هل نحن بحاجة لتجديد النظر في مواردنا الثقافية؟
تؤدي الأفكار الحية دورًا فعالًا وأساسيًا في بناء الأمم والحضارات لا يمكن الاستغناء عنه، أو إيجاد بديل يماثل دوره في التشكيل الحضاري للأمم، ومن ثم فالبحث في الصعود الحضاري أو عن أسباب الهبوط الحضاري لأمة ما لابد وأن يكون من خلال البحث في العناصر الحية في لأفكارها، هذه العناصر التي تقوم مقام الخلايا الحية التي تنقل الدم إلى باق الجسد، وهذه الأفكار الحية تحدد للفرد والجماعة تصوراتهم وطموحاتهم ووسائل وأدوات العمل وضوابط النشاط والحركة وغايات الوجود والمصير، وهي أيضًا باعثة حال الغفلة وحركة حال الركون، ولا يختلف إنسان على أن الأمة الإسلامية المعاصرة تعاني من حالة “انحسار الحضاري”، يتطور بفعل “فواعيل”عديدة إلى “انكسار حضاري” غير مسبوق في وجودها، فتتكرس حالة الهيمنة والاستغلال لشعوبها، وتتسارع الخطى للتطبيع مع أعدائها، ويتم تجاوز كل الخطوط الحمراء، ويستهان بالمقدسات الاجتماعية والعقدية، وهو ما يتطلب بعث لهذه الأفكار الحية التي تمد الأمة بدماء صالحة غير فاسدة تستطيع بها الحياة مرة أخرى.
والسنة تمثل مع القرآن باعتبارها تطبيقًا له وشارحة ومبينة لكثير من معانيه وأحكامه وتشريعاته، تمثل مصدرًا رئيسًا لحركة المسلم، ومرجعية تطبيقية لنشاطه الكوني، وإطارًا لفعله الحضاري المنتظر، إذا أن حركة المسلم ونشاطه لا ترتبط بعزلة أو انحسار أو ترتبط بقومية أو عرقية أو حدود جغرافية، فمجال حركته ونشاطه الكون كله والإنسانية كلها. والنبوة تمتلك كنوزًا صالحة لمد الأمة بحاجاتها من الدماء اللازمة للحياة، وللانتقال من السقم إلى السلامة والصحة.
ويذكر كمال أبو المجد أهم مكونات التراجع الحضاري الإسلامي، فيما يلي[1]:
1- شيوع النظرة الغيبية على حساب النظر العقلي. وهو شيوع تمثل – عمليًا – في انحسار المنهج النقدي، وفي إحاطة المزيد من الأفكار والأشخاص والتجارب والسوابق بهالة من القداسة ترتفع بها فوق النقد وتعتبر حقائق ومسلمات مطلقة. كما تمثل هذا الشيوع – عمليًا – فوق ذلك بانتشار الفكر الخرافي بصفة عامة.
2- الانكفاء على الماضي والتردد في التعامل مع المستقبل ، بما أدى إلى جمود على الموجود ، ومقاومة أفكار التغيير.
3- غياب “النموذج الحضاري” الواضح المعالم القادر على إفراز مشروع ذاتي للتنمية الشاملة، وهذا بدوره ثمرة من ثمرات “البيات الحضاري” الذي عاشته الأمة العربية والإسلامية في أعقاب الصدمات التي ولدها التعامل مع الغرب، فأدى ذلك إلى انقسام الأمة الإسلامية إلى رافدين : أولهما يدعو للعزلة الحضارية، إما بالالتزام بالنموذج التاريخي الجاهز ، وإما انتظارًا لميلاد نموذج إسلامي جدي، أما الآخر فقد ألقى نفسه في طوفان النموذج الحضاري المسيطر وهو النموذج الغربي.
4- غياب الحرية بأبعادها المختلفة ونقص المشاركة الفردية. إن المجتمع الخائف حضاريًا لا يمكن أن يشجع الحرية بصورها المختلفة؛ لأنها تبدو – في ظل الخوف – خطراً يهدد أسوار الحماية والعزلة، كما يهدد الوحدة المفروضة وراء تلك الأسوار.
5- انتشار التجزئة السياسية وتصاعد موجات الخلاف والتباعد، رغم ما يمتلئ به الفكر العربي الحديث من دراسات وشعارات كثيرة حول الوحدة العربية والوحدة الإسلامية.
6- انتشار “اللفظية” وغياب التوجه نحو “الفعل”. وجوهر هذه الظاهرة أن المبالغة اللفظية صارت سمة ثقافية سائدة وأن الفعل الإيجابي صار أسلوبًا غائبًا، وأن قيمة العمل قد هبطت هبوطاً شديداً في المجتمعات العربية والإسلامية.
أما الشيخ الغزالي[2] – رحمه الله – فيرى أن الأزمة الفكرية المعاصرة تكمن ف تخلف نظرتنا لمواردنا الثقافية حيث “أننا نحمل تخلفنا أيضًا لمواردنا الثقافية، فنفسر ميراثنا الثقافي من خلال واقع التخلف الذي نعيش فيه، فنصير نلجأ إلى لون من التفسير المتخلف أيضاً كنوع من التسويغ للواقع الذي نحن عليه، فننتقى بعض النصوص، ونعتمد على بعضها الآخر، وما إلى ذلك ، دون النظر إلى صحتها من حيث السند، أو إلى الأبعاد المطلوب إدراكها، واستشعار المسؤولية تجاهها، هذا لأنها توافق الحالة التي نحن فيها، وكأن هذه النصوص بدلًا من أن تكون دافعًا للتغيير، أصبحت مانعًا منه، تقرأ بمنهج مغلوط يكرس تخلف الأمة وسقوطها.
وهذا يدفعنا إلى تجديد النظر إلى مصادرنا الفكرية ومواردنا التي ينبغي أن نجدد نظرتنا إلى عطاءتها المتعددة.
النبوة والتفكير الحضاري
قدمت النبوة عطاءات معرفية مهمة في مجال التفكير الحضاري، فيما يتصل بالحفز على الفعل الحضاري وتأسيس الوجدان على الرغبة والشوق لتجاوز الركون والعطالة، وربط كل حركة الإنسان ونشاطه بالغيب، وذلك ليكون للعمل أيًا كان شكله: كلمة بالحرف ، أو عمل باليد، أو تفكير بالعقل.
ونقف في هذه المقالة على إحدى الموجهات النبوية في مجال التفكير الحضاري وهي تحديدًا المتمركزة في نطاق الحديث النبوي الذي رَواه ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه”لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ “. ونتناول فيما يلي مجالات التفكير الحضاري في هذه الحديث النبوي الشريف.
المجال الأول: عُمُرِه فيما أفناهُ
العمر هو الوقت الذي تصنع فيه الحضارة، فالعمر هو المجال الزمني الذي يتسع للصناعة والعمل والبناء والصناعة والزراعة والتعليم والعلم .. والوقت – ولا شك – أحد أركان معادلة الحضارة التي تتضمن: الإنسان + الوقت + النموذج المعرفي (المرجعية الفكرية) + التراب. فالتطورات الحادثة في الغرب على سبيل المثال- على المستوى العلمي والتكنولوجي والصناعي كان من مقاصده توفير الوقت، بمعنى اختراع الآلات التي تساعد في إنجاز أكبر قدر من العمل في أقل وقت ممكن.
والمجال الزمني للإنسان يمتد طوال وجوده حيًا على ظهر الأرض ولهذا أخفى الله تعالى موعد الموت للإنسان، حتى لا يبدد وقته انتظارًا وخوفًا وتوجسًا من الموت، الذي له بلا شك ساعة موقوتة والمردود لهذا الإخفاء أن يظل الإنسان في حالة من الكبد والعمل طوال بقاءه على الأرض.
وتشير بحوث علم الاجتماع أن من خصائص المجتمعات المتخلفة “هدر الوقت”، فيما عرفه العلماء الاجتماعيين ضياع الوقت وتبديده بلا عمل وبلا نفع، ومن المؤسف أن تأتي المجتمعات الإسلامية ضمن هذه المجتمعات التي تهدر الوقت، والذي ارتبط بإشكالية أخرى هي تفاقم “وقت الفراغ” الذي ارتبط بدوره بانتشار الجرائم والترويج للانحرافات الأخلاقية لاسيما بعد شراء التكنولوجيا والمواد التليفزيونية وانتشار أطباق “الدش” و”الإنترنت” فكانت هذه سبيلًا سيئًا لشغل “وقت الفراغ” في بُلداننا الإسلامية، وبدلًا من أن يمتلئ هذه الوقت بصناعة الحضارة تعليمًا وتعلمًا وزراعة وصناعة.. ضاع في وقت الفراغ العقل وحيويته الحضارية. وأصبح “الوقت” في مجتمعاتنا الإسلامية بين “الهدر” و”الفراغ” و”الممارسة الضارة” بما أضحى مدخلاً كبيرًا للخلل الأخلاقي وثقبًا بل بابًا واسعًا لانهيار مشروعنا الحضاري”.
إن الدول العربية والإسلامية تمتلك كتلة من البشر بما يوفر لها ملايين بل مليارات من “الساعات – الزمنية” التي يمكن توظيفها بما يفيد الإنسان/ المجتمع / الحضارة كلها في زيادة الإنتاج والعمل. وحرص النبوة الراشدة على هذا الحفز “عمره فيما أفناه” استرجاع للمسؤولية الإنسانية عن ما يقضيه الإنسان المسلم في هذه الحياة، وتحذير من أن يقضيه في العبث فضلًا عن أن يكون في الضرر.
المجال الثاني: جسدِهِ فيما أبلاهُ
اهتمت النبوة بالجسد في أشكال متنوعة منها: الدعوة إلى بناء الجسد من الحلال، وذم “ما بنت جسد من حرام واعتبار والنار أولى به، والطهارة والنظافة، والحرص على سلامته، ودفعه للتداوي حال المرض أو السقم. فالجسد هو وسيلة الإنسان في العبادة بشكلها الطقوسي، وشكلها الحضاري، والجسد هو مظهر الروح ودليلها في الوجود، وكما أنه لا جسد بلا روح، فلا روح –تظهر في الوجود- بلا جسد، فالجسد يحتوي على كل الأعضاء الحيوية للإنسان التي تجعل فيه صفة الحياة وتحركه:السمع والبصر والفؤاد، كما أنه فيه القوة الناطقة التي تميزه عن باقي الكائنات الحية أي العقل.
والجسد هو الطريق/الوسيلة”للعمل” الذي هو السمة المميزة للفعل الحضاري بنوعيه: سواء العمل اليدوي أو الفكري، فكلا النوعين – العمل اليدوي والذهني -يخرجان من الإنسان، ولا يستطيع الإنسان أن يؤدي أحدهما حال اعتلال الجسد أو سقمه.
وربطت النبوة بين الجسد والعمل وأثنت على ذلك العبد الذي يمسي كالًا من عمل يده.. و”من أمسي كالاً من عمل يديه أمسي مغفورًا له”، “لأن يأخذ أحدكم حيلة فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”. “لا يغرس المسلم غرسًا ولا يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة”. وإن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فيلغرسها” فله بها أجر”.[3]
إن العالم الإسلامي يمتلك ملايين من السواعد في مرحلة الشباب التي يمكنها أن تحل مشكلته الاقتصادية بزيادة الإنتاج عن الاستهلاك، بما يجعل دوله تتوقف عن الاستيراد والاستدانة من أجل هذا الغذاء على الأقل، وبما يحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ولكن الواقع يشير إلى أن أعلى نسبة بطالة في العالم توجد في العالم العربي والإسلامي, فهو غير مستفيد من “طاقة” أبنائه” وسواعدهم وأجسادهم، مما دفع نسبة من هذه الطاقة إلى الهجرة الخارجية للبحث عن فرص عمل في الغرب أيًا كانت شكل وطبيعة هذه الفرضة، ومن ثم أصيب العالم الإسلامي بمضرتين كبيرتين هما : العطالة الداخلية والتسول الحضاري”.
هذا فيما يتعلق بهجرة “الأيدي العاملة”.. كذلك هناك نوع أخر من الهجرة وهي “هجرة العقول” الإسلامية إلى الغرب لأنها تعاني من إهمالاً داخل أوطانها بينما يوظفها الغرب وبني عليها حضارته”. ونقصد بهجرة العقول : انتقال الكوادر المؤهلة والمتمثلة في علماء وباحثين واختصاصيين من موطنهم الأصلي إلي موطن آخر مبرمج، واتخاذ إجراءات الإقامة الدائمة (الهجرة الدائمة).
المجال الثالث: عِلمِهِ ماذا عَمِلَ به
نحن هنا أمام قضية استخلافية وحضارية، فأما الأولى فمقام “العلم” في الاستخلاف وهي قضية قررها الوحي، وكان التفضيل الذي منحه الله تعالى للإنسان على الملائكة بالعقل أداة العلم، { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة/31]، ومن ثم كانت قضية (العلم والتعليم) مركز أساسيًا في بناء الإنسان من أجل تأهيله للاختلاف.
أما كون “العلم” قضية حضارية فتتعلق بالعمل بهذا العلم، فالحضارات تُبنى عندما تُدرك سنن الله في النفس والكون وتوظف هذه السنن(العلم) للعمران (العمل) بكافة أشكاله المعنوية والمادية، ولهذا وعت النبوة هذه المسألة منذ البداية، وكان موقف النبوة واضحًا في أسرى بدر من عتق كل أسير عشرة من صبيان المسلمين- ولولا أن الأمر يرتبط بتشريع إلهي ثابت ومحكم لما تم عدم موافقة الوحي- وتعليم صبيان المسلمين أي مستقبل الأمة الذي يرتبط مصرها كما مصير كل الأمم بالعلم والعمل به. وكذلك ما تم من كتابة القرآن والحث على تعليمه وتعلمه للناس باعتباره أقدس الكتب وأشرفها للإنسان على الأرض، ومنها يستقي المؤمن تصوراته وقيمه ومفاهيمه وتشريعاته، ويمثل المرجعية الأساسية للمسلم في الواقع الاجتماعي والديني.
وبما أن منطق الحضارات ليس منطقًا تصوريًا نظريًا فقط وإنما هو منطق عملي من أجل البناء والعمران، فالحضارات تربط (العلم بالعمل) وعلى هذا جاء نهج النبوة لتحذر الإنسان من “علم بلا عمل” وتحثه على التطبيق كما حثته على النظر.
ثم تفند النبوة مبدأ “النفعية” للعلم فلا جدوى من علم لا ينفع، أو يضر الإنسان أو المجتمع أو الكون، فالعلم الذي يُبنى على نية الضرر أيًا كانت معنوية (كالسحر) أو مادية (كتطوير أسلحة الدمار الشامل للإنسان) هو من العلوم الهدامة للحضارة المحرمة شرعًا، لذلك كان دعاء النبي واستعاذته من “علم لا ينفع” و”النفع” كمفهوم حدده الوحي: ما يستفاد به الإنسان في حياته الدنيا وآخرته {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد/17].
ومن المؤسف حضاريًا ويدعو إلى التحسر أن ترتفع نسبة الأمية في دول العالم الإسلامي، وتحتل دولة مراتب متأخرة في محو الأمية الأبجدية، فضلاً عن تراجع الاهتمام بالبحث العلمي الكاشف لسنن الله في الإنسان والكون، وأن تقدم دول أخرى لا تمتلك هذا الرصيد الحضاري من الدفعة العلمية والتعليمية[4].
وتبقى قضية العمل بالعلم “وعن علمه فيما عمل فيه”فكل صاحب علم مسؤول عن العمل بعلمه والتبليغ به، وحرمة كنز العلم أشد خطرًا من كنز المال، فالعلم هادي للإنسان إلى الحق، ونقيض العلم الجهل والضلال، والأمة في مجموعها مسؤولة عما تمتلكه من علم منزل أن تعمل به في مجال اكتسابها ومعيشتها لتهدي به الناس إلى طريق الحق والهدى وتجنبهم طريق الضلال: قال صلى الله عليه وسلم” إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به قال أبو عبد الله قال إسحاق وكان منها طائفة قيلت الماء قاع يعلوه الماء والصفصف المستوي من الأرض” [5]
المجال الرابع: مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَه
المال – كما في المعجم الوسيط – كل ما يملكه الفرد أو يملكه الجماعة من متاع، أو عروض تجارة، أو عقارًا أو نقود أو حيوان، وقد أطلق – المال – في الجاهلية على الإبل.
وقد حرصت النبوة على وضع إطارٍ للمال وبيان الصالح منه والفاسد، وطرق الاكتساب ومنابعه ومسارات الإنفاق وآثارها على الفرد والمجتمع، وقد حفزت النبوة على تحري صلاحية المال وارتباطه بالرجل الصالح “نعم المال الصالح للرجل الصالح”. وذم النبي أن يرضي المسلم بالفقر بنفسه أو لأولاده من بعده “إن تترك ورثتك أغنياء, خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس”[6]. وقرن بين الفقر والكفر واستعاذ منهما معًا “اللهم إني أعوذ بك من الفقر والكفر”.
والمال عصب الحضارة، وقد وضعت النبوة مسارًا رئيسيًا ووحيدًا لاكتسابه وهو “العمل”، فهو المسار الوحيد للحصول على المال، وليس كما تشوه في الحضارة المعاصرة، فأصبح المال هو الذي يجلب المال، وتقلصت فرص العمل، وتحول المال إلى سجن كبير للعمل.
إن المال عنصر رئيسي في الشروط المادية للحضارة، إلا أنها في النموذج التوحيدي ، يُنظر إليه باعتباره وسيلة وليست غاية في ذاته، ولهذا فالمسلم مكلف باكتساب المال بشروطه (المشروعة) التي تفيد الفرد والمجتمع معًا، ولا تجعل الفرد (إقطاعيًا) والمجتمع (مقطوع به) ولا تجعل المجتمع (مسيطرًا على الفرد) يتحكم في ما تمكنه قدراته من العمل للحصول على المال وهو ما يجعل بعض الناس أغنى من بعض “درجات”- وهو أمر يتوافق مع اختلاف القدرات والمواهب والاجتهاد- وتحرم النبوة “الاحتكار” للمال بكافة أشكاله – كما حرم الوحي “الاكتناز”. فالاحتكار هو الامتناع عن إنفاق المال في طرقه ومساراته الاجتماعية المشروعة التي تلبي احتياجات المجتمع وتسد عوزه أو لجوئه إلى الأمم الأخرى، أو تفرض على المجتمع “ضيفًا” في معيشته. بل نهى عن تشييد ما لا يسكن واعتبار ذلك من أبواب الاكتناز للمال بطرق تحايلية.
إن دعوتنا للقارئ العزيز وللباحثين المسلمين أن يفتحوا باب النبوة والتفكير الحضاري مباشرة من المرويات – على اختلاف الرواة والمذاهب الإسلامية- فسوف يفاجئونا بكنوز من هذه السنن، تبعث فينا ما مات، وتحيي فينا ما فقدناه، وتمدنا بالدماء اللازمة لحياة الأمة.
[1] أحمد كمال أبو المجد : “الاستعانة بالنسبة النبوية لتحقيق نهضة حضارية”، مجلة المسلم المعاصر، العدد 61، أكتوبر 1999، ص 30 .
[2] محمد الغزالي: كيف نتعامل مع القرآن، القاهرة: دار الوفاء ، ط5، 1997، ص59.
[3] انظر ابن أبي الدنيا: إصلاح المال, باب عمل اليد.
[4] انظر كتب العلم وأحاديثها في مرويات البخاري ومسلم وسنن أبي داود وابن ماجة وغيرهم.
[5] رواه البخاري ومسلم.
[6] انظر ابن أبي الدنيا: إصلاح المال, باب التركات.
المصدر: https://islamonline.net/26207