العمل الدعوي بين وصاية الشيخ ونُصرة الدين
معتز الخطيب
ربما تشكل "الجماعات" الإسلامية الظاهرة الأكثر تعقيدًا في مسيرة العمل الإسلامي، وبالرغم من أن ثمة جهوداً مبذولة لمناقشتها لا تزال عصيّة على الفهم، ومن ثم على الحل، الأمر الذي يسوغ إعادة قراءتها من جديد. وربما يمكننا حصر المواقف من الظاهرة – بحسب المناقشات - في ثلاثة؛ مَنْ يرى أن هذا التعدد والتجمع "بدعة"، ومن ثم فهو يأمر باعتزال الكل تمسكاً بالأحاديث الآمرة بلزوم "جماعة المسلمين"(1)، ومَن يرى أن التعدد الواقع تعدد تنوع وتكامل وليس تضاداً؛ تبعاً لاختلاف الاجتهاد والأدوار، ومَن يرى ضرورة وحدة "الجماعة" وفق تصوره هو لنجد أنه يريد حَمْل الناس على جماعته وطريقته!
ن الملاحظ أن معالجات هذه الظاهرة تبقى محكومة للمنطق الفقهي، بل بعضها يزجّ بالخلاف في ساحة الاعتقاد لنجد أن المنطق الحاكم لديه هو ثنائية الحق والباطل؛ وفق أصوله وقواعده (هو)! ما يعني أن ظاهرة "الجماعات" يؤول نقاشها في النتيجة وفق منطق جماعة معينة!
الجتنا هذه تقوم على مقاربة جديدة للمسألة باعتبارها "ظاهرة" يشتبك فيها الشخصي مع الفكري؛ والديني مع الدنيوي، غير أنه لا بد - من وجهة نظري - من تحديد عن أي جماعات نتحدث؟ وفي أي المجالات؟ الاعتقاد، أم السياسة، أم غير ذلك؟ وربما يكون هذا التحديد أكثر عوناً على بَلْوَرة الظاهرة، والقدرة على الإمساك بأطرافها وتوصيفها في هذه الورقات القليلة. ولذلك نحن نحصر الحديث في "الجماعات الدعوية"، ونعني بها تلك الجماعات التي تتوجه بخطابها إلى "الجمهور" مستهدفة توصيل رسالتها في إقامة جسر بين مدعو ومدعو إليه، لنستبعد الحديث عن حركات ما يسمى بـ"الإسلام السياسي"، أو بتعبير أدق: الشق المتعلق بالحكومة وطلب الحكم.
والمتأمل في أصول توجه الجماعات الدعوية هذه يرى أنها تختلف في توصيف مشكلة المسلمين – وفق تصورها – ما يجعلها تختلف في ترتيب أولوياتها، والأخذ بالأسباب الموصلة إلى "التمكين" و "صلاح الأمة". فبعضها يرى الأولوية في تصحيح الاعتقاد – كالجماعات السلفية عامة- وآخرون يرون أن إصلاح النفوس والقلوب وتهذيب السلوك هو الأساس - كالجماعات الصوفية - ، وبعض ثالث ينهمك في تدريس العلوم الشرعية من تفسير وفقه، ويعتبر الأمة أحوج إليه من غيره، وآخرون يرون الأولوية في الحديث عن ضرورة "الهجرة" أو ما يسمونه بـ"الخروج"، وحث الناس على إقامة بعض الشعائر كجماعة الدعوة والتبليغ، هذا فضلاً عمن يرون الإصلاح يبدأ بالدفع بالحل السياسي من أعلى.
هذا الانقسام دفع البعض إلى النظر إليه على أنه نوع من التكامل في معالجة أزمة الأمة، وكلٌّ أخذ بنصيب، ولكن فضلاً عن هذه الرؤى الواحدية التبسيطية التي تختزل الواقع، وتخلِّف حلولاً مبتورة هنا وهناك لا تؤلف كلاً في أعيان المدعوين أفراداً وجماعات، وهو ما يعود على الرؤية "التكاملية" تلك بالنقض، فضلاً عن ذلك كله، إن المتأمل للواقع يجد ثمة خلافات داخل الجماعات ذات الأولوية الواحدة، سلفية كانت أم صوفية أو غير ذلك، إضافة إلى علاقة التناحر القائمة بين جماعات وجماعات أخرى. هذه العلاقة التناحرية تعود إلى أسباب متعددة، منها ما هو منهجي، ومنها ما هو شخصي. والذي يعنيني أكثر قراءة ما هو شخصي من أسباب العلاقة التناحرية هذه على وجه الإجمال دون تحديد جماعة بعينها. لكن هذا لن يمنعنا من تأصيل الموقف من التعدد ابتداءًا وهو ما يضطرنا إلى الاقتراب من المنطق الفقهي.
عدد الجماعات..كتعدد المذاهب:
الكثير - أو الأكثر - من الإسلاميين يقف من "التعددية"، سواء على مستوى الأفكار والتصورات أم على مستوى التنظيمات موقف الرفض والعداء، أو الريبة والشك في مشروعيتها وجدواها. وهذا الرفض أو الريبة ينفخ في حالة التناحر القائمة، فالتعددية إقرار بحرية الاجتهاد والاختلاف ما دام هناك قدر مشترك من الاتفاق حول الأصول العامة ومصادر التشريع الرئيسية، وهذا من شأنه أن يحمل على الاحترام والتنسيق بين الجماعات الدعوية، بل إن التنسيق والاجتماع من شأنه أن يقرب الهوة بين الجماعات، ومن شأن النقاش والمدارسة أن تقرب الكثير من الآراء، وربما تزيل بعض الخلافات الفرعية، وتجبر الخلل القائم لدى كل جماعة، وهنا يمكن تحصيل التكاملية بين الجماعات بتحصيل كل طرف ما عند الآخر مما ينقصه ومن ثم تبليغه للجمهور.
وإذا كان الاتفاق على الأصول العامة لم يمنع الفقهاء من الاختلاف في فهم النصوص كلٌّ وفق قواعد مذهبه وطريقته، فما الذي يمنع من اختلاف جماعات العمل الدعوي؟ يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء (...) وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم (...) والمذاهب والطرائق، والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء (...) بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام، هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله تعالى وعبادته وحده" [الفتاوى 19/117 – 126].
وفي القدر المتنازَع فيه بين العلماء يقول: "... إن الله أمر كلاً منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد قال المؤمنون: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة:286]، وقال الله: قد فعلت، وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) [الأحزاب:5]، فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدىً من الله فقد اعتدى واتبع هواه بغير هديٍ من الله.
ومن فعل مثل ما أُمر به بحسب حاله، من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة:286]، فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن ويدوم على هذا الإسلام" [الفتاوى 19/127 – 128].
وبهذا يمكن قياس اختلاف الجماعات على اختلاف الفقهاء ما دام اختلافاً قائماً على أصوله الشرعية، ولم يخالف نصاً قاطعاً ثبوتًا ودلالة، وكان دائراً حول الأفكار وفي مجال الفروع الاعتقادية والعملية.
وإذا كانت الأمة استطاعت تجاوز محنة التناحر بين المذاهب الفقهية، فالأمل معقود بتجاوز محنة تناحر الجماعات الدعوية، بعد تأصيل الخلاف والقبول بالتعددية كظاهرة صحية، وإدارة الخلاف بالممارسات النقدية الحرة للأفكار باعتبارها تقع في القلب من مفهوم "التناصح". وهنا يضحي القول بوجوب التزام جماعة معينة لا معنى له بعد أن تم تقرير أنه لا يجب على المسلم الالتزام بمذهب فقهي معين، فكيف بجماعة دعوية؟ قال ابن حزم: "إن اعتقاد وجوب اتباع مذهب من المذاهب وتقليد إمامه في كل ما يقوله والتعصب له واعتقاد العصمة فيه: حرام". فضلاً عن أن هذه الجماعات كلها أو بعضها لا يمثل "جماعة المسلمين" التي أُمرنا بلزومها.
التحزب .. وإشكالياته :
إن الحالة التناحرية السائدة بين كثير من الجماعات تعكس مظاهر التأزم في بنية الفكر الدعوي، وبنية التنظيمات، على مستوى الأفكار وقيم العلاقة مع الآخر المسلم المفترض أن تقوم على قاعدة "الأخوة الإيمانية"، وعلى المستوى الإجرائي، وتعكس من جانبٍ عزلة الخطاب الدعوي عن المؤثرات الفكرية والثقافية وإغراقه في شؤونه الفردية، وتصوراته الضيقة. ومن المفارقة أن يتم هذا في الوقت نفسه الذي يتم فيه الحديث عن "العولمة" و"الحوار" بين الحضارات والأديان، وغير ذلك (بغض النظر عن موقفنا من هذا كله).
لكن السبب الأبرز في حالة التأزم هذه يرجع - برأيي - إلى حالة شَخْصَنَة الدعوة، وأسرها في حدود تصورات وفلك الأشخاص، وهذه الشَّخْصَنَة تبدأ من الفرد (رئيس الجماعة) في حدود تابعيه، لتتحول "الجماعة" كلها إلى تجسيد حالة "الفرد" في حدود العلاقة مع الجماعات الأخرى (نحن وهم). وهنا يمكن فهم عقد الولاء والبراء على أساس ذلك الاجتماع، وهو ما حذر منه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قائلاً بعد أن قرر مشروعية الاجتماع على ما أمر به الله ورسوله: فإن حملهم التحزب على "التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمَّه الله تعالى ورسوله" [الفتاوى 11/92].
في حالة عقد الولاء والبراء، المجسِّدة لحالة تفرد الشيخ الأوحد، والجماعة الوحيدة الصحيحة، تنشأ العلاقة التناحرية مع الجماعات الأخرى لتصبح ظاهرة عامة، ويتم في سبيلها تنازع مواطن النفوذ، وهو ما شاهدناه من اقتسام الخطابة في المساجد وَفق الجماعات، والسعي في كسب المزيد من الأفراد الجدد (كالمسلمين الجدد!) لهذه الجماعة أو تلك.
هذه الحالة الصراعية شوشت مفهوم "الدعوة" الذي يقوم في الأصل على تجسير العلاقة بين الناس المدعوين؛ بينهم وبين الله، وبينهم وبين بعضهم، وهذا من شأنه أن يثير عددًا من الإشكاليات:
أولها: الخلط بين نصوص الوحي ومبادئه المطلقة والعمل الدعوي والأفهام التاريخية، بين الدين والتدين، من خلال احتكار كل جماعة أحقية تمثيل الإسلام، وهو ما يجر إلى مواجهة الجماعة للأمة كلها باعتبارها الجمهور الذي تستهدفه الجماعة للانتماء إليها! وفي سبيل هذا يتم الانزلاق إلى فكرة "كسب الأفراد" والتنازع في سبيله، الأمر الذي يشتبه مع "التبشير" المسيحي! وهنا يمكن فهم "البيعة" أو "العهد" الذي تتبناه بعض الجماعات – خصوصاً الصوفية – في جانب منه على أنه مصادرة على الأشخاص للاحتفاظ بهم في مواجهة الجماعات الأخرى، وسبيل لاستمرار وجودها وثبات جوهرها.
ثانيها: أن ادعاء تمثيل جماعةٍ ما للإسلام، يغلب عليها جانب معين تدعو إليه (سلوكي – عقدي – سياسي...) من شأنه أن يُوْدي بمفهوم "شمولية" الإسلام لنجد أننا أمام تصور قاصر ومختزل في جانب واحد! وهنا نسجل الخَطَل الذي تقع فيه الجماعات الصوفية وغيرها التي تعزل السياسة عن الدين فتمارس عَلْمنة صريحة، وكذلك خطأ الحركات السياسية الإسلامية التي تزج بالإسلام في لعبة السياسة فيكون طرفاً من أطراف النزاع على السلطة باسم الإسلام.
ثالثها: أن العمل الدعوي يشكل حالة عامة في المجتمع الإسلامي، ومأمور به كل مسلم في حدود ما يطيق، قولاً وعملاً، وهو ما يميز مفهوم "الدعوة" عن مفهوم "العلم" الذي طُلب فيه النفير لطائفة أو طوائف من مجموع الأمة (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليتفقهوا في الدين) [التوبة:122]. وهنا يكون التحزب ذريعة تسحب عن الأمة مسؤوليتها في إقامة الدين وعمارة الدنيا، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌّ بحسب استطاعته، ويجعل كل ذلك في أيدي جماعة صغرت أم كبرت، ما قد يوحي بإعفاء الأمة من مسؤوليتها.
هذه الإشكاليات تدفع إلى تشكك بعض المدعوين أو كثير منهم، في صدقية هذه الدعوة، ما ينشأ عنه حالة اللامبالاة التي تسيطر على قطاع واسع من الناس، والغريب أن يتم توظيف الخوف من وقوع المحذور في تكريس حالة الفردية نفسها فيلجأ البعض – بحسن نية – إلى تجريم نقد الدعاة علناً أو مناظرتهم لبعضهم، ما يورث حالة شبه تقديسية لهم لدى المتلقين!
البيعة .. وصاية أم تعاقد؟!
وأبرز ما تظهر حالة شَخْصَنة الدعوة في صورة البيعة أو العهد، الذي يربط الشيخ بالمريد وتأخذ شكل الطاعة الواجبة، والالتزام التام، والأصل أنها دائمة أو أبدية! وإن كانت تمت مناقشتها فقهيًّا فلن ندخل نحن في هذا الجدل، وحسبنا أن نؤكد أنها - في الواقع – تكون لشخص واحد، وضمن جماعة معينة واحدة، وتحت تسميات ومسوغات مختلفة، أبرزها ذلك المسوِّغ التربوي بحجة أن الالتزام بشيخ واحد يمنع التشويش، وأن "المربي واحد" لا يتعدد بخلاف المعلم (وهذا يسود كثيراً لدى جماعات المتصوفة) وهذه البيعة بعد إزالة ديباجاتها الدينية والتربوية تكشف عن أهواء شخصية، وتتستر على مصالح دنيوية فضلاً عن الفهم القاصر للتربية والعلم والفرق بينهما، وللدعوة وأهدافها.
ففي التصور العرفاني (وهو منشأ القول بالبيعة أو العهد بظني، وإن كان يمكن أن يتم إسقاط حوادث مماثلة كبيعة الرضوان، والمهاجرات... بعد العبث بسياقاتها) يتم قياس الشيخ على النبي، وهنا تكون طاعة الشيخ وخلافته في الجماعة بأمر من النبي وإذن منه –وهو ما سمعته بأذني من أحد أبرز الشخصيات الصوفية-(!!) وحضور النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة ضمن الجماعة الصوفية يجعل من المقبول الاعتقاد بعلم الشيخ بكل أحوال مريده في حال غيبته! ومن المفارقة حقًّا أن احتقار النفس وتربيتها لدى المريد يعكس في المقابل لدى الشيخ تعظيماً للنفس وتضخيماً لها! وقد أدرك الفقهاء خطورة البيعة الطرقية الصوفية، فقابلوها بالإنكار كما في كلام ابن الجوزي وابن تيمية والسبكي والسيوطي.[كما أشار بكر أبو زيد في حكم الانتماء ص:164].
وإذا كان القرآن نص على مهمات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف:157] فإن البيعة على تلك الصورة من السمع والطاعة تسعى إلى إعادة تكبيل المدعو بأخذ السمع والطاعة، وواجب الالتزام في الجماعة مدى الحياة؛ بحجة أن التربية عملية مستمرة تنتهي بالموت، وفي حال موت الشيخ تنتقل البيعة لخليفته! وهي التفاف على فكرة "ختم النبوة" التي عهدت إلى الناس بالكتاب والسنة دليلاً هاديًا بعد اكتمال الدين، وإلغاء جميع الوساطات والوصايات. وكان من عناصر استمرار التمكين في الأرض: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر) [الحج:41]. قال ابن عاشور: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم" [التحرير والتنوير 16/280].
هذه الإشكاليات من شأنها أن تحمل على نبذ فكرة الجماعات، لكن من الخطأ أن نقع في وهم طلب "الوحدة" التي دعا إليها بعضهم - وفق المنطق الفقهي - معتبراً أن "الجماعات" بدعة. ذلك أننا أقررنا بأن الاختلاف أمر مشروع مادام ضمن الأصول، ولا يتناول ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنبعه الاجتهاد، بل إن الانحراف في الفهم أمر واقع، وهذا يخضع للنقد والمناقشة لا التناحر والمدابرة. وأن الأمة لم تجتمع على مذهب فقهي واحد حتى تجتمع على طريقة أو جماعة في العمل الإسلامي مهما كان منهجها أو توجهها.
وفضلاً عن أن "الوحدة" غير ممكنة فإنها تثير إشكاليات أخرى، أبرزها استبداد الجماعة بالمرجعية، ما يلغي حرية الاجتهاد المكفولة لكل مؤهَّل، كما أن التنظيم الواحد يجعله مستعصيًا على التجديد في القول والعمل، وهو ما تفرضه ضرورات الواقع، ورهاناته. (ألم تشهد ظاهرة "الدعاة الجدد" نجاحاً باهراً بالرغم من حداثة سنهم الدعوي؟)، هذا فضلاً عن أن أخطاء وحدة الجماعة من شأنها أن تحمل على الخلط بين الإسلام والمسلمين وتناسي المسافة الفاصلة بين المبدأ والتطبيق لعدم وجود جماعة أخرى أو جماعات تمثل تنويعاً آخر في التطبيق يمكن أن يكون شاهداً على صحة المبدأ.
تعديل الخطاب .. مدخلاً للإصلاح
لكن إذا كانت التعددية أمرًا مشروعاً وواقعاً لا بد منه، فالسؤال المفروض بحثه هو كيف تتحول هذه التعددية من حالة تناحرية إلى حالة تآلفية على مستوى العلاقات، وتنوعية على مستوى الأفكار؟
ثمة مشكلات جوهرية يعاني منها الخطاب على مستوى المفاهيم والتصورات، والأدوات التواصلية مع الجمهور، تكاد تتوحد على مستوى الخطاب كله لو نظرنا إليه على أنه خطاب واحدي في مجموعه. لعل أبرزها الوصاية على الحقيقة الواحدة المطلقة، ومع تعدد الجماعات يتعدد الأوصياء، ما يشكِّل جسم الحالة التناحرية القائمة، وهنا يكون إزاحة مفهوم "الوصاية" ونفيه عن العمل الإسلامي شرطاً أساسيًّا لحرية الاجتهاد المنهجي، وتجاوز التناحر، فلا وصاية لأحد على أحد في التصور الإسلامي، وإن الله تكفل بحفظ هذا الدين، وهذا لا يلغي مشروعية الاجتهادات مهما تنوعت، لكنه ينفي مفهوم "الوصاية" سبيلاً لحفظ الدين؛ لأن الحفظ موكل إلى الله تعالى وحده، وشدة الحرص على الدين التي تدفع إلى ممارسة الوصاية تعكس شكاً في حقيقة حفظ الدين بنا ومن دوننا.
ونفي الوصاية يطاول الأشخاص كما يطاول الأفكار، ومن المؤسف حقًّا أن كثيراً من الجماعات الدعوية لا تعترف بـ"أهلية" المدعو فتلزمه بجماعتها، وبالسمع والطاعة للشيخ الذي يبقى "يؤهله" على الدوام حتى الممات! وهنا لا بد من تجديد النظر إلى أدبيات العالم والمتعلم، الشيخ والمريد - بتعبير المتصوفة - لأن كثيرًا منها يخرج عن إطار الاحترام والتوقير الواجب شرعاً وعرفاً، إلى ما يشبه التقديس والتمركز حول ذات الشيخ واعتقاد إصابته على الدوام، ما يجر إلى مفهوم "العصمة" له الذي يشكل مفهوماً مركزيًّا في الفكر الشيعي.
وتجديد النظر إلى الأدبيات هذه، من شأنه أن يحرر المدعو من قيود الحجر على التفكير والممارسة النقدية السائدة داخل الجماعات عامة، وهنا يكون إقرار السؤال والمساءلة والاعتراض والمحاججة نفيًا لأسلوب التلقين المتبع لدى الجماعات، بل والمؤسسات الدينية التعليمية الذي صنع نسخاً مكررة تستطيل على الزمان، وتستعصي على التغيير كأنها جواهر ثابتة، وليس عبثاً بعد هذا أن يتم اعتبار ممارسة "النقد" داخل الجماعات نوعاً من قلة الأدب مع الشيخ، أو التطاول على العلماء، حتى إنه في بعض الأحيان أورث ممارسات متطرفة لا تهدف إلا إلى التهجم على فلان أو عِلاّن. (بعض هذه الممارسات كان من شيوخ جماعات ضد شيوخ آخرين وبأقذع الشتائم!!)
هذه الممارسات النقدية والمساءلات داخل الجماعة الواحدة، وبين الجماعات من شأنها أن تحدث تفاعلاً إيجابيًّا، واختبارًا للأفكار والتصورات لاختيار الأصلح والأنفع مع إعذار كلٍّ للآخر مادامت الأصول العامة واحدة، والأهداف الكبرى واحدة. وهذا التفاعل لا بد أن يؤثر في النسق التصوري التقليدي الثابت في جوهره أصولاً وفروعاً لدى كل جماعة، وخصوصًا في علاقته بالآخر، وبترتيب أولوياته، وقراءته للحالة الإسلامية. لكن الممارسة النقدية لا تعني "التجريح" في محاولة إثبات شخص بنفي شخص آخر، فنعود للدوران في الشخصنة من جديد!
وحالة "الشخصنة" هذه تفسر غياب "آداب الاختلاف" في القول والعمل، في العمل الديني عامة، ذلك أن آداب الاختلاف تتمحور حول نقد الأفكار مع الحفاظ على سلامة الصدور ونقاء العلاقات الشخصية، لأن الفكرة تنفصل عن الشخص في صورة الاعتقاد بأحقية الحق المجرد (لا الذي نمثله نحن) ووجوب اتباعه والاقتراب منه بقدر الجهد والإمكان، وأفضلية الاعتراف بالخطأ، وأن الجميع يؤخذ منهم ويرد عليهم إلا "الوحي" ، وهي الآداب التي كانت سائدة في العصر الأول زمن الصحابة الذين اختلفوا وتفرقوا في الأمصار، وفي عصر أئمة المذاهب الذين كان يعذر بعضهم بعضاً، حتى إن أبا حنيفة كان يقول: "هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه" وهنا قد يفرق بعضهم بين "العلم" و "الدعوة" بأن الثاني يقوم على "تبليغ الحقائق" والجزم بها حتى يتأتى للمدعوين الامتثال لها والتصديق بها، بينما يقوم العلم على الإدراك النسبي والشك المنهجي. لكن هذا محلُّه في تبليغ "الحقائق" وهي "ما علم من الدين بالضرورة" وليس في كل ما يقوم به الدعاة، وهذا أحد أهم مَقاتل الدعوة أن تُنَزل المسائل الاجتهادية منزلة أصول المسائل الاعتقادية اليقينية، والفروعُ منزلة الأصول