خطاب الاستشراق

خطاب الاستشراق

محمد شاهين*

(1)

إذا كان الاستشراق يعني في أوسع عمومياته العلاقة أو المواجهة بين الشرق والغرب، فإن تاريخ هذه المواجهة يرجع إلى قرون مضت كانت بدايتها تلك المعركة التاريخية التي انحسر فيها المد الإسلامي غربا، والتي ما زالت تثير الجدل بين المؤرخين على اختلاف انتماءاتهم. ماذا لو امتد الفتح الإسلامي بعد بلاط الشهداء؟ سؤال هاملتي لا يمكن أن يكون الجواب عليه خاليا من عدة فرضيات، ربما تكون لو تحققت مرعبة للآخر.

كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» الذي ظهر عام 1979 هو بداية شرعية ومشروعة، ليس لأنه أول من تحدث عن الاستشراق؛ بل لأنه أول من لم شمله في الشتات وجعل منه أطروحة داعمة ومدعومة، خطابها التعمق في طبيعة هذه العلاقة وعرض طرقها ومكوناتها بجرأة وشجاعة وذكاء العالم الباحث. ولا يخفى علينا ما أحدثه الكتاب من نقلة نوعية في ميادين مختلفة من البحث والدراسة، ونحن نعلم أن الكتاب أصبح حجر الزاوية في كل دراسة لها علاقة بالاستشراق. وبعد مضي ثلاث سنوات من ظهور الكتاب التقيت مع صاحب الكتاب وقدم لي نسخة منه كتب عليها «هذا كتاب أثار مشكلات» «a-trouble making book». طبعا قال هذا من قبيل تواضع العلماء، ولكنه يعلم أن الكتاب أثار وما زال يثير جدلا لدى الدارسين والقراء بمختلف هوياتهم.

لا بد في هذا السياق أن نقدم عرضا موجزا عن الموضوع، فمقولة إدوارد سعيد الرئيسية هي أن معظم ما كتبه الغرب عن الشرق في غالبيته صورة وهمية مختلقة، وبهذا فإنها تعكس الشرق مصادفة، أو عرضا لا أكثر. تتكون هذه الصورة من مجموعة من التصنيفات والتنميطات التي تظهر صورة الشرق من زاوية فهم غربي، وهي: صورة افترضت أن الشرق أي شيء غير أوروبي. وعلاوة على ذلك فصورة الشرق هذه جامدة. والشرق فيها ليس شاذا فقط بل هو غير متغير، أي: أن الشرق في نظر أولئك المستشرقين ليس قوة في الطبيعة ومنها، مثل ما هي الحال عند سائر الخلق، وليس واقعا تخضع صورته لوصف واقعي أو حتى لواقع مشوه، وليس هو كيان في هذا الوجود بقدر ما هو نتاج ثقافي من عقول وأقلام المستشرقين المذكورين.

وتمثل الصورة الزيتية للفنان الفرنسي Gerome (1824-1904)، التي تظهر على غلاف الطبعة الأولى طبيعة النظرة إلى الشرق، وهي نظرة سوقية، كاريكاتيرية تمسخ إنسانية الشرقي، إذ تهدف إلى إثارة الانتباه الحسي المسطح الذي ينأى عن صورة الواقع، وحقيقة الأمر وفي النهاية تكون تشويها لأي واقع يمس حياة الشرق.

استشرق الغرب الشرق من خلال حقول المعرفة بالشرق، والنتيجة أن الغرب أصبح يمارس من خلال هذه المعرفة قوته وهيمنته على الشرق كراع غربي نشط يعرف ويسيطر (أو يسيطر لأنه يعرف) على رعية شرقية مستكينة: الغرب Subject والشرق object. وهذا النشاط المعرفي هو أسوأ أنواع الاستشراق؛ إذ يصبح الاستشراق وظيفة يستخدمها الآخرون كعدسة أو كتركيب من خلاله يرى الغرب شرقه تاريخيا، ليوجهه ويسيطر عليه بالطريقة التي يراها مناسبة له.

أما الركيزة الهامة الأخرى للاستشراق التي تتمتع بقيمة هائلـة في التأثير فهي الخيال. لقد صاغ المستشرقون صورة الشرق بخيال جعل هذه الصورة تبدو وكأنها تمثيل أو انعكاس خفي للواقع. وكان لهذه الممارسة أكبر الأثر في تسويق الاستشراق من خلال مصداقية الخيال المعهود.

فالذي يقرأ ما كتبه المستشرقون عنا يقع تحت تأثير الخيال، ومن ثم يصدق الصورة. وفي أغلب الأحيان ينظر إليها وكأنها تمثل الواقع وتعكسه، وبهذا يبدع المستشرقون صورة تبدو ماثلة أو ممثلة لواقع هو في حقيقة الأمر ليس كذلك، وهكذا يصبح التمثيل والواقع وكأنهما متلازمان وغير منفصلين.

وإذا كان إدوارد سعيد قد استطاع بمهارة فائقة كشف النقاب عن الصورة الاستشراقية بطريقة علمية، تحليلية، توثيقية، لاستغلال المستشرقين للخيال؛ فقد قدم الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» صورة فنية رائعة، ولكن باتجاه معاكس لتصور الغرب للشرق وتصويره الزائف، ولو كان في خطة إدوارد سعيد مثلا أن يضمن كتابه ردا على الآخر لحظي موسم الهجرة وصاحبها باهتمام شديد في خطاب الاستشراق عند إدوارد سعيد، ولكن التركيز كان منصبا على الاستشراق، لا على الرد عليه.

وتعد «موسم الهجرة إلى الشمال» أوّل رد فني على علاقة المواجهة بين الشرق والغرب مثل ما يعد الاستشراق أول رد على هذه المواجهة، فكلاهما يكمل الآخر، ولكثرة ما كتب عن هذا العمل الفني الرائد فلن أكرر ما قيل في مناقبه، ولكن لا بد من ملاحظة موجزة يتطلبها سياق الحديث عن الموضوع.

تقوم الرواية بمسرحة القضية الكبرى، قضية المواجهة أو علاقة المواجهة، ويقوم مصطفى سعيد بطل الرواية بتمثيل الدور كاملا من أجل الكشف عن طبيعة المواجهة. يقول مصطفى سعيد: «لقد جئتكم غازيا»، بمعنى أنه يقلب الدور التاريخي ليرى إذا كانت النظرة إليه كعربي ستتغير عما اعتاد عليه الغرب، ثُمَّ يقول: «إن عطيل أكذوبة»، وهو قول يلخص أبعاد القضية برمتها، التي ترد في مقولة إدوارد سعيد فيما يتعلق بالصورة الخيالية الوهمية لدى الغرب عن الشرق. وقد تنبه إدوارد سعيد إلى الصورة الرمزية لعطيل قبل ظهور الاستشراق بسنوات، حيث كتب عام 1972 في مقالة نشرت بالعربية تتضمن عمق الالتزام الجاد بالقضايا المصيرية. يعلق إدوارد سعيد في هذه المقالة على عطيل وياغو في مسرحية شكسبير بقولـه: «لكن ثقة عطيل في بسالته جعلته بعيدا عن الشك، غير أن ياغو مساعده كان أدرى به. ولاسم ياغو علاقة مقصودة بسانتياغو (القديس جيمس) شفيع الكنيسة الكاثوليكية الإنسانية في معارك التحرر التي خاضتها ضد المغاربة، ومن هنا لقب سنتياغو؛ أي: قاتل المغاربة.

ياغو شكسبير شرير مادي بكل معنى الكلمة فكل المفاهيم في نظره محض تجريدات، وبغضه لتعطيل قائم على الاحتقار والحسد والعداوة العنصرية. هكذا أفسد حب المغربي لدسدمونة»(1). علاقة النساء الإنجليزيات من جين مورس إلى مس هاموند في موسم الهجرة هي علاقة بشخص وهمي لا وجود له في واقع الأمر. مصطفى سعيد من صنع خيال تلك النساء، وهو شخصية حولها الغرب مُمَثَّلا أبلغ تمثيل في العلاقة الجنونية بتلك النساء إلى شخصية وهمية لا واقع لوجودها خارج الصورة التي رسمت له في الغرب قبل وبعد حضوره إلى الغرب.

مصطفى سعيد فقط هو الذي يعي ذاته وهويته أثناء وجوده في الغرب. والذي يولد الصراع بداخله هو هذا الوعي الذي يقابله الآخر بإنكاره، ومنحه هوية ليست هويته. النساء يَمنحْنَه هوِية رومانسية، وهي الهوية المعهودة التي منحها الغرب للشرق في أغلب الأحيان، وهي هوِية شخص غير موجود. أستاذ مصطفى سعيد في اكسفورد جون- فوستر كين يمنحه هوية المستعمر الفوقية، ويأسى عليه لأنه لم يغتنم فرصة وجوده في بريطانيا ويصبح مثل الآخر في سلوكه، ويشعر أستاذه وكأن مشروع إقامته في بريطانيا قد فشل.

وفي اعتقادي أن خير قراءة لموسم الهجرة إلى الشمال لا بد وأن تشمل منظور الاستشراق لإدوارد سعيد، والرواية في الوقت ذاته لا يمكن إلا أن تكون داعمة لهذا المنظور ومحركة له.

(2)

وإذا كان الطيب صالح قد استثمر الخيال خير استثمار، وذلك ردا على تشويه فنية الخيال واستغلال جمالياته، فقد قام إدوارد سعيد بالتعبير عن ممارسات الاستعمار وأساليبه بطرق عملية بحثية مدروسة واستعان في حجته بعدد من المفكرين الغربيين، ومن أبرزهم: ميشيل فوكو.

يقوم جدل فوكو على أن المجتمع الحاضر الذي نعيش فيه مجتمع منظم disciplinary society يمارس وظائفه ليس من خلال ممارسة القوة «force» بل الاستكانة إلى التنظيم «regulation» فكل فرد يعيش داخل مجموعة يعرف مكانته فيها ووظيفته ومساهمته. وتسير حياة الفرد داخل المجموعة وفقا لطريقة مزدوجة أشبه بالنظام العشري (أو المزدوج) الذي يدفع الفرد بوظيفة مناهضة لغيره كما هي الحال بين الأصحاء والمرضى، بين العاديين والشاذين، بين المعافين والمرضى وهكذا. مثل هذا التنظيم يخلق في الفرد نظاما خاصا بذاته، وفي النهاية يسير طبقا لهذا النظام داخل المجتمع. ويصر فوكو أن هذا التنظيم لا يعني أن النظام الاجتماعي يقمع الفرد أو يغير من إيقاع حياته، أو يبتر جمال هذا الإيقاع، بل إن الفرد يفبرك نفسه بعناية داخل مجتمعه.

ويقدم فوكو حادثتين تاريخيتين موضحا هذه الفبركة المتقنة: الأولى: من تنظيم المدينة الذي يعود أصله إلى انتشار الطاعون في نهاية القرن السابع عشر، فقد تعين على كل فرد في المدينة المصابة بالطاعون أن يلزم مكانا معينا لا يبرحه، وأن يقدم بنفسه تقريرا صحيحا عن حالته الصحية. وهكذا انتظم الفصل بين المرضى والأصحاء في المدينة على أساس تنظيم فردي لا اجتماعي، وكأن المدينة أصبحت تعيش حياة المدينة الفاضلة التي تسير أمور حياتها بنفسها.

أما الحدث التاريخي الآخر: فهو معمار سجن بنثام في القرن التاسع عشر الذي وفق بين تقنية السلطة وكفاءة المعمار المتطور والذي كان سببا في تطوير نظام السجون. يتكون السجن المذكور من برج مراقبة تحيط به مجموعة من الزنازين كل منها مخصصة لفرد، وكل واحدة منفصلة عن الأخرى، لكنها جميعا على مرأى من البرج. وفي الوقت ذاته لا يستطيع من في الزنازين أن يتأكد من وجود مراقب في البرج. ويصف فوكو هذا التنظيم الذي يوفق بين هذه الأدوار «بالوظيفة الأوتوماتيكية للقـوة» فهي تولد في الفرد شعورا أَنَّهُ مراقب باستمرار بغض النظر عما إذا كان مراقبا فعلا. هكـذا ينتظـم الأفراد في سلوكهم بعد فترة من الزمن؛ إذ يجدون أنفسهم في وضـع يمارسون السلطـة على أنفسهـم بأنفسهـم دون حاجـة إلى نظـام فعلي خارجي يمـارس عليهم. ومن هنـا يولـد خضوع حقيقي ميكـانيكي من رحم علاقة وهمية. "A real subjection is born mechanically from a fictitions relation"

ويهدف فوكو من التركيز على هذين الحدثين كمثالين ينطلق منهما إلى التأكيد على مضامين عامة تصف وظيفة المجتمع بشكل عام. فسجن بنثام ليس مجرد بناء؛ بل إِنَّهُ على حد قول فوكو «ميكانيكية السلطة»، وهي تتقلص إلى وضع مثالي "mechanism of power reduced to ideal form"، وهذه الميكانيكية تصبح الآن غير فعالة بطبيعة الحال، ولا تعود هنالك ضرورة لوجود جهاز مركزي، إذ يصبح هذا الجهاز مستغلا في كل فرد يقوم بدوره بتبني مسؤوليته في إخضاع نفسه بنفسه. ويصف فوكو هذه الميكانيكية بأنها هي التي تفرز نمط الفرد والمجتمع الذي نعيش فيه (2).

يذكر إدوارد سعيد في مقدمة الاستشراق أَنَّهُ يعرّف الاستشراق معتمدا على ما وجده مفيدا من وصف لفكرة الخطاب عند فوكو كما ترد في «حفرية المعرفة» و«النظام والعقاب» The Archeology of Knowledge and Disciplins and punish.

ويضيف إدوارد سعيد قائلا: إن الجدل الذي يقوم حول فكرة الاستشراق بدون فحص للاستشراق كخطاب، لا يمكن المرء من فهم النظام الهائل الذي نظمته الحضارة الأوروبية، واستطاعت من خلاله أن تدير دفة الهيمنة على الآخر؛ بل وتخرج علينا بصورة فيها السيناريو السياسي والاجتماعي والحزبي والأيديولوجي والعلمي والخيالي خلال فترة ما بعد التنوير(3).

وعودة إلى فوكو. يقول فوكو في المرجعين اللذين ذكرهما إدوارد سعيد: إننا عندما نتحدث عن شيء فلا يعني هذا أننا نفهمه، كما أن تعاملنا مع الحقيقة من خلال العقل الظاهري لا يعني أننا نكون قريبين منها؛ إذ إن هنالك حقيقة مدفونة في أعماق اللاوعي، وكل ما تصل إليه من أسرار عن هذه الحقيقة لا تكون أكثر من إشارات لتلك الحقيقة الكامنة في الأعماق. من هنا تحتاج المعرفة إلى تنقيب عنها كما يشير عنوان كتابه، والخطاب هو الوسيلة إلى ذلك.

ويمكن القول هنا إن موضوع الاستشراق قبل إدوارد سعيد كان كلاما وأصبح على يديه خطابا، أي أن كتاب الاستشراق يشكل مفصلا في تاريخ البحث. وبنفس الطريقة يمكن أن نقول إن موسم الهجرة إلى الشمال كانت منعطفا رئيسيا في ميدان الرواية العربية؛ إذ إن ما سبقها من روايات تعد حديثا عن المواجهة بين الغرب والشرق. ففي «عصفور من الشرق» للكاتب توفيق الحكيم يبدأ محسن بمقابلة الغرب برومانسية يغرق فيها محسن إلى الأبد، ويرحل عن الغرب إلى داخل نفسه منكمشا منطويا عليها إلى أن يلتقي برجل العلم الروسي فيبوح له بروحانية الشرق التي يرى فيها تعويضا عن فشله في مواجهة الغرب وماديته.

وكذلك الحال في «قنديل أم هاشم» للكاتب يحيى حقي؛ إذ يدرك إسماعيل أن قنديل السيدة زينب هو الهدى الذي ينتشل هذا الشرقي من الضياع.

و«الحي اللاتيني» لكاتبها يوسف إدريس لا تختلف كثيرا عن تلك الروايتين. ورغم كل ما في هذه الروايات من جاذبية تشد القارئ إليها خصوصا لما فيها من رومانسية عذبة، إِلاَّ أَنَّهَا تظل بعيدة عن الخطاب الجاد الذي يفضي بنا إلى خطاب المواجهة الذي حمل مشعله إدوارد سعيد.

وخطاب فوكو غربي استطاع إدوارد سعيد بثقافته الغربية الواسعة، وبفهمه سبل استخدام الخطاب عند فوكو (الذي يعترف بفضله في موقع آخر من الاستشراق)؛ أن يلج إلى أعماق الاستشراق، ويرى كيف استشرق الغرب الشرق من خلال ما يسميه فوكو «التوظيف الميكانيكي للقوة» وما يصفه أحيانا «الإخضاع الحقيقي الذي تولده بطريقة ميكانيكية علاقة وهمية».

لقد صنع الغرب بذلك صورة جعل العالم بأكمله يصدقها على أنها المرجعية التي تمثله، دون أن يكون لها نصيب من الصحة، وأصبحت هذه الصورة تدخل في نفس النظام العشري الذي ذكره فوكو: الشرق يتصف بالجنون مثلا؛ لأنه ليس كالغرب العاقل. الشرق شاذ؛ لأنه ليس عاديا مثل ما هو الحال عند الغرب. الشرق مريض؛ لأنه ليس كالغرب المعافى وهكذا.

وهنا يطور إدوارد سعيد خطاب فوكو بطريقة ذكية تعتمد على خلفية وظروف الشرق، يقول إدوارد سعيد: ما دام الشرق على هذا الحال؛ لأنه ليس غربا، فالغرب أيضا على هذا الحال؛ لأنه ليس شرقا. وما دامت صورة الشرق هذه خيالية وهمية فصورة الغرب لا يمكن أن تكون غير ذلك، ولا يشفع لها منطق الضد أن تكون صورتها مختلفة عن صورة الشرق على الأقل في تساويها معها في كونها خيالية وهمية.

ومن الواضح أن إدوارد سعيد قد أخذ من فوكو إطار الخطاب أو شكله وليس محتواه وكأن إدوارد سعيد يقول: بما أن الصورة التي استشرقها المستشرقون غير واقعية، وغير ممثلة للشرق، فهي حتما غير صحيحة.

فعندما يبين الخطاب أن الشرق ليس كما استشرقه المستشرقون، فهذا يعني خطابيا أن الغرب أيضا ليس كما استغرب نفسه أصلا، والحصيلة أن صورة الغرب عن نفسه تصبح خيالية وهمية (أو كاذبة) مثلها مثل الصورة التي صنعها بنفسه عن الشرق. وأكثر من ذلك إذا أخذنا بالمعادلة التي نشأت منها صورة الاستشراق وهي أن الغرب عكس الشرق، وأن الشرق عكس الغرب؛ فإن الغرب يصبح عكس العكس، أي: أن الفكرة أو الصورة الخيالية الوهمية ترتد على صاحبها الغربي ما دام هو المصدر في جميع الحالات.

وفي لقطة سريعة في رواية «قلب الظلام» للروائي جوزيف كونراد، وهو أول كاتب أعجب به إدوارد سعيد وتأثر به، كما هو معروف، يبين الراوي بمفارقة عجيبة كيف أن الرجل الغربي الذي حمل مشعل الحضارة إلى الكونغو ليضع حدا للهمجية هو الذي أكل لحم البشر عندما لم يجد ما يأكله، مع أن رفاقه من السود الذي كانوا معه في نفس القارب ونفس الظرف ضبطوا أنفسهم وأقلعوا عن هذه الممارسة التي يمارسونها عادة. وتبرز هنا موازاة بين الصورة الوهمية عن الشرق لدى الغرب، وبين صورة الأفريقي الأسود الوهمية التي تكونت لدى الرجل الأوروبي الأبيض من جهة أخرى.

(3)

ولكثرة ما قيل في الاستشراق على مدى ما يقرب من خمسة عشر عاما مضت على ظهوره، قام إدوارد سعيد بكتابة ملحق نشرته الطبعة الشعبية (Penguin) عام 1995، وفي نفس العام نشر إدوارد سعيد هذا الملحق معدلا بعض الشيء في الصفحة الأولى من الملحق الأدبي لـ صحيفة التايمز. وبعد عام قام صبحي حديدي بترجمة الملحق تحت عنوان «تعقيب على الاستشراق». وعنوان المقال الذي نشر في الملحق الأدبي يلخص الخطاب بالعمق والكثافة التي تؤدي الغرض. العنوان: «ليس الشرق شرقا»، وبالإنجليزية «East isn,t East»، ويذكرنا هذا العنوان على التو بمقولة كبلنج المعروفة والتي دوى صيتها على مدى الزمن، وهي بيت الشعر الذي يردده الناس شرقا وغربا كل بمنظوره المختلف. البيت هو «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا» «East is East, and West is West and never the twain shall meet».

كتب إدوارد سعيد الاستشراق، كما يقول في مقاله، وفي ذهنه مقولة تناهض خطيئة هذا الاعتقاد الذي يتضمن نظرة استعمارية محضة تنطلق من الإيمان بوجود عالمين مختلفين، يقع كل منهما في جهة مجازا وفعلا بكل ما في الكلمة من معنى، فالشرق شرق؛ لأنه ليس غربا ولن يكون كذلك.

خطاب إدوارد سعيد مبني على رفع الحصار عن التحرك بين الحدود وضرورة محاولة تجاوزها. لا ينكر إدوارد سعيد وجود الاختلاف بين الشرق والغرب؛ ولكنه يحاجج بشدة أن يكون الخلاف وسيلة لعداء، أو لنظرة فوقية مهيمنة، تعمق معرفة الآخر بغيره، وتمد الآخر بقدر السيطرة على الغير.

يلاحظ إدوارد سعيد في مقاله أن التباين (contrast) بين الطرف الأقوى والطرف الأضعف يتضح مثلا منذ بداية المواجهة الأوروبية حديثا لما يدعى بالشرق. ويضرب مثلا بالهالة التي تحيط وصف نابليون لمصر والتي تقع في مجلدات ضخمة قام بإعدادها فريق من العلماء البارزين، وتصور بطريقة منظمة دخول نابليون وجيوشه إلى مصر، مثل هذا الوصف بكل إمكاناته الضخمة يقزم العمل الفردي البسيط الذي قام به على سبيل المثال عبد الرحمن الجبرتي في ثلاثة مجلدات، والذي يصف فيه غزو نابليون لمصر. ويمكننا أن نقول إن وصف نابليون عمل علمي وموضوعي يصف وضع مصر في بداية القرن التاسع عشر، ولكن من وجهة نظر شخص قوي يحاول وضع مصر تحت قبضته الاستعمارية. وبالمقابل، فإن عمل الجبرتي جهد فرد دفع الثمن.

والنتيجة أن عمل نابليون الضخم صادر ما قام به الجبرتي، بل وجعله يتلاشى. ولهذا يصبح الشرق حكرا على وصف نابليون.

وبعبارة أخرى فبدلا من أن تكون هذه الوثائق (وثيقة نابليون ووثيقة الجبرتي) شاهدة على مجابهة أزلية بين الغرب والشرق؛ فمن الأجدى أن ننظر إليها على أنها سجلات لتجربة تاريخية ظهرت منها تجارب تاريخية أخرى سابقة ولاحقة. وإنه لمن الأجدى أيضا دراسة الديناميات التاريخية لمجموعة هذه التجارب بدلا من الانخراط في تنميطات مثل «النزاع بين الغرب والشرق». ولعل هذا هو السبب الأول -كما يعلق إدوارد سعيد- الذي يؤدي إلى قراءة الاستشراق على أنه عمل مناهض للغرب.

ومثل هذه القراءة تكون مبنية على ثنائية يفترض صانعوها أنها غير قابلة للتغيير. ومثل هذه الثنائية هي التي أجازت الاستشراق على أنه ارتقاء بصورة الإسلام البريء عن الظلم الذي أحاط به من جراء ممارسات المستشرقين(4). وهي في نظر إدوارد سعيد قراءة لا توفي الاستشراق حقه.

ولا يعني هذا أن إدوارد سعيد قد غير موقفه اتجاه الإسلام والعروبة، ولكنه يريد أن ينبه القارئ إلى أبعاد الخطاب في الاستشراق التي تفوق في عمقها ما يطفو على السطح، وهو مجرد الدفاع عن العروبة والإسلام، وذلك كي لا يصبح الاستشراق تنميطا آخر مثل تنميط المستشرقين أنفسهم؛ إذ عندها يتوجه التركيز على وضع الشرق في نمط جامد، وهو أن الشرق شرق مظلوم، وأن الغرب غرب ظالم. مثل هذا النمط هو الوجه الآخر للنمط الذي يفنده الاستشراق وهو نمط الشرق الجامد الذي لا يقبل التغيير.

يريد إدوارد سعيد أن يقول: إن الشرق لا هو في صورة الغازي المحظوظة والتي ترد في وصف نابليون لمصر، ولا هي في صورة الضحية الأقل حظا كما يسجلها الجبرتي؛ كلاهما يحول الشرق إلى وثيقة تاريخية تشهد على ما حدث من وجهتي نظر مختلفتين. ويتضمن المقال أن الشرق ليس حدثا تاريخيا ولا سجلا لهذا الحدث، وبالمثل فهو ليس ردة فعل لحدث ولا سجلا لردة الفعل، بل هو تجربة تاريخية دينامية تسمو على حدث معين في زمن معين. ويعني هذا ضمنيا أن الاستشراق يقدم المسلمين والعرب في صورة منظورها أوسع وأعمق من المنظومة التاريخية أو الصحفية، هذا المنظور هو السلطة التي تستخدم المعرفة من أجل التسلط. وعندما لا يرتبط هذا المنظور بشعب أو بدين معينين، ولا بزمن محدد لغزو نابليون لمصر، يكون على درجة عالية من الشمولية والدينامية. وهذا ما جعل كتاب الاستشراق يعم في خطابه أجزاء مختلفة من مجتمعات العالم التي وقع عليها الظلم في فترات مختلفة من تاريخها.

ويحاول إدوارد سعيد في مقاله أن يوضح خطاب الاستشراق بالنسبة «للمعذبين في الأرض» على حد قولـه. صحيح أن الاستشراق أصبح منطلقا يهتم برفع الأصوات المكبوتة أو المستضعفة، لكن إدوارد سعيد لا يريد للكتاب أن يقرأ بوصفه صرخة المظلومين في وجه الظلم. ويقول إدوارد سعيد إن مثل هذه القراءة المنقوصة ربما تعود إلى العبارة التي يقتطفها ويضعها على صفحة الغلاف الداخلية كشعار للكتاب، وهي «أن البؤساء لا يستطيعون تمثيل أنفسهم ولا بد من أن يصار إلى تمثيلهم»(5). ولم يستخدم إدوارد سعيد العبارة لنصرة الجماهير وإنابة نفسه عنهم، بل يبدو أن العبارة استخدمت بطريقة فيها كثير من المفارقة التي تمس الخطاب الاستشراقي: إن ما يتضمنه توضيح إدوارد سعيد هنا هو أن مثل هذه القراءة هي أيضا تدخل في باب التنميط، أي أن المظلوم ليس مجرد صرخة، وأنه لا يكفي أن يسترجع صوته الذي ضاع مع الزمن.

ولا يعني هذا بأي حالة من الأحوال أن إدوارد سعيد يتخلى عن التعاطف مع المظلومين، ولكنه لا يريد أن يكون أو يصبح هذا التعاطف قضية أو القضية الكبرى؛ لئلا يؤدي هذا الأمر إلى نفس التأطير الذي يعتبره إدوارد سعيد خارج الاستشراق. بعبارة موجزة الاستشراق خطاب يسمو بالمظلومين (الذين استضعفهم المستشرقون) حتى عن ظلمهم؛ وذلك برفع هوية التأطير عنهم ومحاججة أساليب ومناهج وطرق هذا التأطير التي هي الأساس في تشكيل الصورة المشوهة. أي أن الشعور بالظلم والتعاطف معه لا يجوز أن يكون هوية، ومن هنا فهو خارج عن خطاب الاستشراق. ألا يمكن أن نقول في هذا السياق إن شخصية مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال تجذبنا إليها بشكل خاص؛ لأنها تقع في منظور خارج نطاق دائرة السحر الرومانسي. وذلك مقارنة بشخصيتي محسن وإسماعيل الرومنتيكيتين؟

(4)

وإنه لمن قبيل الإنصاف أن نتذكر ونحن نقرأ الاستشراق أن إدوارد سعيد ناقد متمرس، له سمعة عالمية ومساهمة مرموقة في مجال النظرية النقدية والنقد الأدبي، استطاع إدوارد سعيد أن يستوعب النظرية النقدية أو الفكرية أو الأدبية التي من روادها فوكو ولاكان ودريدا، وأن ينقلها من خلال النقد الأدبي إلى نص يحاججه مستعينا بفكر النظرية وفلسفتها. هكذا فعل كبار النقاد والمحدثين الذي هو على رأس قائمتهم.

لم يعد الحديث عن النص حديثا عابرا، بلاغيا، ذاتيا، انطباعيا، بل أصبح يستند إلى فلسفة وفكر تطور حديثا على يد منظرين أكفاء لا يمكن تجاهل مساهماتهم. وهكذا فعل تشومسكي الذي انتقل من اهتمامه الأول بالقواعد التحويلية إلى السياسة وشؤون الساعة الدولية وهو مثل إدوارد سعيد. وهكذا أيضا يفعل تري ايجلتون الناقد الأدبي الذي يفيد كثيرا من النظرية، ويكشف لنا عن مكنون النص من خلالها، وليس النص الأدبي فقط بل أي نص مكتوب.

خطاب إدوارد سعيد في الاستشراق إذن ينطلق من قراءة النص، وهي قراءة ترتكز على الفلسفة الغربية وخصوصا فلسفة الفينومينولوجيا. إدوارد سعيد قارئ نص واع ومتمرس في قراءته، وقبل أن يكتب الاستشراق نشر كتابين هامّين: أحدهما: «العالم، النص والناقد»، والآخر: «بدايات». في الأول استطاع إدوارد سعيد أن ينير السبيل إلى تنقيب المعرفة عند فوكو وإلى تركيب البنيوية عند ليفي اشتراوس والى فلسفة الكتابة عند دريدا.

في «بدايات» نذر إدوارد سعيد نفسه بعد الفراغ منه أن يبدأ تطبيقا عمليا للهدف والغاية والأسلوب الذي يناقشه الكتاب، فكان الاستشراق هو الميدان. سعى إدوارد سعيد في كتاباته إلى الانطلاق من النص في قراءة العالم وليس العكس وهذا هو بيت القصيد. ويرى إدوارد سعيد أن اللغة هي التي تلد العالم وتبدعه وتشكله من جديد وتجعله في حالة ديمومة مستمرة.

وكان إدوارد سعيد أول من تخطى البنيوية؛ لأنها تحصر نظامها داخل اللغة نفسها دون أن تمر أو تمتد بجسورها إلى العالم. صحيح أن اللغة نظام معقد داخل اللغة نفسها ولكن هذا النظام لا يعيش في فراغ ولا ينطلق من فراغ. يؤكد إدوارد سعيد، وقد تبعه أنصار كثر على هذا التأكيد، أن هذا النظام تغذيه في الأصل حضارة مجتمع، وهذه التغذية ترجع بدورها إلى المجتمع. من هنا كان إدوارد سعيد في السبعينات من أوائل الذين ساهموا بنشاطه النقدي في رفع حصار البنيوية عن الساحة النقدية، إذ رأى فيها جمودا لا يتمشى مع طبيعة اللغة والحضارة الديناميكية.

من هنا ليس الاستشراق عالما يمليه علينا النص مسلمين به ومستسلمين له. إن الضجة التي قامت حول الاستشراق مبعثها أن إدوارد سعيد بخطابه المحكم رفض الاستشراق على أنه عملية استهلاك بين المستهلك والمنتج، إذ إنه بين أن كتاب تلك الإمبراطوريتين أنتجوا بضاعة للاستهلاك، وبعبارة موجزة: استشراق الشرق هو استهلاك الغرب له ومن ثم إنكار وجوده.

وفي اعتقادي أن إحدى المشاكل الرئيسة في الاستشراق أو في الدراسات الشرقية بشكل عام ربما على وجه أصح وأعم تكمن في أن هذه الدراسات وأصحابها ظلوا قابعين في قمقم التقاليد الأكاديمية؛ إذ توقفوا عند جمع المخطوطات وتحريرها وتصنيفها وشرحها، ولم يلتفتوا إلى أن العالم الأكاديمي تغير كثيرا وأصبحت فروع المعرفة متداخلة ومفتوحة على بعضها تستفيد وتفيد من الحركة الدؤوب التي تنتجها.

أقول: لو انفتح الاستشراق (وقد بدأ مؤخرا بأخذ المنحى المشار إليه) لاختفى التصنيف إلى شرق وغرب، إلى بحثي وغير بحثي. وأهم من كل هذا أو ذاك لاختفى تعبير الاستشراق القدحي. عندها يتحرر الشرق والمستشرقون من عالم يفرضه الآخر على النص ويصبح الاستشراق خطابا يتفوق في مغزاه على كل استهلاك.

(5)

وإلى جانب هذا التحذير من القراءة التي لا تعي خطاب الاستشراق جيدا، يؤكد إدوارد سعيد على بعض ثوابت الكتاب؛ إذ يقول: إن عصبة (guild) المستشرقين لها تحديدا تاريخ يؤكد علاقتها مع الاستعمـار، ولا يمكن اعتبار مثل هذا التاريخ غيـر وارد (6).

ومن الثوابت الأخرى هي: أن الثقافات مهجنة وغير متجانسة، وكما بينت في الثقافة والاستعمار (1993)، يقول إدوارد سعيد: إن الثقافات والحضارات متداخلة ومعتمدة بعضها على بعض يصعب إيجاد وصف لتفردها... ومن مضامين الاستشراق أن أي محاولة لفصل الثقافات والشعوب بعضها عن بعض لا تؤدي فقط إلى مغالطة في التمثيل والتزوير، وإنما تصبح الوسيلة لفهم يكون متعاونا على إنتاج قوة تصنف الأشياء وتضعها كل في حدود منفصلة كالشرق شرق والغرب غرب(7).

أين يقف الاستشراق بعد ما يقرب من مضي خمسة عشر عاما من ظهور الكتاب؟ لا يسأل إدوارد سعيد هذا السؤال؛ ولكن مقاله يتضمن الإجابة وبصراحة على السؤال. من المعروف أن عقد الثمانينات قد تميز بظهور ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة التي أخذت بعين الاعتبار أعمالا مثل الاستشراق أنها سابقة عليها. ويستشهد إدوارد سعيد بما يقولـه ايلا شوحات Ella Shohat عن الحركتين المذكورتين، ويقول أن المقطع الأول (Post) المضاف لهما لا يعني ما يمكن أن يعني ألا وهو ما بعد (beyond)، بل إِنَّهُ يعني استمرارية وعدم استمرارية، استمرارية الاستعمار أو الروح الاستعمارية، وعدم استمرارية الطرق والأساليب القديمة للممارسات الاستعمارية. ومن الأمثلة على ذلك الكاتب المعروف فرانسيس فوكوياما (Francis Faukuyama)، وبول جونسون (Paul Johnson) الذي كان في يوم من الأيام مفكرا يساريا ثم تراجع. يقول جونسون في مقالة له نشرت في مجلة نيويورك تايمز في 18نيسان1993 بعنوان عودة الاستعمار «Colonlisn’s back»: إِنَّهُ لابد من أن تأخذ الأمم المتحفزة على عاتقها إعادة الاستعمار لبلدان العالم الثالث بواسطة نظام يفرض على تلك البلدان وصايات الأمم المتحضرة؛ إذ إن المقاومات الأساسية في العالم الثالث قد انهارت. ويقدم أنموذج الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر ليكون الحل(8).

غير أن ما حصل خلال الخمس عشرة سنة التي تلت ظهور الاستشراق كان أكثر من استمرارية ظهور أساليب جديدة وطرق مختلفة للاستعمار، وأكثر من مجرد ظهور كتاب ومنظرين جدد حلوا محل المستشرقين لمواصلة المهمة المعهودة. ظهر خلال هذه المدة كتّاب ومفكرون اتجهوا نحو توسيع منظور الخطاب في الاستشراق، فتبنوا مهمة إعلاء الأصوات المكبوتة، واخترقوا في كتاباتهم حدود الدول التي كانت ملكا لشعب معين، ولجنس الرجال فقط، ولعرق ولطبقة معينة. وهذه أمثلة يقدمها إدوارد سعيد على سبيل المثال على سبيل الحصر:

1- Ammiel Alcalay’s Beyond Arabs and Jews: Remaking Levantine Culture (1993).

2- Paul Gilroy’s The Black Atlantic: Modernity and Double Consciousness (1993).

3- Moira Ferguson’s Subject to Others: British Women Writers and Colonial Slavery, 1670-1834 (1992).

وكتاب آخر لا بد من ذكره هنا بعنوان الاستشراق والمحنة ما بعد الكولونيالية (1993) حرره Peter Vander Veer و Carol Breckenridge.

عناوين هذه الكتب تدل على الاهتمامات الجديدة لدى هؤلاء الكتاب وأمثالهم. ففي الأول يبين الكالاوي كيف أن لدى شعوب منطقة حوض البحر المتوسط ثقافة مشتركة، وهذا في نظر الكاتب أهم من النظر إلى المنطقة على أنها منطقة صراع.

أما الكتاب الثاني، فيقدم نظرة مغايرة لتلك التي تنظر إلى المحيط الأطلنطي على أَنَّهُ مجرد معبر أوروبي فقط.

وفي الكتاب الثالث تعيد فيرجسون النظر في العلاقة بين البريطانيين الذين تاجروا بالرقيق وبين الرقيق الأفارقة، أي في ثنائية العبد-السيد.

والكتاب الأخير يبين التوازي الشديد بين السلطة والمعرفة واستخدامهما في الاستشراق. جميع هذه الكتب تقدم تجربة الانتقال من نقطة إلى أخرى كان المعبر بين النقطتين فيها مغلقا.

وإن كان من فضل لكتاب الاستشراق، فإنه حول الأنظار إلى أن يتخذ من هذه النقاط تجارب تاريخية لا حدودا ثابتة، وأن يحولها إلى نقاط عبور. يقول إدوارد سعيد: إِنَّهُ يكفي الاستشراق شرفا أن يضع نفسه على قائمة الكتب التي تصور الكفاح مستمرا طبعا في «الغرب» و «الشرق» معا. وكأن إدوارد سعيد يقول: إن مضامين الاستشراق توحي أن المعرفة نور وتنوير، به تعبر الشعوب الحدود الفاصلة بين حضارتها، لا سلطة تؤدي إلى تسلط يقف حارسا على الحدود.

ويكفي إدوارد سعيد شرفا أن خطابه عن الاستشراق كان البداية التي جسمت تلك البدايات، وانطلقت بها إلى العالم الرحب لتكون الشرارة التي أشعلت النار في ذلك الركام من الاستشراق، وحولته إلى تجربة تاريخية دينامية تشهد عليها الكتب العديدة التي ما زالت توالي الظهور بمنظور جديد.

وأخيرا أود أن أنهي حديثي بمقتطف من تعليق كتبه تشارلز جلاس تحت عنوان: «قراءة صادقة المشاعر حول سعيد» نشر في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز، وهو نفس الملحق الذي نشر عرض جلنر المجحف عن الثقافة والإمبريالية. يقول جلاس في ختام المقالة نقلا عن روائي معاصر: قدم إدوارد سعيد في محاضرة دعاه إليها معهد الفن المعاصر في لندن عام 1994:

«إن إدوارد سعيد يقرأ العالم مثل ما يقرأ الكتب بكل تمعن وتمحص. وسيحسن العالم الذي يسيطر على الشرق الأوسط صنعا لو أنه استطاع أن يقرأ إدوارد سعيد بمثل هذا التمعن والتمحيص. عندها يمكن أن يجنب شعب إدوارد سعيد المزيد من إيقـاع الظلـم»(9).

عندها ينتهي دور الاستشراق والكتابة عنه وربما يحل مكانه ما يسمى بالاستغراب.

****************

الهوامش:

*) ناقد وأكاديمي من الأردن.

1) إدوارد سعيد، «التمنع والتجنب والتعرف»، مواقف، العدد 19/20، كانون الثاني/نيسان 1972، ص40.

2) Micheal Foucault, Discipline and Punish: the birth of the prison, tran. Alan sheridian (London: Penguin, 1977), pp. 195-203,205,215-17.

3) Edward said, Orientalism, New York, Vintage, 1979, p.3.

4) Edward said, "East isn’t East" Times Literary supplement, February 3, 1995,p,3.

5) Ibid, p.4..

عبارة ماركس بالإنجليزية هي: They cannot represent themselves, they must be represented. . وترجمة صبحي حديدي لها هو: «لا يستطيعون تمثيل أنفسهم ويتوجب تمثيلهم»، الشطر الثاني من الترجمة غامض، وشرح العبارة بأكملها خاطئ، ويدل على أن المترجم لم يفهم العبارة حق الفهم. وهذا هو توضيح المترجم كما يرد في شرحه للعبارة: «إن المرء إذ يشعر بتجريده من فرضية النطق عن نفسه، فَإِنَّهُ سيحاول بذل أقصى الجهد لاسترداد تلك الفرصة» ص108. والمقصود هنا غير ما يقصده ماركس، وغير ما يقصده إدوارد سعيد طبعا. وهذا ما يكون سوء الفهم. إدوارد سعيد، «تعقيب على الاستشراق» في تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير صبحي حديدي، بيروت، 1996، ص116.

المصدر نفسه، ص116-117.

المصدر نفسه، ص117.

6) "East isn’t East"، p.4.

7) Ibid.,p.4.

8) Ibid.,p.5.

9) Charles Glass, "Passionate Reading of Said", Times Literary Supplement.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=26

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك