التفكيك الذي سيء فهمه: اللحظات الإحسانية والرواقية والباروكية

محمد شوقي الزين

 

عصيٌّ، صعب، معقَّد، غامض، لاعقلاني، متهافت: هذه جُملة الأوصاف التي تنعت طبيعة التفكيك، وكانت حوله دراسات وقراءات تُندّد بالطابع المبهم لهيكله ومبادئه وغاياته. نتساءل «مَنْ» يتكلَّم؟ مِنْ أيّ موقع؟ ليست المواقع كثيرة، لكن الجيوش مدجَّجة والدروع والحِبال والنِبال موجَّهة، تنحو بحزم وإقدام نحو هدم أو تخريب القلعة المحصَّنة المسمَّاة «التفكيك»، نوع من القلعة الباطنية (Akropolis) التي وصف بها الإمبراطور الروماني والفيلسوف الرواقي ماركوس أورليوس جَلَد الذات وصبرها على الشدائد. نتساءل إذن مَنْ يهمُّ إلى قرصنة القلعة التفكيكية، لأنها في نظره هيكل مبهم ومظلم شبيه بالقصور النائية التي تحمل أسراراً وأوكاراً، تجوبها الأرواح والأشباح؟ ليس الخصم سوى القارَّة الكبيرة والواسعة التي تصف نفسها بنعوت العقل والتعقُّل، البداهة واليقين، الوضوح والإلهام، والتي تتمظهر في مختلف الفلسفات التي على عاتقها مطاردة الإبهام الذي تربطه بالتفكيك عنوةً، ولأنها وجدت العدو اللئيم والملائم لتعزيم التصلُّب الكامن فيها والجفاف المستشري في حقولها وأقاليمها.

1. اللحظة الإحسانية: مبدأ ديفدسن-كواين

إذا استندنا إلى مبدأ الإحسان (principe de charité) كما بلوره سادة الفلسفة التحليلية دونالد ديفدسن (Donald Davidson) وويلارد كواين (Willard Quine)، كل كتابة أو فكرة تحمل معقوليةً ما، وأن ما يقوله الكاتب، وإن بدا غامضاً، يختزن على منطقٍ أو ينبغي تأويله بتبيانه أكثر وتوضيحه دون الطعن فيه. هكذا مثلاً يمكن قراءة أيضاً السادة الصوفية بهذا المبدأ، التصوُّف الذي غالباً ما نربط نصوصه بالغموض والهذيان، إلى درجة أن القاضي تقي الدين ابن دقيق العيد، في وصفه لأسلوب عبد الحق ابن سبعين قال مُندّداً: «جلستُ مع ابن سبعين من ضحوةٍ إلى قريب الظهر وهو يسردُ كلاماً تُعقل مفرداته، ولا تُعقل مركباته». يمجُّ العقل هذا النوع من التصنيف الذي يختزله إلى مجرَّد كلام أو سفسطة، إلى تنميق وتزويق أو زخرفة كلامية وحيلة بلاغية. وهو النعتُ نفسه الذي طبع التفكيك ونصوصه الكبرى، خصوصاً نصوص جاك دريدا التي لا يتورَّع البعض عن إلحاقها بنوع من النزعات الباطنية والسريَّة في فقه الحروف مثل القابالاه (Kabbale).

السلوك الغالب إزاء هذا الغموض هو التقزُّز والرفض من خلفية تنسُب إلى ذاتها البداهة والوضوح واليقين؛ أي السلوك «الكلاسيكي» المضاد للسلوك «الباروكي» كما سيأتي ذكره. هل كل ما هو غامض ولامعقول قابل للرفض والنقض؟ يجيب ديفدسن-كواين بأنه رد فعل مجحف، بل كل ما هو غامض ومبهم يتطلَّب الفهم والإبانة، المعبَّر عنها بالإحسان (charité) الذي وإن كان يختزن على قيمة دينية طبعت المسيحية في حديثها عن الإحسان ببذل الوسع وإتيان الخير والشفقة على الغير؛ فإنه يتَّخذ عند ديفدسن-كواين قيمة كونية في الاستشعار (empathie) وفي كون الآخر يختزن على ذكاء ويتمتَّع بتعقُّل. يُؤيّد غادامير (Hans-Georg Gadamer) الفكرة، عندما عرَّف التأويلية أو الهيرمينوطيقا على أنها «إمكانية أن يكون الآخر على حقّ»، إمكانية أن يُجانب الصَّواب، رغبةً من الفيلسوف الألماني في بناء تأويلية قائمة على الحوار، على همّ «التفاهُم» أخلاقياً بَعْد همّ «الفهم» معرفياً وأنطولوجياً. جاء رثاء جاك دريدا أيَّاماً بعد وفاة غادامير بهذا العنوان: «لقد كان على حق!» ونُشر في 23 مارس 2002 في جريدة فرانكفورت. على الرُغم من التباعد الفلسفي الكبير بين غادامير ودريدا، إلا أن «مبدأ الإحسان» تجلَّى بينهما علائقياً، تجسَّد فيهما فكرياً، ودفعهما إلى النظر إلى بعضهما بعضاً من خلفية أن الآخر على حق في ما يراه وجيهاً من أفكار ومواقف.

إذا كان مبدأ ديفدسن-كواين هو نوع من التسامح المعرفي في تأويل الآخر في مرجعيته الخاصَّة، الثقافية والفكرية، وإضفاء المعقولية على كلامه وكتاباته، هل يبقى من حُجَّة لدى خصوم التفكيك بإرجاعه إلى الهذيان والهراء والحُمق؟ ربما الحُجَّة المضادَّة هي: هل كل شيء قابل للدخول تحت رحمة الإحسان؟ مثلاً: هل يمكن تبرير أفكار هتلر وجرائم النازية واعتداءات الإرهاب؟ هل يمكن أن نطبّق عليهم قاعدة: «لقد كانوا على حق!»؟ يكمن تهافت الحُجَّة المضادَّة في أنها تُناقش النتائج العملية وليس المبادئ النظرية. يمكن أن يكون للشخص كل النوايا الشيطانية، وما دام لم يُجسّد هذه النوايا بالإساءة إلى الآخر وإلحاق الضرر به، جسدياً ونفسياً، فهي لا تعدو أن تكون مجرَّد أسرار كامنة لا أثر لها ولا تأثير. غير أن أفكار هتلر المتجسّدة عملياً في مخطَّطات إجرامية، وترجمتها النازية إلى مجازر، واعتداءات الإرهاب التي تمسُّ الناس في حياتهم وممتلكاتهم، لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال تبريرها، لأنها ليست ظنوناً كامنة في العقل ومغلَّفة بأسرار لا يمكن الولوج إليها أو الإحاطة بها، لكن عواقب ينجرُّ عنها الضرر مادياً ونفسياً. إذا عُدنا إلى التفكيك ورؤيته المعيَّنة لنظام العالم وطبيعة التعبير عن هذا العالم في خطابات مبلورة أو نصوص موروثة، فإنه يحمل في طيَّاته سمات الخطاب المعقول، وإن لم يكن عقلانياً من طرف خصومه؛ أي من وجهة نظرهم «هُمْ»، لا من وجهة نظره «هُوَ» كما يُنادي مبدأ ديفدسن-كواين؛ أي النظر بنظره ومحاولة فهمه في مرجعيته.

2. اللحظة الرواقية: النظام والتبعثر

يقول الرواقي: «إذا دخلتَ غرفةً ورأيتَ أشياءها مبعثرة، فأنت ترى الفوضى. أما صاحبها، فهو يرى النظام، لأنه يعرف مقام كل شيء في الغرفة ومكانه المناسب له». اللحظة الرواقية هي امتداد للحظة الإحسانية: أن نضع أنفسنا في مرجعية الكاتب أو الثقافة، لنرى النظام والإلهام، لا الفوضى والإبهام. لكن هذا النوع من النسبوية (relativisme) صعب الاستساغة. تبدو لنا بعض الفلسفات منازل مبعثرة، لا نعرف أين المدخل وأين المخرج، وما هي هذه الأشكال الضخمة والمبهمة (المفاهيم) التي تُؤثّث أركانها وجوانبها، فنحكم عليها من أول وهلةٍ بالغموض كالنصوص الصوفية أو المتون الفلسفية الكبرى ذات المسحة المجرَّدة الخالصة. لكن، يعرف أهل المنزل مكان كل شيء، ويعرفون الروابط بين الأشياء، ويعرفون أيّ أدوارٍ تؤدّيها، ولماذا هي في هذا الموضع بالضبط وليس في موضع آخر. كما يقول ابن عربي، ليس كلُّ غطَّاسٍ يُحسن التحكُّم في النَفَس القوي للولوج في عُمق البحار وغَوْر الكينونة والكتابة؛ ويُنبهه: إذا لم تُحسن استعمال المفاتيح في فتح الأقفال لما استغلق عليك، فدعها لغيرك.

إذا كانت الرواقية أوَّل فلسفة «نَسَقية» في تاريخ الفكر، حيث تتبادل عناصر النسق (المنطق، الفيزياء، الأخلاق) الأدوار في كل المجالات الممكن معالجتها فلسفياً، فلأنها كانت تعرف أن النسق مركَّب من عناصر متوتّرة بالمعنى المنسجم والنشيط والقصدي لكلمة «التوتُّر» (tonos)؛ أي أن عناصر النسق مشدودة إلى بعضها بعضاً كالأوتار، منسجمة الروابط، نشيطة القوَّة، عذبة النغم. حتى الفلسفات غير النسقية أو المضادَّة للنسق هي «أوتار» فلسفية، ترتبط العناصر في ما بينها بقوَّة وإحكام (مثلاً: إرادة الاقتدار، الإنسان الأعلى، العود الأبدي للشيء عينه عند نيتشه؛ العُلبة المفهومية، اللعبة الفلسفية، شكل الحياة عند فتغنشتاين)، كل عنصر يؤدّي دوراً في هذا «التوتُّر الخلاَّق» ويرتبط بالعناصر الأخرى بشكل علائقي أو تناسلي كما كان يقول الرواقيون (logos spermatikos)، تتناسل منه أفكار ومخطَّطات العقل. كل فيلسوف يعرف منزله الفلسفي جيّداً، يعرف أين يضع الكلمة المناسبة في الفقرة المناسبة («الأخلاق» لسبينوزا أو «رسالة منطقية فلسفية» لفتغنشتاين هي هندسة مُحكمة ذات علائق وأوتار).

بُحكم أن العناصر مشدودة إلى بعضها بعضاً بشكل متوتّر ومتواتر؛ أي متبادل المهام والأدوار، فإن كل عنصر يسقط من هذا النسق المحكم، فإن النسق في حد ذاته ينهار. تبدو بعض الفلسفات اللانسقية مبهمة ومبعثرة، مثل الفلسفات الصوفية والتفكيكية. لكن الدخول في قصورها الضخمة والتجوُّل بين أروقتها ودهاليزها يُبرز أبنية مذهلة، شبيهة بالقصور الباروكية (وسيأتي تبيان اللحظة الباروكية لاحقاً) من حيث التركيب المعقَّد الذي يصدم العين ويُدهش العقل. كان ينبغي أن ننتظر طويلاً، لكي نعرف (أخيراً!) أن «الفتوحات المكية» مثلاً، مبنية بشكل هندسي يُحاكي السور القرآنية، وكل فصل من فصول «الفتوحات» هو تأويل إشاري لآية من الآيات. طريقة ابن عربي في السرد والبناء وشدّ عناصر المذهب بأوتار القوَّة البلاغية والرمزية تشبه الفلسفات اللاحقة مع سبينوزا أو فتغنشتاين أو لفيناس. تبدو لنا الأبنية الفلسفية من الخارج غريبة وغامضة، نشعر بالرهبة والخوف من الولوج فيها، لأن الكل يبدو لنا ضبابياً ومعقَّداً.

ما أن نتسلَّل ونتخطى عتبة المدخل، نكتشف زخم القول المقولب والتفكير المتناسل. قد ننبهر بهذا المشهد، لكن يفقد سحر الصورة من مفعوله عندما نبدأ في اكتشاف الروابط والأوتار بين الأفكار. هكذا ننتقل من الافتتان بالصورة إلى فهم الشكل، إلى محاولة الإحاطة بالأشكال المفهومية الموضوعة، وندرك شيئاً فشيئاً أن الفيلسوف لم يتعمَّد التعقيد، وإنما كان في مخاض التوليد بما يتناسل من خواطر متسارعة كالبرق، لا بدَّ أن يمسك بها في حينها ويُغلّفها بالعبارة؛ وندرك رويداً رويداً اللوحة الجامعة لفكره الشامل من خلال الأفكار المتوتّرة والمتواترة؛ نُدرك خريطة التفكير التي نتَّخذها دليلاً ومرشداً داخل متاهة الأروقة اللغوية المتشعّبة (مكانياً) والمتشبّعة (زمانياً) بالاقتباس وإعادة القولبة والتحيين.

3. اللحظة الباروكية: المعراج المرآوي

أشبّه هذه الكتابات الغامضة في ظاهرها بالقصور الباروكية الضخمة، ذات الزخرفة الصادمة والتلافيف اللانهائية. «الباروك» (Baroque) هو اسمُ نعوت تقول كلها المجريات التالية: اللانهائي، المرآوي، المنعرج، الملتوي، المنكسر؛ تنحدر من الاسم barroco وهي المحارة ذات الشكل الحلزوني، تفيد الدوران ومعها الدُوار والدَّوخة شبيهة بالحيرة الصوفية، تفيد اللانهائي كلانهائية التأويل والمعنى، تفيد المرآوي دليل المضاعفة والتعدُّد كالكثرة السيميائية والدلالية. بالفعل، تأتي الكتابات ذات المظهر الغامض والمعقَّد في صورة باروكية بديهية، مثل الكتابات الصوفية-العرفانية والنصوص التفكيكية الكبرى. في الكتاب الجماعي الذي أشرف عليه الصديق الدكتور محمد بكاي «جاك دريدا: فيلسوف الهوامش» (منشورات الاختلاف وضفاف، 2017)، شاركتُ بدراسة عنوانها: «دريدا الباروكي: رؤية في الانعطاف الدريدي داخل النص الفلسفي الغربي» (ص23-63)؛ وأشرتُ بأن التفكيك وما بعد الحداثة وكل المبهمات من الفلسفات، علاوةً على مبدأ الإحسان واللحظة الرواقية، ينبغي قراءتها في ضوء «أيُّون الباروك» (éon) العابر للتاريخ، والمنتمي إلى نوعٍ من الفلسفة الخالدة (philosophia perennis)، كما يذهب أوجينيو دورس (Eugenio d’Ors) في كتابه التُحفة «في الباروك» (1935).

على العكس من «الكلاسيكي» الذي يتميَّز بالبداهة واليقين والانسجام والتوازن، يتميَّز «الباروكي» بالتفاقم والإفراط (l’hyperbolique) والانكسار. يمكن حشر فلسفات الذاتية والوعي في «الكلاسيكي» (ديكارت، هيغل، برغسون)، ويمكن حشر فلسفات الهاجس واللاشعور وما بعد الحداثة في «الباروكي» (نيتشه، فرويد، دريدا). غير أن الباروكي ليس نقيض الكلاسيكي، إنما هو المعكوس أو المقلوب (القلب النيتشوي للأفلاطوني، القلب الماركسي للهيغلي...). إنه المتضايف المبهم والمفزع، النصف-القمري المعتم. ليس الباروكي الشاذ والعصيّ على العقل، إنه المشوَّه من الكلاسيكي، ما لم يستطع الكلاسيكي فقهه بحكم عقبة أمام فهم الوجود؛ خرس أمام سقوط العقل في الإجرام بوسيلة التقنية (الحروب العالمية والمجازر الرهيبة) بعد سطوع الأنوار المبشّرة بتقدُّم حازم وسعيد؛ فزع من العنف والتطرف والإرهاب والعدمية، والعجز أمام هذه الظواهر المروّعة. ليس الباروكي «فرنكنشتاين» الكلاسيكي، بل هو الطفرة الأنطولوجية والذهنية داخل ضمانات الكلاسيكي الهشَّة، يُري الكلاسيكي بشاعة ملامحه وبهتان ملاحمه في مرآة العدمية: بعد التبشير بالخير والاستبشار بالفأل في أزمنة الأنوار (القرن الثامن عشر)، حصدت البشرية عنفاً وقهراً (القرن العشرون)، بعدما مهَّد التصنيع ثم التقنية (القرن التاسع عشر) الوسائل القاتلة بشحذ السكاكين وشحن البندقيات والمدافع.

يُري الباروكي «الكلاسيكي» وجهه البشع في مرآة التشكُّلات النظرية في الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي والحقوق الإنسانية، فما زادت حالة البشرية بعدها إلا استعباداً واستعماراً واستغلالاً واستيطاناً وعدواناً. تساءل الباروكي: أيُّ جنونٍ حلَّ بالكلاسيكي (أي العقل)؟ أيّة حيلة ماكرة راودته؟ أيُّ ماردٍ استغواه؟ كل «فيلسوف باروكي»، إنما جاء ليتعارك مع حِيل العقل واندحار القيم: نيتشه والمسيحية، هايدغر والميتافيزيقا، فرويد واللامعقول، دريدا والتمركز العقلي، فوكو والسلطة المؤسَّسية. هل هي تصفية حساب؟ يمكن القول بأنها محاكمة بالمعنى القضائي للكلمة، فيها الجاني (العقل) والشهود (الوقائع من جرائم وفظائع) والقاضي (الضمير وأخلاق الحكمة المجرَّدة عن أخلاق الأمر والنهي). النصوص التفكيكية الكبرى (من نيتشه إلى دريدا مروراً بهايدغر ومدرسة فرانكفورت) هي تجليَّات «الباروكي» في خطاب فلسفي وأدبي وفني أفلتت منه العبارة في نعت الوقائع العصيبة، وأتت هذه العبارة في شكل جبل ضخم من الزخم المجازي والرمزي لا يستنفد محتوى ما يقوله ويشير إليه.

لكن هل يُختزل الكلاسيكي في تقنية مدمّرة دون الإيجابيات المشهودة في وسائل النقل والاتصال والطب وغزو الفضاء؟ جاء الباروكي ليُنبّه إلى «النُّقْطة العَمْيَاء» من النظر الكلاسيكي، إلى مجال الرؤية التي عجز النظر الكلاسيكي عن الالتفات إليها، وما كل نظر هو رؤية واستبصار. يختفي وراء حُجُب النقطة العمياء كل الموضوعات التي تناولتها الفلسفات التفكيكية، وهي باروكية بامتياز، وأعطتها الحق في المشهودية: الجسد المنسي من وراء النقطة العمياء للروح الخالصة، الآخر المنبوذ من وراء النقطة العمياء للأنا المتمركزة، الثقافات الهامشية أو المهمَّشة من وراء النقطة العمياء للهيمنة الكاسحة استعماراً واستغلالاً. يُري الباروكي «الكلاسيكي» ما سمَّاه دريدا غرور العقل في مرآة الوقائع، غرور نرجسي ينتهي بأن يُعدم القيم بعدما يُفني الموضوعات القابلة للحدس، نوع من المكر الباطني الذي يُزيّن للعقل صنيعته. كتاب دريدا «مارقون: محاولتان حول العقل» (2003) هو قراءة دقيقة في المكر الباطني للعقل الذي يستدرج هذا الأخير نحو مواقع الظل والإبهام ومواطن الغرور والاستعلاء.

بهذا المعنى، لم يكن الباروكي ضدَّ العقل، أي نقيض الكلاسيكي، وإنما هو «عقل مضادّ»، عقل انعكاسي (réflexif) بالمعنى المزدوج المرآوي والتأمُّلي، عقل يتفادى النرجسية المصاحبة عادةً للمرآة، ليرى الملامح البشعة المنعكسة، ويهمُّ إلى معالجتها وترميمها وإرجاع الوهج التنويري الخالص الذي نذر نفسه منذ البداية على العناية بشُعلته وتعميم أنواره. خلافاً للأفكار السائدة، لم تكن الفلسفات التفكيكية ذات المسحة الباروكية (نيتشه، فرويد، دريدا) ضدَّ الأنوار أو العقل أو التقدُّم، وإنما جاءت بوصفها صيحاتٍ وتصحيحاتٍ في ما تعتَّم في الأنوار واعوجَّ في العقل واندحر في التقدُّم، جاءت لتعزيم المكر الذي استبدَّ بالعقل وعزله عن السير الحازم نحو الاكتمال والتمكُّن في العالم. في النهاية، الباروكي هو فضح القناع الذي يرتديه العقل ليتوارى عن الأنظار وليقبع في القاع، متنكّراً لعمل النقد الذي يمارسه على ذاته بصرامة الملتفت إلى ذاته بنيَّة إصلاحها وعلاجها، لا بغرض التلذُّذ النرجسي بشوكتها التي لا تُقهر. هنا يكمن الفارق، وهنا بالضبط جاء التفكيك باستعارة المعْوَل: المطرقة، المقراض، الباتر. لأيّ غرض؟ قصُّ جناحي إكاروس (Icare) حتى لا يُحلّق عالياً ويحترق بالشمس، ترجمته: قصُّ أجنحة العقل حتى لا يهيم في سماء التجريد والعشق المتسامي لذاته.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D9...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك