التلامـذة المسلمـون في المـدرسـة المسيحيـة: فـرص وتحديات
التلامـذة المسلمـون في المـدرسـة المسيحيـة: فـرص وتحديات
بقلم الاب اندريه ضاهر
من المعلوم ان علة وجود المدارس الخاصة هي توفير تربية خاصة لنشء جماة معينة، تراعي النواحي الروحية والاخلاقية والانسانية للمرء، مستندة على خصوصية الجماعة التي ينتمي اليها. ولا بدّ من التذكير بأن المدارس الدينية قد أنشئت اولاً للتبشير بدين اصحابها. فتشريع ابواب المدارس المسيحية للتلامذة المسلمين يفرض مجموعة من الاسئلة حول امكان تحقيق تكامل بين ما يفرضه الواقع التعددي في حَرَم المدرسة من متطلبات مرتبطة بتنشئة اجيال من طائفة اخرى وما تقتضيه التربية المسيحية والمحافظة على هويتها؟ بمعنى آخر، كيف يمكن المدرسة المسيحية ان توفّق بين سعيها الى احترام التلميذ المسلم والتعليم انطلاقاً من خصوصيتها؟ الى اي مدى يعلم ويمارس فيها احترام الاديان الاخرى وحرية المعتقد؟ وما هو دور المدرسة المسيحية في الحوار الاسلامي - المسيحي وفي بنيان الوحدة الوطنية؟ هل هي تعمل لمساعدة التلميذ المسلم على التجذّر في هويته، من جهة، وعلى التفاعل مع الآخرين، من جهة اخرى؟ وما هي التغيرات التي على هذه المدرسة القيام بها لمواجهة التحديات ولاستبعاد كلّ قمع اجتماعيّ او دينيّ؟ ما هي الشروط التي على التلميذ المسلم ان يتقيّد بها لكي يتمكن من الدخول بمشروع تربوي مسيحي ويستفيد، ليس فقط من الطرح المسيحيّ، ولكن من فسحة التلاقي؟ ويبقى السؤال المطروح: ما هي الفرص للمسيحية وللاسلام، على السواء، وللحوار بينهما، والتي يؤمنها انخراط الشباب المسلم في خط تربوي مسيحي ولقاؤهم مع إخوة لهم في المواطنية، اي المسيحيين؟
المدرسة المسيحية، منطقة حرّة للتلاقي؟
في مستهلّ مقالنا، لا يمكننا إلا ان نتوقف امام حقيقة تاريخية: هدف انتشار المدرسة المسيحية في المناطق اللبنانية خدمة كل اللبنانيين، مستفيدة من الديموقراطية الليبرالية ومن حرية التعليم في لبنان. لقد شرّعت المدارس ابوابها منذ 1624 لاستقبال التلامذة من كل الطوائف اللبنانية، دونما تمييز دينيّ، رافضة التقوقع على ذاتها، مما أتاح في المجال للقاء على المقاعد ذاتها امام المسيحيين والمسلمين على اختلاف مذاهبهم. ويكفي ان نعلم، على سبيل المثال، ان نسبة حضور التلامذة المسلمين يُضاهي في بعض المدارس المسيحية اللبنانية عدد زملائهم المسيحيين: ويصل بعض الاحيان الى 90 في المئة. والجدير بالذكر انه بينما كانت الاحداث الأليمة تعصف بلبنان، كانت المدرسة المسيحية تسعى لمتابعة رسالتها في جميع المناطق اللبنانية. لن ندخل هنا في تحديد العوامل التي تدفع الاهل من الطائفة الاسلامية الى تفضيل المدارس المسيحية عن بقية المدارس. نكتفي بالقول: إن المدرسة المسيحية التي تستقبل التلامذة في حَرَمها، على اختلافهم، تُشكل فسحة من فسحات التلاقي بين اللبنانيين. والملاحظ ان اجواء الحرية والانفتاح المنبثقة من هويتها التي تسود ارجاء المدرسة، تستقطب دُعاة الحوار والتواصل.
مع استقبال التلامذة المسلمين، اتهمت المدرسة المسيحية بأنها تخلت عن هدفها، اي تنشئة المعمد بأبعاده الاربعة الروحية والاجتماعية والعلمية والعاطفية، انطلاقاً من الخصوصية المسيحية. وذهب البعض الى التساؤل: أين تكمن التربية المسيحية في توجه الطلاب مع الانفتاح على الديانات الاخرى واخذ انتظارهم في الاعتبار. من هنا، لا بدّ من التوقف عند اسس هذا التوجه ومبادئه.
يقول الارشاد الرسولي: "على المدارس الكاثوليكية ان تضع ذاتها اولاً في خدمة الجماعة المسيحية. ولكن، ايضاً بوجه اوسع، في خدمة الوطن بأجمعه، في روح تحاور مع كل مكونات المجتمع دون ان تغفل ميزتها كتعليم كاثوليكي (...). وليتذكر الجميع ان المدرسة الكاثوليكية (...) تطمح الى توفير اكبر قدر ممكن من المعارف الواسعة والعميقة، وفي الوقت عينه، الى تربية متطلبة ومثابرة للحرية الانسانية الحقيقية، وارشاد الاولاد والمراهقين الموكلين لعنايتها الى الهدف الواقعي الاسمى: وهو يسوع المسيح ورسالته الانجيلية" (رقم 106). انطلاقاً من هذا النصّ، يمكن استخلاص ان المدارس المسيحية هي في خدمة جميع المواطنين من مختلف الطوائف لأنها مدعوة لحمل الرسالة للجميع. يُضاف الى ذلك، اقتناع الكنيسة بأهمية التربية التحاورية المبنية على التقدير المتبادل. ويشدد النصّ على انه، رغم تعدد الطرق الى الله، هناك اخلاق مشتركة يجب التربية عليها: السلام، والحرية، والمسامحة المتبادلة، والاخوة، والتضامن. فعلى الكنيسة المساهمة بالتربية على ما يجمع بين الطلاب من مختلف المذاهب والاديان اي الخير العام واحترام حقوق الانسان. ولكي لا يبقى هذا الكلام في خانة البلاغة والاسلوب الانشائي، الكنيسة مدعوة لتجسيد هذه المفاهيم. فالتطبيق الفعلي يقطع الطريق امام مخاوف البعض حول امكان انفصال الطالب المسلم في المدرسة المسيحية عن جذوره.
لا لمنطق الاكثرية
من التحديات التي تقف عائقاً امام بلوغ رسالة المدرسة المسيحية الى هدفها المرجوّ، طريقة التعاطي مع التنوع، وبالاخص التوفيق بين الاعتماد على خصوصيتها المسيحية واستقبال الآخرين واحترامهم. إن اللجوء الى مبدأ الاكثرية في الخيارات التربوية للتصدّي لهذه المعضلة، يعرقل سُبل العيش معاً. فيشكّل اقتصار توجهات العملية التربوية على ثوابت ثقافة الغالبية - هنا المبادئ المسيحية - وتهميش ولاءات التلميذ المسلم، خطراً على تجذّره في هويته. وعلى سبيل المثال، فإن تدريس الدين المسيحي للمسلمين وارغامهم على حضور القدّاس وغيره (كما هو الحال في بعض المدارس) يؤدي الى عيشهم الضياع والغربة عن ذاتهم ويمسّ حرية المعتقد. فعدم احترام هذا الحقّ يتنافى ليس مع شرعة حقوق الانسان فقط بل ايضاً مع تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني التي تشدّد على صون الحريات الدينية من خلال الخدمات الكنسية. يُضاف الى ذلك، ان هذا الاسلوب المعتمد في التنشئة يشكل تعليماً منتقصاً ومشوّهاً بالنسبة للطالب المسيحي، ويُعرقل ايضاً آليّة التلمذة المسيحية. التساؤل المطروح هو: ألا يُخشى، في حال اعتماد منطق الاكثرية، ان يتهيأ للتمليذ المسلم، انه "مسيحي" في المدرسة ومسلم في البيت؟ وللتلميذ المسيحي انه في مدرسة بعيدة عن الطرح المسيحي، في حال كانت الاكثرية هي من الطائفة المسلمة؟
الى جانب استبعاد منطق الاكثرية ينبغي رفض الاكتفاء بالتشديد على القواسم المشتركة للخروج من تداعيات التعددية. فداخل جدران المدرسة، يتنافى تجاهل الخصوصيات والزعم انه ليس هنالك اي فروقات، مع اسس التربية على العيش معا. فالموقف المعبر عنه بالقول: "انت مين انا ما بسأل... انت خيّي بالانسانية..." او "كل مين على دينو الله يعينو..." لا يساهم في اقامة فسحات للمشاركة انطلاقا من فرادة الانسان وتراثه بل يربي على ما يُسمى بوهم الوحدة. كل ذلك يخلق عند الطالب المسلم شعورا بأن هويته غير معترف بها في المحيط المسيحي. اوليست هذه الحالة التي تحمل المسلم الى تجربة الدفاع عن هويته بطرق تتنافى وقيم الاسلام والانسانية؟ الم تثبت معظم الخبرات ان طمس الحقائق لا يساهم بالعيش معا ويقلص من فرص معرفة الآخر؟ اليس حرياً بالمدرسة المسيحية ان تعلّم ان الطرقات الى حقيقة الله متباينة، ويختلف عليها الناس؟
ارادة العيش معاً
ان المدرسة المسيحية مؤتمنة، كسائر دور العلم، على تنمية القدرة على العيش معا، ميزة كل انسان. ورغم ان الحياة المدرسية لا تخلو من شوائب التعصب والقوقعة والرفض، فالواقع يشهد ايضا على عمق التواصل بين التلاميذ من خلال الصداقات والزيارات والصلوات المشتركة والمشاركة بالاعياد والافراح والاتراح... نرصد من خلال استطلاع ميداني قمنا به في اطار بحث جامعي بعض معالم ارادة العيش معا: يدخل التلامذة المسلمون الى المدرسة المسيحية حاملين معهم ميزاتهم ورؤيتهم وانتظاراتهم متحدّين مع رفاقهم المسيحيين المحاولات الانصهارية ومتصدين للأساليب العازمة على قمع كل ما هو مختلف. فيحتم ذلك على التمليذ المسلم التصدي للعنصرية وللتعصب وللأفكار المسبقة والمعلبة، من جهة، والتحلي بروح الانفتاح الذي يستدعي التخلي عن فكرة امتلاك الحقيقة. يضاف الى ذلك، انه على التلميذ المسلم ان يحترم المدرسة برفضه كل شعار او شارة تتناقض مع حرمة التوجيه التربوي المسيحي الذي تم اختياره من الاهل. من هنا، على الادارة المدرسية المدعوة للسهر على هوية المدرسة المسيحية عدم اللجوء الى منطق السماح غير المتسامح في قراراتها.
وهنا نتساءل: الم تنجح المدرسة المسيحية في تشكيل جيل التعايش، رغم السياسات التربوية الرامية الى الزام الشباب على العيش معا؟ هذه المناهج التي تعتمد طمس التنوع بغية تفادي الصراعات في حرم الصف منشئة بذلك، على لبنان وهميّ. هل فرقت هذه المدرسة فعلا ام انها تلعب دورا وطنيا من خلال عنايتها بالتلاقي بين المسلم والمسيحي، في الصف وفي الملعب وفي الاروقة مفسحة في المجال من خلال النشاطات ومجمل ابعاد مشروعها التربوي امام تفعيل ارادة العيش معا؟
فرصة من الله
لا يمكننا ان نحصي ايجابيات تنشئة الشاب المسلم في المدرسة المسيحية، نكتفي بالتوقف عند ثلاث منها: اولا، تذكر الكنيسة بأنها مدعوة لتكون في خدمة الجميع وتقطع الطريق امام محاولات التطرف والانعزالية على انواعها. ثانيا، تفسح في المجال امام المسلمين للتفاعل مع القيم المسيحية. ثالثا، تشكل فسحة للحوار الاسلامي - المسيحي في زمن كثر التكلم فيه عن صراع الحضارات.
هل وجود الشبيبة المسلمة في المدارس المسيحية هو من باب الصدفة ام مقصد من مقاصد الله؟ نعم انها فرصة من فرص الانفتاح والتعارف المتبادلين، وللتعاون في مجالات الحياة المتنوعة بين الاجيال التي تشرّبت مبادئ العلم والتربية في المدرسة نفسها.