الحوار الحضاري... بين الصراع والتدافع

د. سعيد حارب

 

هناك علاقة جدلية بين الصراع والحوار الحضاري، فكلما تراجع الحوار حل الصراع محله، وكلما تقدم الحوار تراجع الصراع عن المقدمه، إذ أن العلاقات الإنسانية لا بد وأن تمضي في أحد السبيلين، ولا مفر من اتخاذ أحدهما بناء على معطيات وأسباب ومؤثرات عدة.



وإذا كانت العلاقات البشرية قد تداخلت في عصرنا بحيث أصبح من الصعب عليها أن تأخذ طريقة واحدة (صراع - أو حوار) فإن الأسباب الدافعة لذلك بقيت وستبقى ملازمة للوجود الإنساني، ترتفع تارة وتنخفض أخرى، مؤدية إلى أحد هذين السبيلين، وقد شهد التاريخ الإنساني نماذج كثيرة على ذلك، كان الصراع هو السائد في أغلبها على الرغم من فترات ساد فيها الحوار بين الأطراف المتعددة في فترة من الزمن، ولقد كانت فترة الحضارة الإسلامية نموذجاً للحوار الإنساني. فعلى الرغم من الصراع الذي بدأت به شعوب الأرض علاقتها بالإسلام فكان الموقف العدائي منه ومحاربته، ورفضه من قبل الأطراف الكبرى الممثلة للمجتمعات الإنسانية، والتي برزت وقتها في دولتي الروم والفرس، إلا أن الحضارة الإسلامية سريعاً ما احتوت ذلك الصراع بل احتوت الشعوب التي كانت في صراع معها، سواء انحازت هذه الشعوب للإسلام ذاته ودخلت فيه وأصبحت جزءاً من بنائه الحضاري أم بقيت على مكنونها العقدي واختارت البقاء خارج دائرة الإسلام "الديني"، لكنها قبلت بأن تكون جزءاً من ثقافته وحضارته كتلك الشعوب غير الإسلامية داخل البناء الحضاري الإسلامي التي انصهرت وأصبحت هذه الحضارة معبرة عنها بصورة عامة.



لقد كانت تجربة الحضارة الإسلامية أوضح التجارب في حوار الحضارات حين دخلت إلى مجتمعات وشعوب لم تكن جزءاً منها في يوم من الأيام، لكن تلك الشعوب استوعبت الإبداع الحضاري الإسلامي واحتضنته، وجعلته جزءاً من حضارتها، بل أضافت هي إسهامها الإنساني في الحضارة الإسلامية، وهذا ما تشهد به الحضارات الإنسانية الأخرى، ولعل الغربية منها في مقدمة الحضارات التي اكتسبت ذلك الإبداع ثقافة معلومات ومعارف، إذ تمتلئ ثقافة بعض الشعوب الغربية بمفردات وأعراف وتقاليد تعود في جذورها إلى الحضارة الإسلامية.



ويعترف عقلاء الغرب بأثر الحضارة الإسلامية في حياتهم، وبأنها البوابة التي دخلوا منها إلى الحضارة الإنسانية، لذا فإن بناء الثقافات والتواصل الحضاري، لا يمكن أن ينشأ في ظل الصراع، إذ أن حالة الصراع تفرض تصوراً عقلياً رافضاً لما عند الآخر، لأنه يعتبر ذلك موقف استلاب وانهزام منه، وعلى الرغم من مقولة ابن خلدون المشهورة:"إن الأمم المغلوبة تتبع للأمم الغالبة"، فإن هذه المقولة ليست على إطلاقها، فهي وإن عبرت عن إعجاب الأمم المغلوبة بالأمم الغالبة، فإن ذلك الإعجاب ليس ناشئاً من كون تلك الأمم "غالبة" فقط بل يأتي الإعجاب بها حين تكون غلبتها قائمة على تقدم علمي أو تفوق عسكري أو سيادة نظم إنسانية متفوقة لديها، إذ النفس البشرية المهزومة لا تقبل- فطرة- أن تعجب بعدوها وقاهرها، إلا أن يحدث تحول جذري بحيث تنقلب هذه الأمم من حالة العداوة إلى حالة الانصهار مع القوة الغالبة، وتصبح جزءاً منها، وهذا نادر الحدوث، لكن الغالب أن المهزوم لا يحب عدوه، ولذا فإن الصراع الحضاري لن يؤدي إلى تواصل أو مثاقفة، وبناء ثقافة مشتركة لأن السبيل الوحيد لذلك هو الحوار الذي ينتج عن فهم دقيق للآخر، واحترام الثقافة وخصوصيته واختياره لقيمه ومفاهيمه وتصوراته، ثم البحث عن المشترك بين هذه الثقافات وهو قاسم إنساني كبير إذ أن الإبداع الحضاري الإنساني بمجمله إبداع تراكمي مشترك، أسهمت كل حضارة بنصيب وافر منه.



ولذا فلا يمكن لحضارة ما أن تزعم أنها صاحبة الفضل الوحيد في الحضارة الإنسانية، كما أن طريق التواصل الحضاري لا يكون باتجاه واحد فقط، إذ أنه تفاعل بين الثقافات والحضارات الإنسانية وذلك لا يتم إلا باتجاهين راغبين في أن يتواصلا مع بعضهم البعض دون استعلاء، لأي منهم ودون نظرة دونية لطرف تجاه طرف.



ولعل من العوامل المؤثرة في ذلك الرغبة الصادقة لدى كل طرف، وتجاوز الإرث التاريخي لمراحل الصراع بين الحضارات، والذي يمكن أن يشكل عائقاً رئيسياً للحوار الحضاري، وفتح أبواب المعرفة بين الطرفين بحيث تصبح رؤية كل طرف للطرف الآخر نابعة من حقيقته، لا من ما ينقل عنه أو يقال عنه، ويأتي حكمه على الآخر من خلال معرفته به، وبهذا تستطيع الشعوب أن تتعارف وتتواصل مع بعضها، لكننا يمكن أن نتصور الصراع الحضاري بصورة أخرى، وهي الصورة الإيجابية أي أن يكون الصراع الحضاري بمعنى "التدافع"، أي أن تتفوق أمة من الأمم علمياً وثقافياً فيدفع ذلك أمة أخرى إلى أن تبذل جهداً أكبر لتحصل على مستوى علمي وثقافي أعلى من سابقتها، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ " وهذا طريق سلكته الأمم في السابق ومازالت إلى اليوم في هذا التدافع الذي أطلق عليه المؤرخ "توينبي" نظرية التحدي والاستجابة، وهو سر التقدم الذي نراه اليوم لدى الدول المتقدمة.



إن العلاقات الإنسانية المعاصرة مازالت تتراوح بين الصراع والتدافع، وعليها أن تختار إما الصراع المدمر، أوالتدافع البنّاء. وهذا مالم يتحدد بعد!

المصدر: https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/66288/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك