العرب والإسلام والغرب والظروف الراهنة مقابلة مع : برنارد لويس

العرب والإسلام والغرب والظروف الراهنة مقابلة مع : برنارد لويس

أسرة تحرير التسامح

لست مذهولاً بتركيا، وقد كتبت دراستي: "العرب في التاريخ"، التي تحبونها أنتم العرب قبل أعمالي عن تركيا الحديثة والعثمانية لكنني كنت بتركيا عام 1950م عندما جرت الانتخابات وسقط حزب الشعب الجمهوري الكمالي الحاكم لصالح المعارضة، فأعجبت بذلك كثيراً.

عن موضوع الدراسات العثمانية والدراسات الإسلامية وأوضاع الإسلام والغرب اليوم يتحدث برنارد لويس –الذي يصر على أنه مؤرخ لا أكثر– في هذه المقابلة التي أجرتها معه مجلة التسامح عندما كان في مسقط لإلقاء محاضرات.

س/ لقد كتبت كثيرا عن العثمانيين وسقوط دولتهم ولك كتابان عن الإسلام المعاصر: الأول بعنوان "كيف حدث الخلل" والثاني عن "أزمة الإسلام" تتحدث فيهما عن المأزق والإصلاح في الوقت الحاضر، فهل تعتبر ذلك على النمط والمستوى السابق نفسه؟

ج/ بالطبع يعد هذا امتداداً للموضوع نفسه، لكن في الواقع لا أستطيع التعامل معهما بالطريقة نفسها، فعند التعامل مع الماضي فإنك تستخدم الوثائق العادية التي يقدمها المؤرخون والتي تعد مواد أرشيفية وأدبية.أما في الوقت الحاضر فليس لدينا عادة ً إمكانية الوصول إلى المواد الأرشيفية، لكن لدينا إمكانية الوصول إلى المواد الإعلامية، وتعويضاً عن ذلك فإن هناك إمكانية لقاء الناس والتحدث معهم وهو شيء لم يكن ممكناً في السابق.

س /ما هو رأيكم في هاتين المسألتين: سقوط العثمانيين، وأزمة الإسلام، كما عبرت عنه في كتابك الأخير، وما هي الظاهرة الناتجة عن الصراع مع الغرب في كلتا الحالتين. ترى ما هو الفرق؟

ج/ لا أعتقد أن هناك فرقاً، بصورة رئيسة. أعتقد أنها الظاهرة نفسها. فقد كانت الإمبراطورية العثمانية من أهم الدول الإسلامية المعترف بها في كل مكان كدولة قائدة للعالم الإسلامي السُّنِّيِّ في الشرق، وكان سقوط الإمبراطورية العثمانية في نظر كثير من المسلمين يعني سقوط الدين الإسلامي، أو أنه يعني سقوط العالم الإسلامي؛ لهذا لا أعتقد أنهما ظاهرتان مختلفتان بل أعتقد أنهما أمران مدركان مختلفان للظاهرة. أما بخصوص الشق الثاني من السؤال عن العلاقة مع الغرب: كيف يمكن قياس السقوط؟ إن كل المناهج العلمية تبنى على أساس المقارنة، فعند ذهابك إلى الطبيب شاكيا من ألم في ذراعك الأيمن فإنه يقوم بفحص ذراعك الأيسر أيضا! وهذا النمط يسري على أي طريقة علمية في التاريخ أو أي موضوع آخر مشابه؛ حيث يمكن رؤية التغيير من خلال المقارنة مع حضارات أخرى، ففي الماضي كان من العادة عقد المقارنة بين الحضارة الإسلامية وبين ما نطلق عليه اليوم الغرب، بالرغم من أنها كانت تسمى أحياناً الحضارة المسيحية. وفي الوقت الراهن فلدينا إمكانات أوسع حيث نقارن مع حضارات المشرق مثل الهند والصين واليابان، وهذه الإحصائيات تبين استحالة وتنوع المقارنة بينهما وهو هم عَبَّرَ عنه بعض زملائي وأصدقائي المسلمين حيث يبينون أننا لم نتخلف فقط عن الغرب بل إن الشرق أيضا قد تجاوزنا.

س/ نعود إلى العثمانيين، فقد ذكرت في أماكن عدة عن كيفية كتابة التاريخ دون وثائق، هل لديك تعاطفٌ خاص مع العثمانيين بشأن كتابة التاريخ أو أنك كتبت عن العثمانيين بسبب وجود وثائق؟

ج / الأمران مترابطان، فعند دراستك لمجتمع عن قرب على مدى سنوات عديدة يتولد لديك تعاطفٌ معهم، لكن لم يكن هذا التعاطف هو ما أوصلني إلى هناك، لكن كوني كنت هناك وَلَّدَ لديَّ هذا التعاطف، هناك شكوى من بعض الناس أنني اعتمدت في كتابي "كيف حدث الخلل" على مصادر تركية بصورة كبيرة، وهذا صحيح وهو واقع الحال، ففي الفترة التي تناولتها في كتابي، وهي القرنان الأخيران من العصر الحديث، كان العثمانيون هم أسياد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكانت المصادر التي استخدمتها مكتوبةً باللغة التركية، كذلك الوثائق والمراسلات المهمة، ولم يبدأ العرب باستعادة ذاكرتهم وصوتهم إلا مؤخرا وبدأوا يتكلمون عن الموضوع، لكن في القرون السادس والسابع والثامن عشر وحتى بداية القرن التاسع عشر لا يوجد الكثير المكتوب بالعربية.

س/ إذن اعتمدت على المصادر العثمانية؟

ج/ نعم كان العثمانيون هم أسياد ذلك العالم، وما نقلوه يبين لنا الأحداث التي كانت تجري، ولحسن الحظ فقد كان العثمانيون حريصين على إبقاء سجلاتهم بصورة جيدة.

س/ هل تعدّ من المستشرقين البارزين؟

ج/ أنا لا أحب هذا المصطلح.

س/ هل أنت إذن من أساتذة التاريخ الإسلامي أو من المؤرخين المتخصصين في الشرق الأوسط، وقد تكلم المختصون بصورة كبيرة عن المنهج التاريخاني في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويتكلمون الآن عن تحويل الاستشراق إلى أثنروبولوجيا (علم الإنسان) فما رأيك في ذلك؟

ج/ دعني في البدء أرجع قليلاً إلى الوراء، إن مصطلح مستشرق بدأ استخدامه عندما أضافوا العربية والعبرية إلى برنامج الجامعة في أوربا، وفي الأصل كان الاعتماد في التدريس الجامعي على اللغة اللاتينية والإغريقية وبعدها أضافوا العربية والعبرية، لهذا كان الذين يدرسون اللاتينية قد أصبحوا لاتينيين، والذين يدرسون الإغريقية إغريقيين، كذلك أطلق على الدارسين للعبرية والعربية مستشرقين. كان مصطلح "علم" يطلق على تعيين الاختصاص أو مجموعة الطلاب المتخصصين في حقل ما. ولم يؤسس هذين الاختصاصين كَوْنُ بعض الناس لديهم اهتمامات في الشرق الأوسط، بل لأن هاتين اللغتين تعدان من اللغات الكتابية الأصيلة. وفي بداية الدراسات الشرقية في أوربا في العصر الحديث في القرنين السادس عشر والسابع عشر ومن أجل ربط ذلك مع الإمبريالية والاستعمار يجب عليك قلب التاريخ بكل الاتجاهات، للأعلى والأسفل والأمام والخلف، وأعلم أن هناك بعض الناس لا يمانعون ذلك، أما أنا فأمانع. في ذلك الوقت عند تأسيس قسم العربية في جامعة باريس في بداية القرن السابع عشر، كان العرب قد خرجوا من أسبانيا وكان الأتراك يندفعون إلى قلب أوربا وفي القرن السابع عشر أسس القسم العربي في كامبردج، وكان الإنكليز لا يسمح لهم بالذهاب إلى الشرق الأوسط إلا بموافقة السلطان في حين كان "القراصنة" من شمال أفريقيا لا يزالون يغيرون على الشواطئ الإنكليزية، ويجب على المرء التحلي ببعض الواقعية رغم أنى أدرك أن هذه نظرة قد عفا عليها الزمن. فلو كان لديهم اهتمامات بالأمور الحديثة لما فتحوا هذه الأقسام، وعِوَضًا عنها لفتحوا أقساما فارسية وتركية، لكنهم يعلمون أن تلك اللغات كانت هي اللغات الأصلية. لم يكن لديهم أقسام فارسية أو تركية وللسبب نفسه لم يكن لديهم أقسام إنكليزية أو فرنسية أو ألمانية حيث لم تعتبر تلك اللغات مواد للدراسة الجامعية، فقد كانت لديهم العربية مثلما لديهم اللاتينية والإغريقية التي يعدونها من لغات الكتاب المقدس الأصلية، لهذا درسوا القران مثلما درسوا كتب العهد الجديد والعهد القديم بالطريقة نفسها، لكن ربما بروحية مختلفة. واستمر هذا الأمر بالتطور على طول القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين جاء تغيير جديد، حيث أصبح مصطلح "مستشرق" غير دقيق لسببين، الأول: وهو السبب المعروف كونه اسماً غامضاً حيث إن المستشرق هو الذي يدرس الشرق ابتداءً بالمغرب وينتهي باليابان، لهذا فإنّ الدلالة مبهمة فيما يخص الموقع وحتى أكثر من ذلك، فإنها لا تعين نظاما وهذا هو الموقع الذي ننقسم فيه إلى مؤرخين وغير مؤرخين: بعضنا له اهتمام بالتاريخ أو في الفلسفة وبعضنا الآخر مختص بعلم اللاهوت. والتاريخ بدوره ينقسم إلى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي إضافة إلى التاريخ السياسي وهكذا. لهذا تم إسقاط مصطلح مستشرق بصورة رسمية من قبل المجلس الدولي للمستشرقين قبل نصف قرن، ولا يستخدم هذا المصطلح كعلم، وأودع هذا المصطلح إذا أمكن القول من قبل العلماء في مزابل التاريخ، لكنَّ هناك ناساً يبحثون في المزابل ليروا ماذا يمكن أن يجدوا. والمصطلح الآن ليس لديه أي معنى، لكن لدينا مصطلح المؤرخين، وقد دُرِّبْتُ أنا كمؤرخ ودراستي الجامعية الأولية كانت كمؤرخ ولدي درجة شرفية مُبَيَّنٌ فيها الاختصاص وهو التاريخ بتأكيد خاص على الشرق الأدنى.

س/ ما رأيك في هذه النزعة الآن، نزعة التركيب باسم الأنثروبولوجيا ( علم الإنسان) أي بالرجوع إلى الأصول، أنت كمؤرخ هل تؤمن بالتطور التاريخي؟، بالرغم من أن العديد من طلابك يتبعون الرأي القائل بأن المنهج الأنثروبولوجي هو المنهج الأفضل للفهم حتى في الأحداث الحالية.

ج/ ليس لدي اعتراض على المنهج الأنثروبولوجي ما دام يتم بصورة علمية ولا يتم بصورة عاطفية أو أيديولوجية. المهم في الدراسة العلمية الجدية أن تكون مستندة إلى شيء مهم وهو الأدلة، فإذا كانت لديهم الإمكانية لإبراز الأدلة لدعم وجهة نظرهم إذن أُومِنُ بالتأكيد و في حال غياب الأدلة فلا أعتقد ذلك.

س/ الظاهرة الإسلامية، بعضهم يتكلم عن أن الأصول غير قابلة للتغيير ليس من قبل المسلمين فحسب بل حتى من قبل بعض العلماء الغربيين مثل غلنر و كرون، وغيرهم ممن يتحدثون عن الإسلام الحديث في الرجوع إلى القرآن لاكتشاف التاريخ أو لإعادة اكتشاف التاريخ الحقيقي، هل أنت من مؤيدي هذا المنهج لفهم الحقائق الحديثة؟

ج/ لا يوجد شيء ملائم، أعتقد أنه ضروري لكن ليس ملائماً ولا كافياً.

س/ أنت من الممهدين لما يسمى التاريخ الثقافي وأول من كتب عنه؟

ج/ لقد تم تأسيس هذا قبلي، إن تاريخ الأفكار مهم جدا ولحسن الحظ فإننا نمتلك وثائق تغني وتثري هذا الموضوع، حيث إن الذين لديهم أفكار عادة يكتبون عنها.

س/ هل تعني أنه عندما لا تتوافر وثائق كافية تكتب بصورة فكرية أو تلجأ إلى السياسة والتطورات العسكرية.

ج/ بالتأكيد لا، ما أعنيه هو أن هناك تاريخاً كبيراً قد ضاع بصورة دائمة لأنه كان دون وثائق، حيث يقول المؤرخ الفرنسي ميشلييه عند سؤاله عن دوره كمؤرخ: التاريخ ممكن وهو أمر جيد إذا استطعنا، لكن الكثير من الماضي قد ضاع إلى الأبد ونحن متأكدون من الأمور التي نملك لها أدلة يحبذها المؤرخون وهي في المرتبة الأولى، الأدلة المكتوبة من أرشيف ووثائق ومخطوطات ونقوش وغيرها من الأدلة الأخرى التي يمكن أن نسميها الأدلة المعمارية مثل المباني القديمة والبقايا المعمارية وغيرها، وهناك التاريخ المنقول كلاميّا وهو مهم جدا، وهي أمور غير مكتوبة والتي يتم تناقلها بالألسن، وفي بعض الأحيان على امتداد عدة أجيال، لكنْ هناك تحفظ واضح على هذا النوع من الأدلة لأنه ما دام غير مكتوب فقد يكون قد تغير بمرور الوقت، ولكن أعتقد في معظم المجتمعات فإن كل المنقول دقيق بصورة مذهلة، وإذا نظرت إلى مخطط التاريخ الأول فإنه يعتمد على امتداد طويل ناجح من التاريخ المنقول.

س/ لنرجع إلى الوراء إلى عملك أنت والذي امتد على مدى خمسين عاماً والذي بدأ بالحصول على شهادة البكالوريوس في التاريخ والعمل عن الإسماعيليين، ومن ثم الافتتان بالعثمانيين، إلى التاريخ العربي والحضارة الإسلامية واللغة السياسية للإسلام واكتشاف المسلمين لأوربا والخبرة اليهودية مع العالم الإسلامي، والنهاية في العامين الماضيين بإصدار كتابين بعنوان "كيف حدث الخلل" والثاني عن "أزمة الإسلام" وجميع هذه الموضوعات تاريخية وثقافية. ما رأيك في التاريخ الثقافي؟

ج/ أنا رجل كبير وورائي تاريخ طويل! التاريخ الثقافي جزء مهم من التاريخ وهو ليس التاريخ كله، لكن التاريخ الفكري يعطينا فرصة أكبر لفهم التاريخ غير الفكري، أما التاريخ غير الفكري فلا يساعدنا كثيرا في فهم التاريخ الفكري بالرغم من أن الماركسيين يَدَّعُونَ عكس ذلك.

س/ إذن ليس لديك تعاطف مع الماركسية، أي أن رأيك مثل كارل بوبر في عقم المذهب التاريخي أو التاريخاني؟

ج/ لنكن عادلين أظن أن الماركسية قد جاءت ببعض الخطوات في تطوير العلوم التاريخية، حيث وجهت الانتباه إلى بعض الأمور بالذات التي تم إهمالها سابقا وخاصة الموضوعات الاقتصادية الصعبة ونمط الإنتاج وغيرها، وهذا كان مهمّاً وقد أهمل في السابق، لكن في المدارس الماركسية كانت هناك مبالغة، فكل شيء يأخذ وقتا مقداره أكثر من دقيقتين فهو كثير، وهناك مسألة تاريخية أخرى كانت مهملة أيضا في الماضي والتي تحظى باهتمام كبير في الوقت الحاضر، ألا وهي المسالة التقنية وتطوير تقنيات مختلفة وهو أمر لم يُولَ أيَّ اهتمام في الماضي، خذ مثالا على ذلك: الرِكاب، حيث شكّل إدخال الرِكاب على الحصان تغييراً جوهريّاً، فإن هناك العديد من الأمور التي تستطيع عملها بوجود الرِكاب ولن تتمكن من القيام بها دونه، وقد اعتبر هذا الأمر بمثابة ثورة في المجال العسكري، فكيف يمكن لصنف الخيالة الانطلاق دون الرِكاب، بالتأكيد فإنهم جميعا سيسقطون عن جيادهم وهذا الأمر لم يتم التطرق إليه أبداً في الماضي.

س/ في كتابيك الأخيرين، بسبب الأحداث العصيبة الخطرة التي نمر بها نحن العرب والمسلمين، قرأنا في كتابيك هذين أنه في ظل الظروف الحالية، فإن مشكلاتنا نجمت عن اجتماع ثلاثة عناصر هي: استذكار أحداث الحضارة الإسلامية القديمة،والاستعمار الغربي الذي نزل بالمسلمين في القرنين الماضيين، والفشل العربي في إدارة الشأن العام لتنهض دولهم في الظروف الحالية للعالم الحديث. هل ترى أن أصوليتنا هي نتيجة لهذه الظواهر الثلاثة مجتمعة فعلاً؟

ج / حسنا، أنا لا أحب كلمة الأصولية هذه، لكن يبدو أننا أصبحنا مجبرين على استخدامها. هذه الكلمة هي جزء من التقليد البروتستانتي الأمريكي وهي موضع تساؤل، ويمكننا أن نكون أكثر تحديداً في ذلك حيث تدل هذه الكلمة على كنائس بروتستانتية معينة والتي تختلف عن الكنائس الكبرى. ومن المثير للاهتمام أن المسألتين اللتين يختلف فيهما الأمريكان المتشددون عن الكنائس الأصلية هما اللاهوت الليبرالي وألوهية النص الإنجيلي، وكل منهما ليس بمسألة خاصة في الوقت الحاضر حيث وجد اللاهوت الليبرالي في الماضي كما هو في الحاضر، أما مسالة عصمة النص فالإسلام أكثر تشديداً في ذلك وهو ليس موضع خلاف. فإذا استخدم أحدهم مصطلح "أصولي" فإنه سيكون مضللا للغربيين وليس للمسلمين، لهذا ليس لدينا مصطلح بديل أفضل من ذلك، وهناك البعض الذي يستخدم كلمة إسلاميون، وهذا ما أعارضه لأن ذلك سيعني بأن ذلك هو الإسلام وأعتقد بأن ذلك ليس صحيحا أيضا.

س/ قرأنا أحد كتبك وتولَّد لدينا انطباع، لم يتفق معنا فيه أحد الزملاء، هو أنك تُحمِّل الإسلام والمبادئ الإسلامية مسؤولية مميزة فيما يحدث الآن؟

ج/ لست واثقا عما تقصده بالضبط، إذا قصدت أن الإسلام هو السبب لما حدث من خلل فإنه ليس ما قصدت، وفي الحقيقة أنا قلت: إذا كان الإسلام هو سبب الانحطاط لما بلغ الإسلام أوج العظمة في عصوره الكلاسيكية ولما كان قط حضارة مزدهرة بل كانت الحضارة الأكثر تطورا وإبداعا والأكثر حرية في جميع الجوانب الإنسانية وحينها كان الإسلام أقوى مما هو عليه الآن وأقرب إلى أصل الإسلام؛ لهذا فإن إلحاق هذه المسالة بالإسلام يضحى عديم المعنى. والسؤال الذي يجب أن أساله أنا كمؤرخ، ولو أنه ليس من واجبي، كما أن المسلمين يجب أن لا يسألوا أنفسهم: ماذا فعل الإسلام بنا؟ بل السؤال الصحيح هو: ماذا فعلنا نحن بالإسلام؟

س/ في العقدين المنصرمين كانت هناك نقاشات كبيرة وشاركت أنت وخُضْتَ في موضوع أصول الغضب الإسلامي، وهناك الآن مؤيدون لنزعة المحافظين الجدد، ويستخدمون هذا المقال بصورة كبيرة أمثال مارتن كريمر ودانيال بايبر وحتى وولفويتز وريتشارد بيرل، ويتكلمون دائما عن مقالك. ماذا عن مثلث العناصر الثلاثة السالفة الذكر. وقد استثنيت الأتراك بأن لهم القابلية على إنشاء دولة علمانية، هل مازلت على آرائك السابقة؟

ج / نعم لكن الاستثناء أصبح أقلَّ حيث يتجه آخرون إلى هذا الاتجاه. لكن هناك حقيقة جلية وهي أن تركيا كانت لفترة طويلة من الزمان الدولة الإسلامية الوحيدة التي تتبنى دستورا علمانيا والذي أوجد ديمقراطية حقيقية، لقد كنت في تركيا عام 1950م حينما راقبت زوال سيطرة حزب أتاتورك (حزب الشعب الجمهوري) على مقدرات الدولة في انتخابات حرة، كان السيطرة المطلقة لحز ب أتاتورك حيث أرادوا تأسيس حزب الشعب الجمهوري والذي كان حزب أتاتورك نفسه، وأعتقد أن الإنجاز الأعظم لحزب الشعب الجمهوري كان خسارته في الانتخابات مع أنهم لم يخططوا لخسارة الانتخابات بصورة متعمدة، فقد كان هناك انتخاب في شهر مايو عام 1950م نظمته الحكومة وأشرفت عليه وخسرته، وفاز بها عدنان مندريس الذي كان رئيس الحزب الديمقراطي. لقد كنت في تركيا في تلك الفترة، ومررت بخبرة مؤثرة بشدة بسبب الظرف آنذاك، وبالنسبة لخلفيتي السياسية التي كانت مملوءة بذكريات الحرب والصراع ضد النازيين ومن ثم الصراع ضد الشيوعيين بعد ذلك، وكنا حينها مشتبكين في صراع كوني كبير مع عدو شديد القوة،وهنا في خضم كل هذا كانت هناك دولة مثل تركيا قد اختارت بصورة حرة تبنِّي الديمقراطية، رغم مخاوف ومخاطر الديمقراطية في ذلك الحين، وأعتقد أن مشاهدة مثل هذا الحدث لنظام يخسر الانتخابات ويذهب سلميّاً ليس بالمنظر المعتاد الذي يمكن رؤيته دائما في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، ومن المؤكد أن هذا قد حدث سابقا، لكنه يبقى حدثا نادرا، وحسب علمي فإنها كانت المرة الأولى التي يتم فيها إزالة حكومة عن طريق الانتخابات الحرة.

س/ في ذلك الوقت كتبت مقالة عن الإسلام والشيوعية بين عامي 1955 أو 1956م، فهل ترى أن الفرو قات أكبر أم الشبه أكبر بينهما، وهل تعتقد أن الإسلام يتوافق مع الديمقراطية؟

ج/ نعم كتبت مقالا عن الإسلام والشيوعية، وذكرت فيه أن هناك تشابهات معينة، لكن الفروقات أكبر بكثير من التشابهات، وأعتقد أن الإسلام يتوافق بصورة كبيرة مع الديمقراطية حتى دون العلمانية ولا أعتقد أن العلمانية شرط. فمثلاً دولة بريطانيا ديمقراطية ولا يوجد هناك نمط للتفريق بين الكنيسة والحكومة، حيث تعد الملكة رئيسة الكنيسة، ويجلس الأسقف في مجلس اللوردات، ويبدأ كل يوم دراسي في المدارس بالصلوات الخاصة وهكذا.

س/ ما سبب هذا الصراع الذي يدور في العالم العربي بين الدين والحكومة، حيث يحاول الدين التغلب على الحكومة وبالعكس؟

ج / الاثنان مترابطان معا، إذا سيطر الدين على الحكومة فسيتظاهر العلمانيون والديمقراطيون ضده، والعكس بالعكس.

س / إذن أنت لا ترى حالة خاصة في مشكلتنا نحن العرب مع الإسلام؟

ج/ هناك حالة خاصة للإسلام حيث إن لديكم شريعة إلهية، أما الديمقراطية فهي على صلة كبيرة مع عملية صنع القوانين، أنتم عندكم قانون إلهي ولذلك تختلف قضية التشريع وتختلف وظائف البرلمان أو مجلس الشورى، هذا هو جوهر الموضوع.

س / هل كتبت بصورة مباشرة عن الأحداث والتطورات السياسية في الشرق الأوسط؟

ج/ نعم تناولت بعض الموضوعات في مرات متفرقة.

س / سؤالي الأخير لك: هل أنت متفائل بمستقبل الدراسات الإسلامية؟

ج / في المنظور البعيد نعم، أما في المنظور القريب فلا.

س / ألا يوجد علماء جيدون الآن من الجيل الشاب؟

ج / نعم لهذا أنا متفائل للمنظور البعيد، حيث إن الجيل الجديد متوقِّد، وقد ابتدأ العمل وبعضهم لديه مقدرة جيدة.

س / ما المشاكل الرئيسة في الدراسات الإسلامية، هل هي اللغة أم المنهج؟

ج / الاثنان معا، المشكلة الأولى تبدأ من التغيرات، فعندما كنت طالبا في بدايات القرن العشرين توجَّب علينا تعلم اللغة اللاتينية وبعض منا تعلم الإغريقية، وعندما أتينا لدراسة اللغة العربية لم نواجه مشكلة كبيرة في ذلك رغم كون العربية لا تشبه اللاتينية أو الإغريقية لكننا تعلمنا كيف نتعلم اللغة وتعلمنا كيف نتعلم قواعد اللغة، أما في هذه الأيام إذا أردت أن تدرس للطلاب قواعد اللغة العربية فإنه يتوجب عليك أولا أن تدرس لهم ما هي القواعد وهذا ما يجعل الأمر صعبا، لدينا الآن طلاب يدرسون العربية لمدة ثلاث أو أربع سنوات وفي النهاية فإنهم لا يستطيعون حتى قراءة الصحيفة بسهولة، هذه هي الصعوبة التي يسميها بعضهم تغيرا، ويسميها من هم في عمري تدهوراً في التعليم الغربي، وهذا ما يجعل الأمر صعبا وليس للأصل أي علاقة بالموضوع وينطبق على العديد من العلوم. السبب الثاني: الخلافات الأيديولوجية التي دمرت العلوم في هذا المجال، والمملوءة بسلسلة من المحرمات التي تعيق مناقشة بعض الموضوعات بحرية ونزاهة بسبب الهيمنة الأيديولوجية. فطالب العلم الحديث الذي يرغب في شق طريقه يجب أن يكون حذرا لما يقوله، وإلا واجه مشاكل تمنعه من التقدم والحصول على الترقيات والزمالات والوظائف وغيرها.

*****************

*) برنارد لويس: أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون سابقاً، وأحد كبار المتخصصين في التاريخ الإسلامي، والمؤثرين في الدراسات الإسلامية الكلاسيكية، والسياسات حول الشرق الأوسط اليوم.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=102

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك