الأخلاق والاقتصاد طلاقٌ غير بائن.. من آدم سميث إلى أمارتيا سن!

أسامة قاضي

 

 

الأخلاق والقيم واحدة من أهم المواضيع التي ادّعى مصدريتها، ومعرفة معاييرها، أو تبنّيها الكثير من المدارس الاقتصادية، والفكرية، و تدّعي حتى بعض الأنظمة الوضعية التي يقبع في سجونها ألوف المواطنين بوقاحة أنها تتبنى القيم الأخلاقية، لابل ترفع شعاراتها، حيث يصحّ فيهم قول الشاعر :

وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا

تعرّض الكثير من المفكرين الاقتصاديين لمادة الأخلاق، فقد تصدى مثلاً أحد الكتب لموضوع الأخلاق الأمريكية لمؤلفه ديك ديوس Dick Deuos في عام 1997 رئيس لشركة Amway عبر كتابه " إعادة اكتشاف القيم الأميركية“Rediscovering American Values" وتحدث من خلال خبرته عن معاني الشرف والعدالة والشجاعة وقيم كثيرة أخرى، وهو الكتاب الذي استثار عالم النفس الأمريكي Dr. Kevin Lenan حيث قال بعد قراءة الكتاب "إنني أصبحت أكثر فخراً بأنني أمريكي".

وفي الطرف الآخر من العالم يعد ألكسندر تسيبكو Alexander Tsipko المنظر في المعهد الاقتصادي للنظام الاشتراكي العالمي Institute Economics of the World Socialist System أن البيروسترويكا "التصحيح" التي قادها ميخائيل غورباتشيف تنذر بإعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية.

وفي عالم السياسة والاقتصاد يبحث داني رودرك Dani Rodrik عن الأخلاق في عالم التجارة في إطار العولمة “Globalization” ويطرح مفهومي " العدالة التجارية" “Fair Trade”و "تحديد مساحة اللعبة التجارية" “Leveling the playing field".كما تناول مفهوم الأخلاق صاحب كتاب "نهاية التاريخ" فرانسيس فوكوياما من خلال كتابه "الثقة" “Trust”، واعتبر أن الفهم الأخلاقي هو ذلك المفهوم المنبثق عن المفهوم العائلي للأخلاق، ويشير إلى فهم إدوارد بانفيلد Edward Banfield " الأخلاق العائلية" “Moral Familism” حيث الروابط الاجتماعية، والالتزام الأخلاقي مقيدين بالنواة العائلية وحدها خارج الإطار الفردي, والأفراد لا يثق بعضهم ببعض، ولا يحسّون بالمسؤولية تجاه المجتمع الأكبر سواء كان الآخر الجيران، أو القرية، أو الكنيسة، أو الأمة.

لعل أفضل من يحق له تمثيل القيم الاقتصادية من وجهة نظر أخلاقية - من وجهة نظر غربية على الأقل - هو آدم سميث Adam Smith (1723- 1790) "أبو الاقتصاد السياسي" بتعريف علماء الاقتصاد الغربيين، الذي أستاذاً لعلم الأخلاق Moral Philosophy بل كان أستاذ كرسي للمنطق في جامعة كلاسكو University of Glasgow فقد كان مدرّساً لمادة الأخلاق قبل الاقتصاد, لذا ليس من المستغرب كعالم للأخلاق واقتصادي معاً أن يقول في كتابه "نظرية الوجدان الأخلاقي" “ The Theory of Moral Sentiments” الذي كتبه عام 1759:

"ينبغي على الرجل أن ينظر إلى نفسه على أنه مواطن في هذا العالم وعضو في جمهورية الطبيعة وليس فرداً مستقلاً منفصلاً عن العالم, ومن أجل مصلحة هذا العالم الكبير ينبغي عليه طوعاً أن يضحي بمصلحته الشخصية الصغيرة في كل الأوقات".

يعتبر آدم سميث أنه للتعامل مع أسس الأخلاق علينا أن نجيب عن تساؤلين:

الأول هو على ماذا تنطوي الفضيلة؟ والثاني بأي الطرق نستحسن بعضها أو نخطّئ بعضها؟ وقد وجد أن الفضيلة تنطوي على ثلاث معايير: 1) إما سلوك التملك 2) أو إرادة الخير 3) أو التعقل و الرشادة.

كما أن سميث فهم "حب الذات" Self-Love ضمن إطار التعاطف Sympathy الذي يسود المجتمع بعيدا عن فهم المنفعة الشخصية التي تصدرُعن أنانية الذات, وهو الفهم الذي تبناه معظم الاقتصاديين فيما بعد، ويشرح سميث هذا بقوله : "التعاطف لا يمكن أن يكون بأي حال له علاقة بمبدأ بالأنانية. عندما أتعاطف مع آلامك أو حقك في الغضب يمكن لهذا الشعور أن يفسر وبحق حب للذات لأن هذا الشعور مصدره من كوني قستُ حالتك المُعاشة على حالتي من خلال تفكيري بطريقة أنني لو وضعت نفسي مكانك، أو لو عشت حالتك، عندها تتشكل لدي فكرة عما تعايشه أنت, فأحس بحالتك " إن هذا الفناء في الآخر وإلغاء الأنا مستغرب كونه صدر عن أبي الاقتصاد السياسي الغربي، خاصة إذا نظرنا إلى مدى انحراف الاقتصاد الغربي المعاصر عن هذه القيم، ولاسيما عندما نرى فيما بعد نسبة ما ينفقه العالم الصناعي كمساعدات للعالم الثالث، و ما ينفق على التسلح في العالم الغربي. إن ما سبق من كلام آدم سميث هو امتداد لكلام أرسطو عندما اعتبر أن " الفضيلة البشرية ليست بالضرورة خيراً للجسد فقط بل كذلك للوجدان".

عُنيَ الفكر الاقتصادي بدراسة الدافع Motivation الذي يقبع وراء أي فعلة اقتصادية وكان العامل صاحب الحظ الأوفر بالعناية كدافع أساسي هو المصلحة الشخصية Self-Interest وباتت العقلانية أو "الرشادة" Rationality بناء على هذا الاعتبار تقاس بالقدرة على تعظيم هذه المنفعة، لكن الوصول لأعلى فاعلية اقتصادية برأي فوكوياما ليس بالضرورة أن يكون عن طريق عقلانية المنفعة الشخصية للأفراد لكنه قد يكون باجتماع الأفراد القادرين على العمل الجماعي، لأنهم يكوّنون مجتمعاً يحمل قيماً أخلاقية.

لكن تُرى هل كان الغرب أميناً على الاقتصاد العالمي وهل قارب أخلاقيات آدم سميث؟ لو دققنا في الوضع الأخلاقي- الاقتصادي الحالي لوجدنا:

- أن عدد الأشخاص الذين لايتجاوز دخلهم اليومي دولارين 2 ارتفع من 50% منذ عام 1980، حتى وصل إلى 2.8 مليار إنسان بمعنى تقريباً نصف سكان العالم وذلك في الزمن الأكثر ليبرالية.(كما يذكر البنك الدولي)

- انخفضت حصة البلاد الأكثر فقراً في العالم من التجارة لأقل من 40% منذ 1980 ليصل لأقل من أربعة بالألف 0.4%.(حسب منظمة الأنكتاد)

- أضخم 500 شركة عالمية تحظى بحوالي 70% من التجارة العالمية وهذه الحصة في تزايد.

- تقدر الأمم المتحدة بأن الدول الفقيرة تخسر ملياري 2$ دولار كل يوم بسبب عدم عدالة القوانين التجارية التي تسنّها منظمة التجارة العالمية وهي تساوي 14 ضعف ماتتلقاه تلك الدول من معونات.

- هناك فقط 33 دولة نامية من أصل 130 ازداد نموها الاقتصادي بأكثر من 3% للشخص الواحد بينما كان ناتج الدخل القومي للشخص الواحد قد انخفض في 59 دولة، وإن هناك 1600 مليون شخص أصبح وضعهم الاقتصادي الحالي أسوأ من 15 سنة مضت (الأمم المتحدة)

- إن أغنى دول العالم تمتلك 80% من دخل العالم بينما آخر خمس من البشر الفقراء لايملكون إلا 1%، إن الفجوة في توزيع الثروة العالمية قد تضاعفت مابين عامي 1960 و2000.(تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة 1999)

- إن الفجوة بين الدول الفقيرة والغنية تتوضح أكثر إذا عرفنا أن الفرق بين معدل الدخل الحقيقي للفرد مابين الدول الغنية والفقيرة كانت في أوائل القرن التاسع عشر مابين 1 إلى عشرة وفي عام 2000 ارتفعت هذه الفجوة مابين 1 إلى 60 (دخل $500 إلى $29000)

- لقد كلفت آخر جولات التجارة دول شبه الصحراء الأفريقية خسارة مايعادل 600$ مليون دولار يومياً، مما حدى بثلاثين دولة أفريقية التوقيع على بيان ضد الاتفاقيات التجارية.

- الجدير بالذكر أن 12 دولة فقط من أصل 29 من الدول الأكثر فقراً اقتصادية تملك مكتباً لها في منظمة التجارة العالمية لأنها ببساطة لاتملك تمويل مكتب في سويسرا، خاصة إن هناك مايقرب من 50 اجتماع أسبوعياً للمنظمة، مما يجعل إمكانية حضور هذه الاجتماعات والمشاركة أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للدول الفقيرة، كما أنه تجرى في ردهات المنظمة محادثات جانبية مهمتها الضغط على الدول الفقيرة وتهديدها بقطع المعونات كنوع من أساليب الرشوة والتأثير على تمرير بعض القوانين باعتراف المنظمة نفسها.

- لقد ضاعفت الدول الصناعية من حجم حمايتها للدعم الزراعي منذ جولة الأورغواي، رغم طلب المنظمة رفع الدعم عن المنتجات الزراعية للدول الأعضاء، وذلك لأنه لو فتحت الدول الغنية أبوابها لمنتجات الدول الفقيرة والنامية لازدادت صادراتها (أي الدول الفقيرة) بما يقارب $700 مليار دولار (حسب تقرير التجارة والتنمية في منظمة الأنكتاد 1999)

- على سبيل المثال تفرض الولايات المتحدة تعرفة جمركية على مادة السكر تصل إلى %151، وفي غرب أوربا 176%، و278% في اليابان، بينما لاتفرض أوغندا سوى 25% ولازالت الدول الصناعية تضغط عليها لتخفيض الحواجز الجمركية والتي ستؤثر في 250ألف أوغندي يعشون على تصنيع السكر.

- لقد ازدادت الأصول الثابتة لأضخم 100 شركة عابرة للقارات بما يعادل 697% مابين عامي 1980 و1995، بينما انخفض عدد العمال في تلك الشركات.

- هناك فقط 6 ست شركات ضخمة تسيطر على الإعلام الأمريكي (1983كانت هناك 50 شركة إعلامية) مما يجعل حرية التعبير محاصرة و تحابي الشركات المعلنة على حساب العدالة بشكل عام والعدالة التجارية منها خاصة.

- لقد أعلنت منظمة التجارة العالمية أن هناك أكثر من 1500 خطأ في اتفاقية الغات كلها كانت على حساب الدول النامية.

- لقد احتكرت الدول الصناعية 97% من حقوق الملكية في العالم و80% من حقوق الملكية في الدول النامية، حتى أنه من أصل 26088 طلباً لحقوق الملكية مابين عامي 2000 و2001 لم يكن هناك سوى 31 طلب من أفريقيا.

قال رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون في تصريح نشر بموقع داونينغ ستريت إن سوء التغذية يتسبب في موت طفل كل خمس ثوان و25 ألف شخص يوميا.

أمام الواقع المرير للانحطاط الأخلاقي-الاقتصادي من القيم اللاإنسانية والتي كان آخرها تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي حمّلت "تغيّر العادات الغذائية" في البلدان النامية، مسؤولية إرتفاع أسعار الغذاء في العالم، معتبرة أنه "إذا كان ثلث الشعب الهندي سيأكل مرتين في اليوم، وإذا بدأ 100 مليون صيني بشرب الحليب"، فإن ذلك سيتسبب بارتفاع أسعار الغذاء"، إذاً سبب الأزمة الغذائية الحالية برأي المستشارة الألمانية هو المواطن في الهند والصين لأنه قرر أن يعيش كبقية البشر، وأحب شرب الحليب وتناول وجبتين في اليوم بدل واحدة!

أمام هذه الوقاحات، والواقع المرير للمشهد الاقتصادي- الأخلاقي، حاول د.أمارتيا سين Amarty Sen الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 1998 في كتابه حول الأخلاق والاقتصاد “On Ethics & Economics" أن يعيد الاقتصاد إلى حظيرة الأخلاق بعد أن فلت من عقاله، حيث شكك بنجاح حرية السوق في العالم، وأقر بأن هذه الحرية لا تخبرنا كثيراً عن ماهية الباعث المختبئ وراء أي عمل اقتصادي في أي اقتصاد كان, فاليابان مثلاً كانت مثالاً حقيقياً بالشواهد الرقمية الدالة على أن السلوك المنظم الذي يكون دافعه الواجب, والولاء, والنية الطيبة، قد لعب دوراً رئيسياً في النجاح الصناعي و ما أسماه Michio Morshina "الأخلاق اليابانية" حيث أن ذلك النمط من السلوك يصعب بالتأكيد مطابقته مع أبسط صور سلوك المصلحة الشخصية، لقد كان أمارتيا واحداً من أهم الاقتصاديين-الأخلاقيين الذين أثاروا مواضيع أخلاقية سامية بروح اقتصادية تنشد العدالة في الأرض، فقد أثار مواضيع الجوع، وانعدام المساواة في توزيع الثروات، وموضوع الحرية كمدخل للتنمية الاقتصادية.

حاول أمارتيا أن يذكر القوى الاقتصادية العالمية بأن الطلاق بين الأخلاق والاقتصاد طلاق غير بائن، وأن بشائر ظهور مدرسة الاقتصاديين – الأخلاقيين التي بدأها آدم سميث من اسكوتلاندا سيتابعها أمارتيا من بنغلادش، وهي قادمة لتعيد قوامة الأخلاق على الاقتصاد، ولو اضطر قوى العالم المستضعف أن يطلب "الاقتصاد" على بيت الطاعة، حتى يسود العدل في الأرض، وتقوم قوى الاقتصاد العالمي بأداء أمانة العدل في الأرض: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا" النساء 58.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=595&idC=3&idSC=9

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك