التمركز والتمثيل السردي للآخر (الأدب الجغرافي أنموذجا)
التمركز والتمثيل السردي للآخر (الأدب الجغرافي أنموذجا)
عبدالله إبراهيم*
(1)
كانت حقبة القرون الوسطى مرحلة تاريخية شهدت ظهور مرويات ثقافية كثيرة تضمّنت تصورات شبه ثابتة للأعراق والثقافات والعقائد، وتلك التصورات تمثّل معيارا يتدخّل في رفع قيمة ما أو خفضها لدى أي مجتمع أو ثقافة. وليس خافيا أن الحكم المسبق على ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو دينية سيؤدي إلى نتيجة تضفي مكانة رفيعة عليها، أو تسلبها مكانتها الحقيقية، والصور التخيلية المتشكّلة في أذهان المجتمعات، بفعل الخلافات الدينية، والصراعات السياسية، وتباين المنظومات القيمية، والأنساق الثقافية، أدّت خلال تلك الحقبة الطويلة إلى ترسيخ صور منقوصة لبعضها. وما دامت تلك المرويات توجّه أفكار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة والمفكّرين والفقهاء، وكل مَنْ يصوغ الصور الجماعية الذهنية الخاصة بالآخر، وبخاصة المدونات الوصفية والسردية والعجائبية، فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة من الأحكام غير المنصفة بحق الآخر المختلف.
إنّ العودة إلى مرويات الثقافة الإسلامية (نقصد بالمرويات هنا على كل تعبير يقوم بوظيفة تمثيلية للمرجعيات الثقافية والعرقية والدينية، بغض النظر عن الصيغة) طوال القرون الوسطى، تبين بجلاء أن صورة الآخر مشوّشة، ومركّبة بدرجة كبيرة من التشويه الذي يحيل على أن المخيال الإسلامي المعبّر رمزيا وتمثيليا عن تصور المسلمين للعالم، قد أنتج صورا تبخيسية للآخر. فالعالم خارج دار الإسلام-كما قامت تلك المرويات بتمثيله-غفل، مبهم، بعيد عن الحق، وهو بانتظار عقيدة صحيحة لإنقاذه من ضلاله، ولا تخفى التحيّزات الخاصة بذلك التمثيل، فهي مكشوفة وواضحة، وكانت صورة الآخر الدونية مثار قبول واحتفاء في كثير من الأحيان لدى المؤرخين والجغرافيين، ولم يجر-في حدود علمنا-نقد معمّق لها، ولا كشف التنميطات الثقافية الجاهزة للآخر، لم يكن الأمر خاصا بتلك المرويات في دار الإسلام وحدها؛ فالقرون الوسطى تميزت بأنها تعنى بثبات المعايير وتكرارها، والنظام الفكري الشائع خلالها ينظر إلى الظواهر الطبيعية والبشرية والثقافية نظرة قارّة، فالإحساس بالتغيّر محدود جدا، وثمة ثقة شبه كاملة بضرورة خضوع الظواهر البشرية والثقافية والدينية لتفسيرات مركزية مطلقة، وغير خاضعة للتغيرات الزمنية. وكان ذلك النظام يستعين بطرائق تحليل تقليدية تفتقر إلى قوة التعليل، الأمر الذي جعل المعرفة الخاصة بتلك الحقبة هشّة، وضعيفة، وتنطوي على تناقضات كثيرة، لم تصمد بوجه النقد؛ لأنها قائمة على التنميط غير المعلّل، والمفتقر للشمول الذي يأخذ في الاعتبار العناصر الحقيقية للظاهرة في سياقاتها الثقافية والتاريخية، وليس في حالة تجريد تام كما كان التصور القديم يفترض ذلك، ولما كانت تلك المعرفة تقوم على ركائز ناقصة، وغير متكاملة، ومتعالية على شرطها التاريخي، فمن الطبيعي أن تتّصف عموما بالنقص وعدم الإحاطة بموضوعاتها، والاختزال الواضح في الأسس التي تقوم عليها.
كان هذا التصور التقليدي للآخر إبان تلك الحقبة يقيم معرفة تخيلية ملتبسة مع نفسها، يتم تعميمها وفرضها استنادا إلى السجال، وليس التجربة والمعاينة والاكتشاف المباشر، وقد لا تراعى في كل ذلك الجدوى المستخلصة منها، ولا الهدف المراد تحقيقه، سوى الامتثال للفكرة الراسخة القائلة بالتفاضل، فالأنا مفعمة بقيم سامية، والآخر يفتقر إليها، الأنا فاعل، والآخر منفعل. حينما تصهر معا كل العناصر المكونة لظاهرة ما، يمكن الحديث عن اقتراب إلى حقيقة الشيء.
تضافرت المرويات من أجل تمثيل الذات والآخر استناداً إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذت شكلين: ففيما يخص الذات أنتج "التمثيل" ذاتاً نقيّة، وحيويّة، ومتعالية، ومتضمّنة الصواب المطلق، والقيم الرفيعة، والحق الدائم؛ فضخّ مجموعة من المعاني الأخلاقية المنتقاة على كل الأفعال الخاصة بها، وفيما يخص الآخر أنتج التمثيل "آخر" يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً، والخمول والكسل أحياناً أخرى، وذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك، حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية، وبذلك أقصى كل المعاني الأخلاقية المقبولة عنده، واستبعد أمر تقبّل النسق الثقافي له، فحُمّل الآخر، من خلال تفسير خاص، بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع القيم الإسلامية. وبذلك اصطنع التمثيل تمايزاً بين الذات والآخر، أفضى إلى متوالية من التعارضات والتراتبيات التي تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني، وتخليصه من خموله وضلاله وبوهيميته ووحشيته، وإدراجه في عالم الحق، فالمرويات الكبرى لا تنقطع عن مرجعياتها الثقافية، وهي سرود شاملة لا تعرف البراءة في التمثيل، وليست شفافة، إنما تشتبك مع مرجعياتها في نوع من التمثيل الكثيف، وتصوغها صوغا رمزيا، فترشح من تضاعيفها كل المواقف القيمية والثقافية.
هذه الآلية التي وفرت اعتصاماً بالذات وتحصناً وراء أسوارها المنيعة، وإقصاء للآخر وتشويه حالته الإنسانية، هي من نتائج ثقافة التمركز حول الذات داخل دار الإسلام، والتمركز نمط من التفكير المترفّع الذي ينغلق على الذات، ويحصر نفسه في منهج معين، ينحبس فيه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته. ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته. ويحتاج هذا النمط من التفكير إلى نقد متحرر من أية مرجعية ثابتة، سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية، فالمرجعية التي يمكن اعتبارها الموجّه لعمله هي الممارسة النقدية التحليلية الجريئة التي تتعرّض لفك التداخل بين الظواهر التي تلازمت فأوجدت هذا التفكير الذي يقوم على الرغبة والحاجة، وليس على جمع المعطيات الكلية التي توفر له درجة من الموضوعية والحياد والصدق.
تمثل تلك المرويات ذاكرة يصار إلى استعادتها طبقا لحاجات متصلة بالوعي الجماعي في ظروف معينة من أجل أهداف مشتركة، والبحث في الصور المتشكّلة في المخيال الإسلامي للآخر ليست موضوعا أغلق عليه كتاب الماضي، إنما هي قضية تتصاعد بفعل الظروف المعاصرة، ويتم استخدامها نفسيا لإعادة التوازن، فالماضي يدفع به ليكون جزءا من صراعات الحاضر، وهذا الاستخدام لمعطيات الماضي، يجعله مباحا، وقابلا للاختلاق في كل موضوع يستعصي على الحل، وهو -فيما نرى- يحجب النظر عن القضايا الحساسة، ويتسبب في عماء دائم، يحول دون التفكير الموضوعي بالواقع.
وينبغي أن نؤكد على أن كل مركزية تقوم على فكرة الاختلاق السردي الخاص لماض مرغوب يشبع تطلعات آنية، ويوافق رغبات قائمة، فهذه سُنن المركزيات، وبمواجهة الحاجة إلى توازن ما تُصطنع ذاكرة توافق تلك التطلّعات، أو يتم تعويم صور من الماضي، لغايات خاصة. وقد ذهب "إدوارد سعيد" إلى مضمون هذه الفكرة، حينما أكد على أن ثمة منهجا لاستخدام الذاكرة بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي، وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب يؤدي وظيفة من نوع ما.. ومن هنا ليست الذاكرة بالضرورة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة.. وذلك يعود إلى أن الاهتمام بالذاكرة من أجل ماض مرغوب فيه يمكن استعادته هي ظاهرة محمّلة مشحونة، وقد برزت إلى الوجود حديثا نتيجة التغيرات المربكة في مجتمعات كبيرة تفوق التصور، مجتمعات بشرية ضخمة، واسعة الانتشار، وقوميات متنافسة، ولعل الأمر الأكثر أهمية، فيما يخص ظهور الذاكرة التي يمكن الانتفاع بها لأداء وظائف تحتاجها الأمم والمجتمعات في واقعها المعاصر، هو تناقص فعالية الأواصر الدينية والعائلية والروابط السلالية، ويتطلع الناس الآن إلى هذه الذاكرة المتجدّدة، سيما في شكلها الجمعي، ليمنحوا أنفسهم هوية متماسكة، وسرد قومي، ومكان في العالم(1).
إنّ الأمثلة في عالمنا المعاصر أكثر من أن تحصى في مجال اختلاق ذاكرات تاريخية وعرقية ودينية، والبحث المسكون بأوهام كبرى للانتساب إلى ماض عريق كمعادل موضوعي لوهن قائم، أو لانتزاع شرعية في عالم محتدم بصراع الهويات والتطلعات والآمال، ومشبع في الوقت نفسه بحالات انكسار للقيم التقليدية الموروثة، وانهيار لنسق العلاقات القديمة، وهذا التوتر يضخّ رغبات دائمة تريد استخدام الماضي استخداما أيدلوجيا بما يضفي على الأنا سموّا ورفعة، والآخر خفضا ودونية. وإعادة قراءة المرويات في ضوء هذه الحاجات، يسهم في هذا الضرب من الصراعات، فالأمم تتساجل فيما بينها-أيضا- عبر الصور الإكراهية التي تشكلها بواسطة السرود لغيرها. وقوامها إن هو إلا نسيج متشابك من التصورات والمرويات الخاصة بها عن نفسها، وعن الأمم الأخرى. وغالبا ما تحمل تلك التصورات عبر التاريخ مدونات وصفية أو تخيلية، تتوارى في تضاعيفها الصور الكلية للمشاعر والتطلعات والتجارب، والقيم الدينية والنفسية والأخلاقية. واستنطاق تلك المتون إنما هو استنطاق لذاكرة، ونقدها إنما هو محاولة لوقف استخدامها كأيدلوجيا حيّة في نزاعات معاصرة، ولم يكن تشويه الآخر، قد أثمر عن فائدة حقيقية، ولن يكون ممكنا وقف ذلك إلا استنادا إلى رؤية نقدية تكشف ذلك النسغ المتصاعد في الفكر والسلوك المعاصرين.
إن النظر إلى المركزيات الكبرى في التاريخ الإنساني من زاوية كونها نتاج مرويات ثقافية متنافسة يوسع المجال أمام الدراسات المخيالية التي استبعدت بتأثير من فكرة الحداثة الغربية، الحداثة التي لا تعدو أن تكون رواية من نوع خاص للتاريخ أنتجها المخيال الغربي المتخفّي تحت غطاء العقلانية في ظل ظروف خاصة، وهذه النظرة إلى المركزيات تسعى لإعادة الاعتبار إلى المرويات الثقافية التي تتخفّى وراء الستار السميك للمفاهيم والمناهج فتأخذ شكل تحليلات موضوعية، وتتجرد غالبا عن ذلك فتكون مرويات سردية، فيما هي تخفي دائما درجات من التمثيل السردي الذي يتدخل في صوغ العلاقات الإنسانية، والمفاهيم الفكرية، والتصورات الخاصة بالأنا والآخر.
(2)
إنّ الحديث عن الصورة التي ارتسمت للعالم في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى يوجب، بداية، البحث في مركزية دار الإسلام خلال تلك الحقبة المشبعة بالسجالات الدينية؛ فالمركزية الإسلامية، ومفهوم "دار الإسلام" سيقومان بتشكيل ملامح خاصة ومتوقّعة لصورة الآخر، تلك الصورة التي ستلوح في أفق انتظارنا طبقا للحدود التي تسمح بها مفاهيم التمركز. ومن المهم أن نتحرّر من ضغط المفاهيم، ودلالاتها الموروثة والمملوءة بثقافة عصرها، وذلك لن يتم إلا بتداولها في حقل المعرفة النقدية الهادفة إلى امتصاص شحن الغلواء الكامنة فيها، فالموجّهات الفكرية لمصطلح "دار الإسلام" تتدخّل في ترتيب رؤيتنا لمن هم خارج تلك الدار؛ لأنها مجال ثقافي مشبع بمنظومة عقائدية متجانسة، تختلف عن المنظومة الخاصة بالآخر، إنها تدفع بنا إلى موقف منه أكثر مما تسهل لنا استخلاص صورة حقيقية له، فالمخيال مكوّن ثقافي يتشكّل عبر التجارب التاريخية والعلاقات المتنوعة، ويصدر أحكامه عن الآخر ضمن شبـكة محكمة ومتلازمة من تلك التصورات الخاصة به.
وقد نظر إلى الشعوب المقيمة خارج دار الإسلام باعتبارها شعوبا ضالة ينبغي أن تمتثل للشريعة الإلهية، ويجب أن يبسط الإسلام فيها قيمه الأخلاقية. هناك حرب قائمة بين دار الإسلام ودار الحرب، حرب معلنة أو مضمرة، وهي لا تنتهي إلا حينما يدخل الجميع إلى الإسلام أو يخضعون له؛ فالسلام بين الدارين غير ممكن من ناحية شرعية؛ لأنه مصالحة بين نقيضين: حق وباطل، هدى وضلالة، ووجود هدنة لا يعني أن تضع الحرب أوزارها دائما، فالهدنة مؤقتة لا تزيد على عشر سنوات، وللمسلمين حق نقضها من طرف واحد، ومواصلة الجهاد، متى وجـدوا ذلك ممـكنا وضـروريا(2). وكان هذا يشمل كل الممالك المتاخمة لدار الإسلام، باستثناء الحبشة التي استثنيت من ذلك لأسباب تتصل بموقفها من الإسلام في مرحلته الأولى.
لم تكن الحدود الجغرافية بين الدولة الإسلامية والدول المجاورة لها في يوم ما ثابتة، ولم يجر طوال القرون الوسطى في أي مكان من العالم الاتفاق النهائي على حدود ثابتة معترف بها بصورة كاملة، والقول بحدود خاصة وشرعية فكرة تمخضت عن النزاعات الدائمة بين الدول الأوربية في القرن السابع عشر، وظل الشك يلازم تطبيقها النهائي إلى الآن. فلم يحدث أن أخذت دولة لها قوة حقيقية في القرون الوسطى أمر سيادة الدولة المتاخمة لها بعين الجد الكامل، فعنصر القوة، وليس الحق، هو المهيمن في العلاقات السياسية بين الدول، وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على مجموعة الدول التي كانت تتنازع السلطات ضمن دار الإسلام فيما بينها أو مع الدول المتاخمة لها. وهو يفسر لنا جزئيا ظهور مجال فاصل بين دار الإسلام ودار الحرب، مجال فرضه التنازع الدائم، وشكل دارا ثالثة، هي (دار العهد) أو (دار الصلح). وغني عن البيان تفصيل القول في أن هذه الدار المزدوجة الولاء بين الدارين المذكورتين كانت هشة التكوين، ضبابية الهوية، مخترقة دائما من إحدى القوتين المحاذيتين لها، تقوم بدور التخوم الفاصلة، حينما تغيب التخوم الطبيعية المانعة لتقدّم هذا أو ذاك، إلى ذلك كانت سهلة الاختراق، فنسيجها الاجتماعي والثقافي والعقائدي خليط مستعار من هذا وذاك. وهي دار رمزية يتزحزح مكانها بصورة دائمة، لا تعرف الثبات أبدا، وكثيرا ما ينعدم وجودها.
كان التصور الشائع عن الذات والآخر يستمد حيويته من المركزية الدينية، أي تلك البؤرة التي تنبثق منها قيم الحق إلى الأبد. وبالنظر إلى أن التصور يذهب إلى اعتبار أن الله هو مصدرها، وأنه قد حلّ هنا "دار الإسلام" ولم يحل هناك "دار الحرب" فينبغي إذا الوصول إلى نتيجة واحدة: قيم دار الإسلام هي الحقيقية، وهي الشاملة، وهي المطلقة الصواب. وقيم الآخر مثار استغراب، واستهجان؛ فهي وثنية، محقّرة، مدنّسة، يلزم تطهيرها من النجاسة الوثنية. قيم الآخر هي موضوع لحكم القيمة وقليلا ما استأثرت بوصف موضوعي. وفي عصر يتصدّر فيه الشعور الديني أي شعور آخر، لا مكان للمصالحة والشراكة في القيم والأخلاقيات. ولكي يظلّ ذلك الشعور حيّا، متوهجا، ومتّقدا بالتنازع القيمي لابد من تفريق حاسم قائم على ثنائية الحق والباطل بين قيمـ(نا) وقيمـ(هم). هذه الثنائية تصوغ وعي لاوعي المجموع، وتجعله يبني تخيلاته ومواقفه وأحكامه واختياراته على أساس فكرة التفاضل والتراتب التي تقود إلى الإعلاء من شأن الذات وخفض قيمة الآخر. لقد تم تخطّي الإنسان كذات، وصار التركيز عليه كموضوع للقيم، وأهميته لا تتحدّد من كونه بشرا، إِنَّمَا في اعتناقه ضربا من القيم دون غيره.
سلّم القيم الذي صاغه الإسلام، وتحول إلى جزء مكمّل من العقيدة حسب الفهم الشائع لها سيتدخّل في تركيب صور مشوّهة وإكراهية للآخر. وبالإجمال فصور الآخر منتقصة، يشمل الانتقاص بالدرجة الأساس القيم الشائعة لديه، ويمتد ليشمل الإنسان حامل تلك القيم، هنالك تشويه لحقيقة الآخر ذهنيا وجسديا وعقائديا، ففضلا عن البلادة والجهل والضلال والسفه والبوهيمية، يتراوح الآخر بين تصغير يشوش إنسانيته، كما هو الأمر بالنسبة لأقوام أقصى الشمال حيث يفترض أن تكون بلاد يأجوج ومأجوج، أو تضخيم مقصود كما هو الأمر في حالة الزنوج والصقالبة وكثير من الأقوام الشمالية.
تتصف القيم الدينية بالثبات، وكان الفهم الديني للحياة يقوم دائما بمراجعات دقيقة كيلا يخرم الزمن ثبات القيم، فتصاب بالفساد بسبب التحوّل، بعبارة أخرى فالقيم الدينية تتخطّى البعد التاريخي، ولها قدرة الشمول والديمومة والثبات؛ لأنها قيم مكانية وليست زمانية. فهي لا تقرّ بالتحول، ثابتة، ساكنة، دائمة الصحة، تريد للإنسان أن يتكيّف معها، فيظل في حالة تصحيح دائم لمساره، لكي يمتثل لها، هي المركز المشع الدائم، وهو يدور في فلكها، قربه وبعده عنها هو الذي يحدد قيمته، ما دامت القيم الدينية هي التي تحدد أهمية الإنسان فمن الطبيعي أن تجرد قواها كاملة لتضمّه إلى عالم الحق. فحيثما تكون ثمة حقيقة مطلقة الصواب ينبغي نشرها، يسود العنف والقسوة كوسيلتين لذلك. أصبحت القيم جوهرا، وصار الإنسان عرضا.
تُستمد القيم من طبيعة المجتمع الذي رسمه الإسلام، تلك القيم هي المعيار الوحيد لصواب المسار الذي ينبغي على المرء أن يسلكه، ذلك سيؤدي لا محالة إلى وجود نقيض؛ النقيض يسوّغ صيانة القيم من جهة، والعمل على نشرها لتعمّ العالم من جهة ثانية، ففي المجتمع النصّي القرآني تمثل الثنائيات الضدّية دوراً حاسماً في شطر العالم إلى عالمين، ثمة تعارض ثابت ودائم بين الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر. ولا يمكن أن يظل الصراع منحبساً في المصحف، واستناداً إلى مركزية كلام الله بوصفه المرجعية الكلية والشاملة والدائمة لكل شيء، فإن العالم بتناقضاته قد صيغ على غراره. المجتمع الأرضي المنشود إنما هو محاكاة للمجتمع النصي، كما قرر ذلك علم الكلام ثم الشريعة الإسلامية. في نهاية المطاف، لا بد من انتصار وظفر، فكل من أهل الباطل والشر والكفر يتآكلون؛ لأنهم زاغوا عن الْـحَقّ والخير والإيمان، والصراع محكوم بالثبات والديمومة، وأهل الْـحَقّ هؤلاء أنيطت بهم مهمة خالدة: نشر كلمة الله في أرجاء الأرض، إذ ليس ثمة حدود نهائية تحول دون ذلك، وبالنظر إلى اختلاف العقائد والأديان والثقافات. فمن المنتظر أن يتعثر أهل الحق في مهمتهم، ولكن ينبغي عليهم الالتفاف حول كلمة الله، والتمسك بها ونشرها، وذلك هو الجهاد. فالجهاد إذن وسيلة لحسم التناقض العقائدي، وإحلال الوحدة محل التعدد، وما دام نسق الثنائيات الضدية قائماً في صلب التفكير الديني فالجهاد لن يتوقف. إِنَّهُ فعل محكوم بنظام لاهوتي عام. وَالْحَقُّ فإن فعل الجهاد كممارسة تهدف إلى تحويل البشر إلى عقيدة واحدة، سيصطدم مع فرضية انشطار العالم إلى عالمين: دار الإسلام ودار الحرب. وَلَـمَّا كان الصراع يُعبّر عنه بتجليات مباشرة، فالمؤمنون يوضعون دائماً في تضاد مع الكافرين، وبينهم يتحرك المنافقون حركة مكوكية خادعة.
(3)
صاغت هذه الموجهات الثقافية صورة الأخر في المخيال الإسلامي، في كل جوانبه التمثيلية تقريبا، وقد كانت الآداب الجغرافية جزءا أساسيا من موروث الثقافة الإسلامية، وربما في هذا الجانب كانت أكثر من غيرها حساسية فيما يخص العلاقة بالآخر. وبالنظر إلى سعة الآداب الجغرافية التي تجلّت فيها صورة الآخر، فسيعنى البحث بجانب محدد، وهو الأدب الجغرافي في غرب العالم الإسلامي، ومن خلال أمثلة قليلة ولكنها دالة بصورة ملفتة للنظر، تمثلها على وجه التحديد بعض الرحلات التي قام بها رحالة كبار كابن جبير الذي مرّ بصقلية، والطرطوشي الذي طاف في القارة الأوربية، أو عبر وصف يستند إلى مشاهدات مروية كالذي قدمه ابن سعيد المغربي استنادا إلى مرويات رحالة ما زال مجهولا هو ابن فاطمة الذي يفترض أنه قد تجول قرب خط الاستواء.
يصف ابن جبير مدينة مسينة في جزيرة صقلية، بالصورة الآتية، هي "موسم تجّار الكفار، ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار، كثيرة الإرفاق برخاء الأسعار، مظلمة الآفاق بالكفر، لا يقرّ فيها لمسلم قرار، مشحونة بعبدة الصلبان، تغصّ بقاطنيها، وتكاد تضيق ذرعا بساكنيها، مملوءة نتنا ورجسا، موحشة لا تُوجِد لغريب أنسا، أسواقها نافقة حفيلة، وأرزاقها واسعة بإرغاد العيش كفيلة، لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان"(3).
واضح أن الزيارة السريعة التي قام بها ابن جبير إلى صقلية، وهو في طريقه إلى الأندلس، بعد مشقّة الضياع في البحر المتوسط عائدا من رحلته المشرقية، قد رسمت له عالما منقسما على نفسه، فيه أمان شخصي لكنّه يعجّ بالاضطراب الروحي والقيمي. ومن المعلوم أن المسلمين في ذلك الوقت يسمون غير المسلمين بالكفر، كما هو ظاهر في وصف ابن جبير، وفي نظر رحّالة مسلم كابن جبير لم يقيّض له مثل سلفه ابن فضلان أو خلفه ابن بطوطة أن يختبر مباشرة نسق قيم الآخر عبر المعايشة الطويلة فإن كفّة المعيار العقائدي هي الأثقل، والراجحة دائما. من الصحيح أن مسينة مزدهرة اقتصاديا، والأمن فيها مستتّب، لكنّها تئنّ تحت وطأة القيم الكافرة، يصعب إقامة توازن بين الضلال والكفاية الاقتصادية. فابن جبير الذي يُحتفى به في صقلية يدفعه حنين إلى ماضي هذه الجزيرة التي كانت جزءا من دار الإسلام، وقد بدأ يدبّ فيها الكفر، شأنها في ذلك شأن تخوم دار الإسلام الأخرى في زمنه.
كيف تشتغل ضمنيا داخل النص آلية المفاضلة؟ يقوم ابن جبير بتنضيد الأوصاف على نحو يدفع دائما بترجيح وصف على حساب وصف. مسينة تتصف من جانب بأنها وكر لتجارة الكفار، وبأنها مظلمة الآفاق بالكفر، ولا مكان فيها لمسلم، تموج بعبدة الصلبان، مملوءة نتنا ورجسا، موحشة، ليس ثمة أنيس لغريب فيها. ولكنها من جانب آخر: كثيرة الإرفاق، أسعارها رخية، أسواقها نافقة، أرزاقها واسعة، عيشها رغيد، فيها أمان.
خطاب ابن جبير موجّه للمسلمين، وفيه درجة عالية من الحساسية، فيما يخص الصراع المزمن بين القيم الروحية والقيم المادية، ذلك الصراع الذي حسمت العقيدة الإسلامية الأمر فيه لصالح الطرف الأول، وابتذلت الثاني، وعدّته من متاع الحياة الفانية، ومكونات الوصف الذي يقدّمه ابن جبير تستحضر تلك الثنائية، إنه يصور عالما منحطّا بضلاله، لا سبيل إلى العيش فيه، فالمسلم غريب الوجه واليد واللسان كما يقول المتنبي، يصعب تماما قبول ذلك العالم الذي جرى فيه تواطؤ بين الكفر والرجس. حتى المتع الدنيوية الخاصة بتوفر العيش الرغيد والأمن تتضاءل أمام عالم شبه مغلق على ضلاله، يشعر المؤمن فيه بالوحشة والغربة والفسق، وكما قرر بعض الفقهاء من قبل لا أمان لمسلم في دار الحرب. تتقهقر أية قيمة لمسينة وأهلها من الصقليين.
وفي خط مناظر لابن جبير، ولكنه أكثر تخصيصا، لا يأخذ بالاعتبار بالمكوّن العقائدي إِنَّمَا الثقافي بدلالته العامة، كان الطرطوشي قد وصف الجلالقة بأنهم "أهل غدر ودناءة أخلاق، لا يتنظّفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تتقطّع عليهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوها من عرقهم تنعم به أجسامهم وتصح أبدانهم. وثيابهم أضيق الثياب، وهي منفرجة يبدو من تفاريجها أكثر أبدانهم. ولهم بأس شديد، لا يرون الفرار عند اللقاء في الحرب، ويرون الموت دونه. أما البرتونيين (=أهل مقاطعة بريتاني الفرنسية) فلهم لغة تمجّها الأسماع، ومناظر قبيحة، وأخلاق سيئة، ولهم لصوص يقطعون على الإفرنج ويسرقونهم"(4).
عاش الطرطوشي في الأندلس خلال القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ثم زار أوربا في حدود 965م، وأورد البكري المتوفى (484هـ/1094م) مقاطع من رحلته يصعب التحقق من دقتها، فالجغرافيون القدماء كانوا يتدخّلون في ترتيب النصوص التي تصل إليهم، ويكيّفونها من أجل أهدافهم، ولكنّ النص يحافظ على الثنائية التقليدية الشائعة آنذاك، وهي تجاور الوصف والحكم. وهو يعتبر شاهد عيان من الدرجة الأولى، ومن القلائل الذين توغّلوا في غرب أوربا ووسطها، ثم شرقها، في وقت مبكّر، ويرجّح أنه كان يمخر تلك الأصقاع للتجارة، وإن كنّا لا نعلم على وجه التحديد الكيفيّة التي تعامل البكري مع رحلته، وهو يورد نبذا من مشاهداته التي تبدو متقطّعة؛ ذلك أنّ أوصافه وأحكامه تشبه ما سيورده القزويني المتأخّر عن البلاد نفسها التي وصفها الطرطوشي، الأمر الذي يؤكد ثبات الانطباعات. الطرطوشي يعنى بالأحكام بدل الأوصاف، فهؤلاء الجلالقة، هم أهل غدر ودناءة أخلاق، ويلحق القذارة والنجاسة بهم باعتبارهما تتعارضان مع قيم الطهارة، فتبدأ ثنائية الوصف والحكم تتأرجح، ثم سرعان ما يتغلّب الحكم على الوصف فيما بعد.
لو أخذنا الطريقة التي يصف بها الطرطوشي الجلالقة لوجدنا أنها تقوم على نوع الثنائية التفاضلية، التي وقفنا عليها قبل قليل مع ابن جبير، وهي ثنائية تندرج في مستويين خاص وعام. فهو يضع الغدر والدناءة وسوء الأخلاق والقذارة في كفة ميزان، والبسالة الحربية في الكفة الأخرى. ومن الواضح أن الرجحان سيكون للعنصر الأول، وهذا تمزيق لوحدة الصورة، وتخريب لانسجامها العام، فما قيمة البسالة إذا عُبّر عنها بالغدر والدناءة!! وعند هذا الحد تتقوض قيمة تعتبر إيجابية، تحت ضغط قيمة أخرى تعتبر سلبية، بعبارة أخرى ينتقص الجلالقة؛ لأنهم دون الفضائل العقلية والأخلاقية. هذا هو المستوى الخاص الذي ينظم طرف الثنائيات الضدية في المقارنة، وبعد ذلك يظهر المستوى العام، وهو يتوارى خلف المستوى الأول؛ فالمقاتلون الأشداء هم الذين يقاتلون بلا غدر ولا دناءة ولا سوء أخلاق، هذا لأنهم جعلوا من القتال وسيلة تتسامى أن تكون غدرا ودناءة. وعلى هذا يتم تمزيق صورة الآخر مرتين: مرة في تضخيم التناقضات الداخلية فيه، ومرة في مقارنته بالمنظومة الثقافية للأنا، المنظومة التي كان ينظر إليها بعين الرعاية والتبجيل. و يتحدث ابن سعيد المغربي عن (المعمور خلف خط الاستواء إلى الجنوب) ويمكن التأكيد أنه يقصد بذلك الزنج أو سفالة الزنج. وبدل أن يصف فإنه يحكم، فتلك البلاد، إنما هي بلاد"العراة المهملين كالبهائم"(5). ويؤكد أن ذلك معروف ومتداول، وكان متناقلا بين الناس. وكان ابن سعيد قد ورث ذلك عن غيره، لكنه فيما يخص المشاهدات العيانية ينقل عن ابن فاطمة الذي يعتبر المصدر الرئيس له، وكل ما يلفت الاهتمام هنا هو التأكيد على وجود جبل القمر، ثم منابع نهر النيل المتوزعة في أجزاء إفريقيا، وكل الأنهار التي تجري في وسط إفريقيا كان يطلق عليها النيل.
ابن فاطمة الذي يعتبر مصدرا أساسيا من مصادر ابن سعيد لا تتوفّر عنه معلومات محققّة، وهو يتردّد في كتاب ابن سعيد في كل ما يخص تلك المناطق، ويمكن استخلاص مسار رحلاته في إفريقيا من خلال كتاب الجغرافيا لابن سعيد، ويغلب أنه تجوّل في وسط إفريقيا وغربيها، بما في ذلك السواحل، ومعلوماته ثمينة، ويوثّق مشاهداته، وحينما يكون واصفا من الدرجة الثانية فإنه ينسب مروياته إلى مصادر فيها شيء من العمومية. وليس لنا القدرة على بيان الحدود الفاصلة بينه وابن سعيد، فعيوب التأليف القديم، ومنها دمج النصوص المتحدّرة من مصادر مختلفة في سياق جديد تحول أحيانا دون معرفة الوثائق الأصلية من السياقات التي يصطنعها الجغرافيون، وهو أمر لا تتفرّد به المصادر الخاصة بإفريقيا إنما هو ظاهرة عامة.
المصدر الأول لابن سعيد شبه مجهول، ويصعب التحقق الآن من وجود مدونة وصفية تنسب له، وعلى أية حال ليس هذا هو المهم، لكن الأمر المهم هو أن الموروث البطليموسي، والإغريقي بصورة عامة، حاضر بقوة لا تقل أهمية عن حضور ابن فاطمة، والحق فالتصورات اليونانية لعبت دورا خطيرا في حبس الإفريقيين السود ضمن إطار خاص وضيق يرشح بالانتقاص، وهدر القيمة البشرية، والتلاعب بالأوصاف بما يظهرهم أمام النظر والمخيلة كائنات ما زال اتصالها بالرتبة الحيوانية أكثر قوة من الاتصال بالرتبة الإنسانية. ولم ينج ابن سعيد من ذلك. ولم ينجح الرحّالة في زحزحة تلك الصورة، إن لم يكن معظمهم قد ارتحل في ضوئها. ويورد ابن سعيد على لسان ابن فاطمة وصفا للمناطق الواقعة على مشارف خط الاستواء من الجانبين بالصورة الآتية: ولم أر مَنْ رأى جانبها، وإنما وصفها الكانميون وجيرانهم ممن لقيناه بالجانب الشمالي. ويحدق بها من جميع جهاتها أمم طاغية من السودان الكفرة الذين يأكلون الناس، ولا دين يذكّرهم بسكان الجانب الشمالي، ومنهم بدى. ومدينتهم تعرف بهم ومن تحتها يخرج نيل غانا. ومدينتهم حولها، ويجاورها من الجانب الغربي جابي، وهم الذي يبردون أسنانهم. وإذا مات لهم ميت، دفعوه إلى جيرانهم، وكذلك يفعل معهم جيرانهم. وعلى جنوبي البحيرة انكرار، وعلى شرقيها كوري، الذين تنسب البحيرة إليهم. وفي شرقي مدينة بدى من الكانم المسلمين مدينة جاجة، وهي كرسي مملكة مفرده ولها مدن وبلاد، وهي الآن لسلطان الكانم. وهي موصوفة بالخصب وكثرة الخيرات، وبها الطواويس والببغاء والدجاج الرقط والغنم البلق التي على قدر الحمير الصغار(6).
من الواضح أنّ ابن فاطمة يتحدّث عن بعض الممالك التي تقع في الوسط الغربي لإفريقيا، لكن صدى أخبار الزنج تصل إليها باعتبارهم عراة وثنيين كالبهائم، ومن أكلة لحوم البشر، وهي صورة شديدة الشبه بالصورة التي يقدمها هيغل عنهم باعتبار أن أكل لحوم البشر "يتفق تماما مع المباديء العامة للجنس الإفريقي. فاللحم البشري عند الزنجي الشهواني ليس الاّ موضوعا حسيا، إنه مجرد لحم فحسب" وسبب ذلك في رأيه أن "المشاعر الأخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة"(7).
تصلح مرويات ابن فاطمة ومشاهداته، فيما يخص الإفريقيين السود، أن تكون مثالا لنوع التحيّز الشائع في المدونات الجغرافية والتاريخية، فخطابه يتضمن أدلة على ذلك التحيّز، فهو من جهة يؤكد على أن خط الاستواء يفصل بين كتلتين من الكائنات: كتلة أولى إلى الشمال منه، زارها ووقف على أحوالها، وهي ملحقة بدار الإسلام، ولم يهتم بشيء فيها سوى الحيوانات، وهم الكانميون وماجاورهم، وكتلة أخرى تقع جنوبه، لم يزرها، إنما اكتفي بمرويات الكانميين عنها بوصفها مزيجا هلاميا من الكفرة الذين يأكلون الناس. وكونهم كفرة من أكلة لحوم البشر، فهذا يعني أنهم كالوحوش الذين لم يرتقوا بعد إلى مستوى الجنس البشري، الذي من أشد ما يتميز به العزوف عن لحم أخيه في النوع إقرارا بكرامته البشرية، إلى ذلك فهم بدونيتهم تلك أقل من أن يستودعهم الله كلمته، إنهم يتخبطون في خضم فوضى النوع والجهل الوثني، وهم أبعد ما يكونون عن الانتماء إلى جنس وعقيدة.
ومن جهة ثانية، وهذا ما يضمره ابن فاطمة- عبر خطاب ابن سعيد- فإن هؤلاء هم الذين يستأثرون بحكم واضح ومعلن من طرفه، فالدونية الجنسية والدينية ينبغي دائما أن تُشهر، وإلا يجري أي نوع من التواطؤ على إخفائها وطمرها، ولهذا يأتي تأكيد ابن فاطمة قبل أي تأكيد آخر: كفرة يأكلون الناس. ولكن أين صورة الأقوام في الجانب الشمالي؟ أليس هم الذين يتصل بهم ابن سعيد برابطة خاصة، تمنحهم المكانة المميزة مقارنة بأقرانهم في الجنوب؟ إن لاوعيه يقصيهم لمشاركتهم أولئك في كل شيء سوى الدين، الذي بالكاد عرف طريقه إلى بعضهم، ولهذا فهم همل بالنسبة له، فبهم يستبدل حيوانتهم: الطواويس والببغاء والدجاج الرقط والغنم البلق التي على قدر الحمير الصغار.
هذه الأحكام المتوارثة والمتشكّلة تصلّبت وتشابكت فأجرت تنميطا ثابتا لصورة الآخر ليس في أعين المسلمين لوحدهم، إنما في أعين العالم، وهي ما زالت فاعلة، وتحتاج إلى نقد معمّق يعيد الاعتبار للقيمة الإنسانية الكامنة في كل نفس بشرية. والواقع فإن تباين المنظومات الأخلاقية والعقائدية والثقافية بين السود والأمم الأخرى تدخّل مباشرة في صوغ الصورة المشوّهة للإفريقيين السود، وما دامت الصور تنبثق عن تلك المنظومات، فلا يمكن تغييرها إلا بنقد المنظومات نفسها. ولم يكن ابن فاطمة ولا ابن سعيد بمنجى من ذلك.
تكشف هذه المعطيات عن طبيعة الصورة المركبة للآخر في المخيال الإسلامي الذي انتخبنا نماذج منه، وكما اتضح فالانتقاص يمتد ليشمل الطبيعة الإنسانية، والمنظومة العقائدية، والسلوكية، وهو أمر قارٌ في المرويات الإسلامية التي ظهرت خلال القرون الوسطى، وقامت بتمثيل الآخر طبقا لشروطها الثقافية، وتحتاج هذه المتون الكبيرة إلى تحليل ونقد يمتص منها شحنة الغلواء التي تتمركز فيها، لتتسع مجالات التواصل الإنساني بين الشعوب والعقائد والثقافات.
المصادر والمراجع
*) باحث وأكاديمي من العراق.
1) إدوارد سعيد، الاختلاق، الذاكرة، المكان، ترجمة رشاد عبد القادر، مجلة الآداب الأجنبية، ع104 خريف2000 ص18-19.
2) برنارد لويس، السياسة والحرب، انظر: تراث الإسلام، ترجمة محمد زهير السمهوري، الكويت: عالم المعرفة، 1978، ق1 ص255.
3) ابن جبير، رحلة ابن جبير، بيروت: دار صادر، ص226.
4) البكري، المسالك والممالك، نقلا عن عبد الرحمن الحجي، جغرافية الأندلس وأوربا، بيروت، دار الإرشاد، 1968، ص80-81.
5) ابن سعيد المغربي، كتاب الجغرافيا، تحقيق إسماعيل المغربي، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر، ص79.
6) م. ن. ص94.
7) هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ: العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، دار الثقافة، 1986، ص178.