الانكسار الحضاري: استخدام اللغة العربية في المساجد الأمريكية نموذجاً

أسامة قاضي

 

 

اللغة ليست مجرد رسم حروف تزين بها الكتب، يتواطأ مجموعة من الناس على استخدامها، بل هي وعاء لفلسفة هذا الشعب وحافظ لتاريخهم وتراثهم، واللغة العربية خصّها الله من بين كل لغات الأرض كي تنطق بها ألسنة الملايين من المسلمين فقرر أن رسم حروفها العربية مسؤول عن تشكيل الذات الحضارية الإسلامية.

 قد يفهم المرء أن المواطن الذي يعيش بين ظهرانيّ بلاد العالم الثالث المولع كأمم "مغلوبة" حضارياً بتقليد "الغالب" الحضاري لأنها تحسب فيه الكمال كما وصّف ذلك ابن خلدون، لكن المسلمين في الغرب أسوأ حالاً من أخوتهم المغلوبين في العالم العربي من حيث فقدان "الثقة الحضارية" بالنفس والشعور بالانكسار.

 إن اللغة العربية لاتجد من ناطقيها للأسف الدعم الكافي بحجة اتهام حماتها بكل أصناف الاتهامات الشعوبية والقومية والعنصرية والعلمانية، ولكنني أعتقد أن على قادة الجالية وروادها وخطبائها ومفكريها أن يضعوا الأمور في نصابها ولايعتدّوا بهذه الأقوال طالما أن دعوة حماية اللغة العربية لها مايبررها.

 إن معظم المسلمين يفضل أن تكون اللغة التي تجمعهم هي اللغة الإنكليزية ولو تحدث الكثير منهم بلكنة ثقيلة، وبأخطاء لغوية انكليزية تؤذي والحقيقة رغم تعاطفي الشديد للحديث باللغة العربية لكنني أجد أن المزج بينهما يكون حلاً وسطاً مقبولاً على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل، كي نؤكد على أهمية تعلم اللغة العربية، وبنفس الوقت لانخسر المستمعين ممن لاينطقون بها أو لازالوا في طور تعلمها .

 لقد ذكر فضل الرسم القرآني العربي عشر مرات في القرآن "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" 2- يوسف، "وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق" الرعد37، " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"النحل 103... "إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" 3- الزخرف.

 أتساءل لو أن الله عزوجل أنزل القرآن باللغة الفرنسية أو الأوردو وذكرت اللغة الفرنسية أو الأوردو عشر مرات في القرآن ، وقيل لساناً فرنسياً مبيناً – مثلاً -ألن يشكل هذا حافزاً لأن يتحدث المسلمون اللغة الفرنسية ويعلّموها أبنائهم؟

 إن التراث الذي خلفته الحضارة الإسلامية من أول نص قرآني وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر مخطوطة لعلماء الأمة كلها مكتوبة باللغة العربية، رغم أن الكثير من أولئك العلماء لم يولدوا في جزيرة العرب ابتداء بالبخاري ومروراً بابن الجوزي وابن حزم وابن سينا وابن رشد وحتى سيبويه مؤسس قواعد اللغة العربية.

 لقد جاء في أحد أعداد مجلة المنار التي أسست عام 1898 على يد العلامة محمد رشيد رضا المولود في قرى لبنان تسمى القلمون، في 27/جمادى الأولى/1282هـ، 1865م:

 "إن اللغة رابطة من روابط الجنس ، وقد حرم الإسلام التعصب للجنس لأنه مفرق للأمة ذاهب بالاعتصام ... وقد كان من إصلاح الإسلام الديني والاجتماعي توحيد اللغة بجعل لغة هذا الدين العام لغة لجميع الأجناس التي تهتدي به... فاللغة العربية ليست خاصة بجيل العرب سلائل يعرب ابن قحطان ، بل هي لغة المسلمين كافة ولغة شعوب أخرى من غير العرب ، وطوائف من العرب غير المسلمين ، وما خدم الإسلام أحد من غير العرب إلا بقدر حظهم من لغته ، ولم يكن أحد من العرب في النسب يفرق بين سيبويه الفارسي النسب وأستاذه الخليل العربي في فضلهما واجتهادهما في خدمة اللغة ، ولا بين البخاري الفارسي وأستاذه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه العربيين في خدمة ... ولا نعرف أحداً من علماء الأعاجم له حظ من خدمة الإسلام وهو يجهل لغته ولولا أن ظل علماء الدين في جميع الشعوب الإسلامية مجمعين على التعبد بقراءة القرآن المعجز للبشر بأسلوبه العربي وأذكار الصلاة وغيرها بالعربية ، ومدارسة التفسير والحديث بالعربية ؛ لضاع الإسلام في الأعاجم منها . "

 إن اللغة أداة للخطاب وهي تعبر بحق عن المخزون الثقافي للنص الذي يحمل بدوره فلسفة هذه اللغة، وإن ترجمة النصوص القرآنية والحديثية وحياة الصحابة (نفس اسم الكتاب الذي حرره الإمام الكاندهلوي الهندي الأصل باللغة العربية)، وحتى كتب التراث من تفاسير وفقه وفلسفة ومنطق وكتب تراجم الرجال نادراً ماتوصل المعنى، فضلاً عن تشويه المعنى في كثير من الأحيان، فمفردات القلب والفؤاد، واللب، والنهى، والجنة والفردوس، وجهنم وسقر، النجاح والفلاح، الرحمن، الرحيم، القدوس، الموت والوفاة، الحواري، الاستخلاف، والعمران، والتزكية، والتخلية والتحلية، ومفردات كثيرة لايوجد لها بدائل حقيقية لغوية في اللغة الانكليزية وآلاف المصطلحات التي لامجال لذكرها الآن لن تجد لها سوى تفسيرات ركيكة لابل مضللة أحياناً لأن معظم المترجمين يلجأ لمصطلحات ومعان من الثيولوجيا الغربية (الغيبيات) التي تحمل معاني لاتليق بالله عز وجل بل تعتمد على مدخلات أسطورية لوصف الإله.

 لقد أمر الجنرال ضياء الحق عام 1978 بتدريس اللغة العربية كمادة أساسية في المدارس الحكومية في ثلاث مراحل تبدأ من الصف السادس وحتى الثامن, إضافة إلى تأسيس أقسام خاصة تعنى بتدريس العربية في معظم الجامعات الحكومية، إن السلطان عبد الحميد- السلطان الرابع والثلاثين من سلاطين الدولة العثمانية الذي استلم الحكم في 11 شعبان 1293هـ / 31 أغسطس 1876م قام بإدخال اللغة العربية كلغة رسمية للدولة في الحكومة والتعاملات واصطدم مع القوميين الأتراك الذين خافوا من زوال التحكم والسيطرة التركية على الدولة لو عربت الدواوين.

 إن علماء أصول الفقه خرجوا بقاعدة رائعة "مالم يتم الواجب إلا به فهو واجب" فمابالك إذا لم تكن تصح الفروض الخمسة اليومية لمليار وثلاثمائة مليون مسلم إلا بقراءة اللغة العربية القرآنية وإلا بأذان وإقامة بلغة القرآن العربية، أليست معرفة مايقرأ هذا المسلم واجباً حتى يعي مايقول، أليس في كل ماذكرناه دافع وحافز لتعلم اللغة العربية وجعل الأفضلية لها في الخطاب على اللغة الإنكليزية فيما بين المسلمين، أم أننا سنسمح لقراءة القرآن والأذان باللغة الإنكليزية قريباً كما حاول طرحها بعض الجهّال في الولايات المتحدة؟

 أنتهم الجنرال ضياء الحق والسلطان عبد الحميد والإمام رشيد رضا وغيرهم كثر بالتعصب للغة العربية أم نبارك عملهم الذي يحاول الحفاظ على لغة القرآن؟

 يستغرب المرء أنه بلغ من درجة الانكسار الحضاري أن يعيّن مدير المدرسة الإسلامية –التي تدرس العربية والإسلاميات- شخصاً غير ناطق بها، أو أنه أمريكي حديث العهد بالإسلام، أو أنه في حالات مستعصية غير مسلم أصلاً، أليس من الطبيعي والمنطقي أن يقوم الصومالي بتعليم ابنه اللغة العربية وأن تكون اللغة العربية هي اللغة المشتركة له ولعائلته مع المسلمين خاصة العرب منهم وخاصة أن دولته عضو في جامعة الدول العربية؟ لماذا إذاً هذا التحيز ضد لغة القرآن؟

 لماذا نقدم كل قوميات الأرض على لغة القرآن ونتهم بعدها من ينافح عنها بالتعصب؟ أليس العكس هو الصحيح؟

 لقد أكدت منظمة اليونسكو ما مفاده "أنّ عدداً من لغات العالم مهدّدة بالانقراض، ومن بينها اللغة العربية"، لابل إن منظمة الأمم المتحدة في نيويورك تتجه إلى إلغاء العربية من بين اللغات العالمية الرسمية في المنظمة وهي: الإنجليزية، الإسبانية، الفرنسية، الروسية، الصينية، العربية.

 وأذكّر خطباء المساجد في المهجر بنصوص مالك والشافعي وأحمد فيما نقله ابن تيميّة رحمه الله

 " وما زال السلف يكرهون تغييرَ شعائر العربِ حتى في المعاملات وهو التكلّم بغير العربية إلاّ لحاجة، كما نصّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد ....أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة ، وكرهوها لغير الحاجة ، ولحفظ شعائر الإسلام" الفتاوى 32/255، وأكثر من تشدد في الحرص على اللغة العربية كان الإمام مالك حتى يكاد لايسمح بالتكلم بغيرها مطلقاً في المسجد، ورغم أني لا أؤمن بهذا التشدد المالكي خاصة في بلاد الغرب، ولكن هذا يدلك حرص علماء الأمة على لغة القرآن وغيرتهم عليها.

 لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة ولكن ماتشهده لغة القرآن العربية من ضغوط ومحاصرة عالمية يؤرق الكثير من الغيارى على الرسم العربي القرآني حتى يبدو وكأنها أمر مُدبرٌ لمحاصرة اللغة العربية، وأجدني متفقاً مع ماقاله الدكتور عبد السلام المسدي : "لاوسيلة لزعزعة أية ثقافة إنسانية إلا بخلخلة مرجعياتها اللغوية"، وللأسف نحن في مهاجرنا مشبعون بروح "الانكسار الحضاري" نساهم في إنجاح هذا التدبير من خلال استخدام الإنكليزية كأساس للتخاطب مع المصلين من على المنابر، ومن خلال اختيار طاقم للمدرسة العربية والإسلامية لاينطق بها وغير ملم بها بدل أن يكون الإلمام بها شرطاً للعاملين في هيئاتها التعليمية.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=877&idC=2&idSC=8

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك