شخصية المثقف الإسرائيلي
معاذ حسن
تقديم موجز:
يبدو أن الشخصية البشرية عموما، فردا أو جماعات، هي كلٌّ مركب ومتعدد في داخله، تحكمه تجاذبات عديدة متباعدة وقد تبدو متناقضة أحيانا، لا يستقيم فهمه بشكل صحيح إلا بالتدقيق المعرفي الجاد في بواطن هذه الشخصية على مستويين في الحقل المعرفي، سيكولوجي – سوسيولوجي، سواء على صعيد الفرد أم على صعيد الجماعات. لكن في سياق تاريخي يرسم الإطار الواسع لتجاذبات أو تناقضات هذا الكل في حركته وتفكيره وميوله الشخصية أو العامة.
من هذا التقديم الموجز والمتواضع، كما أفهم، أود مقاربة نظرة عن الشخصية الإسرائيلية من خلال نمط نموذجي مغاير. حرضني على التأمل والتفكير فيه مجددا الموقف الأخلاقي النقدي الأخير الذي أعلنته النجمة العالمية الأمريكية من أصل إسرائيلي (ناتالي بورتمان) تجاه الحكومة الإسرائيلية الحالية، بعد حوادث الاعتداءات الدموية الأخيرة من قبل الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين أثناء مسيرات العودة السلمية على الحدود مع غزة.
فهو نموذج تحكمه تجاذبات مختلفة ومتعددة، وجدانية عاطفية وعقلية، لدرجة تبدو فيها أحيانا متناقضة لدرجة التضاد. من حيث لا يخفي انتماءه ليهوديته ولإسرائيل وعلاقته بهما، لكنه بنفس الوقت لا يتقبل وجدانيا وإنسانيا بحكم ثقافته ودراسته وخبرة حياته الواسعة والغنية، ومناخه الذهني المفتوح. معاملة الشعب الفلسطيني بهذه القسوة الفظيعة من قبل الحكومة والجيش الإسرائيليين.
والحال، أننا نمر هذه الأيام في الذكرى السنوية الأولى بعد الخمسين لنكسة حزيران عام 1967، وما زال الرأي العام العربي سلبيا للغاية، بأغلبيته، في محاولة تقبل فهم أكثر استيعابا لنمط هذه لشخصية الإسرائيلية المركبة، كما أفترض وأزعم.
الشخصيّة اليهوديّة بين قلق الشتات وسجن دولة إسرائيل:
إنّ الحديث عن الشتات اليهودي الذي أمتد أكثر من 3000 سنة عبر التاريخ يستدعي بحثا تاريخيا مستقلا لا أدعيه أبدا، لكن ربما من المفيد هنا، وبما يخدم فكرة المقال، الإشارة الموجزة إلى فترة الشتات اليهودي في أوروبا منذ العصر الوسيط وحتى الحرب العالمية الثانية. فاليهودية كديانة كان يتعرض أتباعها، منذ القرون الوسطى لتمييز عرقي واضطهاد مزدوج، ديني سياسي، وهذه حقيقة تاريخية معروفة، عكس ما كان حالهم عليه في إطار الحضارة العربية الإسلامية آنذاك. ومن أمثلة هذا الاضطهاد إجبارهم على العيش ضمن غيتوات خاصة، ومنعهم من الاشتغال في أعمال الإدارة والجيش والزراعة، أو امتلاك أراض زراعية، باستثناء الأعمال التي كانت تعتبر آنذاك مشينة بسبب تحريم الكنيسة لها كالتجارة وممارسة الربا. لذلك عندما قامت الثورات البرجوازية الحديثة في أوروبا، وما رافقها من إعلان حقوق الإنسان، وتكّون معالم النظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث، كان اليهود، لاسيما الفئة التجارية الثرية منهم في قلب الحدث وأحد روافعه القوية. أما في أوروبا الوسطى والشرقية، خصوصا ألمانيا، فربما بسبب تأخر مقدمات الثورة البرجوازية والصناعية فيها، فقد استمر التمييز وبأشكال ومستويات متباينة ضد اليهود. واستمر هذا حتى ظهور شبح النازية في ألمانيا ووسط أوروبا كتتويج سياسي ثقافي لكل نظريات الاصطفاء العرقي التي كانت تظهر فيها منذ أوائل القرن العشرين الأمر الذي أدّى بدوره إلى المحرقة “الهولوكوست” في غرف الغاز النازية، خصوصا بعد اجتياح الجيوش الألمانية النازية لمناطق عديدة في وسط وغرب أوروبا بداية الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945، والتي ذهب ضحيتها 6 ملايين يهودي بين عامي 1941 – 1945، بعد أن كان يتم تجميعهم في معسكرات اعتقال جماعية منذ عام 1933 وفرار الكثيرين منهم باتجاه الشمال والغرب في أمريكا وأوروبا.
لذلك يمكن القول هنا أن يهود الشتات في أوروبا، قبل قيام دولة إسرائيل، كانوا يعيشون حالة قلق وجودي أسست لتساؤل دائم مهّد بدوره لأفق معرفي مفتوح، وإبداع فكري أدبي غزير يتجاوز الهوية الدينية ويحدث قطيعة معها. فنذكر أن أبرز مؤسسي اتجاهات ومدارس علم الاجتماع والفكر السياسي النقدي الحديثين في النصف الأول من القرن العشرين هم من المثقفين ذوي الأصول اليهودية المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. نذكر منهم أحد أهم الأمثلة، وبما يناسب فكرة المقال، الفيلسوفة، أو المنظرة السياسية، اليهودية الألمانية، الأمريكية، (حنة أرندت) التي استطاعت الهرب من ملاحقة النازيين بعد اعتقالها لفترة وسافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت إقامتها الدائمة حتى وفاتها عام 1975. التي كتبت “في العنف” و “أسس التوتاليتارية” و”في الثورة” و”الوضع البشري” .. إلخ. وهي التي قامت بتغطية محاكمة الضابط الألماني النازي من أصل يهودي (أيخمان) التي بدأت في القدس عام 1961 بعد إلقاء القبض عليه في الأرجنتين. بتهمة التعاون مع النازية في قتل اليهود أيام النازية في ألمانيا، لصالح صحيفة “النيويوركر” الأمريكية وكتبت تقريرها بعنوان “أيخمان في القدس” مفندة فيه ادعاءات المحكمة التي ترى في (أيخمان) مجرما ساديا نازيا، بينما هي وبعد سماعها للادعاء والدفاع رأت فيه مجرد موظف صغير في دولة شمولية تقوم مؤسساتها على العنف ينفذ ما يطلب منه. وهو ما لخصته بمصطلح “تفاهة الشر”. لذلك رأت في تلك المحاكمة مجرد مسرحية هزيلة أرادت الحكومة الإسرائيلية من خلالها آنذاك استخدام “الهولوكوست” كأداة سياسية لترسيخ وتمكين دعائمها داخليا وخارجيا.
كما نذكر أعضاء مدرسة فرانكفورت الفكرية النقدية (هوركهايمر، أدزرنو، هبرمانس، وولتر بنيامين، إريك فروم). إضافة إلى بعض عمالقة الفكر البشري من اليهود، في العصر الحديث، سبينوزا، ماركس، فرويد … إلخ).
أما “إسرائيل” كدولة وظيفية أوجدتها الحركة الصهيونية العالمية، كوعد توراتي قديم كما تدعي، متذرعة بالمحرقة “الهولوكوست”’ وبدعم قوي فعال من قبل حكومات الغرب الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، وفق تقاسم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة آنذاك، فقد صارت بمثابة سقف مجتمعي، سياسي وديني للملتحقين المهاجرين إليها من خلال الحركة الصهيونية، وتحولت إلى عقبة أمام إنتاج عقول مجددة بينهم. وبهذا الخصوص تختتم الباحثة اليهودية الفرنسية (رجين أرزيا) مقالا بحثيا لها بعنوان “الهوية اليهودية في مرآة التاريخ”[1] موجهة كلامها بخصوص اليهود في فرنسا، يمكن إسقاطه، أيضا، على اليهود الملتحقين بدولة إسرائيل: “يبدو أن هاجسهم في المحافظة على الذاكرة يثبط خيالهم أو أنه يبقيه سجين عالم مغلق. وأن قلقهم من رؤية الهوية اليهودية وهي تذوب، يلجم قدرتهم الابتكارية …. يمكن الاعتقاد حاليا أن اليهود ليسوا مستعدين لتقديم أفضل ما عندهم إلا خارج بنيات الحياة اليهودية المنظمة …. وبمقدار ما يكونون بعيدين عن النوستالجيا وأيضا نسائين لأصولهم اليهودية، بمقدار ما يثابرون بإرادتهم أن يكونون مجددين”.
أذكر أني شاهدت في بداية ثمانينات القرن العشرين على إحدى محطات التلفزة اللبنانية آنذاك، فيلما تسجيليا من إنتاج التلفزيون البريطاني لمخرج إسرائيلي، لكن للأسف ما عدت أذكر اسمه، كان هاجر نهائيا من إسرائيل عائدا إلى بلده الأصلي “بريطانيا” بعنوان “انكسار الأحلام” يتحدث فيه عن خيبته في أرض الحلم والميعاد وهو يصور مشاهداته الواقعية اليومية التي دفعته للخيبة المرة والهجرة المعاكسة.
كما يمكن الحديث عن أمثلة عديدة أخرى عن يهود من دول عربية هاجروا إلى إسرائيل، ومنهم مثقفون وأدباء وفنانون، لكن لم يمكثوا طويلا لنفس الأسباب، أو أنهم رفضوا فكرة الهجرة من أساسها إلى إسرائيل وفضلوا البقاء أو الهجرة إلى دول أوروبية وأمريكية متعددة. لكن ليس هذا موضوعنا في سياق هذه السطور.
ما أود قوله هنا هو أن الكثيرين ممن بقوا داخل دولة إسرائيل وقد صاروا جمهرة كبيرة من المثقفين والفنانين والمولودين فيها، وتعرفوا بذهن مفتوح وضمير إنساني حي على مأساة الفلسطينيين بعيدا عن خرافة الحق بأرض الميعاد التوراتية، التي سوقتها طويلا الصهيونية العالمية، فتكون لديهم موقف مغاير من حقوق الشعب الفلسطيني في العيش الحر المستقل على أرضه التاريخية بحيث توضحت أكثر في شخصيتهم الطبيعة البشرية المركبة ،سيكولوجيا وثقافيا وسياسيا، في طريقة تعاطيهم للقضية الفلسطينية وطريقة تعاملهم معها، بحيث لا يستطيعون التخلي عن انتمائهم لدولة إسرائيل التي صارت حقيقة دولية واقعة وكمكون حقوقي لشخصيتهم في العالم المعاصر، كما لا يستطيعون بحكم تفكيرهم النقدي والعقلاني وضميرهم الحر تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وربما من هذه الطبيعة المركبة ولدت – وما تزال – حركات واتجاهات ثقافية وسياسية في المجتمع الإسرائيلي كحركة “السلام الأن” أو “المؤرخين الجدد” مما قد يؤدي في المستقبل إلى شرخ كبير في بنية المجتمع الإسرائيلي الذي يبدو أنه يتماسك اليوم بفعل تعبئة الرأي العام الإسرائيلي وشحنه المستمر بالأوهام العديدة المتجددة دوما حول الأخطار المحدقة حوله من محيطه العربي، التي تؤدي بدورها إلى التمسك بغطرسة القوة التي تملكها الترسانة العسكرية الإسرائيلية اليوم. بالإضافة إلى اصطفاف القوة الدولية الفاعلة الأكبر، وبقوة إلى جانب إسرائيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] -: (رجين أزريا) (الهوية اليهودية في مرآة التاريخ” بحث في كتاب بعنوان “الهوية والهويات – الفرد – الزمرة – المجتمع” تحرير كاترين آلبير وأخرين. ترجمة: الدكتور إياس حسن. إصدار وزارة الثقافة السورية – الهيئة العامة للكتاب عام 2010 ص281.
المصدر: https://www.alawan.org/2018/06/04/%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%...