البهائيّة في فرنسا.. أسّستها طالبة أميركيّة ونشرها الهاربون من الاضطهاد

معمر عطوي

 

في ظلّ استمرار اضطهاد البهائيين في إيران والّذي انتقل إلى اليمن مع سيطرة ميليشيات الحوثيين المدعومة من نظام الملالي على صنعاء والعديد من المدن، كان لا بدّ من إضاءة على تاريخ وحاضر هذه الطائفة المثيرة للجدل في فرنسا والّتي لم يكن ظهورها في بلاد الغال أمرأ طارئاً بفعل نزوح العديد من أبنائها إلى ملاذات آمنة هرباً من الاضطهاد، بل تعود إلى العام 1898، حين اعتنقت الشابة الأميركية ماي بولس هذه الديانة خلال دراستها في باريس، ونشرتها بين معارفها وأصدقائها لتشكل أول مجموعة بهائية في أوروبا. وبات عددهم حتّى الآن في فرنسا نحو 2500 بهائي بعضهم من أصل إيراني ومنهم فرنسيون كثر اعتنقوا هذه الديانة.

انبثقت البهائية من الإسلام الشيعي، على يد ميرزا حسين علي (الملقّب ببهاء الله) المولود عام 1817 في طهران كإبن لوزير دولة. رفض ميرزا المناصب، وقرّر بدلاً من ذلك تكريس نفسه للعمل الخيري، فسمي “والد الفقراء” منذ سن مبكرة. واحتفلت الطائفة البهائية حول العالم في الثاني والعشرين من تشرين الأول / أكتوبر العام الماضي بذكرى مرور 200 عام على ميلاد مؤسّسها.

بهاء الله.. النّبي

من بلاد فارس في العام 1844، ظهرت حين انضمّ بهاء الله إلى الحركة البابية الّتي تأسّست من قبل علي محمد الشيرازي، الّذي أطلق على نفسه اسم “باب” وأثار اضطهاد المؤسّسات الدينيّة الشيعيّة لهم. فقد دعا الشيرازي لهذه الديانة، وبشّر بأن رسولاً سيأتي قريباً من الله.

لكن “باب” قُتل في العام 1850، ومن ذلك الحين يُعتبر بهاء الله المؤسّس الحقيقي للديانة البهائيّة، وجاءت تسمية الديانة من إسمه. لقد ذهب ميرزا أبعد من التبشير بنبي، بل ليقول باستمرار الرسالات الإلهيّة وبأنّه واحد في سلسلة الرسل الّتي تضم محمداً وموسى والمسيح. أعلن أنّه حامل الوحي الجديد، بغرض إقامة وحدة بين شعوب العالم على هذه الأرض.

رحلة السجن والمنافي

تعرّض بهاء الله للاضطهاد والملاحقة والاعتقال من قبل السلطات الإيرانيّة الّتي كانت ولا تزال تعتبر المذهب الشيعي هو الدين الرسمي السّائد في البلاد والّتي اعتبرت البهائيين، بفتوى من المؤسّسة الدينيّة، كفاراً كونهم لا يؤمنون بأن الإسلام الشيعي هو الدين الحق، ومرتدين لأنّ بعضهم كان مسلماً وخرج من إسلامه.

نُفي بهاء الله مرّات عديدة وكتب في تلك الفترة “الكتاب الأقدس” أهمّ الكتب لدى أتباع هذه الديانة. وبعد أن قضى السنوات الأربعين الأخيرة من حياته في المنفى، بدءاً من بغداد، ثمّ القسطنطينية وإدرنة، توفي بهاء الله في العام 1892 في عكا الفلسطينية. خلفه عبد البهاء الّذي عمل منذ وفاة والده على نشر التعاليم البهائيّة في أنحاء العالم وتوفي في العام 1921. ثمّ أتى حفيده شوقي أفندي الّذي واصل الدّعوة والتّبشير بهذه الديانة، وأقام وتوسّع في أضرحة البهائيين في فلسطين المحتلة.

وتحوّلت عكا إلى محجة لأتباعه، بينما تحوّل المركز الإداري والروحي العالمي للبهائيين في حيفا، إلى جنّة حقيقيّة على الأرض وهي عبارة عن حدائق غناء تزدان بالأشجار والورود وروعة التّنظيم والتّنسيق والنّظافة.

الأصل.. طالبة أميركيّة

أمّا ماي بولس (1870-1940) الّتي نشرت هذا الدين في فرنسا، فقد ولدت لأسرة ثرية في نيو جيرسي، كانت طفلة حسّاسة سرعان ما اجتُذِبت إلى الأشياء الروحيّة. كانت معجبة بالثقافة الأوروبيّة. رحلت ماي إلى فرنسا، وأمضت بعض الوقت في مدرسة دينيّة وأصبحت متآلفة في وقت مبكر مع لغة موليير. عاشت في العاصمة الفرنسيّة لمدّة ثماني سنوات، سمعت خلالها في العام 1898 عن الرسالة البهائيّة، فانضمت إليها على الفور. وشكّلت أوّل مجموعة بهائيّة في باريس. وكانت هذه المجموعة البهائيّة الأولى في أوروبا، حيث ضمت بسرعة 30 عضواً بينهم طلاب وفنانون. ولذلك واصلت باريس القيام بدور رئيسي في تنمية هذا الإيمان داخل حدود فرنسا وخارجها.

في العام 1865، نشر الكونت آرثر دي غوبينيو كتاب “الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى”، حيث أصبح الحديث عن هذا الدين الجديد مُتاحاً وسط الجمهور الفرنسي. بل باتت البهائيّة موضوع نقاشات في صالونات باريسيّة معيّنة.

وكانت العاصمة الفرنسيّة أيضاً محطّة مهمّة من محطّات تجوال عبد الله بهاء الله، الّذي أُطلق من سجنه في إيران في العام 1908، وكان عمره 64 عاماً، فقام بزيارة القاهرة ولندن ثمّ باريس الّتي وصلها في تشرين الأول / اكتوبر 1911 حيث قضى تسعة أسابيع بالقرب من برج إيفل.

في باريس تحوّلت إقامة ابن بهاء الله إلى جلسات حوار وتعرّف على هذا الدين الجديد، فكان من زواره شخصيات فرنسيّة متعدّدة بينهم السياسي والديبلوماسي والصحافي والمثقّف ورجل الدين، بينهم المؤمن والملحد والغني والفقير.

من زوار عبدالله كان الأديب كاميل فلاماريون، والسفير الياباني في باريس، والفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون الّذي أحضر معه طلاّبه في إحدى لقاءته مع بهاء الله.

ركّز عبد الله في محاضراته ونقاشاته على وحدة الله، كهويّة أساسيّة لجميع الأديان، ورأى أنّه حان توحيد جميع الأعراق والقوميات والأديان والطبقات، مشيداً بالطابع الفرنسي الّذي يعطي الحريّة لطرح الأفكار. لكنّه كان يصر على ضرورة مراعاة الواقع الروحي للإنسان. ويقول “عندما يحرّر الشّعب الفرنسى نفسه من التّشكك والماديّة، سيعطي أوروبا حيويّة وحماسة لتغيير العقليات والقضاء على العنصريّة والقوميّة”.

إندماج في المجتمعات

البهائيون ليسوا مثل بعض اتّباع الديانات الأخرى الّتي تفضّل العيش في غيتو الجماعة، فهم وفي مقاطعات وقرى فرنسا، يسعون إلى المساهمة في رفاهيّة المجتمع وتقدمه، جنباً إلى جنب مع النّاس الّذين يشتركون في نفس الرّغبة.  يعتبرون أنّ ظهور حضارة مزدهرة، من حيث أبعادها الروحيّة والماديّة، سينتج عن جهود جميع أولئك الّذين يسعون في جميع أنحاء العالم إلى تحسين هذا أو ذلك الجانب من حياة سكان الأرض. وإيماناً منهم بدعوة بهاء الله العالم إلى “نبذِ التّعصبات بجميع أشكالِها الدّينيّة والعرقيّة والطَبَقيّة والسّياسيّة؛ يفخرالبهائيون بأوطانهم وانتمائهم لأرضهم أينما وجدوا، وهم يعملون متّحدين متّفقين على كلّ ما من شأنه توطيد أواصر الوحدة بين أبناء البشر إلى أن تتحقّق وحدةُ العالم الإنساني ويعمّ السّلام أرجاء الأرض”، بحسب ما جاء في موقعهم الرّسمي.

هذه النّزعة مستوحاة من رؤية بهاء الله، الّتي تضع خدمة الصالح العام في رأس أولوياتها الاجتماعية. وهم يتواجدون في كافة المناسبات الروحيّة وفي دور العبادة التابعة لكافّة الأديان للمشاركة في لقاءات لدعم الفقراء والمهاجرين. أو لإقامة صلوات وأدعية بالاشتراك مع مؤمنين من طوائف أخرى. هذه المشاركة تجعلهم يغذون حواراً بناءً مع الكثيرين المعنيين بالمشاكل الرئيسيّة الّتي تواجه البشريّة، بحسب ما يؤمنون بالنسبة للبهائيين، تعتبر الأنشطة الّتي تساهم في التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة جزءً أساسيًا من الجهود الآيلة لتطبيق مبادئ الوحدة والعدالة، وتلبية الاحتياجات الّتي حددها النّاس أنفسهم.

هم يحبون الطبيعة ويحافظون على نظافة أمكنتهم ودور عبادتهم، فحديقة البهائيين في جبل الكرمل في حيفا تُعتبر جنّة على الأرض لكثرة ما فيها من صور جماليّة ومناظر طبيعيّة أخاذة. ظهرت “حدائق البهائيين” الّتي تعتبر أماكن مقدّسة عند أتباع الديانة البهائيّة، في ثلاث مناطق رئيسيّة: عكا وما حولها، حيفا، ومناطق قرب بغداد في العراق. كما يمكن أن توجد في دور العبادة البهائيّة في أي مكان في العالم.

الطبيعة في رأي بهاء الله هي مصدر الرّزق وهي إيداع إلهي على العائلة البشريّة أن تحافظ عليه، وتتعلم كيفية استغلال الموارد الطبيعيّة وواجب الحفاظ على النّظام والتوازن، على أكمل وجه من أجل ازدهار الحضارة. لذلك تنتقد البهائيّة نزعة الاستهلاك والتّملك للسلع الماديّة والّتي لا نهاية لها، مدفوعة بالجشع الفردي والجماعي. برأيهم هذا لا يؤدي إلّا إلى تفاقم تدمير البيئة.

أمّا صلواتهم فهي عبارة عن قصائد روحيّة ومناجاة إلهية وأدعية عادة ما تكون مصحوبة بالموسيقى، خصوصاً الآلات الموسيقيّة المعروفة في بلاد ما بين النهرين مثل القانون والبزق وغيرها.

في المقابل تعتبرهم الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وغيرها من المرجعيات الدينيّة الشيعيّة والسنيّة، من الكفّار، لأنّهم كفروا بالتديّن بدين الإسلام، وبخلود شريعة النّبي محمّد، ويعتقدون بنبوّة بهاء الله، وإذا كان بعض منهم على دين الإسلام سابقاً فاعتنق بعد ذلك البهائيّة يكون مرتدّاً.

في إيران بدأ اضطهاد البهائيين في منتصف القرن التّاسع عشر، حتّى أنّ المعابد كانت تُدَمّر. ومنذ الثورة الإسلاميّة في العام 1979، تعاديهم الدولة بشكل ممنهج. في العام 1983 تمّ حظر الديانة، وفي العام 1991 وُضعت عقيدة خاصّة لهم في تلك الدولة، والهدف من ذلك هو القضاء على البهائيين كمجتمع قابل للحياة في إيران. ومع ذلك، لم يتغيّر شيء فيما يتعلّق بوضع البهائيين هناك، والبالغ عددهم 300 ألف، فلا يزالون عرضة للقمع والسجن وانتهاك حرمة مقابرهم وحرمانهم من التعليم، إلّا في حالات يمكن من خلالها استغلال أطفالهم عبر تلقينهم تعاليم المذهب الشيعي وإخراجهم من ملتهم بالتّرهيب أو بالترغيب.

لكن على الرّغم من الاضطهاد والقمع، تمكّنت الديانة البهائيّة من الانتشار، وظهرت تجمّعات لهم في أوروبا وأميركا الشماليّة. اليوم يتواجدون في الهند أيضاً، ويوجد اليوم أكثر من ستّة ملايين شخص في نحو230 دولة حول العالم ملتزمون بالديانة البهائيّة الّتي لا يوجد فيها رجال دين.

المصدر: https://www.alawan.org/2018/05/07/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%87%D8%A7%D8%A6%D...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك