صورة أوربا عند رحالة أندلسيين
صورة أوربا عند رحالة أندلسيين
شمس الدين الكيلاني*
لم تقتصر الرحلات العربية إلى أوربا، على تلك الرحلات والسفارات المنطلقة من أراضي الخلافة العباسية في المشرق، بل كان هناك ما يماثلها من رحلات انطلقت من بلاد الأندلس الخاضعة آنذاك لحكم الأمويين، فقد أقام الخلفاء الأمويون صلات مستمرة مع البيزنطيين خصوم منافسيهم العباسيين، وتبادلوا الرسل والسفارات، حيث جاءت السفارات من القسطنطينية إلى قرطبة حاضرة الأندلس الأموية، يطلبون ود الأمويين للضغط على خصومهم المشتركين الفرنجة خاصة في عهد شارلمان، وبلغت العلاقات السياسية أوجها بين القسطنطينية وقرطبة في عهد الإمبراطور قسطنطين السابع والخليفة الأموي الكبير عبد الرحمن الناصر الذي كان ملكه في غاية الضخامة ورفعة الشأن، فقد طلب مهادنته وبادله الهدايا والرسائل الكثير من ملوك الروم والإفرنج و"المجوس"، ومن جملتهم صاحب القسطنطينية الذي هاداه ورغب في مودته(1).
وفي صفر سنة 338هـ-949م وصلت سفارة الإمبراطور قسطنطين السابع إلى الأندلس، فاستقبلت استقبالاً حافلاً في بلاط عبد الرحمن الناصر، بالمقابل بادله عبد الرحمن الناصر السفارة؛ ولم تقتصر علاقات الأندلس الأموية على القسطنطينية أو بلاد الفرنجة، بلاد الغال، أرض فرنسا فحسب، وَإِنَّمَا امتد نشاطها الدبلوماسي إلى الجزر البريطانية والجزر المجاورة، وبعد أن استوطنتها شعوب الشمال (النورماندية) المهاجرة، فظهروا على المسرح السياسي الأوربي، وأحدثت هجماتهم المفاجئة لجيرانهم الذعر في النفوس، وتعددت إغاراتهم، فلم تقتصر على المدن الساحلية الخاوية، إنما امتدت إلى المدن الداخلية فضغطوا على الفرنجة، حتى وصلت غاراتهم إلى باريس وغيرها من جهات غرب أوربا، ثم امتدت إلى أن وصلت إلى بلاد الأندلس، بعد أن صارت هدفاً لهم، وساعدهم على ذلك استعانتهم بالأنهار، فكان أول هجوم للنورمان على بلاد الأندلس سنة 230هـ-844م، بطريقة مباغتة أذهلت الأندلسيين العرب الذين لم يعرفوا عن النورمان شيئاً من قبل، وقد سموهم لاحقاً باسم "المجوس" وهي تسمية أطلقها العرب المسلمون على عبدة النار، وذلك لأن النورمان كانوا آنذاك وثنيين لم يعتنقوا المسيحية، يشعلون النار أينما ذهبوا(2).
وصارت إشبيلية وقادش وقرطبة هدفاً لهم، بسبب ما اشتهرت به تلك المدن من غنى، فوصلوا إلى إشبيلية حيث انتشرت سفنهم بأشرعتها السود في مجرى النهر، وانتشروا في ضواحي المدينة ونهبوها، وبالنهاية نجحت خطة الأندلسيين العرب في تحطيم سفن النورمان أثناء عودتهم من إشبيلية، وانتهى الأمر بينهما بالصلح وتبادل الأسرى، واضطر النورمان إلى التوقف عن الإغارة على الأندلس، وقد تمخض عن تلك الغارة ازدياد الدبلوماسية الأندلسية إلى أن امتدت إلى الجزر البريطانية التي غدت مركز النورمان، وتطلعوا إلى معرفة أحوال النورمان وأوضاعهم، وإلى تهدئة الأمور معهم، بالمقابل فقد أدرك النورمان مدى قوة العرب الأندلسيين، وكان ملكهم آنذاك اسمه تورجايوس ويقيم في شمال إيرلندا التي اتخذها مقراً يدير منها سائر شؤون الجزر البريطانية، فأرسل سفارة إلى أمير الأندلس (عبد الرحمن الأوسط) عقب إخفاق غارته، فتلقاها الأمير الأندلسي بالترحاب عله يتجنب مخاطرهم، وليستعين بهم ضد دولة الفرنجة في بلاد الغال (فرنسا)(3).
بالمقابل أعدَّ الأمير عبد الرحمن سفارة لترافق سفارة النورمان أثناء عودتها لعقد الصلح، فانتدب لسفارته يحيى الغزال الذي اشتهر بـ"حكيم الأندلس وشاعرها".
ولعلَّ أقدم الرحلات الرسمية المحفوظة لنا بعض أخبارها عن طريق آخرين، ولم تدوَّن عن طريق صاحبها، هي رحلة سفارة يحيى بن الحكم البكري (153-250هـ/ 770-864م) الملقب بالغزال لجماله، بعثه عبد الرحمن بن الحكم أمير قرطبة سفيراً مرتين: أولها: إلى القسطنطينية ضمن وفد لعقد معاهدة صلح مع الإمبراطور توفيل؛ والثانية: إلى الشمال إلى جتلاند Jutland، فيما يبدو لمفاوضة النورمان الذين كانوا قد أغاروا –كما ذكرنا- على الأندلس ونهبوا إشبيلية، وقد حفظ ابن دحية والمقري، وغيرهما من مؤرخي الأندلس بعض أخبار هاتين السفارتين، كما أشار إليهما الغزال نفسه، في بعض شعره(4). ولقد حفظ لنا أخبار سفارته إلى القسطنطينية ابن دحية مؤرخ الأندلس في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي. أما الرحلة الثانية فيرويها لنا في القرن السابع عشر الميلادي المقري في (نفح الطيب).
ينحدر الغزّال من أسرة عربية عريقة، وكان معروفاً بعلمه الواسع وبإتقانه لعدة لغات، وبشهرته كشاعر كبير، ويذكر المقري عن ابن حيان قوله عن الغزال في "المقتبس": "كان الغزال حكيم الأندلس، وشاعرها، وعرّافها"(5)، وهو ما جعل الأمير عبد الرحمن يقع اختياره عليه، لإرساله إلى ملك النورمان، حاملاً رسالته إليه مصاحباً سفارة ملك النورمان في طريق عودتها من رحلتها إلى أمير الأندلس، ففي أواخر صيف سنة 845م أوائل سنة 221هـ حمَّل الأمير عبد الرحمن مركباً بالهدايا إلى ملك النورمان، كما حمَّل الغزّال خطاباً إلى ذلك الملك في جوتلند، وكان عمر الغزال عندما أرسِل إلى ملك المجوس قد قارب الخمسين، وقد وخَطه الشيب(6).
وبعد أن غادر الغزّال أرض الأندلس (إسبانيا) ودخل بحر المانش هاج ذلك البحر، وهم في شهر سبتمبر فقاسى الغزال كثيراً من دوار البحر، وتولاه الفزع على صحبه(7)، كما يقول ابن دحية "فَلَمَّا حاذوا الطرف الأعظم الداخل في البحر الذي هو حدّ الأندلس في آخر الغرب، وهو الجبل المعروف بألويه، هاج عليهم البحر، وعصفت بهم ريح شديدة، وصلوا في المد الذي وصفه الغزال في قوله:
قـال لي يحـيـى وصر نـا بين مـوج كالجبال
وتـولـتـنـا ريـاح من دبـور وشـمال
شـقّت القلعين وانــ ـبتّت عرا تلك الحبـال
وتمـطى ملك الـمـو ت إلـيـنـا عن حـيـال"(8)
وبعد تلك الرحلة البحرية الشاقة وصلت سفينة الغزال وسفينة النورمان إلى إحدى الجزر الصغيرة الغربية من إيرلندا، فأقاموا فيها أياماً، وأصلحوا مراكبهم، ثم تقدّمت سفينة النورمان إلى مقر الملك لتخبره بوصول سفارة المسلمين، وكما يروي ابن دحية عن الغزال: "وتقدم مركب المجوس إلى ملكهم، فأعلمه بلحاق الرسل معهم، فسُر بذلك"(9) وسمح الملك للوفد بالقدوم، فمشوا إلى مستقر ملكه، ونزلوا في جزيرته، ولقد كان ذلك قبل مائة عام من اعتناقهم المسيحية(10)، فوصف الغزال تلك الجزيرة، مع أهلها المجوس، فيقول: "وهي جزيرة عظيمة في البحر المحيط، فيها مياه مطّردة وجنات، وبينها وبين البر ثلاث مجار، وهي ثلاثمائة ميل، وفيها من المجوس ما لا يحصى عددهم"(11). ثُمَّ يتحدث عن جوارهم البعيدين عنهم مسيرة عشرة أيام في البر، الذين كانوا مجوس ثم تحولوا إلى المسيحية، إلا بعضهم بقي على المجوسية كما هم أهل جوتلند، يقاتلون القبائل المسيحية، فنرى بكل وضوح تفضيل الغزال للمسيحيين على المجوس دينياً، فهم حسب عقيدة الإسلام (أهل كتاب)، ولا يبيحون لأنفسهم (الحرام) كما يبيحه المجوس، وهذا ما يظهر بوضوح في وصفه لمحال الجزيرة ولأهلها ولجيرانهم، وما يقاربهم من المسيحيين حين يقول: "وما يليهم من البر لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية وقد تركوا عبادة النار... إلا أهل جزائر منقطعة لهم في البحر، هم على دينهم الأول من عبادة النار"، ويعرف الغزال من قبل ككل عربي مسلم أن المجوسية متخففة من القيود الأخلاقية، ويفتقرون إلى (الحرمات) التي اعتادها الغزال في ثقافته، مثلهم في ذلك مثل النساء الشماليات المجوس كالتركيات، والصقالبيات، والبلغاريات، إذ ترتبط هذه الحرية بالوثنية التي لا تلزم المرأة بالارتباط برجل واحد جنسياً، وهو ما يجد تأييده لديهم في مشاهداتهم، فيقول الغزال: "هم على دينهم الأَوَّل من عبادة النار، ونكاح الأم والأخت وغير ذلك من أصناف الشنار"(12).
بعد هذا يواجه الغزال موقفين خطيرين: أولهما: يتعلق بمدى تمسكه بمهابة الدولة والأمة اللتان يمثلهما، وباختيار عقيدته التي لا تبيح له أن يسجد لغير الله، فقد اشترط الغزال على الملك، منذ البداية، ألا يطلب منه شيئاً يُخرجه عن تقاليده العربية الإسلامية، أو يتنافى مع تعاليم دينه، لهذا اشترط الغزال على الملك "ألا يسجد له ولا يخرجهما عن شيء من سنتهم، فأجابهم إلى ذلك"، إلا أن الملك أراد أن يحتال على الغزال، وذلك بأن يجعله يضطر، بطريقة ملتوية، ليسجد إليه، إذ دعاه ورفيقه ليدخلا إليه، وأمرهما بالدخول في مدخل "يضيق حتى لا يدخل عليه أحد إلا راكعاً"، فما كان من الغزال إلا أن احتال على الأمر "فجلس على الأرض وقدَّم رجليه وزحف على إليته زحفاً، فلما جاز الباب استوى واقفاً"، وكان الملك قد هيئ صالونه بالسلاح والزينة الكاملة "فما هاله ذلك ولا ذعره، بل قام ماثلاً بين يديه، فقال: السلام عليك أيها الملك، وعلى من ضمَّه مشهدك، والتحية الكريمة لك، ولا زلت تمتع بالعز والبقاء والكرامة الماضية بك إلى شرف الدنيا والآخرة، المتصلة بالدوام في جوار الحي القيوم، الذي كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه المرجع"(13).
فكان الغزال حريصاً على إظهار مهابته كممثل لأمة الإسلام، بقدر حرصه على إظهار عقيدته في التوحيد الإسلامي، حتى أمام ملك مجوسي، فما كان بالملك الذي فسَّر له المترجم كلام الغزال إلا أن عبر عن إعجابه به، وبما يمثله ويرمز إليه من حضارة العرب المسلمين، فقال الملك: "هذا حكيم من حكماء القوم، وداهية من دهاتهم"، وعجب من جلوسه إلى الأرض وتقديمه رجليه في الدخول وتجاوزه لاختبار إذلاله، إذ قال الملك "أردنا أن نذله، فقابلنا وهو هنا بنعليه، ولولا أنه رسول لأنكرنا ذلك عليه"(14). وقدّم الغزال كتاب أميره إلى الملك، فاستحسن الملك الرسالة بعد أن عرف معناها، كما أعجب بهدية أمير الأندلس المشتملة على "الثياب والأواني"(15)، وخصص للغزال ورفاقه منزلاً يقيمون به، ووسع الجراية عليهم، ويروي لنا الغزال كيف أثبت تفوقه في كل المجالات هناك، إذ كان له مجالس مذكورة، وجادل علماءهم "فبكّتهم، وفي بعضها ناضل شجعانهم فأثبتهم" وكل هذا دلال على تفوق حضارته، وعز مكانتها.
أما الموقف الثاني الذي واجهه الغزال، فهو يتصل بعلاقته الغامضة الطريفة مع زوجة الملك، الذي أثار إعجابها وحبها، وأثارت حبه وإعجابه، وهو الشاعر الرقيق القلب، إلا أن هذه العلاقة كشفت تباعد قيم المرجعيتين الثقافيتين: ثقافته وثقافة أوربا الشمالية المجوسية، فكان لقاء يتخلله مفاجآت وفجوات بين مرجعيتين للقيم. إذ لما سمعت زوجة ملك المجوس بذكر الغزال، وتفوقه، دعته لتراه، فلما دخل إليها سلَّم ثم شخَّص فيها طويلاً بإعجاب، فسألته عن طريق الترجمان عن سبب إدمان نظره، ألفرط استحسان أم لضد ذلك؟ فقال: "ما هو إلاَّ أني لم أتوهم (أتصور) أن في العالم منظراً مثل هذا... لأن الحسن الذي لها والصفات المناسبة ليس يميزه أحد إلا الشعراء، وإن أحبت الملكة أصف حسنها وحسبها وعقلها في شعر يروى في جميع بلادنا، فعلت ذلك"، فسرَّت الملكة بذلك سروراً عظيماً "وأمرت له بصلة" (أي هدية) لكنه رفضها، فسألته عن طريق الترجمان: لِمَ لا يقبل صلتي؟ ألأنه حقّرها أم لأنه حقرني؟ فقال الغزال: "إن صلتها لجزيلة وإن الأخذ منها لتشرّف لأنها ملكة بنت ملك، ولكن كفاني من الصلة نظري إليها وإقبالها عليَّ، فحسبي بذلك صلة" فازدادت سروراً وعجباً، وأمرت أن يتصل بها "ومتى أحب أن يأتيني زائراً فلا يُحجب، وله عندي من الكرامة والرحب والسعة"(16).
ويروي تمام بن علقمة عن الغزال قوله عن الملكة "لقد كانت فيها حلاوة، ولكني اجتلبت بهذا القول محبّتها، ونلتُ منها فوق ما أردت"(17). ويروي الغزال أن زوجة ملك المجوس وتدعى (نود) أولعت به، فكانت لا تصبر عنه يوماً حتى توجّه فيه (أي: تستدعيه) ويقيم عندها يحدثها بسير المسلمين وأخبارهم وبلادهم، وبمن يجاورهم من الأمم. وسألته يوماً، وقد وخطه الشيب، عن سنه، فقال لها مداعباً: عشرين سنة، فقالت له عن طريق الترجمان: ومن هو من عشرين سنة يكون به هذا الشيب؟ فقال لها: وما تنكُّر الملكة من هذا؟ ألم تر مهراً ينتج وهو أشهب؟ فضحكت (نود) وأعجبت بقوله، فقال في ذلك الغزال:
كلـفـت يـا قـلبي هوى متـعبا غـالـبـت منه الضـيغم الأغـلبا
إني تـعـلـقـت مـجـوسـية تأبى لشـمـس الحسـن أن تغربـا
أقـصـى بلاد الله لي حـيـث لا يلقى إليـهـا ذاهـب مذهـبــا
يا نـود يا ورد الـشـبـاب التي تـطـلـع من أزرارها الكوكـبـا
يأبى الشـخص الـــذي لا أرى أحـلـى على قلبي ولا أعـذبــا
إن قـلـت يومـاً إن عيـني رأت مشـبـهـه لم أعـد أن أكـذبـا
قالت أرى فـوديـه قــد نـورا دعـابـة تـوجـب أن أدعـبـا
قـلـت لـهـا: مـا بـاله إنـه قد ينتج المهر كراً أشـهـبــــا
فاستضحكت عجباً بقولي لـهــا وإنمـا قـلـت لكي تـعـجـبا(18)
فازداد تعلق (نود) به، فقلما انصرف يوماً من عندها إلا اتبعته بهدية تلطفه بها من ثياب أو طعام أو طيب، حتى شاع خبرها معه، وأنكره أصحابه، وحذروه من عقابيل حبه، فتقاعس عند ذلك عن زيارتها، فباحثته عن ذلك، فصارحها بمخاوفه من نتيجة اتصالهما ببعضهما، فما كان إلا أن تبين تغاير أخلاقهم عن أخلاق النورمان المجوس، وقيمهما... ولا سيما فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة، وتخفّف المرأة عندهم من الضوابط التي ألفها الغزال في بلاد الإسلام، فعندما صارحها بخشيته عليها وعلى نفسه، من انكشاف حبهما "ضحكت" مستهينة بالأمر، وقالت له: "ليس في ديننا نحن هذا (أي تحريم للعلاقة الجنسية خارج المؤسسة الزوجية) ولا عندنا غيرة، ولا نساؤنا مع رجالنا إلا باختيارهن، تقيم المرأة معه (أي الرجل) ما أحبت، وتفارقه إذا كرهت. وأن عادة المجوس قبل أن يصل إليهم دين رومية (المسيحية)، ألا يمتنع أحد من النساء على أحد من الرجال، إلا أن يصحب الشريفة الوضيع، فتعّير بذلك"(19). ولما سمع الغزال من قولها عادت لقاءاته بها، ثم انفصل الغزال عنها لاضطراره للرحيل إلى بلاده، بعد أن أقام في بلاد النورمان شهرين، رجع ليحدثنا عن تجربته العاطفية، وليعطينا صورة عن حال النورمان في الفترة قبل المسيحية، وليضيء لنا ولغيرنا وصفاً إثنوغرافياً للحالة الدينية والاجتماعية، وما يجاورهم بما يتضمنه ذلك من عادات وسلوك اجتماعي ودين وطقوس، في ظروف لا تزال غامضة من تاريخ الجزر البريطانية والإيرالندية والإسكندنافية ما قبل المسيحية، ولعل إقامته في جوتلند قد امتدت أكثر من ثلاثة أشهر، ودامت رحلته ذهاباً وإياباً ما يقارب العشرين شهراً.
رحلة إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي في عام (354هـ-965م):
أرسل خليفة الأندلس في قرطبة في عام 354هـ-965م، إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي في سفارة إلى أوتو Otto في مجديبرج (Magdeborg)، فخرج من الأندلس (إسبانيا) وسار في محاذاة المحيط الأطلسي وبحر الشمال، ماراً على بوردو وروان وأترخت، ثم عبر شازفيج إلى بادربورن، وسست، وفلدا إلى ماينز. وكان إبراهيم عالماً يهودياً أندلسياً أو ابناً للثقافة العربية الإسلامية، اشتغل بتجارة الرقيق، وقد أورد معلومات واسعة عن إمارات الصقالبة في أوربا الوسطى، وتفاصيل وافية عن المدن الساحلية والغربية من الساحل الفرنسي والهولندي والألماني، وتحدث عن بلغاريا وبولندا وشيكوسلوفاكيا، وإمارة ناكون الأبدريني(20).
والطرطوشي لم يكن تاجراً فحسب، بل كان من المولعين باقتناء الكتب، وخبيراً ماهراً بأنحاء إسبانيا وفرنسا وألمانيا وبلاد الصقالبة الغربيين، وكان شخصاً دقيق الملاحظة؛ أما وصف رحلته فلم يبق منه سوى شذرات عُرفت منها الأقسام الخاصة بألمانيا والصقالبة/ السلاف، وهي التي حفظها لنا البكري والقزويني والعذري، وانتقلت منهم إلى مؤلفين آخرين فيما بعد، مثل ابن سعيد الغرناطي وأبو الفداء والدمشقي(21).
ولعلَّ العلاقات الناشئة بين أمير قرطبة وأوتو الأكبر رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة هي التي هيأت الظروف والأغراض لرحلة الطرطوشي هذه. فلقد تبادل عبد الرحمن الناصر الأموي الأندلسي الرسائل مع أوتو الأكبر (936-973م) "ملك الصقالبة" إمبراطور ألمانيا الذي أصبح عام 962م إمبراطوراً للدولة الرومانية المقدسة، حيث أرسل أوتو سفارة إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر، بهدف وقف إغارات بعض القبائل العربية على مملكة البروفانس، بالمقابل فإن عبد الرحمن الناصر أرسل إلى أوتو سفارات لإنشاء علاقات سياسية بينهما، وكانت إحدى تلك السفارات برئاسة أسقف أندلسي، مزوداً بكتاب باللغة العربية، احتوى على نقاش حول التثليث، وقد وافت المنية هذا الأسقف وهو في الطريق، وقيل أن أوتو اعتبر هذه المناقشة للتثليث إهانة له، فأساء معاملة المبعوثين، وبعد قليل أرسل أوتو رسولاً برئاسة جان دي جورتزا (Jean De Gorza) الذي وصل قرطبة سنة 345هـ-956م، ولكن كتابه تعرَّض فيه للرسول العربي بالإساءة، فما كان من الخليفة الناصر إلا أن أبقى هذا الوفد تسع سنوات محتجزاً، مقابل احتجاز أوتو لسفارة الأندلس لثلاث سنوات؛ وأرسل كتاباً مع رجل مسيحي يسمى ريسمند يطلب منه تغيير كتابه الأول، وقد نجح هذا الرسول في مهمته، فاستبدل أوتو كتابه بكتاب آخر وصل بعد ثمانية عشر شهراً من وصول كتابه الأول، فسمح عندها الخليفة لـ(جورتزا) بمغادرة الأندلس(22).
وفي هذا السياق تأتي سفارة الطرطوشي، وزيارته إلى الإمبراطور أوتو، حيث نزل عنده ضيفاً ورسولاً للخليفة الأندلسي في (مغدبورغ) فكانت رحلته الطويلة التي عبرت وسط أوربا وشمالها، وهي التي تشكل اليوم أجزاء من بولونيا والتشيك والسلوفاك والمجر وألمانيا وأوكرانيا. ويذكر ابن العبري أن الطرطوشي قابل أيضاً ملك الروم برومية (روما) في عام 350هـ-961م، وهو البابا يوحنا الثاني عشر (955-964م)، وكان بصحبته ربيع بن زيد الأسقف القرطبي (ريسموندو Recemundo)، وقد كتب هذا الرجل رسالة للحكم المستنصر ابن الخليفة القرطبي عبد الرحمن الناصر عن رحلة قام بها إلى ألمانيا أيام الإمبراطور أوتو الكبير، واحتفظ لنا البكري بجانب كبير من هذه الرسالة.
والقطعة التي أوردها البكري من رسالة الطرطوشي تصف رحلته إلى شرق أوربا، وكيف عبر الأدرياتيكي ووصل إلى بلاد "صقالبة الغرب"، وزار براغ وشرقي ألمانيا، ووصل إلى مغدبرج حيث كان يقيم الإمبراطور أوتو، وهناك التقى مع أعضاء سفارة من عند ملك البلغار، ثم سار بحذاء نهر الألب، ومضى في بلاد الصقالبة حتى وصل إلى شفارن (Schwerin) على مقربة من البحيرة المسماة بهذا الاسم. وإذا كان من الصعوبة بمكان تتبع خط سيره على وجه الدقة؛ لأنَّ أسماء الأمكنة التي أوردها محرّفة تحريفاً شديداً، إلاَّ أن المعلومات التفصيلية التي يقدمها عن بلاد الصقالبة تبقى ذات أهمية كبرى بالنسبة لتاريخهم، وخاصة الغربيين منهم، كما أن بعض المحققين استطاع إيجاد صلة بين الأسماء وأصحابها من المدن والأماكن، فاسم مغدبروغ ورد عنده "مادي فرغ"، وبوهيميا Bohmen وردت بويمة، والنورمان ورد المرمان، والبشكة تعادل Vavcu، والبرتونيوبون هم Bretones، وإلى ما هنالك.. فتبين بعد المقارنات والتحقيق القيمة الحقيقية لما تركه لنا الطرطوشي من الناحية الجغرافية والتاريخية لتلك البلدان التي زارها(23).
وكان من الطبيعي أن تجتذب معلومات رحلته النادرة اهتماماً خاصاً من جانب العلماء الألمان والسلاف، الذين خصصوا له أبحاثاً كثيرة ومتنوعة(24). وكان وصف رحلته أقرب إلى مصنفات البلدان، وكتب المسالك والممالك، فهو يذكر البلدان، ويصفها ويعدد حاصلاتها ومتاجرها، ثم يذكر الطرق ومسافاتها بالأميال، ويتخلل هذا الوصف معلومات هامة عن الأحوال الاجتماعية والسياسية(25). وقدَّم لنا معلومات نادرة عن شكل الملك والحكم والدين والعقائد والأعراق، وعادات الزواج والدفن، وبناء البيوت، والتجارة، والمحاصيل الزراعية، والطقس وتأثيره على السكان وطريقة مقاومتهم له.
الصقالبة (السلاف):
لقد زار الطرطوشي بلاد ما يسميه الصقالبة (السلاف)، في عام 965م، ورسم عن حياتهم صورة حية، ورغم أن ما كتبه يأتي بعد نص ابن فضلان بخمسين سنة، وبعد المسعودي الذي سنأتي على ذكره، فإن نصه يحتفظ بحيويته وقيمته.
والصقالبة عند الطرطوشي من أبناء ماذاي بن يافث، ومساكنهم ومستقرّاتهم "من الشمال إلى أن تتصل بالمغرب، أي من البحر المحيط في الشمال بحر البلطيق، إلى البحر المحيط (الأطلسي)، فبلادهم كما يشير متصلة بالبحر الشامي (المتوسط) إلى البحر المحيط الشمالي (البلطيق) إلى الشمال، فهي بلاد واسعة، وسكنوا بين قبائل الجوف (الشمال)، وهم أجناس كثيرة مختلفة، على الرغم من أنهم كانوا قديماً يجتمعون تحت سلطة ملك اسمه (ماخا) الذي يسميه المسعودي ماجك، وهو من أرومة أو جنس يُدعى ولينانا (Wolynjane)، وهو جنس أو أرومة معظَّمة لديهم ومبجلة، ثم اختلفت كلمتهم فزال نظامهم الذي كان يوحدهم، وتخربت روابطهم، فملك كل جنس منهم ملك(26). فهم ينقسمون، حسب الطرطوشي، إلى أربعة ممالك، المملكة الأولى على رأسها ملك البلغاريين، وهم البلغار. ومملكة أخرى وأهم مدنها فراغة وهي براغ الحالية (Prague)، وبويمة وهي بوهيمية الحالية (Bohemia)، وهما فيما عُرف بشكسلوفاكيا، وكركو أي كراكوفا (Cracow)، وملكهم بويصلاو أي بولسلاف الأول (929-967م) Boleslas. والمملكة الثالثة وتضم بلاد الجوف، أي بلاد الشمال، وملكها مشقُه أي مسكو الأول (Mieszko I) (960-992م) ملك بولندا (Poland)(27)، وتسمى هذه المملكة باسم مشقو، كما يروي القزويني عن الطرطوشي(28).
أما المملكة الصقالبية الرابعة فهي مملكة (ناقون) في آخر الغرب أو أقصى الغرب في بلاد الصقالبة، ولعلَّ تسميتها تعود إلى ناقون أو نكُّون (Naccon)(ت 966م)، وهو أمير القبائل الأبدرية التي سكنت شمال ألمانيا في منطقة مكلنبرج شفارن (Mecklembrrg Schwern). ثم يصف تلك الممالك الأربعة، ويبدأ بالأخيرة حيث جمع معلوماته عنها وهو في طريقه إلى بلاط أوتو الأكبر.
مَملكة ناقون (Noccon):
يشير إلى أن مدينة ناقون، حاضرة المملكة الرابعة، تبعد عن (فرغ) "لعلها مدينة برغ (Burg)" شمال (مغدبورغ) حاضرة أوتو الأكبر، وعلى مدينة ناقون حصن يُسمى غراد وترجمته الحصن الكبير، مقابلة حصن على بحيرة عذبة، ومن هذا الحصن إلى البحر المحيط (لعله يقصد البلطيق) أحد عشر ميلاً؛ ويصف بلاد ناقون على أنها كلها متمرِّج وآجام وحمأة (طين أسود)، لذا يستنتج الطرطوشي أن العساكر لا تستطيع أن تنفذ إلى بلاد ناقون إلاَّ "بالجهد الشديد" فهي عسيرة الاقتحام، كما أن وصفه لأراضيها بأنها مليئة بالمروج والآجام والطين، يتضمن معنى تراجع العمران والزراعة المنظمة فيها(29). وأهلها يمزجون الشجاعة والبأس، بالابتعاد عن الحياة الحضرية والعمران، فلا يجد الرحالة العربي من صفة إيجابية سوى شجاعتهم وبأسهم وانتظام حصونهم.
ومَملكة ناقون يجاورها من جهة الغرب، كما يشير الطرطوشي، سكسون وهي مقاطعة سكسون (Saxony) الحالية شمال غرب ألمانيا، وبعض (مرمان) ويقصد بذلك النورمان (Norsemen) المجوس، سكان البلاد الاسكندنافية، وهم الدانماركيون، حيث توجد هناك بلدة يقصدها التجار؛ لأَنَّهَا رخيصة الأسعار وكثيرة الخيل تصدرها إلى غيرها "ومحاربوها شجعان ولهم سلاح شاك من الدروع والبياضات (الخوذ) والسيوف، كما لهم حصونهم الشهيرة"(30).
مملكة بويصلاو (براغ، بوهيمية):
والمملكة الثانية التي يسميها الطرطوشي بويصلاي، وهي تنسب إلى عاهلها حينذاك الملك بولسلاف الأول (929-967م) ملك بوهيمية، ومدنها الرئيسية: براغ وبوهيمية، وتضم البلاد المعروفة بتشيكسلوفاكية. ويصف بلاد بويصلاو التي تمتد من مدينة فراغة (براغ) إلى مدينة كركوا (كراكو) وهي بولندا الحالية "وطول هذه البلاد مسيرة ثلاث جمعات" أي ثلاث أسابيع، ويذكر من مدنها بالإضافة إلى براغ وبوهيمية، مدينة قليوي (كالب)، ونوب غراد (نوفيغراد، نيبورغ) وعليها حصن بني بالحجارة والصاروج (كلس)، وهي واقعة على ملتقى نهري صلاوة (سال)، وبود (بودا)، وبورجين (وورزن Wurzen) وعليها حصن وهي على نهر مُلداوة وهو نهر في ألمانيا الحالية (Mulde).
ويصف المسافة الفاصلة بين المدن فيما بين حصن قليوي إلى (نوب غراد) ميلان، ومن حصن نوغراد إلى ملاحة اليهود (أي مملحة اليهود) ثلاثون ميلاً، ومنها إلى حصن بورجن، ثم إلى طرف الشعراء (أي الغابة) خمسة وعشرون ميلاً. أما مسافة الغابة من أولها إلى آخرها فأربعون ميلاً، فيها جبال وأوعار، ثُمَّ يأتي بنهايتها جسر من خشب على حمأة (طين أسود) طولها ميلين، وآخر الشعراء (الغابة) ندخل مدينة فراغة (براغ)، ومدينة فراغة هذه مبنية بالحجر والجير، وهي أكثر البلاد متاجر؛ ويصورها لنا على أَنَّهَا مركزاً لتجارة دولية مهمة، إذ يأتي التجار من الكثير من البلاد، يأتيها الروس والصقالبة القادمون من مدينة كراكو، كما يأتيها التجار من بلاد الإسلام، واليهود والترك، بالمقابل يحمل هؤلاء معهم إلى بلادهم، بدل بضائعهم، الرقيق، وربما الدقيق، والقزدير (القصدير) وضروب أوبار (الجلود المدبوغة)، ويتعاملون بالعملة البيزنطية التي يسميها إبراهيم "المثاقيل المرقطية"(31). ويتوقف عند صناعاتهم وبما يتميزون به من ثروة فيقول: "وأهل براغ يصنعون السُّروج واللجم المستعملة المتخذة في بلادهم، وبلادهم أطيب بلاد أهل الجوف (الشمال) وأزكاها معيشة، وبما أن الخيرات بها متوفرة، فيسود فيها رخص الأسعار، إذ يباع علف أربعون دابة بقنشار، وهي عملة متداولة لديهم"(32).
أما عن مدينة بويمة (بوهيمية) فيشير إلى أنها "مدينة مزدهرة، يصنع أهلها مندلات خفاف، مهلَّلة النسيج على هيئة الشبكة، وربما يقصد ثياب الدانتيل المشهور بها التشيك إلى الآن، وثمن هذه المناديل قنشار لعشرة مناديل، ويتعاملون بالمناديل كتعاملهم بالعملة، ويبتاعون بها الحنطة والدقيق والخيل والذهب والفضة وجميع الأشياء". ويستغرب إبراهيم قائلاً: "ومن العجب أن أهل بويمة سمر سود الشعور، والشقرة فيهم قليلة"(33).
مملكة مشقة:
ومملكة مشقة هذه تنتسب إلى ميشكو الأول (Mieszko I) ملك بولونيا، أو دوق بولونيا (960-992م)، ووجدها إبراهيم واسعة البلاد وغنية، كثيرة الطعام واللحم والعسل والحرث؛ ويجبي ضرائبه بالعملة يسميها "المثاقيل المرقطية"، كما ينبه إلى مدى اهتمام الملك برعاية جيشه، وما يفرد له من أموال، ولا ينسى وصف علاقات الزواج ومراسيمه، فيشير أن الملك يخصص قسماً من أموال مملكته لدفع أرزاق، أي مرتبات جيشه كل شهر، وعنده ثلاثة آلاف درّاع، أي جند لابسين الدروع، يصفهم "أجناد شجعان ذوي بأس يقابل المئة منهم ألف رجل". والشجاعة كما نعرف هي الميزة العامة أو (الصورة النمطية العامة) التي أسبغها الرحالة والجغرافيون العرب على الصقالبة "والملك يعطي رجاله ما يحتاجونه من الخيل والسرج واللحم والسلاح، وكل ما يحتاجونه، فإذا ولد لأحد رجاله ولد أمر بإجراء الرزق عليه ساعة يولد، إن كان ذكراً أو أنثى، فإذا بلغ المولود وكان ذكراً زوَّجه ودفع عنه النِّحلة (المهر) إلى والد الزوجة (الجارية)"(34). وإن كانت أنثى "أنكحها ودفع النحلة إلى أبيها"(35). والمهر عندهم ثقيل، فإذا ولد للرجل ابنتان أو ثلاث صار غنياً، وإن ولد له ابنان أو ثلاثة صار فقيراً(36). ويشير إلى أهمية الزواج عندهم لدرجة أن "التزويج برأي ملكهم ملزم لهم، وليس باختيارهم، وهو يتكفل بجميع مؤوناتهم ومؤونة العرس"، فتصور رواية القزويني السلطة ممثلة بالملك، كسلطة أبوية، وكما يقول: "وهو مثل الوالد المشفق على رعيته"(37). أما من ناحية علاقة الرجل والمرأة، وهي مسألة حساسة كانت دائماً مركز اهتمام الرحالة والباحثين العرب، فإن إبراهيم حسب رواية القزويني، وجد أن (المشقة) بخلاف الصقالبة الآخرين "غيرتهم على نسائهم شديدة"(38).
مَملكة البلغاريين (البلغار):
على الرغم من أن إبراهيم لم يزر بلاد البلغار، والمقصود هنا بلغار البلقان، إلا أنه سمع بأخبارهم، فإنه يحدثنا عن مصادفته لرسل ملكهم بمدينة ماذن برغ (Merseburg)، حين وفدوا على هوته الملك (الإمبراطور أوتو) "فرآهم يلبسون ملابس ضيقة، ويتمنطقون بأحزمة طوال ملبسة بترامس (حبات) الذهب والفضة". ونجد إبراهيم مثل جميع ممثلي الثقافة العربية، لا يبخلون على الآخرين بالمديح إن وجدوا مناسبة لذلك، فهو يقول عن ملكهم: "إنه ملك عظيم القدر يضع على رأسه التاج، وله الكتاب وأصحاب الخطط والأمر والنهي، بطريقة منظمة وترتيب كالمعهود للملوك الأكابر، ولهم معرفة باللغات"، كما يتحدث على أنهم ترجموا الإنجيل إلى لسانهم الصقلبي، وبالتالي فهم نصارى.
ثُمَّ يحدثنا على الطريقة التي دخلت المسيحية فيها مملكة البلغار، إذ حينما أغار ملك البلغار على بلاد الروم وحاصر القسطنطينية، أرضاه ملكها وكسب صداقته ووده، بإجزال العطاء له، ولا سيما عندما استرضاه بأن زوَّجه ابنته، وهذه حملت ملك البلغار زوجها على التنصر(39). ويبدو أن معلومات الطرطوشي هذه استقاها من مقابلته لرسل ملك البلغار، وهم بزيارة للإمبراطور أوتو، الذين حضروا في عام 965م إلى مكدبرج. وبكل الأحوال، فإن الثقافة العربية كانت تعتبر ظهور المسيحية في هذه البلدان، كدين لأهل الكتاب، أحد مظاهر المدنية، وهي تتفوق لديهم على دين المجوس الذي يبيح المحرمات.
إضافة إلى الممالك الأربع، بما فيهم البلغار، فقد لاحظ الطرطوشي أن هناك يجاورهم أمم أخرى صقالبية أو غير صقالبية، وذلك شرق بلاد مشقة، حيث الروس، وفي الجوف (الشمال) بروس، وهم البروسيون (Prussians) سكان مقاطعة بروسيا شمال غربي بولونيا (مشقو)، فيصفهم على أَنَّهُم "على البحر المحيط (البلطيق) ولهم لسان خاص بهم، لا يعرفون ألسنة المجاورين لهم، ويتميز هؤلاء ويشتهرون بشجاعتهم، فإذا أتاهم جيش لا يتوانى أحدهم حتى يلحق بصاحبه ليشاركه القتال، إنما يخرج لا يلوي على أحد، فيضرب بسيفه حتى يموت"، ويتحدث على "أن الروس كانوا يغيرون على هؤلاء البروسيين في المراكب من الغرب"(40).
ويحكي لنا الطرطوشي أيضاً عن ما يسميه مدينة النساء، وهو ما سيتحدث عنه فيما بعد الإدريسي وغيره من الجغرافيين العرب، وربما سمع الطرطوشي بحكاية هذه المدينة الخرافية أثناء إقامته في بلاط أوتو، ولمدينة النساء هذه كما يصفها "بسائط ومماليك، وهنَّ يحملن من عبيدهن، فإذا وضعت المرأة ذكراً قتلته، ويبقين على المولود الأنثى، ولهنَّ بسالة وشجاعة، إذ يركبن الخيل ويباشرن الحرب" ويضيف قائلاً: "وخبر هذه المدينة حق أخبرني بذلك هُوتُه ملك الروم (أوتو)"(41).
كما يحدثنا عن طريق القزويني عن موضع يسميه (ورنك) على الطرف الجنوبي من الخليج الذي يخرج البحر الشمالي، فالموضع الذي على طرف ذلك الخليج يُسمى به الخليج، يقال له بحر ورنك، ويعني بذلك بحر البلطيق ولعل هذا الموضع هو الدانمارك، وهو أقصى موضع في الشمال، البرد به عظيم جداً والهواء غليظ والثلج دائم، لا يصلح للنبات ولا للحيوان، قلما يصل إليه أحد من شدة البرد والظلمة والثلج(42). وهذه صورة راسخة بالمتخيَّل العربي الإسلامي عن أقصى بلاد الشمال، على الحافة القصوى للإقليم السابع.
كما يحدثنا عن بلاد "ويسو" وهي وراء بلاد البلغار، ويُعتقد أَنَّهَا روسيا البيضاء، بينهما مسيرة ثلاثة أشهر، حيث يُذكر أن النهار يقصر عندهم حتى لا يُرون في الظلمة، ثم يطول الليل حتى لا يرون شيئاً من الضوء. ويذكر "أنهم يتبادلون بضائعهم مع البلغار بدون أن يلتقوا مباشرة، فكل واحد يضع متاعه في ناحية، ويضع علامة عليه، بعدها يرجع فيجد التاجر من الطرف الآخر وضع متاعه (بضاعته)، فإن رضي بها أخذها وترك بضاعته، فلا يرى البائع المشتري ولا المشتري البائع، ولا يدخل أهل ويسو بلاد البلغار لاختلاف الهواء والبرودة، كما أن أهل البلغار لا يمكنهم دخول بلاد ويسو لشدة برودة بلادهم"(43).
بعد أن يعطينا الطرطوشي فكرة عن كل مملكة على حدة، يُلقي نظرة عامة على الصقالبة، فهم أجناس كثيرة ومختلفة، ومن أجناسهم الصبراية (Sorbs)، ربما الصرب، ودولايه (Dules)، ونامجين، ولعل هؤلاء إحدى قبائل الألمان، حيث يشملهم هنا جميعاً، ويعتبر هذا الجنس أي الألمان الذين يدمجهم بالصقالبة أشجع أقوام الصقالبة (وأفرسهم). وهناك جنس آخر يسميه سرنين، وهم الصرب (Serbians Serbs) "وهم مهابون من الصقالبة"؛ كما أن هناك أيضاً جنس يقال له (مِزاره) وهم المورافيون (Moraviams)، و(حيرواس) وهم الكرواتيون (Croats)، فضلاً عن الرصاصين، والحشيابين.
ويشير الطرطوشي إلى أن هذه الأجناس مختلفو المذاهب والأديان "فمن هذه الأجناس ما هو ينقاد إلى دين النصرانية على مذهب اليعقوبية، ومنهم من لا كتاب له، ولا ينقاد إلى شريعة، وهم جاهلية"(44). وقد لاحظ الطرطوشي أن الصقالبة جميعاً يبنون حصونهم على المياه والبحيرات، فهم يعمدون إلى المروج الكثيرة المياه والآجام فيخطون فيه خطاً مستديراً أو مربعاً قدر ما يريدون من شكل الحصن وسعة مساحته، ويحفرون حواليه، ثم يردمون الحفر بالتراب، ويوثقونه بالألواح والخشب، حتى يبلغ السور إلى الغاية التي يريدون، ويحدثون له باباً يصلون إليه عن طريق جسر من خشب(45).
ولا يختلف مُتخيل الطرطوشي عن مُتخيل أصحاب الرحلات وممثلي الثقافة العربية الإسلامية، في النظر إلى الصقالبة كأصحاب بأس وشجاعة "فإن الصقالبة ذوو صولة وبطش، ولولا اختلافهم بكثرة تفرُّع أعراقهم وتفرُّق أفخاذهم، ما قامت لهم في الشدة أمةٌ من الأمم"(46). ويشهد على غنى بلادهم، فهم يسكنون من البلدان أجزلها ريعاً وأكثرها أقواتاً "وهم مجتهدون في الفلاحة وطلب الرزق، يفوقون في ذلك جميع أمم الأرض"، ولا يقتصر تميزهم على الشجاعة والزراعة، إذ "أن تجارتهم جارية في البر والبحر نحو الروس والقسطنطينية". لكن ما يهدد أرزاقهم وزراعتهم كثرة المياه "فليس مصدر الجوع في بلادهم، وكلها في الشمال، من القحط وتوالي الجدب، إنما يكون من كثرة الغيث وتوالي الجمَّة (الماء)، ويزرعون مرتين في العام في القيظ والربيع، ويحصدون مرتين، وأكثر زرعهم الدخن"(47).
ويتوقف الطرطوشي عند طقسهم، وأمراضهم الناتجة عنه، ولا ينس طعامهم ولباسهم، فيشير إلى أن "البرد رغم شدته في بلادهم فهو سليم، والحر بالنسبة لهم مهلك، لذا فهم لا يسافرون إلى بلاد لنقبردية (اللمبارديين) لحرها عليهم، والسلامة عندهم إنما تكون فيما يكون فيه الطقس جامداً. فإذا ذاب وفار ذوى جسدهم وجاءهم الموت. ويعمهم مرضان لا يكاد أحدهم يسلم منهما، وهما الحمرة الناتجة عن الحمى، والنواصير. ويجتنبون أكل الفراريج لأنها تحدث فيهم ريحُ الحمرة، حسب ما يدعون، ويأكلون لحوم البقر والأوز لملاءمتها لأجسامهم، وشربهم ونبيذهم عسل؛ ويلبسون الثياب الواسعة بأردان أكمامها ضيقة"(48).
ويعلمنا أن أكثر أشجار شعابهم التفاح والأجاص والفرشك (الخوخ). ويشير إلى أن في بلادهم طائر غريب تعلوه خضرة، يَحكي ما يسمعه من أحاديث الناس والدواب، ويسمى عندهم سَبا، وعندهم دجاجاً برياً يسموها (تترا)، وهي طيبة اللحم، تسمع أصواتها من أعالي الأشجار، وهي صنفان: سود وموشّاة، أجمل من الطواويس(49).
كما يسهب الطرطوشي في وصف شدة البرودة عندهم، وما ينتج عنه من ابتكارهم لأشكال المنازل وحمامات، ومركبات للسفر، فيذكر أنهم يتصفون عامة بسكناهم في البلاد الأشد برداً، وأقوى ما يبلغه البرد عندهم في الليالي المقمرة والأيام الصاحية، فحينئذ يشتد البرد ويقوى الجمد فتتحجر الأرض وتجمد الأشربة كلها، حتى أن مياه البئر والحياض تتقرمد حتى تغدو كالحجارة "وتجمد الماء على لحى الناس، وتغدو كالزجاج، يعسُر عليهم كسره حتى يدخلون الكن (الموقد)، وفي هذا الوقت تنكسر السفن ويهلك من فيها"، وتدفعهم شدة البرد هذه، كما يلاحظ الطرطوشي، إلى ابتكار طريقة خاصة للتدفئة، فهم وإن كان ليس لهم حمامات، فإنهم يستحمون، من شدة البرد، بحمام البخار (الساونا) "إذ يتخذون بيوتاً من خشب، يسدون خصاصه (شقوقه) مثلما يسدون شقوق سفنهم بمادة يسمونها (المخ) وهي مقام الزفت، تتكوَّن على أشجارهم شبيهة بالطحلب، ثم يبنون داخل البيت الخشبي كانوناً ويفتحون كوة في أعلاه لخروج الدخان، فإذا سخن الكانون سدوا تلك الفتحة وأغلقوا باب البيت، فصبوا الماء على الكانون الحامي، فترتفع أبخرته، فيأخذ الواحد منهم ضغث من حشيش يحرك به الهواء ويجذبه إلى نفسه، فتنفتح مسامهم وتخرج فضلات أجسامهم، فتجري منهم كالسيول، فلا تجد على أجسامهم آثار جرب أو قروح"(50).
ويعتمد ملوكهم في سفرهم -كما يشير- على مركبات ذات أربع عجلات تشدها العجول "يعلقون عليها هودج بسلاسل حصينة مكسية بالديباج، ويستعملون مثل تلك العربات للمرضى والجرحى، وهم يحاربون الروم والإفرنج والنوكبرد (اللومبارديين) وغيرهم من الأمم"(51).
ولاحظ أن بعضهم، الذين لا زالوا على المجوسية، ولا سيما سرنين (الصرب)، يحرقون أنفسهم بالنار إذا مات رئيسهم، كما يحرقون دوابهم "فلهم أفعال شبيهة بأفعال الهنود في الشرق. وهم يطربون عند حرق الميت؛ لأنَّ ذلك حسب اعتقادهم يرحم به الله الميت، فيقطع نساء الميت أيديهن ووجوههن بالسكاكين، وإذا أرادت واحدة منهنَّ التعبير عن محبتها له، ارتقت إليه على كرسي وعلقت عنقها به، فيجذبون الكرسي تحتها فتبقى معلقة حتى تموت، ثم تحرق معه"(52).
ولقد اهتم الطرطوشي كغيره من المؤلفين العرب بالمرأة الصقالبية، فأخبرنا أن ملوك الصقالبة يتميزون بغيرتهم الشديدة على نسائهم، لذا فهم يحجبونهن. ويتزوج رجالهم بعشرين زوجة فصاعداً(53). بينما لاحظ أن المرأة الصقالبية تحافظ على عفتها بعد الزواج، وعلى التحرر الجنسي قبل الزواج، وإذا أحبت أخلصت لمن يُحبها وأقامت عنده شهوتها "فإذا تزوجها الزوج فوجدها عذراء قال لها: لو كان فيك خيراً لرغب فيك الرجال، ولاخترت لنفسك من يأخذ عذرتك" فيتركها(54).
الفرنجة (فرنسا وما حولها):
قدّم إبراهيم بن يعقوب تصوراً أقرب إلى الوضوح عن عالم الفرنجة، ولكن كلما أوغلنا غرباً وشمالاً ازداد الوضع غموضاً، وغدت معلوماتهم متقطعة، وملاحظاتهم صور خاطفة عن معالمهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
تبدو صورة الفرنجة مترجرجة، فهي تتسع أحياناً لتشمل عند البكري لتضم أولاد يافث جميعاً، بما فيهم الجلالقة الذين هم أهل غاليسيا وما جاورها شمال الأندلس، والصقالبة والنوكبرديين (اللمبارديين) والأشبان (الإسبان)، إلاَّ أن ما مال إليه الطرطوشي عبر حفظ البكري والقزويني لبعض مقاطع رحلته، عندما ينتقل إلى التخصيص لحصرها في باريس وما يحيطها من بلدان، حين أشار أن حاضرة الفرنجة هي "الآن بويرة (باريس)، وهي مدينة عظيمة... ولهم من المدائن نحو من خمسين ومئة مدينة، وتدين بدين النصرانية الملكانية"(55). والفرنجة في وسط الإقليم الخامس، حسب رواية البكري(56)، أما رواية القزويني فتحددها بأنها "أرض واسعة آخر غربي الإقليم السادس... وبها نحو مائة وخمسون مدينة، قاعدتها باريس، وأن طولها مسيرة شهر وعرضها أكثر"(57). وأنها مملكة واسعة، في بلاد النصارى بردها شديد جداً وهواؤها غليظ لفرط البرد، وأنها كثيرة الخيرات والفواكه والغلات، كثيرة الثمار، ذات زرع وضرع وشجر وعسل، وغزيرة الأنهار، منبعثة من ذوبان الثلوج، ومدائنها متقنة الأسوار محكمة البنيان، بها معادن الفضة، وتضرب بها سيوف قطاعة، إذ أن سيوفها أمضى من سيوف الهند(58).
ويشير الطرطوشي إلى أن الفرنجة أهلها نصارى، ولهم ملك ذو بأس، وعدد كثير، وقوة وملك، له مدينتان أو ثلاثة على ساحل البحر (البحر المتوسط) من هذا الجانب في وسط دار الإسلام "وملكهم ينجد تلك المدن المحاذية لبلاد الإسلام"، وربما يقصد بذلك المدن الإيطالية الجنوبية وحتى رومية، أو عجز المسلمين عن إخضاع المدن المحاذية لساحل صقلية. ويصف جند الملك على أنهم بواسل، وهي سمة انطبعت في المخيال العربي عن الشعوب الأوربية الشمالية، بل عن بلاد أوربا جميعاً "فهم يفضلون الموت على الإدبار في الحرب، لا يفكرون أصلاً في الفرار من الحرب عند اللقاء، ويرون الموت دون ذلك". ولكن بمقابل تلك الصفات الإيجابية، التي يقف في مقدمتها الشجاعة والبأس والكثرة، وكونهم نصارى وليسوا مجوس عبدة أوثان، فلهم صفاتهم المقيتة "إذ ليس في العالم أقذر منهم، وهم أهل غدر ودناءة أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة واحدة أو مرتين، بالماء البارد، حتى أنهم لا يغسلون ثيابهم من ساعة لبسهم لها حتى تتقطع على أجسادهم؛ ويحلقون لحاهم، فتنبت بعد الحلق خشنة مستكرهة، وإذا سألهم أحد عن حلق اللحى قالوا: الشعر فضلة أنتم تزيلونها عن سوءاتكم، فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟"(59)، والأمر هنا سؤال وجواب يحمل كل منهما مرجعيته المبررة لصاحبها. وتبدو له بلاد الفرنجة متسعة، تتسع وتتمادى حتى الساحل القبلي الشامي (البحر المتوسط) حتى تتقلص وتتجاور بجزيرة روما، الجزيرة الإيطالية، وببلد لنقبرذة (اللمبارديين)، وتتسع متمادية حتى الجبل المعترض في بحر الأطلسي، أي جبال الألب التي بين بحر البلطيق والبحر الإدرياتيكي، وتتصل بالصقالبة الشماليين أي ببلاد المجوس، عبدة النار، المعروفين بالأنقلش، أي سكان الجزر البريطانية، كما تتصل بالشرق بالصقالبة، وتتصل بالغرب ببلاد بيورة (بلاد نافار Navarra) وهم كما يروي إبراهيم، يُعرفون بالأمانيس (الألمان) الذين لهم كلام مختلف عن كلام الإفرنج(60).
لا تقتصر معلومات الطرطوشي على الصورة العامة لبلاد الفرنجة وحدودها، وعاداتها وديانتها، بل يفرد وصفاً لعدة مدن إفرنجية، التي يعتقد أنها كانت مراحل على طريقه الطويل، فيصف لنا مدينة برذيل (بوردو) على "أَنَّهَا كثيرة المياه والأشجار والفواكه، وأكثر أهلها نصارى"، وهو ما يلمح منه أنه كان فيها بعض المجوس "وبها بنيان منيعة على أسوار عظيمة، ويوجد على سواحلها العنبر؛ ويوجد صنم على الجبل المشرف عليها، وعلى المحيط، يظهر وكأنه يُخبر الناس بألا يحاولون قطع المحيط الأطلسي"(61). وهو إشارة دالة على الاعتقاد السائد، بأنه لا يوجد فيما وراء المحيط براً أو حياة، بل ظلمة وغموضاً!. أما مدينة انطرخت (أوترخت) فهي بلدة عظيمة واسعة الرقعة "أرضها سبخة لا تصلح للزرع والغراس، فتعيش على ثروتها الحيوانية، من حليبها وأصوافها، ويستخدمون طين خاص للتدفئة، إذ يقطعون ذلك الطين في الصيف حتى ينشف، فإذا عرضوه للنار اشتعل، فتصبح له نار عظيمة يتدفؤون بها شتاء"(62). أما مدينة رذوم (روان) النورماندية، فقد اعتبرها الطرطوشي إفرنجية، على نهر شعنة (السين)، فهي محصنة مبنية بالحجارة المهندمة، وليس فيها كروم ولا شجر بينما يكثر فيها القمح والسلت (الجودار)، ويخرج من نهرها حوت يسمونه السلمون، ونوع آخر صغير يشبه الحوت في نهر النيل الذي يسمى هناك العير.
وحكى الطرطوشي أنه رأى في برذوم نوع من الأوز أبيض وأحمر الأرجل والمناقير، يسمى عايش. ولا ينسى أن يذكر على سبيل الطرفة قصة شاب نمت لحيته وهو في السادسة من عمره(63). ورأى مدينة أولدة (فلدة) واسعة، ومبنية بالحجارة، ولا يسكنها سوى الرهبان، ولا تدخلها النساء، فيها كنيسة عظيمة يعظمها النصارى، وحكى الطرطوشي أنه لم يرَ في جميع بلاد النصارى أعظم منها، ولا أكثر ذهباً وفضة، وأكثر أوانيها كالكؤوس والأباريق والقصاع من الذهب والفضة، وبها صنم من فضة على صورة راهبها الشهيد الذي أسسها، مكللاً بالياقوت والزمرد مفتوح اليدين على شكل صليب، وهو صورة المسيح u. كما يذكر مدينة يسميها أفش تقع على نهر يسمى أفس، بها جمَّة غزيرة الماء جداً، وعليها بيت واسع يستحم فيها أهل المدينة على بعد منها، خشية شدة حرارة ماء الجمَّة الذي يفور فيها(64).
وعبر هذا السرد لحكاية رحلة الطرطوشي، نتعرف على بضعة مقاطع حية عن بلاد الفرنجة (فرنسا وجوارها جنوباً وشمالاً) هي مزيج من الصور الواقعية يكتنفها الغموض، وأحكام قيمة مصدرها الثقافة العربية الإسلامية. ويشير الطرطوشي إلى الحدود الشمالية خلف بلاد الفرنجة، التي تقع على تخوم الإقليم السابع، فيواجهنا في ما يسميه بحر الورنك (البلطيق) والجزر البريطانية وإيرلندا (هيبريا).
إلاَّ أن أوضح المناطق الشمالية تبدو هيبريا (إيرلندا) التي تعتبر مقر النورمان المجوس، وهي واسعة جداً تبلغ استدارتها ألف ميل، ويقال أن عادات مجوسها وألبستهم نورماندية، وإن كساءهم الرئيسي البرنس الغالي الثمن جداً، والمرصع بالجواهر عند النبلاء، ويشتهرون بصيد الحيتان التي يتغذون بلحمها الأبيض. وحكي أن سواحلها المليئة بالفراخ الأبلينية التي يصطادونها للغذاء، وهي نوع عظيم جداً، ويذكرون أن جراءها تتولد في شهر أيلول، ويصطادونها في تشرين الأَوَّل وكانون الأول والثاني، وبعد ذلك يصلب لحمها فلا يصلح للأكل، ولحمها أبيض كالثلج وجلده أسود كالنقس(65).
ويذكر أن بجوار إيرلندا هناك الجزر البريطانية الاثنتي عشرة، التي تبدو لديه غامضة، في أقصى الحدود الشمالية، كما أن هناك البحر المحيط في الشمال الذي يعتبر حداً للأرض المعمورة، خرج منه خليج إلى نحو الجنوب، والموضع الذي على طرف الخليج يسمى بحر ورنك، وهو أقصى موضع في الشمال، البرد فيه عظيم جداً والهواء غليظ والثلج دائم، ولا يصلح للنبات ولا للحيوان، قلَّما يصل إليه أحد من شدة البرد والظلمة والثلج(66).
*******************
الهوامش
*) كاتب وباحث من سورية.
(1) إبراهيم أحمد العدوي، السفارة الإسلامية في العصر الوسيط، (سلسلة إقرأ 179)دار المعارف بمصر، 1957، ص101.
(2) المصدر نفسه، ص108. راجع أيضاً: عبد الرحمن حميدة، أعلام الجغرافيين العرب، دار الفكر، دمشق، 1984، ص168.
(3) العدوي، المصدر السابق، ص112. راجع أيضاً: حميدة، المصدر السابق، ص169.
(4) حسين نصار، أدب الرحلة، مكتبة لبنان، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، 1991 ص42. راجع أيضاً: إغناطيوس يوليانو فيتش، كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957ص135-136.
(5) الشيخ أحمد بن محمد الخضري التلمساني المقري، نفح الطيب من غضن الأندلس، المجلد الثاني، تحقيق إحسان عباس، دار صادر بيروت، 1988، ص254.
(6) المصدر نفسه، ص257.
(7) العدوي، المصدر السابق، ص114.
(8) ابن دحية، أبي الخطاب عمر بن حسن (ت 633هـ): المطرب في أشعار أهل المغرب، تحقيق: الأبياري، إبراهيم، وعبد المجيد، حامد، المطبعة الأميرية، القاهرة 1954، ص138. وراجع أيضاً: المقري، نفح الطيب، المجلد الثاني، المصدر السابق، ص259.
(9) ابن دحية، المصدر السابق، ص140.
(10) أندريه ميكيل، جغرافية دار الإسلام البشرية، ج2، ق2، ترجمة إبراهيم الخوري، دمشق 1985، ص109.
(11) ابن دحية، المصدر السابق، ص140.
(12) المصدر نفسه، ص141.
(13) المصدر نفسه.
(14) المصدر نفسه.
(15) المصدر نفسه.
(16) المصدر نفسه، ص143.
(17) المصدر نفسه.
(18) المصدر نفسه، ص144. راجع أيضاً: المقري، المصدر السابق، ص257-258.
(19) ابن دحية، المصدر السابق، ص143.
(20) كراتشكوفسكي، المصدر السابق، ص191. راجع أيضاً: نصار، المصدر السابق، ص43. راجع أيضاً: سوسة، أحمد: الشريف الإدريسي، الباب الثاني، نقابة المهندسين العراقيين، مكتبة جهري، بغداد 1974، ص342.
(21) كراتشكوفسكي، المصدر السابق، ص192.
(22) حسن، إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ج3، ص242-343. راجع أيضاً: أرسلان، شكيب: تاريخ غزوات العرب إلى أوربا.
(23) حسين مؤنس: تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، مكتبة مدبولي، ط2، القاهرة 1986, ص77-80.
(24) كراتشكوفسكي، المصدر السابق، ص190.
(25) مؤنس، المصدر السابق، ص56.
(26) البكري، أبي عبيد (487هـ-1094م): جغرافية الأندلس وأوربا (من كتاب المسالك والممالك، تحقيق: الحجي، عبد الرحمن علي، دار الإرشاد، بيروت 1968، ص155-156.
(27) المصدر نفسه، ص157.
(28) القزويني، زكريا بن محمد حمود (1203-1283م): آثار البلاد وأخبار العباد، دار صادر ودار بيروت، 1960، ص616.
(29) البكري، المصدر السابق، ص159-160.
(30) المصدر نفسه، ص158-159.
(31) المصدر نفسه، ص161-162.
(32) المصدر نفسه، ص162-163.
(33) المصدر نفسه، ص163.
(34) المصدر نفسه، ص166-167. راجع أيضاً: القزويني، المصدر السابق، ص617، إذ يقول: "فإذا كان ذكراً زوجه وأخذ من والده المهر، وسلمه إلى والد المرأة".
(35) البكري، المصدر السابق، ص167.
(36) القزويني، المصدر السابق، ص617. راجع أيضاً: البكري، المصدر السابق، ص167.
(37) القزويني، المصدر السابق، ص617.
(38) المصدر نفسه.
(39) البكري، المصدر السابق، ص166-167.
(40) المصدر نفسه، ص168.
(41) المصدر نفسه، ص170.
(42) القزويني، المصدر السابق، ص617.
(43) المصدر نفسه، ص618.
(44) البكري، المصدر السابق، ص185-186.
(45) المصدر نفسه، ص159-160.
(46) المصدر نفسه، ص181.
(47) المصدر نفسه، ص182.
(48) المصدر نفسه، ص183.
(49) المصدر نفسه، ص184.
(50) المصدر نفسه، ص188-190.
(51) المصدر نفسه، ص191.
(52) المصدر نفسه، ص187.
(53) المصدر نفسه، ص182.
(54) المصدر نفسه، ص187.
(55) المصدر نفسه، ص137-138.
(56) المصدر نفسه، ص143.
(57) القزويني، المصدر السابق، ص576.
(58) المصدر نفسه، ص498. والبكري، المصدر السابق، ص143.
(59) القزويني، المصدر السابق، ص498.
(60) البكري، المصدر السابق، ص145.
(61) القزويني، المصدر السابق، ص579.
(62) المصدر نفسه، ص577-579.
(63) المصدر نفسه، ص590.
(64) المصدر نفسه، ص576.
(65) المصدر نفسه، ص578.
(66) المصدر نفسه، ص617.