الهوية الدينية والقيم العالمية الناشئة

الهوية الدينية والقيم العالمية الناشئة

مايكل بوس

لقد ساهمت العولمة في توسيع محيط دائرة المعرفة المتاحة والأشخاص الذين قد يلتقي بهم الإنسان، وبذا أصبح التفاعل بين الثقافات والأعراق والديانات جزءا من حياتنا اليومية.

إن العولمة ظاهرة نافذة ومنتشرة، ويظهر مسح عالمي أجراه مركز بيو للبحوث أن «الناس عبر العالم قد أصبحوا أكثر وعيا بتأثير التشابك المتزايد على بلدانهم وعلى حياتهم... ويظهر المسح قبولا واسعا لهذا التشابك المتزايد»(1)، كما يظهر المسح أن «الأغلبية العظمى في 42 دولة من أصل 44 دولة تؤمن أن طرق حياتهم التقليدية في طريقها إلى الضياع، وأن معظم الناس يحسون بأنه تجب حماية طرق حياتهم والحفاظ عليها من التأثير الخارجي»(2). ويشير هذا إلى أحد التحديات الأولية للعولمة: كيف ستعيد الثقافات والديانات تشكيل هويتها وتحافظ عليها في عالم متشابك ومتعامد (يعتمد على بعضه البعض)؟

الهوية الدينية: هل هي عامل مساهم في النزاع أم في السلام؟

إن الإجابة على هذا السؤال قد وضعت في إطار من قبل صامويل هنتنجتون، مؤلف العمل الرائد حول العلاقات الدولية، والذي تنبأ من خلاله أن ردة فعل ضد العولمة ستكون في صورة «صراع الحضارات»، وكتابه الذي يحمل هذا العنوان يبدأ باستشهاد بنص من رواية مايكل دبدن المعنونة الخور الميت: «لا يمكن أن يكون هناك أصدقاء حقيقيون دون أن يكون هناك أعداء حقيقيين. ما لم نكره ما نحن لسنا عليه فلا يمكننا أن نحب بالفعل ما نحن عليه»(3). ويصبح هذا افتراضا حول الطبيعة الإنسانية التي تؤمن بأن الأعداء ضروريون في تشكيل الهوية؛ ولذلك فإنه إذا ما كانت هنالك هويات جديدة أو ناشئة في عصر العولمة، فمن الحتمي نشوء الأعداء في نفس المخاض. وفيما يتعلق بدور الدين في هذا، يرى هنتنجتون على وجه العموم أن تأثير الدين نابع من منطلق نفعي وليس من منطلق عقائدي. «إن الدين ميزة تعريفية رئيسة للحضارات» وبسبب ذلك فهو أحد الموارد الثقافية الأساسية لتشكيل الهويات(4) ومع عصر العولمة، تزايد الانفتاح على ثقافات وديانات أخرى مِـمَّا أبرز أزمة الهوية، و«مع محاولة التأقلم مع أزمة الهوية، ما يهم الناس هو الدم والمعتقد والدين والأسرة»(5). وفي النهاية فإن انتشار الدين ونفاذيته يعني أنه يقدم قاعدة عريضة، وأساسا متينا من الناحية النفسية، والعملية لتبرير النزاعات مع من نعتبرهم أعداء لنا. والدين، حسب ما يرى هنتنجتون، هو أوسع غطاء يمكن للثقافة أن تستجمع قواها تحته لتدافع عن هويتها ولا سيما أن لديها الحافز الإضافي المتمثل في إمكان إضافة الصبغة الإلهية والربانية على نزاعاتها مع الآخرين «غير الربانيين»(6).

ويحدد هنتنجتون على وجه الخصوص الإسلام على أنه يلعب دورا رئيسا في الصراعات. ويذكر «أنه أينما وجهت نظرك في أقطار الإسلام، يعاني المسلمون من مشاكل في التعايش السلمي مع جيرانهم. ويبرز طبيعيا هنا سؤال حول ما إذا كان نمط النزاعات الذي ظهر في أواخر القرن العشرين بين جماعات المسلمين وغيرهم من الجماعات ينسحب على العلاقات بين المجموعات من الحضارات الأخرى، لكن الواقع غير ذلك»(7). غير أن هنتينجتون يشير إلى أنه لا يعرف على وجه التحديد ما إذا كان المسلمون تاريخيا قد خاضوا نزاعات مع الجماعات الأخرى أكثر من غيرهم من شعوب الحضارات الأخرى، إلا أنه يطرح فرضيات حول أسباب عنف الجماعات المسلمة، إذا كان ذلك موجود فعلا(8). إن منظوره لا يترك مجالا للتفاؤل أو الأمل للدين عموما والإسلام على وجه التحديد، خصوصا في الإسهام في ثقافة السلام. ولكنه من المهم أن نذكر أن الأطروحتين اللتين قادتا إلى هذه الاستنتاجات -أي أطروحة أن الأعداء ضروريون في تشكيل الهوية، وأطروحة المشكلة التاريخية للتعايش السلمي في الإسلام- لم يتم تفحصهما بحرص وبشكل ناقد، ولذا يجب أن لا يكون هذا الطرح هو نقطة البدء. بل يجب البحث حول طرق بديلة لتأطير إمكانات الهوية الدينية، وهذا ما تنوي هذه المقالة القيام به، وبما أن هنتنجتون ركز على الإسلام، فإن هذه المقالة أيضا ستتخذ من الإسلام والهوية الإسلامية مثالا على الإسهامات الممكنة للأديان في صياغة ثقافة السلام. ولذلك فإن الأمثلة المستشهد بها ما هي إلا أنموذج موضح للدين وجوره، ولم يكن القصد منها قصر هذه التفسيرات والاحتمالات على دين بعينه.

إذا ما قام واحد منا بمسح سريع لمبادرات الحوار بين الأديان المتزايدة العدد، فبالإمكان أن يرى الواحد منا توجها جديدا في الهوية الدينية كنتيجة لظاهرة العولمة(9), ألا وهو أن هناك عددا متزايدا من معتنقي ديانات العالم ممن يؤمن بأنه على الرغم من اختلاف العقائد والمعتقدات إلا أننا نشترك في العديد من القيم والأخلاقيات وبالقدر الكافي لإيجاد قيم ومثل عالمية، لاسيما تلك التي تحكم المعاملات فيما بين البشر. ولا يحتاج الواحد إلى أن يكون متدينا ليدرك أهمية هذا التوجه؛ فالعلاقات بين الأديان تؤثر على المجتمع الدولي خصوصا في عالمنا اليوم الذي أصبح متعامدا (يعتمد على بعضه البعض)، ووعيا بأهمية هذا الجانب قامت منظمة اليونسكو بعقد مؤتمر من المنطلق التالي:

بالنظر إلى المشاكل الدولية، فمن السهل العثور على مكونات دينية للحروب والنزاعات الحالية القائمة، وغالبا ما يستخدم الدين لتبرير المصالح الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية، وإضفاء الشرعية عليها والتي هي السبب المباشر في هذا النزاعات، ولكن الدين يمكن أن يكون ذا عون كبير في خلق ثقافة السلام التي ستجعل من الممكن تفادي النزاعات والصراعات ونزع فتيل العنف وبناء هياكل وأطر أكثر عدالة وحرية.

إن الدين من شأنه أن يذكرنا بالجوانب الأصلية والأساسية للكرامة الإنسانية، والانفتاح على الآخرين، والأولويات الحقيقية في حياة الأفراد وحياة جميع الشعوب. إن الدين من شأنه أن يحثنا على سبل الكرم والتعاون. والدين معين زاخر للنظر الثاقب والجرأة والشجاعة الأخلاقية(10).

ويمكن للواحد أيضا أن يرى الحاجة إلى مثل عالمية توفر أساسا أخلاقيا للعولمة الاقتصادية، وهي الواجهة الأولية التي نستشعر من خلالها العولمة. وتحتل العولمة الاقتصادية موقعا مهيمنا ومسيطرا، حيث تقسم العالم إلى منتجين ومستهلكين، جاعلة نصب عينيها الربح المادي والنمو المالي. وفي مثل هذا الوضع فمن السهل جدا الربط بين الأخلاق والآداب الفاضلة مع مستوى الثراء المادي المحقق(11). وهذه القاعدة الأخلاقية تشوبها حدود ومقيدات واضحة. وكما ذكر أحد الاقتصاديين «إن غياب الروحانية والحب في اقتصاديات العولمة ضار جدا، حيث جمد خيالنا. وللنجاح في عكس هذا الوضع الحرج والمتأزم المرتبط بالعولمة الاقتصادية، علينا أن نوقظ الرغبة في الناس لكي يطرحوا أسئلة أعمق وأكبر وأوسع حول الحياة وغايتها. فالعولمة اليوم تفتقر بشدة إلى وعي مدرك وإلى قيم وأخلاقيات وروحانيات»(12).

كل هذا يشير إلى إحساس متعاظم من داخل أديان العالم وإلى حاجة عبر عنها المجتمع الاقتصادي، ألا وهو أنه من الممكن والضروري في آن واحد للديانات أن تجد إطارا للأخلاقيات والقيم والمثل المشتركة لتوجيه التفاعل الإنساني والمعاملات بين البشر.

وقد يبدو هذا بدهيا للعديد ولا يحتاج إلى بيان، وهذا بالضبط ما أود أن أشير إليه. هناك افتراض ضمني حول الطبيعة الإنسانية تتم صياغته في الوقت الحالي، غير أن هذا الافتراض تجاوز مستوى الخطاب الديني العالمي. ويلحظ عقيل خازن في دراسته حول دولة الإمارات العربية المتحدة أن «التفاعل مع عناصر النظام العالمي الجديد، مثل السياحة والمحطات الفضائية، وتوغل الشركات متعددة الجنسيات... إلخ – كل هذا قد رفع من مستوى الوعي العام حول سمات التشابه والاختلاف بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى، وسهّل بناء هوية دينية بالنسبة إلى الثقافات والمجتمعات الأخرى»(13). وبالرغم من أن خازن يعرض مؤشرات تدل على إيجابية هذا التطور إِلاَّ أن ثمة شيء لم تتم الإجابة عليه وهو ماهية الهوية الإسلامية، وكيف تربط هذه الهوية نفسها مع العالم (أي كيف ترى هذه الهوية نفسها من منظور عالمي). وحتى لو أن هذه الهوية «دينية» إِلاَّ أن ذلك لا يعني أن لها أساسا دينيا محددا وواضحا؛ فنحن نكتسب هوياتنا من مصادر عدة، وهناك طرق كثيرة لتشكيل هذه المصادر وتفسيرها. وإذا ما رغبت الأديان في أن تلعب جماعاتها المؤمنة دورا في السلام والعدل، فعليها أن تعقد العزم على تعريف هذه القيم المشتركة وأن تعتنقها تعبيرا عن إيمانها بها وليس خوفا من التأثير الخارجي.

القيم العالمية الناشئة:

هناك عزم ناشئ على تحديد وتوضيح هذه القيم المشتركة في وثيقة نحو قيم عالمية.14 ويمثل هذا الإعلان «الحد الأدنى من السلوكيات والقيم التي يمكن أن توفر إطارا أخلاقيا أساسيا للبشر»(15). ويعد هذا تجاوب مع الحاجة العالمية لقيم موحِّدة توجه علاقاتنا مع بعضنا البعض. وهي رغم أنها مبنية على أسس دينية، إلا أنها تحمل في طياتها هدف التعبير عن قيم مشتركة التي يمكن حتى للأشخاص غير المتدينين اعتناقها كقيم شرعية ومناسبة للبشر.

وهي مبنية على المطالب الأساسية لاثنتين من التعاليم الدينية موجودتين في الديانات المقدسة في العالم. الأول منها هو أن «كل إنسان يجب أن يعامل بإنسانية»، والثانية: وهي القاعدة الذهبية «ما لا ترغب أن يعاملك به الناس لا تعامل به الآخرين» - أي عامل الناس كما تحب أن تعامل-(16).

ويقود هذا المبدآن إلى أربعة موجهات أخلاقية:

(1) التزام بثقافة اللاعنف واحترام الحياة.

(2) التزام بثقافة التضامن والتكامل ونظام اقتصادي عادل.

(3) التزام بثقافة التسامح وحياة الصدق والأمانة.

(4) التزام بثقافة المساواة في الحقوق والشراكة بين الرجال والنساء(17).

وتمثل هذه الموجهات تحولا في الإطار الفكري للمنظور الأخلاقي من منطلقين. الأَوَّل: أَنَّهَا تمثل منظورا أخلاقيا ينتج عن عملية تبادلية تداخلية فيما بين الأديان، وهذا يوجه ذوي العقائد المؤمنة إلى أن تجد هوياتها الدينية ضمن إطار المجتمع الديني بمعناه الواسع بدلا من البحث خارجه أو التصادم مع عناصره. وهناك إحساس متزايد بأن عالما متعامدا بهذا الشكل (يعتمد بعضه على بعض) يتطلب أن يكون «الواحد متدينا بينيا»(18). أي مع تقدير واحترام للأديان الأخرى والإحساس بعقائدها.

ثانيا: أَنَّهَا تمثل تحولا محوريا في المنظور الأخلاقي من كونه مدخل محدود النظرة وضيق، يعني فقط بالمسؤوليات الأخلاقية لأفراد مجتمع ما، إلى مدخل عالمي يعنى بالمسؤوليات الأخلاقية بين المجتمعات والثقافات والأديان. ولنأخذ على سبيل المثال كتابا من الكتب الرائدة في أمريكا الشمالية حول الفلسفة الأخلاقية. يفتتح الكتاب النقاش حول الأخلاق بطرح ذات السؤال الذي طرحه سقراط منذ 2400 عام مضت: كيف يجدر بنا أن نعيش؟(19). وَمِـمَّا يشد الانتباه أن نرى المدخل الفردي الذي ألمحت إليه جميع الحالات التي تناولها الكتاب ليصبح السؤال كيف يجدر بي أن أعيش؟ وفي أفضل الأحوال، تفسًّر الأخلاق بأسلوب نسبي سعيا من مجتمع ما للإجابة على هذا السؤال. ويمثل هذا إحدى نقاط الضعف التي تشوب الجدل الحديث حول الأخلاق وأحد التحولات النظرية الضرورية. وفي السابق كان اهتمام دين ما بالآخرين من خارجه محصورا في أولئك الذين يقعون في دائرة تأثيره مباشرة، وغالبا ما يكون ذلك في شكل سلطة حاكمة ورعاياها، ومن منطلق هذا المفهوم سن الإسلام مبدأ «أهل الكتاب» أو الذميين (الأقليات الدينية المحمية). ويمكن سرد أمثلة من ديانات العالم الأخرى.20 واليوم، وفي عالم متشابك ومتعامد (يعتمد على بعضه البعض) توسع مجال هذا الاهتمام ليشمل علاقاتنا مع المجتمع الدولي، حتى ولو كانت العلاقات المباشرة قليلة. إن التعايش السلمي لم يعد الآن مصلحة سياسية، ولكن ضرورة عالمية.

استدامة الهوية الدينية

إحدى الملاحظات الناقدة التي يمكن توجيهها للإسلام، و في هذا السياق ينسحب ذلك على جميع الأديان على حد سواء، هي أن معتنقي مبدأ القيم العالمية عادة ما يكونون مفكرين تقدميين لديهم الاستعداد؛ لأن يخرجوا من الإطار الضيق والمحصور للمدخل الفكري التقليدي في الإسلام(21). بعبارة أخرى، إن الاقتناع بالتعددية الدينية والتعاون بين الأديان هو تأثير خارجي على الهوية الإسلامية، وليس نابعا من داخل الدين ذاته. ولذلك يمكن القول بأن هذه المبادرات رمزية الطابع، ولا تمثل هوية مستدامة للمجموعة المسلمة. ولكن إذا ما نظر الواحد إلى التاريخ الإسلامي، فهناك تراث لعالم قام على المشاركة الإيجابية للتعددية الدينية.

ولربما من المناسب أن ننظر إلى مبدأين عامين يقوِّمان مدى استدامة الهوية الدينية في عالم متغير. الأَوَّل: هو مبدأ الحركية، وهو ما يسمح لدين ما أن يتفاعل مع الآخرين، وأن يضم إليه مفاهيم جديدة، وأن يتناول تحديات المجتمع المعاصر بطريقة إيجابية.22 وإبان النمو السريع للإمبراطورية الإسلامية، وجدت هذه الإمبراطورية نفسها تحكم وتتفاعل مع ثقافات وديانات من خلال تطوير فئات علاقية مع قوانين وضعية ومتجانسة تسمح بتعايش ديانات أخرى معها على أراضيها. ويشير هذا إلى مبدأ الحركية ويدلل على تطبيقه. ولربما على مستوى أساسي أكثر، يتمثل هذا المبدأ في العلاقة بين الشريعة والفقه. «إن الأغراض الرئيسة والأهداف الأساسية للقانون الإسلامي (الشريعة) هي التي وضعها الله وليس القانون ذاته، والفقه هو تفصيل لهذه المبادئ والأغراض. وهذا الأخير (أي الفقه) هو نتاج سياقات محددة الزمان والمكان. ولذلك فمن الممكن لأحكام القانون أن تتغير وتتطور حسب الضرورة وحسب الحاجة.»23 إن هذه الحركية والديناميكية مهمة؛ لأَنَّهُ في مواجهة العصرنة يمكن للواحد أن يظن بوجود هوة بين الفقه والقضايا العصرية، ويستخلص من ذلك بشرعة أن ربط حقائق ثابتة أبدية بأوقات متغيرة تعد ظاهرة جديدة على الإسلام(24). بعدها سيبدو أن الحداثة هي التي تقوم بإدخال عنصر الحركية في الإسلام بينما في الحقيقة -ومثلما رأينا- فإن الحركية جزء أساسي من الإطار الفكري الإسلامي لفهم الذات. وما يظهره التاريخ لنا هو أنه كانت هناك فترات عندما عاش المسلمون معتمدين على الفقه الذي استنبطه آباؤهم وأجدادهم بدل الاشتغال بالمشاكل العملية للحياة العصرية وإعمال الفكر بشأنها– وهذا موضوع مركزي ومحوري يواجه جميع الأديان(25). وهذا لا يظهر غياب مبدأ الحركية ولكنه يرتبط بتطبيق المبدأ الثاني.

والمبدأ الثاني للهوية الدينية: هو مبدأ الاستمرارية، والذي يقتضي أن تكون الهوية الدينية للفرد متجذرة في النصوص المقدسة والتقاليد الدينية(26). ولهذا تبعات مهمة فيما يتعلق باشتقاق الهوية والنظرة نحو العالم. وبينما تكون المداخل الحديثة وما بعد الحديثة نحو القضايا العصرية ظرفية، أي أنها محكومة بالقيم المعتنقة والمعتقد بها من قبل الثقافة السائدة حينها، يجب أن تكون الهوية الدينية متجذرة في تراثها ونابعة منه، ولذلك فإن أية هوية دينية جديدة يجب أن تكون متماشية ومتجانسة مع فهم الفرد للدين الذي ينتمي إليه، ومن الواضح أن الإسلام يحتفظ بهذا المبدأ كمبدأ أساسي ومركزي للهوية الدينية.

إن هذين المبدأين يمثلان التجاذب القائم في عملية تأسيس الهوية الدينية. وعند التركيز على مبدأ الاستمرارية إلى حد إهمال أو عزل مبدأ الحركية، يبرز المدخل التقليدي كما حدث في العصور المتأخرة في الإسلام حيث «كان من الأفضل حفظ المعرفة بدلا من إيجادها»(27)، وهنا يظهر تخوين الحديث والوثوق بالماضي الذي ثبت صدقه وحقيقته وانضباطه خصوصا تلك الفترة التي اعتنقت على أَنَّهَا العصر الذهبي. وفي المقابل إذا ما تم التركيز على مبدأ الحركية إلى حد إغفال و عزل مبدأ الاستمرارية تبقى الهوية بالاسم فقط، ولا تعدو أن تكون العباءة التي تغطي الإيدولوجيات، والأفكار المعاصرة التي حلت محل تراث الدين الذي ينتمي إليه الفرد. وفي النهاية يصبح من الصعب التمييز بين الهوية الدينية والنظرة العلمانية. وإذا ما قام الفرد بتخفيف أحمال مبدأ الاستمرارية من النصوص المقدسة والتقاليد الدينية العريقة فإن «ذلك يهدد بأن يحوله إلى مجرد شخص يعتاش على الكفاف في جو أخلاقي يمكن أن يعيقه أو يعطل جهوده لفهم الأحداث الناشئة في المنظور البعيد والمترامي»(28).

ومع الأخذ بهذا في الحسبان يمكننا أن ننظر في تطبيق أكثر تحديدا لهذه المبادئ في التاريخ الإسلامي. ففي المراحل الأولى لنمو الإمبراطورية كان من شأن التعددية الدينية أن اعتنت بأمر اليهود والنصارى، وبناء على المفهوم القرآني (أهل الكتاب) نظر الإسلام إلى أهل هذه الأديان على أنهم ذميون (أقليات دينية محمية) وهذا شيء معروف. ولكن ما لم تتم مناقشته بتوسع كيف أمكن لإمبراطورية اتسعت وتعاظمت أن تخاطب عددا أكبر من الديانات. فبالإضافة إلى اليهود والمسيحيين فإن «فئة أهل الكتاب غالبا ما تتسع لتشمل الزرادشتيين، وأحيان كانت تضم معتنقي ديانات أخرى (مثل الهندوس)»(29). إن هذا التوسع في هذه المعاملة المؤسسية تجاه الديانات الأخرى لم يكن هجرانا لمبدأ الاستمرارية في الدين الإسلامي. وعندما نلتفت بتمعن إلى تفسير الآيات القرآنية بشأن الصابئة، وهي فئة ذكرت على أنها تعتنق دينا سماويا، وتوظيف هذه الجماعة الدينية كوسيلة لمخاطبة التعددية الدينية المتوسعة ضمن إطار قرآني مرجعي. ولأن هوية الصابئة المذكورة في القرآن غير متيقن منها، فقد هيأت مساحة تفسيرية سياقية يمكن من خلالها توسيع معناها الاصطلاحي. «لقد كان من الطبيعي مع الوقت للمؤلفين المسلمين أن يتوسعوا في تطبيق المعنى الاصطلاحي للصابئة ليشمل ليس فقط الجماعات من الماضي السحيق ولكن كذلك الجماعات المعاصرة والأخرى التي اتصلوا بها بما فيها تلك التي كانت في أفريقيا. ولقد أثبت مصطلح الصابئة بكل وضوح بأن أجزل المصطلحات معنى وأكثرها جاذبية لفهم التدين الخارجي ضمن ما يمكن اعتباره على أنه منظور قرآني للعالم»(30).

ويصبح هذا مهما لأَنَّهُ يرد على فرضية أن المداخل الحديثة للتعددية الدينية المطبقة في العديد من الدول الإسلامية قد انحرفت عن التقليد القديم(31). ويحوي التاريخ أمثلة يمكن أخذها على أَنَّهَا امتداد للتراث الإسلامي تظهر مبدأي الحركية والاستمرارية في حالة توازن للتفاعل مع عالم متغير. إن هذا لا يعني أن الواحد يود الرجوع إلى العمل بالإطار السابق لهذه العلاقات في الماضي، ولكننا نود فقط أن نوضح أن المبادئ الموجودة قادرة على التأقلم مع الحاجات المتغيرة.

مداخل إلى التعددية الدينية

تكتسب دراسة لاهوتية الأديان أو لاهوتية التعددية الدينية أهمية متزايدة كأحد المجالات البحثية الرئيسة في الدراسات المسيحية. ومن منظور مسيحي، فإن هذا بالضرورة يعني كيف للمسيحيين أن يعوا موقع الأديان الأخرى ودورها في العالم. وتخصص معظم الأديان دراسات متزايدة في هذا المجال ولو كانت تحت عنوان آخر. ومن المهم مقارنة التطور في الدراسات المسيحية مع الدراسات الإسلامية في هذا المجال.

فبالنسبة للمسيحية، يمكن للإنسان بشكل عام أن يصف تاريخها على أَنَّهُ تاريخ لم تتناول الدراسات خلاله احتمالات الخلاص الأخروي الماثلة في الديانات الأخرى، بل كان الاهتمام منصبا على إمكان إيجاد صيغة للتعامل الإيجابي مع أفراد خارج مؤسسة الكنيسة (أي غير المسيحيين)، ولم يكن منصبا على إمكان صياغة توجه إيجابي نحو الأديان الأخرى من منظور مؤسسي(32). أما اليوم فإن الاهتمام بالديانات الأخرى كهياكل ممكنة للخلاص الأخروي قد انتقل إلى محل الوسط في الدراسات المسيحية. إحدى نقاط التركيز العصرية هذه هي أنه يتوجب على الواحد أن يضفي ميزة الخلاص الأخروي على هذه الأديان لتكون لديه علاقة بناءة معها. ومن ناحية، يمكن القول بأن هذا مناسب لأنه يرمي إلى المساواة بين الأديان جميعها ويجعل من العلاقات والتعاون أمرا سهلا وممكنا. ومن ناحية أخرى، إذا كانت الأديان جميعها واحدة في النهاية، فإن هذا سيقود إلى استنتاج أن «الخصائص المميزة لأديان الشعوب الأخرى – أي بالضبط ما يجعلهم في كفة الآخر (الصفة المقابلة) – لا تتمتع بدلالات دينية البتة»(33). ويركز البحث اللاهوتي على كيفية بناء علاقات الثقة والتعاون بين مجموعة متنوعة من المعتقدات، وفي نفس الوقت احترام وحدة الالتزام بالدين.

لقد تناول الإسلام هذه القضية، ولكن من مدخل مختلف واستنباط مغاير. وتناولت الدراسات والأدبيات الإسلامية قضية الأديان الأخرى كهياكل للخلاص الأخروي في تاريخ مبكر. فعلى سبيل المثال، وفي سياقي الشخصي، يمكننا النظر إلى الرسالة الإباضية سيرة سالم بن ذكوان، وهو نص من القرن الثامن الميلادي يحوي تصنيفا للمعارضين متماشيا ومتجانسا مع ما عرف بعدها (بالملل الست وأحكامها)(34). ويربط إمكان تكوين علاقات مع غير المسلمين بدرجة وجود الوحي السماوي في الدين، ولكن قيمة الخلاص الأخروي للأديان السماوية السابقة تعد من قبيل ما قبل الإسلام، فالإسلام هو الطريق الصحيح والصراط المستقيم، وَإِنَّمَا كانت الديانات الأخرى قبله طريقا للخلاص قبل وصوله(35). وربطت الاحتمالات العلاقية بقيم الخلاص الأخروي ولكنها كانت تاريخية في نهجها.36 وبناء على ما سبق بشأن الدراسات المسيحية حول لاهوتية الأديان، يمكننا أن نرى أن هذا كان عائقا لاعتناق التعددية الدينية، ولكن في نفس الوقت فبإمكان المسلمين أن ينظروا بإيجاب إلى أنفسهم مقارنة مع الآخرين. لقد كان هذا ممكنا بسبب أمر منفصل ولكنه مرتبط، وكان محل نقاش خصائص العلاقات التي على الفرد أن يكونها مع شعوب الديانات الأخرى. وهذه النقطة جديرة باهتمام أولئك الذين يؤمنون بوجوب إضفاء معنى حديث للخلاص الأخروي فيما يتعلق بالديانات الأخرى حتى يمكن تكوين علاقات إيجابية. إن هذا ليس تملقا للهروب من حدود هذه العلاقات التي يمكنها أن تختلف مع ما يمكن للحس العام تقبله في عصرنا الحالي، ولكن لا يمكن للواحد أن يغفل أن هذه العناصر لا تشترك في حدودها، غير أن إيجاد علاقات إيجابية كان ممكنا.

إن هذا يثير سؤالا أكثر عمقا لا تستطيع هذه المقالة أن تتناوله، ألا وهو «ما إذا كان تعدد الأديان حقيقة واقعة أم أَنَّهَا مسألة مبدأ» في هوياتنا الدينية(37). لربما يكون هذا هو الفرق بين أن نرى التعددية كعائق أو أن نراها كمورد يثري تجربتنا. إن القيم العالمية تمثل رغبة متنامية للاستفادة من القواسم العامة والمشتركة التي تربطنا جميعا ضمن إطار التعددية الذي يمنحنا سبيلا حيوية إلى الكينونة في هذا العالم. ولكننا يجب أن نجعل لكل دين مدخلا فريدا خاصا به، ومنظورا يؤسس لإشراك التعددية الدينية. ولربما من خلال فك الخيوط المتشابكة لهذين العنصرين ستوجد ديانات العالم مقدرة على التركيز على خصائص العلاقات التي ستنتج «إجماعا أساسيا بسيطا حول القيم الملزمة، والمقاييس التي لا يمكن نقضها، والتوجهات الأخلاقية الضرورية الأساسية» التي تسيِّر جميع التعاملات الإنسانية ومعاملاتهم نحو ثقافة السلام(38).

مسك الختام

إنني أقرّ وبكل استعداد أن الدراسات التاريخية التي تم عرضها هنا انتقائية بطبيعتها، ولكني أدافع عن هذا الاختيار؛ لأَنَّ الغرض هنا ليس استعراضا مسحيا شاملا، ولكن الغرض هنا الإشارة إلى ما يمكن استشفافه والتنبؤ به اعتمادا على سوابق تاريخية. نحن جميعا نختار الماضي المناسب الذي نعتمد عليه لتبرير مسارنا المستقبلي، إلا أننا كبشر يشتركون -فيما يبدو- أَنَّهُ حيز مكاني آخذ في الصغر علينا أن نتفادى «نزاعات الذاكرة التاريخية». إن هذا لا يعني أن الصراع لا يظهر أبدا، أو أَنَّهُ لا توجد جروح ضاربة في عمق التاريخ، ولكن في عصر عولمي تصبح الدراسات سعيا مشتركا فيما بين الأديان تطالبنا أن نبحث عن «الممارسة المثلى» والاحتمالات الممكنة بدلا من استغلال النظرة التاريخية الدونية لبعضنا البعض – وهي موجودة في خلد الجميع – لتبرير مستقبل الصراعات. إن ما يصوره هنتنجتون كمصير حتمي ما هو في الحقيقة إلا خيار. أما بالنسبة للسؤال الذي ابتدأنا به المقالة: كيف ستعيد الثقافات والديانات تشكيل هويتها وتحافظ عليها في عالم متشابك ومتعامد (يعتمد على بعضه البعض)، فهناك شعوب متدينة تصنع خيارها لتشكل هويات تعتنق تعامدنا واعتمادنا على بعضنا البعض. وأنا، كمسيحي يعمل في سياق إسلامي، أشاهد يوميا أسبابا تحملني على التفاؤل في أن هذا سيستمر. وأخيرا يمكن القول بأن هذا العمل يعكس فضولا علميا حول حوادث يومية ومتكررة.

***************

الهوامش

*) باحث، قس بالكنيسة الإصلاحية الأمريكية.

1-

Pew Center for the People & the Press, “Views of a Changing World,” June 3, 2003, http://people-press.org/reports/display.php3?ReportID=185

2-

Pew Research Center, “Views of a Changing World.”

3-

The Class of Civilizations and the Remaking of World Order (New York: Touchstone, 1996) p. 20

في علم الاجتماع يعبر عنها بالهوية المناقضة (المغايرة)، أي أننا نعبر عن هويتنا ليس بما نحن عليه ولكن بما ما نحن لسنا عليه. ولقد توسع هنتنجتون في هذا المفهوم إلى أبعد مدى.

4- p. 47

5- p. 126

6- p. 267.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك