قضية المرجعية بين الشرق والغرب ومستقبل الدراسات العربية والإسلامية في العالم الجديد
قضية المرجعية بين الشرق والغرب ومستقبل الدراسات العربية والإسلامية في العالم الجديد
وداد القاضي*
لو سألت واحداً من الأساتذة الشبّان الذين يدرّسون الأدب العربي أو التاريخ الإسلامي أو فنّ العمارة الإسلامية في إحدى جامعاتنا العربية اليوم: مَن هم العلماء الكبار الذين يعتبرهم المرجع في الدراسات العلمية في حقله لسميّ لك أسماء علماء عرب أعلام ؛ فإذا سألته مُرْدفاً: وماذا عن العلماء في هذا الحقل في الجامعات الغربية – في أوروبا وأمريكا – لقال لك مستنكراً في الأرجح: في الجامعات الغربية؟! وما للغرب وللدراسات العربية والإسلامية؟ وماذا يعرف هؤلاء عن حضارتنا؟ إنهم يقضون عمرهم وهم يدرسون لغتنا يموتون قبل أن يتقنوها، فمن أين لهم أن يصيروا حجة في دراساتنا؟ إنهم قد يكونون حجة في حقول الطب والفيزياء النووية وأبحاث الفضاء، أما في الحضارة الإسلامية فلا يا سيدي، ثم ألا ترى أنه من الغريب حقّاً أن يقدم غربي على دراسة لغتنا وآثارنا؟ لابد أن يكون وراء إقدامه ذاك غرض خفيّ، كأن يرغب في خدمة بلاده سياسيّاً، أو يردّ على مقولات ديننا الحنيف، أو يرصد نواحي القصور في تاريخنا، وهذا وأمثاله يوحي بالشكّ، وأحرى بمن ليس ثقةً في خُلُقه ألا يكون ثقةً في علمه!
ولو سألت واحداً من الأساتذة الشبّان الذين يدرّسون الموادّ نفسها المذكورة أعلاه في إحدى الجامعات الغربية الكبيرة لعدّد لك –إجابة على السؤال الأول– أسماء كبار علماء الغرب الذين أثروا البحث العلمي في حقله ؛ ولقال لك –إجابةً على السؤال الثاني–: إنّ معظم ما يصدر عن الباحثين العرب والمسلمين –باستثناءات معروفة – مكرّر مُعادٌ لا قيمة له من الناحية العلمية، ولا يفيد في تقدّم البحث في الحقل الذي يدرسه، ولذلك فإنّ قراءة أعمال هؤلاء الباحثين توشك أن تكون إضاعةً للوقت، والوقت أثمن من أن يُهْدَر فيما لا كثير جدوى من ورائه، ويصمت هذا الأستاذ الغربي الشاب قليلاً، ثم يستأنف حديثه قائلاً: أستثني من هذا الحكم منشوراتهم في تحقيق المخطوطات، فهذه مفيدة، وهي تضع بين أيدينا النصوص التي ننطلق منها نحن في أبحاثنا، ورغم أن بعض هذه التحقيقات ليست في المستوى المطلوب من ناحية التدقيق أو الطباعة، فإنها لا تفقد قيمتها فقداناً تامّاً؛ إذ يظلّ أسهل علينا أن نرى النص مطبوعاً أمام أعيننا من أن نسافر تطلّباً له مخطوطاً في مكتبات العالم المتباعدة !
قد يكون هذان الحواران وَهْمِيّين من حيث إنهما لم يحدثا على الحقيقة، إلا أنهما يمثّلان إلى حدّ بعيد الصورة السائدة في أذهان علماء الشرق عن علماء الغرب، وعلماء الغرب عن علماء الشرق اليوم في حقل الدراسات العربية والإسلامية، وقد سمعتُ بنفسي أطرافاً منهما في أوقات مختلفة في أثناء عملي في الشرق والغرب، ولعل بعضكم سمع كلاماً أعنف من جانب فئة ضدّ الفئة الأخرى. وإنهما ـ على أية حال ـ ليشيران إلى وجود مشكلة في هذا الحقل العلمي هي مشكلة وجود فريقين كبيرين من العاملين فيه يعد كل واحد منهما نفسه المرجع الثقة فيه، وينفي بشكلٍ أو بآخر المرجعية العلمية عن الفريق الآخر، ولئن كانت الازدواجية في المرجعية في الحقول العلمية –أو حتى التعدد فيها– أمراً غير ذي خطر بحدّ ذاته – بل لعله مستحبّ في بعض الأحيان، فإن تحدّد قُطْبيْها بشرق إسلامي وغرب غير إسلامي في حقل الدراسات العربية والإسلامية لأمر في غاية الخطورة في نظري؛ لأن ادعاء المرجعية لدى كل من الفريقين مبنيّ على تصوّرين حضاريين مختلفين. ونابع من تاريخين علميّين متباينين، ومعتمد على منهجين في البحث العلمي متفاوتين، والاختلاف في الأصول يولّد الاختلاف في الفروع أو النتائج، وينتج عن اختلاف النتائج رؤيتان للحادثة التاريخية الواحدة أو الفرقة الكلامية المعيّنة أو الأصل الفقهي المحدد ؛ ومع تراكم هذه النتائج تنتج رؤيتان للحضارة الإسلامية كلها، ولخطّ سيرها، ولتاريخ التطورات الحادثة فيها، ثم لمغزى تلك التطورات، وهكذا دواليك، حتى نجد أنفسنا أحياناً وكأننا بإزاء حقلين منفصلين من حقول الدراسة، الذي يجمعهما لا يزيد عن أن يكون رقعةً أرض واحدة، وفترة تاريخية واحدة، وأمة واحدة، ونصوصاً واحدة لا غير، أما فيما عدا ذلك فالازدواجية سيدة الموقف تشحن النفوس، وتشحنها هي بدورها في حركة دائرية مغلقة عقيمة.
ومما يزيد في خطورة هذه المشكلة ويزيدها تعقيداً أمران: الأول يتعلق بطلاب الدراسات العليا من العرب والمسلمين في هذا الحقل في الغرب، فإنه حتى وقت قريب كانت الغالبية العظمى من هؤلاء الطلاب يتخصصون في الدراسات العربية والإسلامية وينالون شهاداتهم العلمية من جامعات البلاد العربية والإسلامية، فيما كانت قلة منهم نسبيّاً تسافر إلى جامعات الغرب للغرض نفسه، غير أن الأمور أخذت تتغير منذ حوالي نصف قرن، إذ أخذت نسبة الطلاب الذين يدرسون في الغرب آخذة بالازدياد، ثم عادت هذه النسبة فارتفعت في العشرين سنة الفائتة، على أثر النمو في هجرة عائلات بأسرها من البلاد العربية والإسلامية، وخاصة منها تلك التي شهدت اضطرابات سياسية معيشية (كلبنان مثلاً) هؤلاء الطلاب يصلون إلى البلاد الغربية وقد تكوّنوا عرباً ومسلمين تكوّناً فكريّاً أولياً، ويبدأون في حضور الدروس على أساطين المنهج الغربي في الدراسات العربية والإسلامية، فيجدون أنفسهم أمام رؤية مختلفة تماماً للتاريخ الإسلامي ولحضارة الإسلام، ويقعون في حيرة شديدة تصل أحياناً إلى حدّ الأزمة الفلسفية، أو كما قالت لي إحدى طالباتي (وقد تزوجت وسافرت مع زوجها من بيروت إلى لندن): إن ما يقولونه مقنع ولذلك لابدّ أن يكون صحيحاً، ولكن ما أعرفه عن ديني وحضارتي هو أيضاً صحيح، والاثنان متعارضان تعارضاً كبيراً، فماذا أفعل؟ وأيّ الصورتين أقبل؟ لقد بدأت أشك في كل ما تعلمته، وإنني لأفكّر جدّياً بترك الدراسة والانزواء في البيت ! ولقد اضطرت الظروف وفاءً –وهو اسم الطالبة– إلى ترك الدراسة فعلاً (وإن لم تنزو في البيت) وقد لا يعاني جميع الطلاب العرب والمسلمين الذين يدرسون في الغرب معاناتها، إلا أنهم دون شك يواجهون بازدواجية في رؤية حضارتهم، ثم يتخذون من هذه الازدواجية مواقف مختلفة، فتنشأ بينهم الانشقاقات الفكرية العميقة، وقد يختار بعضهم الرجوع إلى بلاده قبل إنهاء دراسته، بينما يقرر آخرون الهجرة النهائية إلى الغرب والبقاء فيه، مشكلة الازدواجية إذن مشكلة خطيرة على المستوى التربوي، ولها تأثيرها على ما أصبح يسمى بهجرة العقول، وهي ظاهرة اجتماعية خطيرة بدورها تؤثر تأثيراً كبيراً في تركيبة المجتمع العربي والإسلامي، وفي نسبة فئاته بعضها إلى بعض، كما تحدّ من الطاقات المنتجة فيه.
الأمر الثاني الذي يزيد في خطورة هذه المشكلة هو أن ازدواجية المرجعية تهدد حقل الدراسات العربية والإسلامية بالانحسار، فالعالم الجديد عالم لا يرحم، إنه عالم لا يعاني وحسب من قلة الموارد المالية، بل هو أيضاً عالم قد حَوّلَ الكرة الأرضية كلها إلى ما يشبه القرية الصغيرة بعد القفزات الهائلة التي أحدثتها الاكتشافات العلمية في العقدين الأخيرين في حقل الكمبيوتر، وخاصة في مجال الاتصالات المباشرة عبر القارّات، في هذا النوع من العالم، تشتدّ المنافسة اشتداداً ضارياً، وتجري الأمور بسرعة مذهلة، وتتغير المعطيات في كل يوم. وفي خضمّ هذا البحر ذي اللجج لا يثبت سوى القوي ويتلاشى الضعيف، وإن هذا لما يفسّر النزعة السائدة اليوم إلى العولمة (Globalization)، وهي نزعة تُشير الدلائل إلى أنها ستكون سيدة الموقف في المستقبل، ويعني بها في مجال المال والأعمال حيث تقوم المؤسسات الصغيرة بالانضمام إلى مؤسسات أكبر منها، أو تقوم الشركات الكبيرة بضمّ غيرها إليها، فتزيد قدراتها وطاقاتها وإمكاناتها، فيشتدّ ساعدها، وتزداد من ثَمّ مجالات تحركها ونوعيته، وبذلك تصبح أقدر على الثبات في العالم المتغيّر من حولها، ولا تكون عرضةً للاستضعاف أو مهددة بالزوال. ولئن كانت هذه النزعة نحو العولمة واضحة بَلْقاء في الطرائق التي تتحرك بها مؤسسات العالم الاقتصادية فإنها تجد تعبيراً أشدّ لطفاً وخفاءً لها في المجالات الأخرى، ومنها – على سبيل المثال – مجال أقسام العلوم، ولعلكم لاحظتم ازدياد التقارب بين دائرة العلوم الاجتماعية ودائرة العلوم الإنسانية (الآداب) وانبهام الخصوصية الحادة لكل منهما على حدة، فالعلاقة الحميمة بين الأنثروبـولوجيا (وهي من العلوم الاجتماعية) وعلم اللسانيات (وهو من العلوم الإنسانية) معروفة، بل إن علم التاريخ يعد من أقسام كليات العلوم الإنسانية في بعض الجامعات، فيما يعد قسماً في كليات العلوم الاجتماعية في جامعات أخرى.
وما أريد أن أخلص إليه هو أنه إذا كان العالم الجديد يشجّع – بل يفرض – بطبيعته عمليات المدمج والتدعيم على أشكالها ـ فإنّ الانكسار أو التجزؤ في المجال الواحد يضعف هذا المجال كثيراً، ولا يمكّنه من مقاومة التيارات المتعددة حوله، ويعد بأن يقضي عليه بالتراجع أو الانحسار، فإذا أضفنا إلى ذلك خطر الازدواجية في المرجعية العلمية في حقل الدراسات العربية والإسلامية على المستوى التربوي والاجتماعي في بلادنا فإننا نصل إلى نتيجة ضرورية وهي أننا – نحن العاملين في هذا الحقل – مطالبون بأن نعزّز التوحّد المرجعي في حقلنا، فنضمّ إلى قدرات الشرق قدرات الغرب فيه، فإنه بذلك وحده يمكن لهذا الحقل أن ينمو ويشتدّ ساقه ويقوى على مجابهة الأعاصير في العالم الصغير الذي نسير باتجاهه.
وإنني لأعترف أنه من الصعب علينا بالذات –نحن العرب والمسلمين– أن نقبل ذلك –فضلاً عن نعمل من أجل تحقيقه– لأننا أبناء الحضارة واللغة والتراث، ومشكلاتنا اليوم تحدّد الكثير مما يحدث في المجال العلمي، وأعدادنا –طلاباً وباحثين– أضخم، وأهمية الموضوع بالنسبة إلينا –لعلاقته بالهوية والدين– أكبر، وحرصنا عليه أشدّ، والأهواء الخارجية المؤثرة سلباً فينا معدومة أو شبه معدومة ؛ ثم إن تجربتنا مع الغرب في الماضي البعيد والقريب سيئة، وثقتنا به معرّضة دائماً للاهتزاز، وخضوعنا له –مستهلكين لإنتاجه في السلع والتكنولوجيا– جميلٌ، لكنه أيضاً منفّر مزعج مؤرّق لأنه يذكّرنا بتقصيرنا في إطلاق الحضارة الصناعية والتكنولوجية الحديثة وتطويرها بعد أن كنّا صنّاع حضارة عالمية كبرى في الماضي.
غير أننا إذا كنا نريد لحقل الدراسات العربية والإسلامية أن يستمر على المدى الطويل، وأن يكون حقلاً فاعلاً في مجال البحث العلمي في الحضارة العالمية الحديثة، فلا بدّ لنا من أن نتنازل عن كبريائنا ونعترف بشجاعة بعدّة أمور، منها:-
أ) أن الحضارة الإسلامية وإنْ كانت تشكّل أساس هويتنا فهي في نهاية المطاف حضارة إنسانية كبرى أدّت خدمات جُلّى للبشرية كافة، فهي من ثم ليست ملكاً خالصاً لأحد يحتكره من دون سائر الناس.
ب) أن الحضارة الإسلامية بلغت أوجها عندما تمكنت من أن تستوعب إنتاج مختلف الحضارات التي سبقتها في الأراضي الشاسعة التي قُدّر لها أن تحكمها، ثم أن تعيد تشكيلها وإعطاءها صورة جديدة، هي الصورة التي رسمتها لنفسها، ولوّنتها بألوانها. وعلى العكس من ذلك، قد ضعفت هذه الحضارة ووهنت قواها عندما عجزت عن استيعاب المتغيّرات في العالم حولها فجرَ العصر الحديث، وأن هذا العجز لهو الذي جعلها غير قادرة على التجدد وعلى خلق الرموز التي تبقي لأي حضارة حيويتها وإلهامها لأهلها وقيادتها لغيرها.
ج) أن حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب هو ابن من أبناء الحضارة الغالبة اليوم، وهو يتمتع –مثلها– بحيوية شديدة تعد بأن تستمر في المستقبل في العالم الجديد، ولعل واحداً من أسباب حيويته قدرته على استيعاب المتغيّرات حوله. فعلَ مجال الحضارة الإسلامية أيام سموقها.
د) أن المرجعية في حقل الدراسات الإسلامية التي يدّعيها الغرب يعترف له بها -وسيظلّ له بها– أكثر من نصف سكان المعمورة، وإذا أدرنا ظهرنا –نحن العرب والمسلمين– لهذه المرجعية محتقرين لها، مترفعين عنها- فإنها لن تتلاشى وتذوب ثم تنتهي في وجه الأرض، بل هي ستستمر طالما أن الحقل قادر على حمايتها، فالمرجعية –وهي نوع من أنواع السلطة– لا يصل إليها الأفراد أو الجماعات تلقائيا أو بالوراثة، كما لا يصلون إليها بالفرض والقهر، وإنما يحصِّلونها بالاستحقاق الناتج عن العمل المتميّز في حقلٍ ما، فيلتفّ الناس حولهم طوعاً، معلنين عن اعترافهم بريادتهم فيه. وحيث إنه قد اعترف لحقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب بالمرجعية لا في أرضه وحدها –في أوروبا وأمريكا– بل أيضاً في أراضٍ بعيدة كاليابان والصين، فإن خطابه عن حضارتنا مسموع مطاع، وأحرى بنا أن نشارك في تشكيل هذا الخطاب من أن نتركه للغرب وحده، وإننا لئن فعلنا ذلك حقاً لكنا سائرين على هدى الحضارة الإسلامية أيام عزها، أيام كانت قادرة على التغيّر والتغيير بتغيّر العالم من حولها.
إن الدعوة إلى التواصل ما بين الشرق والغرب في حقل الدراسات العربية والإسلامية - ليس أمراً جديداً، وإن التواصل ذلك قد بدأ بالحدوث فعلاً منذ بضعة عقود، إلا أنه لم يؤتِ ثماره الكبيرة بشكل واضح بعد؛ لأن معظم الاتصالات بين الطرفين إما فردية وإما متفرقة مفتقرة إلى التخطيط البعيد المدى، وإما هي تفتقد الفهم التدقيق من جانبنا لجذور الحقل في الغرب وتاريخ تطوره وحاله اليوم، والملامح الأساسية التي جعلته يتسنّم رتبة المرجعية في أنحاء كثيرة من العالم، وإنني من هذا المنطلق سوف أتحدث عن فيما تبقى من هذه الكلمة عن أصل هذا الحقل في أوروبا وأثر بداياته في تشكيله هنالك وفي أمريكا، ثم أتحدث عن ثلاثة من المعالم الكبرى فيه، وأختم الورقة ببعض المقترحات عن المجالات التي يمكن فيها لتعاون الشرق والغرب أن يوحّد -على المدى الطويل- المرجعية في هذا الحقل، ويقوم بخدمته وتغذيته طلباً لاستمراره قوياً فاعلاً في المستقبل.
ورغم أن اهتمام أوروبا بالإسلام -ديناً مناوئاً للمسيحية- ظاهرة قديمة ترجع إلى القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، فإن هذا الاهتمام لم ينتج حقلاً واضح المعالم لدراسات الحضارة الإسلامية، وكان على المرء أن ينتظر مدة خمسة قرون حتى يظهر مثل هذا الحقل، ومدة قرن آخر حتى يصبح حقلاً ذا سماتٍ مميزة ومراكز للأستاذية ثابتة في جامعات أوروبا ثم أمريكا.
ويعد هذا الحقل في نظري نتاجاً طبيعياً للحركة المسمّاة "الدراسات الإنسانية" (Studia Humanitatis)، تلك الحركة التي بدأت في إيطاليا في القرن التاسع/الخامس عشر، فاتحةً الباب أمام بداية عصر النهضة (Renaissance) في أوروبا، ومتسلمةً عصا الريادة فيما يمكن تسميته بالدراسات الحضارية، وذلك بتركيزها على دراسة حضارة يونان ورومان فيما أصبح يسمى بالحضارة الكلاسيكية. ولقد حدّدت هذه الحركة متطلبات دراسة الحضارات، ومفهوم الحضارة، والمنهج الذي ينبغي إتباعه في دراسة الحضارات ؛ وهذه الأمور الثلاثة هي التي رسمت إلى حدّ بعيد ملامح الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا وأمريكا حتى فترة ما بين الحربين على الأقل أما متطلبات دراسة الحضارات فقد حددتها الدراسات الكلاسيكية بأنها المعرفة الشمولية للحضارة أدواتٍ وموضوعاً. ولقد حدّد علماء الدراسات العربية والإسلامية الإطار الزمني والجغرافي لمجال علمهم بأنه الأراضي والشعوب والثقافات التي شكلتها الحضارة الإسلامية منذ ظهور الإسلام وحتى عصرهم أيام سيادة السلطنة العثمانية في الشرق، أي من المحيط الأطلسي حتى إيران ووسط آسيا، من دون شبه القارة الهندية على الأكثر، وقد قادهم هذا التحديد والمتطلبات المفروضة في دراسة الحضارات إلى دراسة عدد كبير من اللغات فكان كل واحد منهم -دون استثناء تقريباً- يعرف العربية والفارسية والتركية، ويتقن إلى جانب ذلك اللاتينية واليونانية وعدداً من اللغات الأوروبية ؛ وكانت نسبة غير قليلة منهم تعرف أيضاً بعض اللغات الساميّة، وخاصة العبرية والآرامية، على أساس أنها لغات تسعف في دراسة اللغة العربية، كبرى اللغات الإسلامية، وكما كانت معرفة هؤلاء العلماء بأدوات الحضارة التي يدرسونها واسعة، كذلك كانت معرفتهم بموضوعهم شاملة، فكانوا على اطِّلاع جيّد بجميع نواحي الحضارة الإسلامية من اللغة والشعر والبلاغة والدين والتاريخ والفلسفة والعلوم، ومعظمهم ألّف في عدد من تلك المجالات، وقلّما ظهر بينهم تخصص ضيّق دقيق، وعدد كبير منهم سافر إلى البلاد العربية والإسلامية في رحلات مدوّنةٍ طلباً للتعرف عن كثب إلى أهل تلك الحضارة وثقافاتها وطرائق عيشها.
ولقد اتبع هؤلاء العلماء سنّة علماء الدراسات الكلاسيكية في المنهج أيضاً، فاعتمدوا مثلهم المنهج الفيلولوجي التاريخي، وهو المنهج الذي يقرر أن دراسة حضارةٍ ما يتمّ عن طريق تحليل النصوص الأصلية التي أنتجتها الحضارة تحليلاً لغويّاً تاريخياً دقيقاً بناءً على أسس محدّدةٍ تحديداً دقيقاً، وعلى تحقيق المخطوط من آثارها، وعلى ترجمة تلك الآثار حيث تدعو الحاجة إلى ذلك. وقد ظلّ هذا المنهج هو المسيطر على الدراسات العربية والإسلامية –وغيرها من حضارات الشرق الأدنى– في الغرب في الفترة موضوع البحث، بل إنه تحذّر فيها، وبلغ من شدة ارتباطه بها أنه مازال حتى اليوم –إلى حد بعيد– تُعَدُّ المنهج الأكثر رواجاً في إنتاجها. وقد أدّى الأخذ بهذا المنهج إلى نشر كمية كبيرة من الدراسات المهمة عن مختلف وجوه النشاط في الحضارة الإسلامية – دراسات شديدة الدقة، كثيرة الاعتماد على التحليل، شديدة الأخذ بالتفاصيل، كثيرة الإلحاح على فهم التطور الحضاري عن طريق رصد التغيّر في الاستعمال اللغوي، ومعظمها كان يتميّز بالحدّة في النظر إلى الحضارة الإسلامية، وبالجرأة في استحداث القوالب المختلفة لفهمها، ويفتح الباب واسعاً أمام التأويلات المتعددة لظواهرها. كذلك أدّى الأخذ بهذا المنهج إلى نشر عدد كبير من التحقيقات لأمهات الكتب العربية، ولعدد أقلّ من الكتب العربية، ولعدد أقلّ من الكتب الفارسية والتركية، وقد اعتمد العلماء المحققون في ذلك على نسخها المخطوطة المحفوظة في مكتباتهم العامة ومكتبات جامعاتهم الكبرى، وسنّوا عن طريقها سنناً في التحقيق العلمي ما يزال معظمها متبعاً حتى اليوم. وقد بلغت حماسة بعضهم لهذا الفن من العمل العلمي أنه عندما كانت الأعمال التي يحققونها تفوق طاقات المطابع المتوفرة في بلادهم، كانوا يلجأون إلى كتابة نسخة محققة واحدة بخط اليد، ثم تأخذ المطابع هذه النسخة فتستخرج منها نسخاً تقوم بنشرها، وتعد نشرة العالم الألماني هنري فردنند فستنفلد (1223-1327/1808-1899م) – محقّق لنحو مائتين من مخطوطات جامعة غوطا – لكتاب وفيات الأعيان لابن خلكان في عدّة أجزاء بين سنتي (1251/1835م و1268/1850م) نموذجاً أخّاذاً على ذلك. كذلك قام هؤلاء العلماء –بناءً على المنهج الفيلولوجي نفسه– بترجمة عدد كبير من الكتب العربية والفارسية والتركية إلى اللاتينية أو الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية، وبعضهم جمع بين التحقيق والترجمة والدراسة، فكان كل ذلك إثراءً للمكتبة الإسلامية ما بعده إثراء.
ولقد تأثر علماء الدراسات العربية والإسلامية في الغرب بعلماء الكلاسيكيات أيضاً في مجال فهم الحضارات، فبدت لهم الحضارة الإسلامية –كالحضارة الكلاسيكية– حضارة كبرى أدلت بدلوها في تاريخ الحضارات الإنسانية. وقد كان لهذا الفهم آثاره المتعددة في عمل هؤلاء العلماء، فإنه في حين جعل من الحضارة الإسلامية علماً من أعلام التاريخ البشري يستحق الإجلال والعرفان (ومن ثَمّ الدراسة)، فإنه جعل منها في الوقت نفسه مجرّد واحدة من الحضارات، لا مركزها جميعاً، ولا ميزة لها في ميزان الحضارات المطلق على غيرها. ولم يكن هذا الأمر مستغرباً من هؤلاء العلماء، إذ لم يكن بينهم مسلمون، ولعله كان بينهم من يرى نفسه مشدوداً نفسيّاً إلى الحضارة الكلاسيكية –أساس حضارة أوروبا الحديثة في نظرهم– أكثر منه إلى الحضارة الإسلامية. ولقد كان واضحاً في عمل هؤلاء العلماء أنهم يشعرون بنوعٍ من المسافة بينهم وبين مادة الحضارة التي يدرسونها، ويبدو أنّ هذا كان عاملاً إيجابيّاً –لا سلبيّاً– في نظرهم؛ لأن المسافة تضمن للدارس ألاّ يتأثّر في أحكامه العلمية بالعوامل الشخصية الذاتية التي تلفّ حول ذهن المفكّر غيوماً من الهوى، فتفقد أحكامُه من ثَمّ موثوقيتها وتعرّض استنتاجاته للشكّ. كذلك كان من نتائج الأخذ بهذا المفهوم للحضارة أنْ نَظَرَ العلماء هؤلاء إلى الحضارة الإسلامية على أنها –مثل أي حضارة أخرى– ذات نتاج بشري خالص، وينبغي أن تُدْرَس على هذا الأساس؛ فإذا كان لديها مقدّسات لا تُمَسّ، فإنّ هذا شأنها، ولدارس الحضارة الخارجي أن يسجّل ذلك لها دون أن يأخذ به في تحليلاته واستنتاجاته، وقد كان لهذا المفهوم الحضاري أثره الواضح في بعض الدراسات الغربية عن بعض الجوانب في الحضارة الإسلامية، وعندما اقترن هذا المفهوم بالمنهج الفيلولوجي الصارم في تلك الدراسات، اعتبرت الرواية النقلية –شأنها شأن أي نشاط بشري– أقل موثوقية من الشهادة اللغوية، وأقلّ اعتباراً في ميزان العلم من التصوّر التاريخي لنشوء المجتمعات وتطورها، فكان لهذا المذهب أثره الكبير في الدراسات الغربية عن الحديث النبوي والتاريخ الإسلامي المبكّر بشكل خاص.
على أنه –خلافاً للدراسات الكلاسيكية– نشأ حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب في البيئة الجامعية، ولا يزال حتى اليوم مقترناً بالجامعات ومعاهد الدراسات العليا في أوروبا وأمريكا، وقد كانت الكشوف العلمية التي حققها العلماء الأساتذة فيه ضماناً لاستمراره بل باعثاً على إنشاء المزيد من المراكز والكراسي له، وقد أسعفت هذا الحقل على الثبات والاستقرار في مراحله التكوينية بعض الظروف التي كانت تعيشها أوروبا آنذاك. فالعلاقات بين بعض الدول الأوروبية والسلطنة العثمانية شجعت الدول الأوروبية على دعم هذا الحقل في بلادها، إذ وجدت هذه الدول أنها بحاجة إلى خدمات العلماء في الشؤون الإسلامية والعثمانية، وبسبب ذلك –مثلاً– عُيّن العالم النمساوي هامر بورجشتـال (1188-1273هـ/1774-1856م) سكرتيراً ومترجماً للسفير النمساوي في الآستانة، فمستشاراً للسفارة النمساوية في باريس، فترجماناً للإمبراطور فرنسيس الأول ثم مستشاراً له. كذلك نال هذا الحقل دعماً من الدول الأوروبية عندما بدأت هذه الدول باستعمار البلاد الإسلامية المختلفة منذ القرن التاسع عشر، ووجدت نفسها بإزاء أقوام وشعوب لا تعرف لغاتهم ولا ثقافاتهم ولا تاريخهم ولا حضارتهم، فاستدعت لخدمتها علماء الدراسات الإسلامية، ومنهم – مثلاً – العالم الهولندي سنوك هوفرونيه (1273-1355هـ/1857-1936م) الذي أقام في جزيرة جاوة مدة سبعة عشر عاماً أيام كانت إندونيسيا جزءاً من المستعمرات الهولندية، وقد شغل هو نفسه –قبل أن يحتلّ منصب الأستاذية في جامعة ليدن– منصب مستشار في الشؤون الإسلامية بوزارة المستعمرات الهولندية. ومن الأسباب العلمية لا السياسية التي دعمت حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب أن هذا الحقل تزامن ظهوره مع ظهور حقل دراسات الكتاب المقدّس، وقد وجد العاملون في ذلك الحقل أن الحاجة ماسّة لديهم إلى دراسة اللغة العربية لأنها –كالعبرية والآرامية– من اللغات الساميّة، بل هي أكثر اللغات السامية تعقيداً وتقدماً واتساعاً، وأحدثها زمناً، وهي اللغة الوحيدة من بينها التي ما تزال لغة حيّة متطورة، وقد اقترن بهذا العامل العلمي عامل ديني في دراسة العربية بالذات لأنها لغة القرآن الكريم، وقد كان هناك في أوروبا ثم أمريكا من يرى في الإسلام عدواً لابد من فهمه من أجل الردّ عليه، أومن يرى في التبشير في أوساط المسلمين واجباً منوطاً به.
بعد هذا العرض السريع لنشأة حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب أودّ أن أتوقف عند ثلاثة من ملامحه الرئيسية، وهي النزعة المؤسسية، والاتجاه نحو تلبية حاجات الحقل، ثم التطوّر مراعاةً لمتغيرات العصر.
1- قد ذكرت من قبل أن حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب ارتبط منذ بداياته بالمؤسسة (الجامعية)، أي بالعمل الجماعي المنظّم الرسمي الذي يشكّل مظلّةً فوقية للعمل العلمي الفردي. ولعلّ هذا العامل هو الذي لوّن إلى مدى بعيد طريق التطور الذي سار فيه من بعد، إذ استمر العاملون فيه في إنشاء المؤسسات وما يزالون حتى اليوم.
(أ) فمنذ القرن التاسع عشر أسس هؤلاء الجمعيات العلمية الخاصة بحقهم، مثل الجمعية الشرقية الألمانية (Deutsche Morgenlandisch Gesellschaft) والجمعية الشرقية الأمريكية (American Oriental Society) والاتحاد الأوروبي لعلماء الدراسات العربية والإسلامية (Union Europeenne d’Arabisants et Islomisants) وجمعية دراسات الشرق الأوسط لشمال أمريكا. (Middle East Shudies Association (Of Northn America وكانت هذه الجمعيات تنال الدعم المالي من الاشتراكات التي تجمع من أعضائها ومن بعض المنح المتفرقة.
(ب) وقد نتج عن عدد من هذه الجمعيات مؤسسة من نوع آخر هي المجلات العلمية، مثل مجلة الجمعية الشرقية الألمانية (ZDMG) ومجلة الجمعية الشرقية الأمريكية (JAOS) المذكورتين أعلاه، وقد نجحت مؤسسة المجلة العلمية في تبيين الأهمية الكبرى لنشر البحث العلمي القصير في حقل الدراسات العربية والإسلامية، إذ كان من الواضح أنّ عملية النشر لا يمكن أن تنحصر في شكل الكتاب؛ لأن إعداد الكتاب العلمي يستغرق وقتاً طويلاً ينحجب خلاله عن جمهور العلماء والطلاب الاطلاع على النتائج العلمية المراد التوصّل إليها فترةً طويلة، وبذلك يتأخر النتاج العلمي عن التطور بالسرعة التي تُرْجَى له، ولقد كان من الواضح أن التطوير العلمي كان من الأهداف الرئيسية لمؤسسة المجلة، ولذلك لم تقم تلك المجلات بنشر جميع المقالات التي تصلها، بل كانت –وما تزال– ترسل كّلاً منها إلى محكّمين خارجيين يجهل أسماءهم وهوياتهم المؤلفون، فيكتب هؤلاءِ تقاريرَ عن المقالات المعروضة عليهم قبل الإيصاء بنشرها أو عدمه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن القيمين على تلك المجلات لم يدر في خلدهم أن يكافئوا الكتّاب مالياً على مقالاتهم، على اعتبار أن النشر ليس عملية كسب، وإنما هو شأن علمي بحت، بل إنه هو نفسه مكافأة للباحث على عمله، كما أنهم قرروا ابتداءً أن اللغة التي تكتب بها البحوث في مجلاتهم لا يلزم أن تكون بالضرورة لغة البلد المقرّ للجمعية، وإنما يجوز أن تكتب هذه البحوث بأي لغة أوروبية. وقد كان لهذا الأمر الأخير أثره الكبير في حقل الدراسات العربية والإسلامية، إذ إنه فرض على الباحثين فيه أن يكونوا قادرين على قراءة عدد من اللغات الأوروبية (وإن لم يحسنوا التكلم بها)، وسرعان ما امتدّ أثر هذه القاعدة إلى كبرى المؤسسات الجامعية في أوروبا وأمريكا، فأصبح اجتياز امتحانات في ثلاث لغات أوروبية (هي عادة الإنجليزية والفرنسية والألمانية) أمراً مفروضاً على طلبة الدكتوراه المتخصصين بالدراسات الإسلامية وتعد شرطاً لتخرّجهم.
ولقد قامت مؤسسة المجلة العلمية –إضافة إلى تعميم المقالة العلمية– بدور مهم في تعريف قرّائها على آخر ما يصدر من الكتب في العالم في موضوع الدراسات الإسلامية على أنها وجدت أن مجرّد الإعلان عن الكتب التي تصلها لا يخدم مهمتها العلمية، ولذلك ارتأت أن تنشر مراجعات علمية عنها، يتم فيها تقويم تلك الكتب، فيستفيد من تلك المراجعات القارئ وصاحب الكتاب معاً، ولقد لاقت هذه العملية رواجاً كبيراً، وكان لها اليد الطولي في تبيين المكانة التي يحتلها العلماء المختلفون في حقولهم الفرعية، كما أنها أصبحت بمرور الزمن ذات أثر بعيد في التعيينات للتدريس في المناصب الجامعية وفي ترقيات الأساتذة من رتبة إلى رتبة أعلى.
وبعد، فإنّ عدداً من المجلات خصص بعض صفحاته لأخبار الجمعية التي عنها تصدر ولأعضائها، وخاصة في أحوال الوفاة، فكانت بذلك مؤكدة لدورها المؤسسي الجماعي داخل الحقل الدراسي.
(ج) وانسجاماً مع فكر المؤسسة، قامت الجمعيات العلمية بالاشتراك مع الجامعات بتطوير مؤسسة أخرى هي المؤتمرات الدورية لحقل الدراسات العربية والإسلامية، وميزة هذه المؤتمرات أنها تنعقد في أوقات محددة من السنة، إما سنوياً أوكل سنتين أوكل ثلاث سنوات، ولذلك يستطيع الباحث أن يخطط لها مسبقاً، ويستطيع أن يقدّر ما يناسب المؤتمر الواحد دون الآخر، ويمكنه أن يتوقع الفائدة المعينة من هذا المؤتمر أو ذاك، ومن اللافت للنظر أنه منذ بدأت هذه المؤتمرات بالانعقاد في القرن التاسع عشر كان الغالب عليها العالمية لا المحليّة، كما نراه في سلسلة المؤتمرات العالمية المعروفة باسم (International Congresses)، وهي ما تزال مستمرة حتى اليوم، وما لبث أن غلب عليها من بعد الاتجاه القارّي، كما نراه في مؤتمرات الاتحاد الأوروبي المذكور سابقاً (وتنعقد كل سنتين) ومؤتمرات الجمعية الشرقية الأمريكية (وتنعقد سنوياً) وقد شجّع الاتجاه نحو العالمية أو القاريّة العلماء على حضور هذه المؤتمرات، وخاصة لأن البحوث التي تلقى فيها كثيراً ما تنشر، وذلك رغم أن منظمي هذه المؤتمرات لا يتحملون نفقات السفر والإقامة للمشاركين فيها، وقد ظلّت القيمة العملية للبحوث الملقاة في هذه المؤتمرات غرضاً يسمو إليه منظّموها، ويحاولون إيجاد السبل لتحقيقه، إلا أن ذلك أمر لم ينجحوا فيه إلا قليلاً نظراً لطبيعة مؤسسة المؤتمرات نفسها.
(د) ومن الخطوات المؤسسية التي أقدمت عليها الجمعيات والجامعات في حقل الدراسات العربية والإسلامية إنشاء المعاهد العلمية في المدن العربية والإسلامية على أن تكون المعاهد هذه امتداداً لها وصلة وصل بينها وبين البلاد التي تدرس حضارتها، كالمعهد الألماني للبحوث الشرقية في بيروت، والمعهد الهولندي للآثار في القاهرة، والمعهد الفرنسي في دمشق، والمعهد الأمريكي للبحوث في استانبول، وقد قامت هذه المعاهد بتعريف جمهور واسع من المجتمعات العربية والإسلامية إلى أعمال العلماء الغربيين في حقل الدراسات العربية والإسلامية، وشجعت التعارف بين العلماء الأجانب والمسلمين، كما أنها فتحت المجال أمام الباحثين الغربيين الشبّان للعيش والعمل في البلاد الإسلامية وللتعرف عن كثب على لغاتها ولهجاتها وثقافاتها وإنتاجها العلمي والأدبي، ولقد تفاوتت هذه المعاهد في تشعب نشاطاتها، وبعضها أبدى حيوية لافتة للنظر في مجال نشر الكتب –من دراسات وتحقيقات– في التراث الإسلامي، متحملاً في غير حالةٍ مسؤولية استقطاب عدد كبير من الباحثين المسلمين والغربيين لإنجاز مشروعات الكتب الكبيرة المتعددة الأجزاء، ككتاب الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي الذي يعمل المعهد الألماني في بيروت على نشره –وما يزال– منذ إنشائه سنة (1380/1960م) بل لقد بلغ من نشاط بعض هذه المعاهد أن أخذت تصدر مجلات علمية خاصة بها، وإن مجلة الدراسات الشرقية (BEO) الصادرة عن المعهد الفرنسي بدمشق لهي خير مثال على ذلك، وهي تعدّ في مصاف المجلات العلمية العالمية الرفيعة.
(هـ) وكما اتجهت الجمعيات والجامعات نحو إيجاد المؤسسات لتشجيع الدراسات العربية والإسلامية وتطويره، كذلك اتجه بعض الأفراد والمجموعات من علماء هذه الدراسات إلى إيجاد مؤسسات إضافية في شكل معاهد مستقلة عن الجامعات تكمّل برامجها في البحث والتدريس، فِعْلَ العالم الإيطالي كارلوألفونسونللينو(1288-1357هـ/1872-1938م) في تأسيسه المعهد الشرقي في روما، والعالم التركي المولد، الألماني الإقامة فؤاد سزكَين في تأسيسه معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت، وقد حذا مؤسسو بعض هذه المعاهد حذو الجمعيات والجامعات، فأصدروا المجلات العلمية الخاصة بمعاهدهم، كما هو الحال في معهد روما الذي صدر عنه مجلّتا الشرق الحديث (Oriente Moderno) ومجلة الدراسات الشرقية (RSO)، أما معهد فرانكفورت فإن مؤسسه أصدر عنه– وما يزال– سلسلة في المنشورات لعيون الكتب العربية مصوّرةً عن خير مخطوطاتها، فوضع بذلك بين يدي الباحثين مجموعة من أهم الكتب التراثية الضخمة وعلى رأسها الكتب المتعلقة بالعلوم الإسلامية.
(و) ومع ازدياد النشاط في حقل الدراسات العربية والإسلامية وجدت بعض كبار دور النشر في أوروبا ألاّ بدّ من أن تشارك مشاركةً فعّالةً فيه، فاقتنت الحروف العربية (والحروف الإضافية من الفارسية والتركية) وصنعت قوالب للحروف اللاتينية ذات الإشارات اللفظية التي تمكنها من التعبير عن الأصوات الخاصة في اللغات الإسلامية، وشرعت بنشر الكتب المحققة باللغات الإسلامية والدراسات المكتوبة باللغات الأوروبية، ثم تطورت باتجاه مؤسسي أوسع عندما أخذت تصدر سلاسل من المنشورات ينتمي كلها إلى موضوع واحد، وما لبثت أن خطت خطوة أخرى إلى الأمام إذ تحملت مسؤولية إصدار مجلات علمية خاصة بها وجدت أن السوق يستوعبها، ونموذج دار بريل للنشر في ليدن معروف، فعنها صدرت محققةً أمهات الكتب العربية الكبيرة كتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد، وسلسلة المكتبة الجغرافية (BGA)، وعنها تصدر مجلات عديدة من أمثال مجلة العربية (Arabica) ومجلة الإسلام أو(DieWelt Des Islams)، وكلها تنشر مقالات محكّمة رفيعة المستوى.
2- هذا الملمح هو اليقظة التي تميّز بها هذا الحقل بحيث كان وما يزال يقدّمُ الإضافات بعد الإضافات تلبيةً للحاجات الطارئة داخله، وأرى أن هذا الملمح من أهم ملامح الحقل في الغرب، وهو من العوامل الرئيسة التي حفظت له حياته في بيئات غربية عنه، وعملت على استمرار الحيوية فيه، ووطّدت مرجعيته في معظم أنحاء العالم، والجدير بالذكر أن هذا الملمح ليس مستقلاً عن الملمح المؤسسي، بل إن الاثنين تضافرا معاً لاستمرار الحقل في عطائه الغزير.
(أ)فمن مظاهر تلبية الحقل لحاجاته ظاهرة عمل الفهارس للمخطوطات، وقد أشرت من قبل إلى ارتباط العمل في تحقيق المخطوطات بالمنهج الفيلولوجي الذي اعتمده الحقل في الغرب منذ بدايته، وإلى قيام العديد من العاملين فيه بتحقيق مئات المخطوطات العربية بخاصة ونشرها محققةً للمرة الأولى منذ القرن الفائت، ومع ازدياد النشاط في عملية التحقيق وازدياد عدد العاملين في الحقل كان لابد من إيجاد وسيلة تساعد الباحثين في تعيين الأماكن الموجودة فيها المخطوطات، ومن أجل ذلك بدأ عدد من العلماء بإعداد فهارس للمخطوطات العربية والفارسية والتركية المحفوظة في مختلف مكتبات أوروبا (ثم أمريكا)، وكان معظم هؤلاء ممن مارسوا عملية التحقيق بأنفسهم، وبعضهم كان ممن اشتغلوا بإدارة المكتبات. غير أن أشدّ ما يلفت النظر في هذه الناحية أن هؤلاء العلماء عدوا عملهم عملاً علميّاً –وليس مجرّد عمل مكتبي– ولذلك أخرجوا فهارسهم بالصورة التي تفيد العلماء من القرّاء أمثالهم، فجاء الكلام عن كل مخطوطة مفهرسة فيها وكأنه بحث علمي قصير عنها، توصف فيه المخطوطة بدقة، وتُقوّم محتوياتها، وكثيراً ما تقارن مداخلها بمداخل المخطوطات الموازية أو المطابقة لها في المكتبة المفهرسة نفسها.
(ب) ومن المظاهر المشابهة لهذا المظهر، تحرك العاملين في هذا الحقل لسدّ حاجة أخرى فيه، وهي ضرورة معرفة اللغات الإسلامية معرفة جيدة، وقد أدّت هذه الحاجة إلى ظهور عدد غير قليل من القواميس والمعاجم العربية والفارسية والتركية منذ ما يزيد على القرنين، غير أنه مع تطور العمل في الحقل باتجاه التعقيد، ومعالجة العلماء فيه للنصوص المبكّرة المركّبة، وكذلك تمشياً مع المنهج الفيلولوجي -كان لابدّ للحقل من أن يسدّ من داخله الحاجة إلى معجم تاريخي للغة العربية– أمّ اللغات الإسلامية يقوم بالبحث في أصول الكلمات قبل فروعها من مزيدات ومشتقات، ويبين معانيها على أساس من الشواهد على استعمالاتها في النصوص القديمة المركّبة وقد كان أول من قام بهذه المهمة في القرن التاسع عشر العالم البريطاني إدوارد وليام لين (1216-1293هـ/ 1801-1876م) صاحب المعجم العربي – الإنجليزي "مدّ القاموس" أو(An Arabic-(English Lexicon الذي استغرق إعداده ونشره في ثمانية أجزاء مدة ثلاثين سنة (1280-1311هـ/1863-1893م)(وقد أكمله بعد وفاة لين العالم البريطاني ستانلي لين بول). وقد لاحظ لين بنفاذ بصره أن كبار المعجميين العرب القدماء اتبعوا المنهج المعجمي المرجو نفسه، وخاصة صاحب لسان العرب، فجعل معجمه مؤسساً على اللسان، وأضاف إلى مصادر اللسان مجموعة أخرى من المصادر استقى منها إستشهاداته تتميماً للفائدة، وحيث إن الأجزاء الثلاثة الأخيرة من معجم "لين" تم إنجازها بعد وفاته كما ذكرت، وبذلك لم تكن على مستوى الأجزاء الخمسة الأولى منه، فإن العالم الألماني مانفرد أولمان شرع بإكمال هذا العمل في كتابه "معجم اللغة العربية الكلاسيكية" أو(Worterbuch der Klossischen Arobischen Sproche (، وقد بدأ بالصدور سنة (1396هـ/1976م)، وظهر منه إلى الآن حرفا الكاف واللام، وما يزال العمل مستمراً فيه حتى الآن. وتمشياً مع التطورات في الحقل وتشعّب المعرفة فيه واكتشاف المصادر الجديدة- وسّع أولمان توسيعاً كبيراً قاعدة الكتب المعتمدة في استخراج الشواهد، وترجم تلك الشواهد إلى الألمانية والإنجليزية معاً، فكان عمله حتى اليوم أتمّ ما صدر في حقل المعاجم العربية على الإطلاق.
(ج) ولقد بات واضحاً -بعد ما يقارب القرنين من العمل في حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب- أن هناك حاجة ملحّة لدى العاملين في الحقل إلى موسوعة كبرى تعرّف برجال الحضارة الإسلامية وأماكنها وعقائدها ومذاهبها ولغاتها وكتبها ومجالات البحث فيها، والمصادر والمراجع الرئيسية لدراسة كل منها. وهنا جاءت المؤسسة/ دار النشر لتحف الحقل بيقظة وتنظيم بالغين، فشكّلت في أوائل هذا القرن لجنة من العلماء للإعداد لهذه الموسوعة، وعيّنت فيها أعضاء من كبار العلماء في الحقل، يمثّل كل منهم بلداً أوروبياً بارزاً معيناً واختصاصاً في الحضارة الإسلامية خاصاً، فقررت هذه اللجنة المداخل المعتمدة، ووزعتها على عشرات العلماء الأوروبيين بحسب تخصصاتهم الدقيقة. كذلك عيّنت لجنة من المترجمين مهمتها أن تضمن ثلاث صور من كل مدخل: إنجليزية وفرنسية وألمانية، كما سنّت قاعدة دقيقة لكتابة الكلمات العربية والفارسية والتركية باللغات الأوروبية. وقد استغرق هذا العمل المؤسسي الجبّار ما يقارب ربع القرن (1322-1355هـ/1913-1936م)، ظهر خلاله أجزاء ضخمة من "الموسوعة الإسلامية" أو(Encyclopaedia of Islam) بلغات ثلاثة (الإنجليزية والفرنسية والألمانية). وعمدت دار النشر بريل إلى إخراج صورة مختصرة من تلك الموسوعة وسمّتها "الموسوعة الإسلامية الموجزة " أو(The Shorter Encyclopaedia of Islam) فسهّلت بذلك على طلاب الدراسات العربية والإسلامية الحصول على صورة من هذا المرجع المهم.
وعملاً باليقظة المستمرة، وإيذاناً بالشعور بأنّ الحقل في الغرب واعٍ للمتغيرات فيه وإلى الحاجة إلى التطور -مع تلك المتغيّرات- فإن دار النشر نفسها عمدت منذ سنة (1380هـ/1960م) إلى البدء بإصدر "النسخة الجديدة" (New Editio) من تلك الموسوعة، وهي النسخة التي تمّ صدورها في السنة الفائتة، وجاءت في أحد عشر جزءاً ضخماً استغرق إنجازها ما يزيد على أربعين سنة.
وقد عدّل القيّمون على إصدار هذه النسخة من أسسها، فزادوا فيها مئات المداخل في المجالات التي تمت فيها كشوف جديدة، وصححوا مئات الأخطاء التي لاحظوها في الطبعة الأولى، ثم زادوا كبار العلماء العرب والمسلمين إلى لائحة المشاركين في كتابة المداخل فيها بعد أن بدا واضحاً بعد فترة ما بين الحربين أن لهؤلاء مشاركات علمية مهمة لا يجوز إهمالها أو التغاضي عنها في عمل مرجعي كبير كالموسوعة الإسلامية.
ولقد نالت هذه الموسوعة شهرة ورواجا عظيمين في أوساط العاملين في حقل الدراسات الإسلامية، وقلما توجد اليوم مكتبة تعنى بالدراسات العربية والإسلامية لا تحتوي على نسخة من هذا العمل الكبير، ولعل خير شهادة للمكانة المرجعية التي نالها هذا العمل عدم ظهور أي مشروع آخر في الغرب للحلول مكانه، ثم قيام إحدى الدول الإسلامية –تركيا– بالتعاقد مع لجنته لترجمته إلى اللغة التركية، مشترطةً أن تكون لها الحريّة في تعديل نصوصه ومداخله. ولم تحذُ أي من الدول العربية ولا إيران حذو تركيا في هذا المجال، ولكن الجهود لإخراج "الموسوعة الإيرانية" أو(Encyclopoedia Ironica) في نيويورك بدأت بالإتيان بثمارها، وقد بدأت هذه الموسوعة في الصدور سنة (1403هـ/1982م)، وقد صدر منها حتى الآن أربعة أجزاء، كما أن موسوعة مصغرة للأدب العربي، أو(Companion to Arabic Literature) قد صدرت في لندن حديثاً. وقد بدأ الشروع فعلاً بالإعداد للطبقة الثالثة في الموسوعة الإسلامية في لايدن.
(د) وهناك عمل موسوعي آخر ظهر بعد الحرب العالمية الثانية ودلّ على وعي العاملين في الحقل في الغرب بضرورة مراعاة المتغيّرات فيه وسدّ الحاجات الناتجة عنها، أعني بذلك "الفهرس الإسلامي"، أو(Index Islamicus)، وهو الكتاب الذي يفهرس المقالات والبحوث العلمية القصيرة الصادرة منذ سنة 1906م، ولا يزال يصدر حتى اليوم، وقد ظهر هذا الكتاب بعد ما يزيد على القرن في الإنتاج العلمي في شكل المقالة، وبعد أن تعددت المجلات العلمية في الحقل، وتعددت أقطارها ولغاتها، ونشر عدد كبير منها خارج المجلات، إما في أعمال المؤتمرات أوفي الكتب التكريمية لكبار العلماء أوفي الكتب ذات المؤلفين المتعددين، وقد كان من الواضح أن هذا الكتاب "يؤرخ" لجانب من الإنتاج العلمي في حقل الدراسات الإسلامية في الغرب، ولذلك لم تفهرس فيه أية مقالات مكتوبة بغير اللغات الأوروبية، ورغم أن هذا العمل قام على أكتاف شخص واحد هوج.د.بيترسون لمدة طويلة (1378-1401هـ/1958-1980م) فإنه عمليّاً كان منذ بداياته عملاً مؤسسيّاً تسنده دار نشر جامعة كمبردج، ولهذا السبب فإن تقاعد بيترسون لم يوقفه بل استمر في الصدور (وإنْ بصورة معدّلة) بقيادة ج.ج.روبر بسندر من دار النشر نفسها، وبمساعدة من وسائلها الجبّارة في حقول البحث والطباعة والنشر.
(هـ) ومن المظاهر الكبرى لقيام العاملين في حقل الدراسات العربية والإسلامية بتلبية الحاجات الناشئة في حقهم ظهور الكتب الببليوغرافية الضخمة التي ترصد رجال الحضارة الإسلامية فتترجم لهم، وتصف كل مؤلف من مؤلفاتهم، وتشير –بالأرقام المحددة– إلى طبعات هذه المؤلفات إذا كانت مطبوعة أو إلى أماكن وجودها في مكتبات العالم إذا كانت محفوظة، وتذكر أهم الدراسات عنهم في الشرق والغرب. ولقد كان للعالم الألماني كارل بروكلمان (1285-1375هـ/1868-1956م) قصب السبق في هذا المضمار في كتابه "تاريخ الأدب العربي"، أو(Geschichte der Arabischen Litterafur) الذي طبع في جزأين وثلاثة ملحقـات ضخمة بين سنتـي (1356 و1369هـ/1937 و1949م)، وقد رصد فيه بروكلمان علماء المسلمين وأدباءهم منذ بداية الإسلام وحتى العصر الحديث، ورتب تراجمهم على حقول تخصصاتهم، مقدّماً الفصل عن كل حقل بدراسة تقديمية عنه. وبعد حوالي عقدين من السنين قام العالم التركي المولد الألماني الموطن/ فؤاد سزكَين بإعادة النظر في عمل بروكلمان الريادي، وصحح من أخطائه، وزاد عليه زيادات ضخمة كمّاً، ومهمة نوعاً، وخاصة فيما يتعلق بالعلوم الإسلامية ؛ إلا أن التوسع هذا دفعه إلى التوقف عند منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وذلك في كتابه المعروف القيّم "تاريخ التراث العربي" أو(Geschichte der Arabischen Schrifhums) وقد بدأ بالصـدور سنة (1387هـ/1967م)، وظهر منه تسعة أجزاء حتى الآن، وهناك أجزاء عديدة منه قيد الإعداد، وقد ترجم كتاب بروكلمان –وإن متأخراً بعض الشيء– إلى العربية، كما صدر جزءان مترجمان من كتاب سزكَين.
و) وقبل أن أختم هذه الفقرة أودّ أن أذكر مظهراً أخيراً من مظاهر تلبية العاملين في حقل الدراسات العربية والإسلامية لحاجات حقلهم المستجدة، وهو قيامهم بنشر الخرائط التاريخية التفصيلية المتخصصة التي باتت الحاجة إليها ملحّة بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أصبحت الأطالس وحدها لا تكفي بالحاجات المتطورة في الحقل. وقد تم ذلك عن طريق مشروع TAWO الذي تقوم بتنظيمه والإشراف عليه جامعة توبنجن منذ سنة (1401هـ/1980م)، وما يزال مستمراً حتى اليوم، وكل خريطة من خرائطه الضخمة مقرونة بدراسة مفصلة عن موضوعها وتعد المرجع لها.
3- أما الملمح الثالث الذي تميز به حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب فهو يكمّل الملمح الثاني فيه، وأعني به المرونة والقدرة على التغيّر والإقدام على إحداث التعديلات في بنَاه، تمشياً مع تطورات العصر واستجابةً للمستجدات الحادثة في العالم في العقود الأخيرة في القرن الحالي. وهذا الملمح يفسّر إلى حد بعيد استمرار الحيوية في هذا الحقل اليوم، وهو يعد بأن يحميه من الانحسار في المستقبل، وفي هذا المجال أودّ أن أشير إلى بعض مظاهر هذه المرونة.
(أ) إن أهمّ تغيّر جَدَّ على الحقل في نظري في العقود الأخيرة هو تطعيم المنهج الفيلولوجي – عماد الحقل حتى الآن – بالمناهج العلمية الأخرى التي تطورت تطوراً كبيراً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان لأمريكا اليد الطولى في تعميمها، وأعني بذلك بشكل خاص المناهج المتبعة في العلوم الاجتماعية، وقد أثرت كثيراً في الدراسات عن التاريخ الإسلامي، وخاصة لجهة عنايتها بإبراز العوامل الاقتصادية في تشكيل التاريخ الإنساني، وإلحاحها على أهمية عمل الإحصاءات في استخراج النتائج في البحث العلمي بشكل عام. وقد كان للأنثروبولوجيا تأثير كبير في دراسة الأدب الشعبي والحِرَف، فيما شكل حقل اللسانيات جانباً كبيراً من الدراسات اللغوية والنحوية الحديثة، خاصة في العربية والفارسية. أما النظريات النقدية الحديثة فقد كان أثرها بالغاً في دراسات الشعر العربي بالذات، وإن أثرها –إلى جانب أثر الإنثروبولوجيا واللسانيات– لشديدٌ اليومَ فيه، وقد شَكَّلَ جانب كبير من الدراسات عن الشعر الجاهلي منه الدراسات الحديثة في مسألة الشفوية في الإنتاج الأدبي القديم. وقد ظهرت أيضاً آثار للمنهج المسمّى "بنقد الشكل" في دراسات التاريخ الإسلامي المبكر، وهو المنهج الذي كمّل من منهج "نقد النص" الذي كان متبعاً من قبل، والمنهجان كانا قد استعملا من قبل في دراسات الكتاب المقدس في أوروبا في القرن الفائت، وكان لمحاولات تطبيقهما هما وغيرهما من مناهج ذلك الحقل في بريطانيا بشكل خاص آثار سلبية ما لبثت أن أدّت إلى انقسامات فكرية في المدرسة الغربية في الدراسات المتعلقة بالعلوم الدينية، وخاصة علوم القرآن والتفسير والفقه والكلام. كذلك حاول عدد من الباحثين المحدثين تطعيم المنهج القديم عن طريق التنويع في مصادر البحث، فكانت النتائج مثيرة للبحث عندما استخدمت نتائج الحقول الأخرى مثل علم الآثار وعلم النميات، إلا أنها سحبت البحث في دوائر مغلقة وقادتها إلى الإسراف في الشك حتى الإفناء عندما بالغت في تعظيم قيمة المصادر غير الإسلامية لدراسة التاريخ الإسلامي. أمّا قيام الدارسين اليوم باستعمال النظريات الفلسفية في مجال نظرية المعرفة في دراسات أصول الفقه فإنها تبشر بالخير وتعد بإعادة النظر في التعميمات السلبية التي كانت قد سادت في هذا المجال من قبل. ونستطيع أن نقول اليوم إن الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الكبرى في الغرب باتجاه ما يسمى ARTER DISCIPLINARY STUDIES الدراسات تستلهم التخصصات غير حقل أو منهج في البحث، وتخرج مما يسمى الدراسات التي ينصب اهتمامها على منطقة جغرافية، حضارية معينة.
(ب) ومن النواحي التي أظهر فيها الحقل تغيراً واضحاً مع متغيرات العصر استقواء حقل الدراسات عن العالم الإسلامي الحديث واتساعه، بعد أن كان من قبل حقلاً صغيراً جداً محدوداً في السابق، وهذا التطور هو استجابة للمتغيرات السياسية والاقتصادية الجادّة في العقود الأخيرة وله علاقة بالاهتمام الرسمي الذي أظهرته وتظهره حكومات الدول الغربية ومؤسساتها، وعلى رأسها الحكومة الأمريكية في الشؤون العربية فيما أصبح يسمّى –لأسباب معروفة– شؤون الشرق الأوسط. وقد ظهر هذا النمو بأشكال متعددة، منها تأسيس المراكز المختلفة لدراسات الشرق الأوسط في كبرى الجامعات الأمريكية، وتسلّم الباحثون الأمريكيون –أو العاملون في أمريكا من جنسيات مختلفة– قيادة هذا الحقل (مقابل القيادة الأوروبية السابقة لحقل الدراسات الإسلامية الكلاسيكية)، ثم ظهور المؤسسات المؤكدة لهذا الحقل، مثل جمعية دراسات الشرق الأوسط لشمال أمريكا(Middle East Studies Assouation Of North America) المختلفة ومؤتمراتها السنوية، إضافة إلى منشوراتها التي تضاهي بل لعلها تزيد على المنشورات في فروع الحضارة الإسلامية الكلاسيكية. ولئن رافق هذا التطور ظهور بعض الملامح السلبية في الحقل –كما هو الحال دائماً عندما يحدد الواقع السياسي الاقتصادي الأنماط العلمية –فإنه من ناحية إيجابية قد شجع دراسات التاريخ العربي الحديث والأدب العربي الحديث، واعترف اعترافاً ضمنيّاً –ضروريّاً– بقيمة هذا الأدب، بعدما كان الاهتمام بالأدب الكلاسيكي من قبل يحجب ملامحه المميزة، ويراه قاصراً إذا ما قورن بالأدب العربي القديم. وخلاصة الأمر أن التغيّر الذي أحدثه هذا النزوع المستجد في حقل الدراسات الإسلامية قد أحدث تعديلاً في بناه، وأدخل عليه معايير قيمة علمية لم تكن موجودة فيه من قبل، وكل هذا ساعد على تجديده وصموده في العالم المتغير من حوله.
(ج) هذا التغيّر قد تبعه تغيّر آخر يتعلق بطريقة تعليم اللغات الإسلامية لغير الناطقين بها. ذلك أن التركيز على الشرق الأوسط الحديث في حقل الدراسات العربية والإسلامية قد قادت إلى ضرورة إعادة النظر في الأمور التي يشدّد عليها في تدريس العربية والفارسية بشكل خاص، باعتبار أن الأمور قد انحلت بطبيعتها في حال اللغة التركية، إذ صارت اللغة الحديثة هي اللغة السائدة، فيما أضحت التركية العثمانية لغة المتخصصين في التاريخ العثماني وما يتعلق به فقط. وقد أدّت إعادة النظر هذه إلى تغيير الأهداف المرجوّة في تعلّم اللغات، فلم يعد إتقان النحو العربي –مثلاً– بتعقيداته الكثيرة يتصدر هذه الأهداف؛ لأن نسبةً كبيرةً من الطلاب قد لا تحتاج إليه في قراءة النصوص العربية الحديثة، ولم تعد القدرة على التكلم بالعربية تحتل الدرجة السفلى في سلّم الأولويات؛ لأن هؤلاء الطلاب أنفسهم بحاجة إلى معرفة اللغة المحلية إذا كان لهم أن يقيموا إقامات قد تطول أو تقصر في واحد من البلاد العربية أو أكثر. وفي مثل هذا الانتحاء كان حقل الدراسات العربية والإسلامية يماشي التغيرات المستجدة على الحقول الحضارية الأخرى، فضلاً عن مماشاة التطور داخل الحقل نفسه. وأيّاً كان الأمر فإنّ هذا التحول الكبير في ميدان اللغة قد استدعى ظهور المؤلفات العديدة في مجال تعليم اللغة العربية بصفة خاصة، وأنشئت لأجل تدريسها برامج كثيرة في الجامعات الأمريكية بشكل خاص، كما وأنشئت دورة صيفية لها مكثفة –شأن لغات عالمية أخرى– في كلية ميدلبري للغات في ولاية فيرمونت، وانسجاما مع هذا الاتجاه خُصّصت المنح الكثيرة لتعلم العربية داخل الولايات المتحدة وخارجها –في البلاد العربية– وهناك الآن برامج مزدهرة عديدة في القاهرة وتونس وفاس وصنعاء ودمشق، كما أن هناك برامج صيفية مشتركة بين جامعات أمريكية وجامعات عربية، كالبرنامج المشترك بين جامعتي اليرموك وفيرجينيا. ورغم أن هذا الاتجاه الجديد في تدريس العربية يشكو من بعض نواحي القصور –وخاصة بالنسبة لطلاب الحضارة الإسلامية الكلاسيكية– فإن فيه منافع عدّة، ليس أقلّها إضفاءً الحيوية على الحقل، وتوسيع جمهور المهتمين به، وفتح المجال أمامهم للتعرف على البلاد العربية ولإقامة العلاقات مع أهلها، أو بالأحرى لإعادة إقامة العلاقات مع أهلها، تلك العلاقات التي أصيبت بالفتور الشديد في فترة ما بين الحربين العالميتين، وأنتجت جيلاً من الباحثين لا يعرف العربية إلا كلغة مكتوبة ولا يعرف سوى القليل عن أهلها، وذلك خلافاً للتقاليد الأولى التي قام عليها حقل الدراسات العربية والإسلامية في القرن السابق.
(د) ومن المهم أن أشير قبل أن أختم هذه الفترة إلى بعض المستجدات في الحقل تبعاً للمستجدات في العالم المعاصر. مثل الكمبيوتر الشخصي، وقد لحقه الحقل -وإن ببطء– بإنتاج البرامج الخاصة باللغات الإسلامية، وببرامج أخرى تحتوي على معاجم مفهرسة للقرآن الكريم وللحديث النبوي إضافة إلى مشروعات أخرى يجري العمل فيها. وقد فتحت شبكة مجالات عدة أمام العاملين في الحقل، وهناك الآن في فرنسا وفي أسبانيا الإعداد لبرنامجين يضمّان لوائح موحّدة للتراجم المنشورة في عشرات كتب الرجال والتراجم العربية، إلا أن هذا العمل الجبّار قد يحتاج إلى المزيد من الخبرات والوقت قبل أن يرى النور، ورغم أن الكمبيوتر يحتلّ مركز الصدارة في إنتاج العالم المعاصر، فإنّ الميكروفيلم والميكروفيش لا يزالان لهما قيمة مهمة، ولعل من أفضل ما جدّ في هذا المجال إنشاء مركز دولي للتصوير بالميكروفيلم كل الأطروحات للماجستير والدكتوراه التي تنجز في الولايات المتحدة وكندا في مدينة آن آربر ((University Microfilm International، ومنها الرسائل الجامعية في الدراسات العربية والإسلامية، وهكذا بات من الممكن الآن بشكل أفضل من السابق الاطلاع على ما يكتب من الرسائل الجامعية في مختلف الجامعات وعلى الحصول على نسخ منها في زمن قصير جداً.
أودّ أن أخرج مما سبق قوله بأننا إذا نظرنا إلى حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب نظرةً هادئةً لوجدنا أنه حقل عريق قد أسدى خدمات جمّة للحضارة الإسلامية، وأن نيله مرتبة المرجعية في دراسات تلك الحضارة لم يتمّ إلا بعد أن بذل العاملون فيه جهوداً مضنية –عبر الزمن المتطاول– في أشكال متعددة من البحث العلمي، من التأليف والتحقيق والترجمة والفهرسة وغير ذلك، فهي مرتبة قد نالها عن جدارة واستحقاق، ولئن أسعفت الحقل الظروف السياسية في أوروبا من ناحية والبلاد الإسلامية من ناحية أخرى في القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين فإنّ هذه الظروف وحدها لا تفسّر كل إنجازاته، كما لا تفسرها وحدها الظروف الحضارية التي عاشها الغرب –وما يزال– والتي جعلت اليدَ العليا في رسم الأنماط الحياتية في العالم كله تقريباً للحضارة الصناعية العلمية الحديثة –ابنة الغرب الكبرى-. وإنما يعود الفضل الأكبر فيما تمّ إنجازه في هذا الحقل هناك إلى صلابة البناء الفكري والحضاري والمنهجي الذي انبنى الحقل عليه في الأساس، ثم إلى انتحائه المنحي المؤسسي في العمل منذ وقت مبكّر، وإلى وعي العاملين فيه للحاجات المستجدة في حقلهم وتلبيتهم لهذه الحاجات، ثم إلى مرونتهم في مواجهة التغيّرات الحادثة في العالم من حولهم مؤخراً، وكل ذلك مما تحدثت عنه في كلمتي قبل قليل.
كيف نتعامل –نحن العرب والمسلمين– مع هذه المرجعية التي تنافس مرجعيتنا في دراسات حضارتنا وتراثنا؟ إنني أرى أن ذلك يتمّ بوسيلتين. الأولى أن نحتفظ بثقتنا بأنفسنا وقدرتنا على أن نقدم للعالم كله إنتاجاً رفيع المستوى عن هذه الحضارة. أقول هذا –وأنا مقتنعة به كامل الاقتناع– ليس لمجرّد أننا أبناء الحضارة هذه– فالمرجعية العلمية كما سبق أن قلت لا تورث وراثةً، ولكن لأن لدينا طاقات بشرية هائلة، والعلم والوعي بأهمية العلم يزداد في صفوف أبنائنا، والظروف السياسية التي مررنا ونمر بها –بما أحدثتها من تغييرات اجتماعية- قد جعلتنا نعي بشكل أقوى أهمية أن يكون للمرء والجماعة هوية واضحة لا لبس فيها. ثم إننا خير الناس في معرفة لغتنا، وأقدرهم على فهم مستعصيات نصوصها، ثم على أن ندلف إلى ما وراء تلك النصوص لاستيعاب بناها، وتحديد رموزها، وتصوير أنماط تحرّكها، وإننا لئن فعلنا ذلك – كلّ في مجال اختصاصه –في الشعر والنثر والتاريخ والفقه والأصول والكلام والفن المعماري والعلوم وغيرها– وتوصلنا فعلاً لاكتشاف كل ذلك - لكان لنا أن نؤكد مكاننا وأننا أصحاب مرجعية قد اكتسبت بالعمل المتميّز الدؤوب عبر السنين.
الوسيلة الثانية التي نتعامل بها مع مرجعية الغرب في دراسات حضارتنا أن نستفيد من تجربته الناجحة ونأخذ عنه ما يمكّننا من تقوية أنفسنا في مرجعيتنا، وإن قيامنا بذلك ليعد علامة قوة لا علامة ضعف، ويكفي أن نتذكر أن الحضارة الإسلامية إنما وصلت إلى أوج سموقها حين وعت إمكانات غيرها واستوعبته محوّلةً إياه إلى ما يفيدها وينسجم وقوالبها. وفي هذا المجال أرى أنه لابدّ لنا من أن نعتني عناية خاصة بتدريس اللغة العربية في مدارسنا، إن التمكن في اللغة مفتاح كل محاولاتنا. ولا بدّ لنا أيضاً إذا شئنا أن نقود العالم الإسلامي في الدراسات الإسلامية أن ندرّس في جامعاتنا الفارسية والتركية على الأقل – كما يفعل الغربيون – وذلك للطلاب المتخصصين في تلك الدراسات. كذلك أرى أن تنشأ في الجامعات مراكز لدراسات الحضارة الإسلامية، كما هو الحال في معظم الجامعات الكبرى في الغرب، حيث يصبح التكوين العلمي للطالب في الدراسات العليا شاملاً للجوانب المختلفة من إنتاج تلك الحضارة، فيحضر دروساً في الأدب والتاريخ وعلوم القرآن والفقه والكلام والعلوم الطبيعية والفلسفة، إضافةً إلى الآداب الفارسية والتركية، قبل أن يذهب إلى تخصصه الضيق في حقلٍ معيّن من هذه الحقول؛ وما يحدث الآن في جامعاتنا من تخصص ضيق طوال سنوات الدراسة العالية من شأنه أن يحدّ من الرؤية الحضارية لدى الطالب، وينتج في النهاية علماء لا يقدرون على التأثير الكبير في العالم الجديد. وعلى مسألة المنهج أن تحتل المكانة العليا في الاهتمام في برامجنا الجامعية، فهي أحد أعنف الجوانب في بحوثنا العلمية فيما هي أقواها لدى الغربيين؛ وفي هذا لا مجال أرى أن يتم تدريس المنهج على المستويين النظري والتطبيقي، وأن يكون التدريس مكثفاً ومرفقاً بنماذج جيّدة للتعلم والمقارنة، ولا بأس –بل لعله من المفيد أيضاً– أن تنشأ دروس خاصة عن حقل الدراسات العربية والإسلامية في الغرب: أصوله ومناهجه ورجاله، فلا يجوز لطلابنا ألا يعرفوا هذا الجانب من الفعالية في الحقل في عالمنا الصغير اليوم، غير أن أهم من ذلك أن يقرأ الطلاب بعض النتاج الغربي من الدراسات عن الحضارة الإسلامية، وهذا يعني أن يكونوا متمكنين من قراءة أكثر من لغة أوروبية، وهذه ناحية نشكو فيها نحن ضعفاً كبيراً ظاهراً للعيان، ومن شأنها أن تؤخر أي جهد نقوم فيه باتجاه توحيد المرجعية العالميـة في حقلنا. إن معرفة الإنجليزية معرفة جيّدة، ومعرفة الألمانية والفرنسية معرفة كافية لقراءة البحوث أمر غاية في الأهمية، ومن دونه لن يمكننا أن نتعرف على ما يصدر في العالم من دراسات، وتظل نكرر الأقوال نفسها وندرس الموضوعات التي درست من قبل أو نظن أننا توصلنا إلى نتائج جديدة فيما غيرنا قد توصل إليها قبل زمن طويل، ولا أبالغ أن قلت – بناءً على ذلك- إن معرفة اللغات من مفاتيح تقدمنا العلمي في المستقبل.
ومن الأمور التي يجب أن نفيد منها في تجربة الغرب في الدراسات العربية والإسلامية الاتجاه نحو المؤسسة في العمل العلمي، فالمؤسسية عامل من أهمّ العوامل التي مكّنت الغرب من تثبيت مرجعية في الحقل. وفي هذا المجال أرى أن هناك تباشير خير في بلادنا. غير أنه لابدّ من الاعتراف أن النزعة الفردية ما تزال هي المسيطرة على طرائقنا في الإنتاج العلمي، وإخفاق معظم المشروعات الجماعية عندنا دليل واضح على ذلك. ولئن كان العمل الفردي ضرورياً دائماً في العملية العلمية، فإن العمل المؤسسي ضروريّ لتدعم الحقل العلمي ككل وحماية المرجعية فيه على المدى الطويل. من هنا أرى –مثلاً– أن تنشأ رابطة أو اتحاد لدارسي الحضارة الإسلامية، وأن تقام مؤتمرات دورية في مدن عربية وإسلامية مختلفة كل سنتين، وأن يصدر عن هذا الاتحاد أو الرابطة مجلة دورية محددة الملامح، تُحَكّم المقالات التي تنشر فيها، وتنشر فيها مراجعات للكتب مطوّلة دقيقة. وهنا قد يتساءل بعضهم أليس عندنا محلات علمية؟ بلى، عندنا مجلات، إلا أنها في الأكثر محلية الطابع، محددة القرّاء، والمقالات في معظمها غير محكّمة، أوهي عندما تحكّم يَعرف المؤلفون المحكّمين فيها، فتنشأ بينهم العداوة والبغضاء إذا أوصى المحكّم بعدم نشر مقالة أو بحث، بل إنني أزيد على ذلك فأقول: إنه لابدّ من إعادة النظر في مجلاتنا والتساؤل عمّا إذا كانت ضرورية ابتداءً، ومَنْ تخدم بما تنشره، وكيف يستفيد الحقل منها –إن كان يستفيد قطّ– على المستوى العالمي. إن النشر ليس فضيلةً بحدّ ذاته، بل إن سهولته –بتعدد المجلات– قد تكون ضارّة لا نافعة، وهو يسهّل على المرء أن يقع فريسة خداع الذات –خاصة الشبّان الناشئين– فيظن في نفسه علماً جمّاً فيما هذا العلم لم يعرض إلا على بضعة أفراد، ولو عُرِض على جمهور كبير من العاملين في الحقل العلمي لتبيّنت قيمته الحقيقية بشكل أصحّ. وبعد، فإن تعدد المجلات عندنا قد قاد إلى التعدد في مراكز المرجعية لدينا، وهذا أمر لا يبشر بالخير، وأرى أن نتداركه اليوم قبل الغد، فستبقى في مجلاتنا ما يمكن أن يكون له أثر عالمي في الحقل، ونلغي ما لا يمكنه ذلك، ونجعل من مجلاتنا القليلة المتبقية مؤسسات راسخة القدم تتحدث باسمنا، وتحمي مرجعيتنا في العالم الصغير الجديد.
وما قلته عن المجلات ينطبق أيضاً على مجال الموسوعات، فبعد المحاولات المتعددة لإخراج موسوعة للحضارة الإسلامية لابد أن تقوم جهة واحدة تعلو على الجهات الأخرى الموزّعة في عالمنا، فتتفق معها على توحيد الجهود في سبيل إخراج تلك الموسوعة، وتجربة الغرب في الموسوعة الإسلامية. في هذا المجال مفيدة، وعلى أية حال لابدّ من أن تصبح هذه الموسوعة المرجوّة مؤسسة حتى تكون قادرة على التجدد على المدى الطويل ويكون لها تأثير في المستقبل.
ومما يمكن أن نستفيده من تجربة الغرب أيضاً تلبية حاجات الحقل، وتلك مسألة علينا أن نطيل الفكر فيها، خاصة وأن منّا من يودّ أن يقوم بالمشروعات المختلفة، إذ عليه أن يتأكد من ضرورة هذه المشروعات قبل الإقدام عليها، وأن يتيقن أنه لا يكرر جهوداً أخرى قد قام بها آخرون من قبل، وأنه يريد بمشروعاته خدمة الحقل لا غير ذلك، وأنه –لذلك– يمكن لها أن تستمر على شكل مؤسسي من بعده، إن الطاقات البشرية التي لدينا كثيرة، هذا صحيح، ولكنها في النهاية محدودة، والعُمْرُ على أي حال قصير، ولا يجوز لنا أن نضيعه فيما لا جدوى وراءه، أي فيما لا يخدم حقل دراسة حضارتنا على المدى البعيد.
كذلك علينا أن نتطور في حقلنا مع تطورات العصر، ولا بدّ أن يكون لنا دور فاعل في الآفاق الهائلة التي فتحها التقدم في مجال الميكروفيلم والكمبيوتر، فيقودنا الأول إلى تعريف كل طلابنا وأساتذتنا بالرسائل الجامعية التي تكتب في كل جامعاتنا كما يُنقل هذا التعريف إلى الغرب (عن طريق مركز آن آربر) أيضاً. أما الثاني فيقودنا إلى المشاركة في الجهود الرامية إلى تسهيل العلم في مصادرنا القديمة، وإلى الإدلاء بدلونا في برامج المواصلات عبر القارات التي يسير العالم الجديد باتجاه تقويتها، وهذا مجال حديث فيه تطور كبير، وبقي أن نستفيد منه استفادة حقيقية في أعمالنا العلمية، وأن نتأكد من ناحية الدقة فيه قبل إخراجه إلى الناس.
على أن هذه الأمور هي نماذج وحسب مما علينا أن نقوم به من أجل تطوير حقلنا عندنا استجابةً لمتغيرات العصر، والأمر الهام فيها وفي غيرها أن نكون منفتحين على ما يحدث في حقل دراسات الحضارة الإسلامية في العالم عامةً وفي الغرب خاصةً، وأن نتحادث والعاملين في هذا الحقل هناك بلغة يفهمونها، إذ بهذا وحده نستطيع أن نؤثر فيما يخطط هناك ويقرر وينتج، ونتمكن من أن نقرّب ما بين مرجعيتهم ومرجعيتنا، طلباً لتوحيد تلك المرجعية –وتقوية حقلنا من ثمّ– في العالم في المستقبل. وإنني لأقترح في هذا المجال أن يقوم تعاون متوازٍ بيننا وبينهم على المستوى البشري، فلا يستقبلون هم طلابنا وحسب بل نستقبل طلابهم أيضاً، وندعو أساتذتهم ويدعون أساتذتنا للتدريس فترات تتراوح بين الفصل الدراسي والسنة الدراسية، ومما يسعف في هذا المجال أن ندعم التعاون على المستوى المؤسسي، فنقوم بدعم من "الأخوة" بين جامعاتهم وجامعاتنا، وذلك أمر صعب لكنه ليس مستحيلاً، والثمار المرجوّة منه تستحق صرف ما يحتاجه من الجهد والوقت، ولعل خير أشكاله أن تُنشأ أخوة حقيقية علمية بين جامعتين تتميز كل منهما بفرع معيّن من دون الفرع الذي تتميز به الجامعة الأخرى، فتعود العملية من ثم بالفائدة على كلا الطرفين، وبذلك يتشجعان في محاولة تجاوز العقبات القائمة في سبيلها، وهناك وسيلة أخرى للمشاركة الفعّالة من جانبنا فيما يجري في حقلنا في الغرب، وهي تمويل الكراسي لدراسة الدين الإسلامي في كبرى الجامعات هناك، فإن هذا الفرع من الدراسات الإسلامية في الغرب ما يزال محدوداً مفتقراً إلى الخبرات العالمية، ولعله أن يكون لنا دور مؤثر فيه إذا ما أقدمنا على تيسير سبيله، شأننا في ذلك شأن الجماعات الأخرى التي يهمها أن تستكمل دراسات حضاراتها في الغرب. وبعد، فإن الاشتراك مع الغرب في بعض المشروعات الكبيرة الحيوية الطويلة الأمد ضروري، ولما تتطلبه هذه المشروعات من تنوع في الخبرات والتجارب واللغات والتقنيات، وفي ذهني الآن منها مشروع المعجم التاريخي للغة العربية بالاتصال المباشر عبر الإنترنت، وهو مشروع لابد أن يكون مؤسسياً منذ بدايته واسعاً في قاعدته، وممثلاً لقمة يمكن أن يؤدي إليه التعاون البنّاء بين الشرق والغرب. وهناك مشروعات أخرى يمكن أيضاً القيام بها بتعاون علماء الشرق والغرب تتعلق مثلاً بمسح الآثار الإسلامية في بلادنا (وهناك عدد منها قد نُفِّذَ أو هو قيد التنفيذ الآن) ثم مشروعات أخرى تتعلق بتوضيح دور العلوم الإسلامية، من طب وفلك وحيوان ونبات وغير ذلك، في تلك الحضارة مما لا نزال لا نعرف عنه سوى القليل.
إنّ المهمة المطلوبة منا كبيرة، لكن الهمة أيضاً كبيرة، والأمل كبير، بمستقبل مضيء مشرق للدراسات العربية والإسلامية في العالم الجديد.
*************
*) مفكرة في التاريخ الأدبي والفكري العربي الإسلامي، وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة شيكاغو.