدونة الأخلاقية في عالم الماديات، كما يدعّي تمثّلها في عالم المعقولات. فالهروب معيار آخر يسعى إليه المرء لغاية تأجيل نُطق الحُكم عليه أخلاقياً، وإذا ما اضطرّ إلى خوض التجربة وأراد الحفاظ على طهرانية مُدونتـه الأخلاقيـة كما هي في عالم المعقولات، تحديداً ساعة الإخفاق في تمثّلها التمثّل الأفضل في عالم الماديات، وتحوّل إلى كائن (ضد أخلاقي)، التجأ إلى الشيطان إنْ كان مؤمناً، لتحميله مسؤولية إخفاقه في تمثّل أخلاقه التمثّل الأفضل؛ ويظهر ذلك جلياً -إن أردنا أخذ مثال على حالة المتدين- في الإصحاح السادس من إنجيل متّى. أو يلتجئ إلى التبرير إن كان غير مؤمن، كما ظهر ذلك جلياً في تبرير الاستعمار من قبل الدول الكبرى، إن أردنا مثالاً على حالة غير المتدين.
الإنسان ليس محض حيوان عاقل، أي أنه يُعقلن غرائزه فقط، بل هو أيضاً كائن يُخَلْقِن عقلانيتـه
اذاً ثلاثة مستويات لـ ذمّ تجربة اختبار المُدونـة الأخلاقية في عالم الماديات:
المستوى الأول: الإبقاء عليها في عالَم المعقولات، والتغنّي بها تغنيّا خيالياً. فهي أرض بيضاء طالما أنها خارج إطار الامتحان الواقعي.
المستوى الثاني: الهروب من التجربة، ولربما تجلّى ذلك أكثر ما يتجلّى لدى المُتديِّن -أياً كان دينه-، من خلال الدخول في نظام رهباني أو متقشف أو اعتكافي، يبتعد فيه قدر الإمكان عن اختبار طهرانية في الواقع[1].
دائماً ثمة تحايل على التجربة، لناحية الهروب منها، بصفتها المعيار الذي تُقاس وفقاً لاعتباريته صمود المُدونة الأخلاقية في عالم الماديات
وثمة مثال واضح في هذا المقام، أعني مثال الرهبنة في الديانة المسيحية، إذ كانت تجربة الاعتزال تجربة للتأكيد على نظام الطهرانية الأخلاقية التي اقترنت بالرهبان والراهبات [بالتقادم تحوّلت سير الكثيرين منهم إلى سير مقدسة وذات طابع قيمي كبير]. وقد شفّت الجملة المُتداولة في أوساط المتدينين المسيحيين "اللهم نجنّا من التجربة" عن عميق الإحساس بالحفاظ على حالة الطُهر الأخلاقي، بعيداً عن أي ممارسة عملية. وشيئاً فشيئاً سيتعمق هذا الإحساس لدى المُترهبن، نظراً لاستناد معماره على بُعدٍ تأصيلي في النصّ الإنجيلي وضعه أمام حالة هروبية ابتداءً، فقد جاء في الإصحاح السادس من إنجيل متّى:
"أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك!
ليأتِ مَلَكُوتُك! لتكن مشيئتك على الأرض كما هي في السماء!
خُبزنا كَفَافَنَا أَعْطِنَا اليوم!
واغفر لنا ذُونوبنا، كما نغفر نحن للمذنبين إلينا!
ولا تُدخلنا في تجربةٍ، لكن نَجِّنا من الشرير، لأنّ لك المُلك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين".[2]
فثمة دعوة أصلية تُؤسّس لحالة الطُهر في عالَم المُثُل، بعيداً عن عالَم الواقع، بصفته واقعاً مُدنساً في الأصل. فعبارة "ولا تُدخلنا في تجربةٍ"، هي نوعٌ من الهروب الذي يلتجئ إليه المتدين، للإبقاء على حالته المثالية في تجليّها الأخلاقي. فهي بمعنى من المعاني؛ أعني عبارة "ولا تدخلنا في تجربة"، أو في صيغتها الأكثر تداولية على الألسن: "اللهم نجنّا من التجربة"، تموضع في عالَم المعقولات، وانسحاب من التجربة الإنسانية، إلا بالقدر الذي يؤكد طهرانية المتدين المبدئية، وهو قدر محسوم من اللحظة الأولى لناحية الهروب من التجربة.
أن يتم التأصيل لنواظم أخلاقية في عالَم المعقولات، فذلك إنجاز كبير على المستوى الذهني، لكنه سيكون وصمة عار مزدوجة في حال فشل الإنسان في تمثّل هذه النواظم في عالَم الماديات
المستوى الثالث: لكن في حال حدثت التجربة وأخْتُبرِت المُدونة الأخلاقيـة في عالَم الماديات، ثم حدثت فجوة كبيرة بين صيغتها المثالية وتطبيقها العملي، تمّ اللجوء إلى "الشيطان" بصفته المسؤول عن حدوث هذه الفجوة. فالصيغة النقية، الوضّاءة، العفيفة، الطاهرة، من الأخلاق المثالية، تعرضت لعملية تلويث وتدنيس على يد الشيطان. وهذا ما عبرّت عنه الجملة اللاحقة (= لكن نجنّا من الشرير) لجملة "ولا تُدخلنا في تجربة" في النصّ الإنجيلي. وهي هَهُنا، ليست جملة استدراكية في المتن الديني، بل هي جملة تأصيلية، فحضور الشيطان في العالَم ليس حضوراً طارئاً، بل يرقى إلى درجة الحضور الأقنومي. لذا فأي خلل في الصيغة النظيفة للحالة الطهرانية التي يتمثلها المتدين، هو خلل شيطاني بالأساس، وليس إخفاقاً في منظومة الأخلاق أو في مُتبنيها أو مُختبرها. وعيله فحضور الشيطان [= ثالثاً] هو ذمّ للتجربة، كما الإبقاء على المُدونة الأخلاقية [= أولاً] في عالَم المعقولات، والهروب من امتحانها [= ثانياً] ذمّ للتجربة أيضاً.
ولربما كان فعل "التبرير" [= ثالثاً أيضاً] للفشل المُتحقّق من اختبار المُدونة الأخلاقية على المستوى التطبيقي، من قبل غير المتدين؛ فعلاً موازياً أو معادلاً موضوعياً لوجود "الشيطان" بالنسبة للمتدين. فغير المُتدين الذي يلجأ إلى تبرير الفشل في تمثّل مدونتـه الأخلاقيـة وإخفاقه في امتحان الموازنة بين عالَم المعقولات وعالم الماديات، مُساوٍ للمتدين الذي يلجأ إلى الشيطان لتبرير حالة الفشل في اختبار مدونته الأخلاقية. فالإساءة التي تصدر عن إنسان يدعّي امتلاكاً لقيم أخلاقية على المستوى التنظيري، تصمه ابتداءً بوصمةٍ ضد إنسانية، لكن أن يذهب هذا الإنسان إلى تنزيه قيمه الأخلاقية تنزيهاً كاملاً، من خلال تحميل طرفٍ آخر أو ظرفٍ ما، مسؤولية الإخفاق في تمثّل هذه القيم أثناء الفعل التطبيقي، فذلك عمل وحشي، لأنه يلجأ إلى استخدام الأداة التي أدعّى الإنسان أنه انتقل بموجبها من مرحلة الحيونة إلى مرحلة العقلنة، فهذه المرة يستخدمها للتنظير للعودة إلى طور الحيونة، أي أنه صار حيواناً مرتين، بمعنى من المعانى. فأن تلجأ دولة إلى استباحة دولة ثانية تحت حجّة تطوريها أو تحضيرها، كما كان يطرح مرحلة الاستعمار العسكري، أو كما يُطرح الآن مرحلة ما بعد حقوق الإنسان، فذلك اختبار كبير في عالَم الماديات، للفساد الكبير الحاصل في عالَم المعقولات؛ تحديداً ما تعلّق منه بالقيم الأخلاقية. فأن يُؤصّل إنسان ما أو دين ما أو ثقافة ما، لنواظم أخلاقية في عالَم المعقولات، فذلك إنجاز كبير على المستوى الذهني، لكنه سيكون وصمة عار مزدوجة في حال فشل الإنسان -سواء أكان متديناً أم غير متدين- في تمثّل هذه النواظم في عالَم الماديات. لذا أفضل ما يمكن أن يكون عليه المرء على المستوى الأخلاقي، هو إخضاع قيمه الأخلاقية لاختبار حقيقي على أرض الواقع. ففي ذك الامتحان الشاق والعسير، يُختبر الإنسان أعظم اختبار، ففيه يمكن أن يتأكّد من تطوّر سلاسلة الوحش الكاسر الذي يسري بين جنبيه، حتى وهو يدعّى أعلى المُثُل، أو يتأكدّ من سلامة خلقه الذي يرتقى به مرتقىّ عظيماً، يتجاوز حدود تصنيفه ككائن عقلاني، أعني تصنيفه ككائن أخلاقي عملي.
[1] من الأمثلة على ذلك هروب الصائم المسلم من استحقاق التجربة الحقيقية لصيامه. فثمة إكراه يتجلّى بإغلاق المطاعم والمقاهي والبارات والمراقص في شهر رمضان، تحت حجّة احترام مشاعر الصائم. في حين أن الاختبار الحقيقي لا يكون بإكراه الآخرين على تمثّل حالة الصائم بمراعاة مشاعره، بل بقدرته على اختبار صدقه وصبره وهو يسير في وضح النهار بين المآكل والمشارب، لكن يلجأ إلى الهروب خشية من اختبار قيمه التي قد تنهار إذا ما خضعت لمقتضيات الاختبار.
[2] إنجيل متّى، الإصحاح السادس، جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى، 1975، ص 10.
المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D8%AD-...