أضواء على سياسة " التسامح والغفران" في الفكر الياباني الحديث والمعاصر
أضواء على سياسة " التسامح والغفران" في الفكر الياباني الحديث والمعاصر
مسعود ضاهر*
تعريف بالدراسة والمنهج
خلال تاريخها الحديث والمعاصر شهدت اليابان تبدلات أساسية كان لها أثر كبير في تطور الاستراتيجية اليابانية من سياسة الإفراط في استخدام العنف طوال قرون عدة إلى سياسة الإفراط في تمجيد مقولة "الغفران والتسامح" منذ هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية حتى الآن. على جانب آخر، تبدو مقولة "الاستمرارية والتغيير" من أكثر المقولات العلمية القادرة على تحليل وفهم تلك التبدلات في علاقتها بالتحولات الكبرى التي شهدها المجتمع الياباني على مختلف الصعد السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية وغيرها. وقد لعب العامل الإقليمي من جهة، والضغوط الخارجية من جهة أخرى، دورا ملحوظا في تحول اليابان من دولة ضعيفة عاشت حالة عزلة حقيقية غير تامة لأكثر من قرنين من الزمن إلى دولة قوية مارست كل أشكال القمع والسيطرة على دول الجوار في النصف الأول من القرن العشرين، إلى دولة محرومة من التسلح وتعتمد في حمايتها على المظلة الأميركية طوال النصف الثاني منه.
ما نود التركيز عليه في هذه الدراسة أنه بنتيجة تلك التبدلات احتلت مقولة "الغفران والتسامح" دورا مركزيا في الفكر الياباني الحديث والمعاصر، في مختلف تجلياته السياسية والاجتماعية والفلسفية، وذلك لأسباب مهمة أبرزها:
أ- أن اليابان تحولت من دولة ضعيفة تخاف الاحتلال الخارجي إلى دولة ذات نزعة عسكرية توسعية قادت إلى احتلال دول مجاورة، وتجلت تلك النزعة عبر مختلف أشكال العنف التي مارسها اليابانيون، على مستوى الأفراد والجيش والنظام السياسي، ضد الشعوب الأخرى. وفي السنوات القليلة الماضية، اضطر اليابانيون إلى تقديم اعتذار علني من الصين وكوريا وغيرهم عن الأعمال التي مارسها جيشهم في مناطق الاحتلال. يضاف إلى ذلك أن مشكلة "نساء الترفيه" التي وقع ضحيتها أكثر من مائتي ألف امراة كورية وصينية، ومن جنسيات أخرى استخدمن كمومسات للترفيه عن أفراد الجيش الياباني ما زالت تثير الكثير من الانتقادات والمحاكمات التي أجبرت الحكومة اليابانية على تقديم الاعتذار لمن بقي منهن على قيد الحياة، ومساعدات مالية كبيرة لكل منهن، وتمت تنقية الفكر السياسي الياباني بشكل كامل من جميع المقولات السابقة التي كانت تشجع العنف أو تحض على استخدامه على مختلف المستويات، والتي كانت تنطلق من تمجيد قيم الساموراي، أو المقاتل العسكري الياباني الذي كان يحتل المكانة الأولى في اليابان.
ب - أن اليابان نفسها تحولت بعد الحرب العالمية الثانية من جلاد إلى ضحية، فتعرَّضت لأوَّل اختبار نووي مارسه الأميركيون ضد السكان المدنيين في هيروشيما وناغازاكي عام 1945م، وذهب ضحيته مئات الآلاف من القتلى والمشوهين، وبقيت آثاره مستمرة لسنوات طويلة. ومع أن غالبية الدراسات العلمية واستطلاعات الرأي تؤكد على أن نسبة كبيرة من اليابانيين أبدت تسامحا لموقف الأميركيين من استخدام القوة المسلحة ضدهم؛ لأن الجيش اليابان يكان الباديء في الاعتداء عليهم في معركة بيرل هاربر، إلا أنهم لم يغفروا للأميركيين استخدام السلاح النووي المحرم دوليا ضد شعب مدني أعزل. وما زالت الاحتفالات السنوية في ذكرى المجزرتين تندد بتلك الأعمال الهمجية، وتطالب الأميركيين بالاعتذار العلني عن الجرائم التي ارتكبوها ضد أجيال متعاقبة من سكان هيروشيما وناغازاكي.
ج - إن سياسة "الغفران والتسامح" تشكل المدخل الأساسي لإعادة تطبيع العلاقات مجددا بين الدول الكبرى التي مارست الاستعمار بأشكاله المتعددة، والشعوب التي خضعت لاحتلالها. لكن تلك السياسة يجب أن تشكل تتويجا لنضال تلك الشعوب في سبيل استقلالها وإجبار المحتل على الخروج من بلدانها. فلا قيمة لسياسة "الغفران والتسامح" إذا كان الهدف منها بقاء الاحتلال أو التطبيع معه، أو الخضوع لشروط المحتل. فالهدف الأساسي، إن لم نقل الوحيد من استخدامها، هو الاستفادة من دروس التاريخ، شرط أن تتعلم منها أيضا الدول التي مارست الاحتلال أو الاستعمار، مما يؤكد صواب المقولة العلمية التالية: "إن أمة تستعبد أمة أخرى لا يمكن أن تكون حرة".
نخلص إلى القول بأن نقد مقولات العنف والعنف الماضي تحتاج إلى جرأة كبيرة من جميع الشعوب بهدف الانتقال من التاريخ غير الإنساني إلى التاريخ الإنساني الذي يقدس حرية الأفراد والشعوب، ويحرّم كل أشكال القمع، والاضطهاد، والعنف، والسيطرة، واستغلال الإنسان للإنسان.
وتبرز هذه الدراسة الدروس والعبر الكثيرة التي استخلصها اليابانيون من تاريخهم الحديث والمعاصر، والذي شهد تبدلا جذريا من المقولات التي كانت تمجد استخدام العنف ضد شعوب أخرى، إلى تفهم الأسباب التي جعلت الأميركيين يستخدمون العنف ضدهم. ولعل أبرز تلك الدروس أن اليابانيين تعلموا الكثير من سلبيات ماضيهم، وقدموا الاعتذار العلني للشعوب التي أساؤوا إليها، وهم ينتظرون أن يمارس الأميركيون الأسلوب عينه لكي يتم تصويب مسار التاريخ البشري من تاريخ العنف، أو التاريخ غير الإنساني إلى التاريخ الإنساني من طريق حل النزاعات الموروثة بالطرق الدبلوماسية، وليس بالعنف الدموي. ولا شك في أن قيم الثقافة اليابانية ما زالت مستمرة بقوة رغم التبدلات العميقة، وقد رافقت انتقال المجتمع الياباني من مرحلة السيطرة والتوسع إلى مرحلة التطور الديموقراطي السلمي، والدعوة إلى حل جميع المشكلات بالطرق الدبلوماسية.
والسؤال الأساسي الذي سنحاول الإجابة عليه في هذه الدراسة هو: كيف استطاعت قيم الثقافة التقليدية اليابانية الاستمرار بفاعلية في مختلف مراحل تحديث اليابان، وشكلت صمام الأمان لضمان الاستقرار في المجتمع الياباني بشكليه التقليدي والحديث؟.
التحولات الأساسية في الفكر السياسي الياباني الحديث والمعاصر
أ - استراتيجية العزلة الطوعية عن العالم الخارجي 1637 – 1853م:
شهدت تلك المرحلة ولادة وتطور الوحدة السياسية والإدارية القومية في اليابان على قاعدة سلطة مركزية صارمة من جهة، ونظام للقيم تمسكت به الطبقة العسكرية اليابانية بقيادة الحاكم العسكري العام أو الشوغون من جهة أخرى. عرف ذلك النظام باسم بوشيدو Bushido، ويختصر بعبارة يابانية "شي جين يو Chi Jin Yu "
التي تعني: الحكمة، واليقظة، والشجاعة، وهي ركائز ثلاث في نظام القيم المعتمد عند الساموراي أو المقاتل الياباني.
بني نظام البوشيدو على مباديء الديانة الكونفوشيوسية، والكونفوشيوسية الجديدة في مرحلة سونغ Song، والتي تميزت بأن غالبية مفكريها كانوا من دعاة الإصلاح والتنوير. في تلك الفترة بالذات اكتسب اليابانيون صناعة الأسلحة النارية من البرتغاليين وصنعوها على نطاق واسع منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، وأعدوا حملة عسكرية قوامها 150 ألف رجل، للسيطرة على كوريا والصين، ورغم فشل الحملة في تحقيق أهدافها العسكرية، اكتسب اليابانيون عن الصين خبرة مهمة في مجال الطباعة، فاستخدموا الحروف المتحركة بدل الحروف، أو الألواح الخشبية الجامدة، والتصوير على الخشب في الطباعة 0 وقد ادًخروا الكثير من النقود المعدنية في تلك المرحلة التي لم تكن عزلة كاملة، واستفادوا من خبرات الأوروبيين في مجالات الطب، والفلك، والهندسة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن نظام القيم الاجتماعية الذي نشرته الديانة البوذية ذات التقاليد الصارمة بدأ يتعرض لنقد شديد من جانب نظام قيم جديد بشرت به المسيحية الوافدة حديثا إلى اليابان0 فقد دعت المسيحية إلى نشر مباديء السلام، والمحبة، والتسامح، والغفران في مجتمع كان يمجد مباديء القوة إلى الحدود القصوى. وسرعان ما برز تناقض حاد بين نظامين من القيم، ثم زادت حدة الأزمة بعد اعتماد التبشير المسيحي وسيلة للتأثير المباشر على الشعب الياباني، تمهيدا لإخضاع اليابان إلى القوى الأوروبية العظمى، على غرار ما حدث للصين والهند وجميع دول جنوب وشرق آسيا.
لذا جاء رد الفعل الياباني عنيفا ضد المحاولات الغربية المبكرة لاحتلال اليابان في إطار مخططات استعمارية لاحتلال تلك المنطقة، واستخدام بعض القوى اليابانية من تجار، ومبشرين، ومثقفين متغربين كقاعدة كركائز للاحتلال. وبعد سلسلة من عمليات الردع الوقائي، ومنع القوى الخارجية من التدخل بالشؤون اليابانية، وجد حكام اليابان أنفسهم في وضع صعب للغاية بسبب كثرة الضغوط الخارجية في وقت كان فيه المجتمع الياباني عاجزا عن المواجهة لأسباب موضوعية ناجمة عن النزاعات المستمرة بين أفراد الطبقة الحاكمة التي باتت عاجزة عن مواجهة تلك الضغوط.
بعد أن اهتزت ركائز المجتمع التقليدي، كاحترام وطاعة رب العائلة، وخضوع الشعب الطوعي لزعيم الجماعة Clan رفض الشوغون والدايميو من حكام المقاطعات المفهوم الغربي للمساواة بين الحاكم والمحكوم، وقاموا بتصفية الجماعات المسيحية الأولى في اليابان، وأعلنوا عزلة طوعية لأكثر من قرنين من الزمن، واتخذت إدارة الشوغون قرارا صارما قضى بتصفية جميع الركائز المحلية التي بناها الغرب في اليابان طوال القرون الماضية، ونصت أوامر القادة العسكريين على حصر الملاحة الخارجية بسفن الدولة فقط، وفرض عقوبة الموت على المهاجرين الذين يغادروا اليابان بطرق سرية مع مصادرة مراكبهم، وتنفيذ عقوبة الإعدام بأي ياباني يبقى خارج بلاده لمدة تزيد على الخمس سنوات بعد صدور تلك التعليمات. ومنع التجار اليابانيون من عقد صفقات تجارية مباشرة مع الأجانب، أو تخزين شيء من بضائعهم في مخازن يابانية، وحظر على الإرساليات الأجنبية العمل في اليابان، كذلك منع تصدير الأسلحة اليابانية إلى الخارج، وكل أشكال الملاحة الخارجية إلا على سفن حكومية، فتزايدت وتيرة العزلة بشكل متصاعد ودامت حتى 1853، لكنها امتدت عمليا حتى بداية حركة الإصلاح في عهد الإمبراطور مايجي عام 1868م.
ب - استراتيجية الرد على تحدي الغرب بتحويل اليابان إلى دولة إمبريالية قوية 1853 – 1945م:
تعتبر سنوات 1853 - 1867 الأكثر خطورة في تاريخ اليابان الحديث والمعاصر، فقد وجه الكومندور الأميركي ييري إنذارا إلى اليابانيين بتاريخ 14 تموز 1853 قضى بفتح الموانيء اليابانية فورا أمام الملاحة الدولية، سلما أو بالقوة، وأجبرت اليابان على توقيع اتفاقيات مذلة ومجحفة بحق اليابانيين بدأت باتفاقية كاناغوا للصداقة مع الولايات المتحدة الأميركية في 31 آذار 1854، وألحقت بها اتفاقيات مشابهة مع دول أوروبية عدة. فشكلت الاتفاقيات الجديدة انتقاصا حقيقيا لسيادة اليابانيين على موانئهم، وجعلت اليابان في موقع شبيه بالصين ودول آسيوية أخرى خضعت للاحتلال الأجنبي، ورغم بقائها دولة حرة، بدا التعامل الغربي معها كما لو كانت خاضعة فعلا للاحتلال.
بعد أن تولى الإمبراطور موتسوهيتو الحكم في 3 كانون الثاني 1868، تلقب باسم الإمبراطور مايجي Meiji أي المصلح المتنور، وتميزت فترة حكمه بإصلاحات مهمة أبرزها إعلان مباديء الإصلاح الخمسة في 14 آذار 1868 وهي:
1 - كل القرارات أو التدابير يجب أن تتخذ بعد نقاش جماعي للدفاع عن المصلحة العامة.
2 - من حيث المبدأ، لا فرق بين أعلى وأدنى في اليابان، بل الجميع متساوون مع الحفاظ بدقة على التراتبية الاجتماعية.
3 - من الضروري أن تتوحد السلطتان العسكرية والمدنية في يد واحدة، بهدف حماية حقوق كل الطبقات والمصلحة القومية العليا معا.
4 - يجب التخلي عن التقاليد الشكلية القديمة، والعمل على بروز المساواة بشكل طبيعي بين الجميع دون تمييز.
5 - اكتساب التعليم العصري والتكنولوجيا من أي مكان في العالم، واستخدامهما لبناء ركائز الإمبراطورية اليابانية.
انطلقت قرارات الإصلاح من مبدأ ثابت أن اليابان ذات خصوصية فريدة في التاريخ؛ لأنها تضم شعبا متجانسا يقيم على أرض مقدسة يرعاها الآلهة، ويعتبر الإمبراطور من سلالة الآلهة وأبا لجميع اليابانيين الذين يشكلون عائلة واحدة، ولهم دولة واحدة تعتبرهم أبناء متساوين في الحقوق والواجبات، دون الأخذ في الاعتبار أي انقسام طبقي أو لغوي أو ديني أو عرقي؛ فالجميع عائلة واحدة، في دولة مركزية واحدة، لها أب واحد هو الإمبراطور.
حملت حركة التحديث معها تبدلات اجتماعية كبيرة، حولت اليابان إلى بلد غني وله جيش عصري قادر على إنزال هزائم سريعة بالجيوش التقليدية في البلدان المجاورة، وبشّر قادة الإصلاح في البداية الشعب بمباديء السلام والأمن والاستقرار في بلدان جنوب شرق آسيا، والعمل على تحويل اليابان إلى بلد ديموقراطي عصري على غرار فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، واستعارت المصلحون من تلك الدول الكثير من النظم، والمقولات الإصلاحية، والنظام المالي، والتعليم العصري، والدستور، والفن العسكري، والتكنولوجيا.
على جانب آخر، رفعت الأنتلجنتسيا اليابانية شعارا جديدا بالغ الأهمية هو: "التكنيك غربي، أما الروح فيابانية".
وقد نجحت في رسم صورة مثالية لدور الإمبراطور المتنور الذي استطاع إنقاذ اليابان من مخاطر التدخل الأجنبي، وعمل على تحديث المجتمع الياباني على جميع المستويات. وبسبب موقعه المميز والقوي في الهرم الديني والسياسي الياباني لم تعارض القوى المحافظة الإصلاحات الرامية إلى إنشاء دولة عصرية قوية تحمي اليابان من مخاطر غزو خارجي. فالإمبراطور من سلالة الآلهة التي تحمي اليابان، وعلى جميع القوى تقديم الطاعة إليه في كل ما يقوم به؛ لأنه المؤتمن الأول على سلامة اليابان واليابانيين. وبنتيجة الإجماع الوطني حول شخصه قام الإمبراطور بدور بارز في إدخال إصلاحات جذرية حولت اليابان إلى دولة إمبريالية عظمى خلال فترة زمنية قصيرة لم تتعد 26 عاما.
لم تكن الإصلاحات ممكنة التحقيق بهذه السرعة لولا وفرة التراكم الاقتصادي الذي شهدته اليابان في مرحلة العزلة الطوعية المعروفة تاريخيا بمرحلة توكوغاوا، فقد استفاد منها تحالف القوى القديمة والجديدة بقيادة الإمبراطور مايجي في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية والإدارية. ونجح في تأسيس جيش قوي وبناء صناعات حربية عصرية، وإقامة احتكارات يابانية ضخمة، وإطلاق النهضة اليابانية الأولى التي حولت اليابان إلى واحدة من أقوى الدول في العالم عند مشارف القرن العشرين.
فبعد أن تخلصت من قيود الاتفاقيات القديمة منذ عام 1894، بدأت مرحلة جديدة في تاريخها الحديث، تحولت فيها إلى الدولة الإمبريالية الوحيدة في جنوب وشرق آسيا.
عرف المصلحون اليابانيون كيف يؤسسوا لحركة تحديث سليمة دون أن يقيموا تعارضا بين الحداثة والأصالة، ورفعوا شعارات إصلاحية واضحة ضمن ثلاث محاور أساسية: بناء جيش عصري، وإحداث تغيير جذري في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والحفاظ على أصالة الشخصية القومية اليابانية ذات الخصوصية المتميزة منذ أقدم العصور.
وتم تحويل ولاء الساموراي لقادتهم والاستعداد للموت في سبيل مبادئهم المعروفة بالبوشيدو Bushido إلى ولاء للدولة اليابانية، بعد توسيع الجيش ليصبح جيش كل القوى والطبقات الاجتماعية في اليابان، وبقيادة الساموراي أنفسهم.
ونشأ تحالف وثيق ما بين القطاعين العام والخاص بهدف تكاملهما ورفض كل أشكال التنافس التناحري بين الشركات اليابانية. ولعبت الاحتكارات الاقتصادية والمالية المعروفة باسم زايباتسو Zaibatsu الدور الأساسي في تحويل اليابان إلى قوة عظمى في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية، وكان لها أكبر الأثر في اقتباس وتطوير التكنولوجيا الغربية والتأسيس لنهضة يابانية ردمت الهوة بين اليابان وأكثر الدول الغربية تطورا خلال عقود قليلة.
تميزت مرحلة الإصلاحات بالاقتباس عن الغرب في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، فبعد أن أدرك اليابانيون أن الدول الغربية قد سبقتهم في مجال العلوم العصرية والتكنولوجيا، اقتبسوا عنها الكثير من تلك العلوم دون تردد، واستدعوا مئات الخبراء الغربيين لتدريب كادرات اليابان الشابة، ودفعوا للخبير الأجنبي راتبا مرتفعا كان يفوق أحيانا راتب الوزير الياباني، وأقاموا لبعضهم نصبا تذكارية ما زالت منتصبة في عدد من الجامعات اليابانية.
كذلك أكثروا من البعثات العلمية إلى الخارج بهدف تدريب اليابانيين على العلوم والتكنولوجيا العصرية.
حرص المصلحون اليابانيون على تطوير القاعدة المادية لليابان بالسرعة القصوى، لكنهم في الوقت عينه اتخذوا تدابير وقائية لمنع تأثر الشعب جماعيا بأفكار التغريب، وبالقيم الاجتماعية الغربية. وبعد أن ترسخت عملية التحديث وتحولت إلى حداثة مكتملة على أرض الواقع، لم تعد اليابان دولة تخاف التدخل الغربي في شؤونها الداخلية، السياسية منها والعسكرية والاقتصادية، بل أصبحت دولة مرهوبة الجانب من دول الجوار، ومن أوروبا وأميركا معا.
حظي شعار التحديث الجديد: "التكنيك غربي، أما الروح فيابانية" بأولوية مطلقة في التطبيق العملي، وكانت أبرز تجلياته: دولة مركزية حديثة، وجيش عصري مزود بأحدث الأسلحة، واقتصاد قوي قام على قاعدة ثابتة من الاحتكارات الضخمة، وسلطة استبدادية مطلقة حصرت كل الصلاحيات بيد الإمبراطور الذي جمع إلى جانبه عددا كبيرا من المصلحين المتنورين. وتبع الشعب الياباني قادته الجديدة بطاعة تامة استنادا إلى المباديء الكونفوشيوسية بأشكالها المتعددة.
ونشر النظام الإمبراطوري آيديولوجية قومية متشددة باسم الكوكوتاي، وأبرز تجلياتها: الأمة/ العائلة، والعائلة/ الدولة، التي لعبت الدور الأساسي في انتصارات اليابان العسكرية، فقد تحمس لهذا الشعار كل من الإمبراطور، والساموراي، والبورجوازية اليابانية الصاعدة، والتجار، والصناعيون، والحرفيون، والعمال، والمزارعون. وساهمت أجهزة الدولة في ترسيخ مقولات شعبية انتشرت على نطاق واسع وأبرزها:
أرض اليابان مقدسة ولا يجوز أن تدنسها أقدام الغزاة، والإمبراطور مقدس وهو رمز لليابان وأب لجميع اليابانيين، وشعب اليابان متجانس، وهي خصوصية يعتبرونها غير متوفرة لدى أي شعب آخر، والخدمة العسكرية إجبارية على جميع اليابانيين، ودون تمييز من أي نوع كان.
في الوقت نفسه حصل الشعب الياباني على مكتسبات مهمة منها: حق العلم مقدس لجميع اليابانيين على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وقيم العمل والإنتاج هي القيم العليا في المجتمع الياباني، والكفاءة الشخصية وليس الموروث الاجتماعي هي القاعدة الوحيدة للتوظيف والترقي الإداري، ولا يحبذ الشعب الياباني أيا من الدعوات السياسية التي تقسم المجتمع إلى طبقات متناحرة.
بعد أن خرجت اليابان من الحرب العالمية الأولى دولة قوية ومنتصرة، عملت الولايات المتحدة على احتوائها من طريق الحصول على توقيعها على اتفاقية واشنطن في 11 آب 1921، والتي عرفت باسم "اتفاق الخمسة الكبار"، التي ضمت الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وإيطاليا، وبريطانيا، واليابان، ثم توسعت في 6 شباط 1922 لتضم الصين، وبلجيكا، وهولندا، والبرتغال. وقد نصت على تخفيف حدة التوتر العسكري في آسيا مما اعتبر بمثابة حصار دولي على النزعة العسكرية اليابانية. فارتفعت أصوات قادة عسكريين في اليابان تندد بهذا الاتجاه وتدعو اليابانيين للاستعداد إلى مواجهة قريبة مع الأميركيين؛ لأن كل الدلائل تشير إلى أن الأمتين تحضران لحرب وشيكة. وسرعان ما بدأت العلاقات الأميركية – اليابانية تتدهور تدريجيا بعد أن بلغت النزعة العسكرية للأحلام الإمبريالية اليابانية أقصى مداها مع قيام "إمبراطورية الحرب اليابانية" التي استمرت ما بين 1931 حتى 1942. وبرز تحالف وثيق مع النظام النازي في ألمانيا الذي شكل حليفا موضوعيا لليابان لتحقيق أحلامها في السيطرة على المنطقة. وسعت اليابان إلى تحييد الاتحاد السوفياتي لإنجاح ضربة عسكرية خاطفة وقوية تشل الوجود العسكري الأميركي بالكامل في منطقة جنوب وشرق آسيا.
وفي 6 كانون الأول 1941، وحين كانت إدارة الرئيس الأميركي روزفلت منهمكة في الرد على بعض نقاط الاتفاق المقترح مع اليابان، وجه اليابانيون ضربة عنيفة إلى الأسطول الأميركي في بيرل هاربر وأنزلوا خسائر كبيرة بالأميركيين.
وبنتيجة تلك الصدمة برزت رغبة جامحة لدى الأميركيين للانتقام من اليابانيين بعد انكشاف الأهداف الاستراتيجية اليابانية بإخراج جميع الدول الغربية نهائيا من تلك المنطقة. فاشتد الضغط الأميركي على اليابانيين انطلاقا من المناطق البعيدة والمكشوفة أمام الطيران والبحرية، وبدأت رقعة السيطرة اليابانية بالتراجع التدريجي. وحين أدرك الأميركيون أن اليابانيين سيقاتلون بشراسة حتى آخر جندي، وبروح قتالية عالية، وأن الخسائر الأميركية ستكون كبيرة في الأرواح والعتاد، قرروا إنهاء الحرب باستخدام أكثر الأساليب همجية في القتل الجماعي. فأسقطوا أول قنبلة نووية في التاريخ على هيروشيما بتاريخ 6 آب 1945، وبعد ثلاثة أيام أسقطوا القنبلة الذرية الثانية على ناغازاكي. وكانت محصلة تلك الجريمة البربرية مئات الآلاف من القتلى والمشوهين. فأعلن الإمبراطور هيروهيتو استسلام اليابان في 14 آب 1945، وتم التوقيع رسميا على الاعتراف بالهزيمة في 2 أيلول 1945، وبدأ الاحتلال الأميركي لليابان إلى أن أبدل بمعاهدة تحالف وحماية عسكرية عام 1951.
ج- استراتيجية اليابان في التحدي الاقتصادي عبر مقولة الغفران والتسامح 1945– 2002:
أجرى الحكم العسكري الأميركي المباشر تعديلات جذرية في بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري فيها، فأوقف الدستور الإمبراطوري القديم لعام 1889، ونشر دستورا جديدا عام 1946، وأحال أكثر من 200 ألف عسكري ياباني على المحاكمة بتهم مختلفة، وفرض على اليابان منع التسلح إلى أجل غير مسمى، ونشر على أراضيها وفي مياهها الإقليمية عددا من القواعد العسكرية الأميركية، وأجبر حكومتها على حل منظماتها الاقتصادية المعروفة باسم زايباتسو التي كانت الأداة الأساسية للهيمنة اليابانية على منطقة جنوب وشرق آسيا، والركيزة الاقتصادية المهمة التي مولت عملية التحديث اليابانية. نتيجة لذلك بدأت اليابان استراتيجية دفاعية تهدف إلى إنقاذ البلاد من سلبيات الحروب التي دمرت الكثير من ركائزها البنيوية، وحولتها إلى بلد فقير للغاية طوال سنوات 1945- 1955. يمكن توصيف السمات الأساسية لتلك الاستراتيجية التي ما زالت مستمرة حتى الآن على الشكل التالي:
أولا - وقف الانهيار الاقتصادي الذي نتج عن التدمير العسكري الأميركي لليابان 1945-196.
وقد عرفت تلك السياسة باسم "سياسة يوشيدا" نسبة إلى رئيس الوزراء الياباني الذي حكم غالبية سنوات تلك الحقبة. وتمحورت سياسته حول نقطتين: التحالف العسكري الثابت والدائم مع الولايات المتحدة الأميركية، والتركيز على التنمية الاقتصادية الداخلية وعدم رصد أية مبالغ في الموازنة اليابانية لأغراض الدفاع، أو المشاركة في أعمال عسكرية، داخلية أو إقليمية أو دولية.
ثانيا - تحقيق" المعجزة الاقتصادية اليابانية" 1960– 1989م:
بالاستناد إلى إصلاحات يوشيدا بنت اليابان ركائز صلبة لإطلاق نهضة يابانية جديدة أحدثت تبدلات جذرية في جميع البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية. وقد امتدت تلك المرحلة من مطلع الستينات حتى نهاية الحرب الباردة عام 1989، وحققت خلالها اليابان أعلى معدلات للنمو التراكمي في العالم، ولسنوات عدة متعاقبة.
وحين كانت الغالبية الساحقة من دول العالم تمر بأزمات ركود اقتصادي، حافظت اليابان على وتيرة نمو مرتفعة أو مستقرة لسنوات طويلة، وتحولت إلى الدولة الأولى في العالم في مجال التوظيف المالي في الخارج.
ج- تعزيز دور اليابان الاقتصادي في عصر العولمة والنظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 بدأت اليابان تبحث لنفسها عن دور جديد طوال عقد التسعينات. فعززت علاقاتها مع أوروبا من طريق الاتصالات والاتفاقات المباشرة. ودعت إلى مشاركة فعلية في النظام العالمي الجديد، من موقع الندية والتعاون عبر تنشيط مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
رحبت اليابان بعصر العولمة أكثر من باقي الدول؛ لأنها تأمل بالتحرر مستقبلا من موقع التبعية الذي تعيشه حتى الآن في العلاقات الدولية، بسبب خضوعها المستمر للوصاية العسكرية الأميركية منذ اتفاقية 1951. وقد أكدت نهاية الحرب الباردة على أن حربا عالمية ثالثة لم تعد محتملة، وقد تبدو مستحيلة. فلم تعد الحرب أسلوبا لحل النزاعات المعقدة، وبرز اتجاه عالمي قوي لإعطاء دور فاعل للأمم المتحدة لكي تقوم بحل تلك النزاعات بالطرق السلمية. وتصر اليابان على استعادة موقعها كدولة مستقلة غير منقوصة السيادة. وهي تسعى لكي تصبح أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بعد تغيير تركيبته الحالية بما يتلاءم مع متطلبات عصر العولمة. ويرى اليابانيون بحق أنه لم يعد هناك مبرر لوجود قوى عسكرية أميركية على أراضي اليابان خاصة وأن شوارع مدنها الكبرى لا تخلو باستمرار من مظاهرات حاشدة تطالب برحيل القوات الأميركية بعد أن تكاثرت أعمال الجنود الأميركيين اللاأخلاقية في كثير من المقاطعات والجزر اليابانية، وبشكل خاص في أوكيناوا. وشهدت مرحلة الثمانينات والتسعينات كثافة هائلة للتوظيف المالي الياباني في جنوب وشرق آسيا مما ساعد في إطلاق تجربة النمور الآسيوية. وعززت اليابان من وجودها الاقتصادي في جميع الدول الآسيوية المجاورة، ونقلت إليها قسما كبيرا من رساميلها التي كانت منتشرة في مناطق أخرى من العالم. تزامن اندفاع اليابان للتوظيف بقوة في محيطها الآسيوي مع دخولها عصر العولمة، وزيادة حضورها الفاعل للمنافسة في الأسواق العالمية بعد توقيعها على اتفاقات الغات التي نصت على إطلاق حرية التجارة الدولية. وكان على اليابانيين إقامة التوازن الدقيق ما بين نزوعهم الطبيعي في التوجه نحو محيطهم الآسيوي الذي هم جزء لا يتجزأ منه، وما يمليه عليهم تطورهم الاقتصادي والمالي والتقني كقوة أساسية في الاقتصاد العالمي، لا بل القوة الأولى في مجال التوظيف الجاهز للاستثمار والمساعدات المالية وفي بعض فروع التطور التقني وصناعة الروبوت. وأصبحت اليابان من أكثر دول العالم تخطيطا لمشاريع اقتصادية كبيرة على المستوى الكوني.
سياسة التسامح والغفران تعزز دور اليابان في محيطها الآسيوي
في مطلع القرن الحادي والعشرين ما زالت اليابان تعتمد استراتيجية سلمية لإنقاذ المجتمع الياباني من سلبيات تجدد نزعة عسكرية حولتها في السابق إلى بلد فقير للغاية. وهي تعتمد سياسة تشجيع الإنتاج أو التراكم الاقتصادي والمالي في جميع المجالات، والاعتماد الكلي على الأميركيين لحمايتها من أي هجوم عسكري خارجي لقاء تحالف ثابت ودائم مع الولايات المتحدة في المحافل الدولية، والتركيز على التنمية البشرية أو استراتيجية التنمية الشمولية والطويلة الأمد التي قادت إلى"المعجزة الاقتصادية اليابانية".
لقد ساهمت الاستراتيجية اليابانية السلمية في ترسيخ ركائز النهضة اليابانية الثانية على أسس جديدة أبرز مقولاتها:
" التحديث في خدمة المجتمع" بدلا من " التحديث في خدمة النزعة التوسعية العسكرية"، و" الحل السلمي للمشكلات الموروثة" بدلا من " الحل العنفي الذي يولًد عنفا مضادا "، و" التسامح والغفران لبناء التاريخ الحافز " بدلا من " الانتقام الذي يستعيد مآسي التاريخ العبء ". فأفضت الاستراتيجية اليابانية الجديدة إلى بروز تبدلات جذرية في جميع بنى اليابان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية.
ورغم حرص اليابان على التمسك باستراتيجية الدفاع عن المكتسبات السابقة وتطويرها، مستفيدة من تحالفها الوثيق والدائم مع الولايات المتحدة الأميركية، فهي تطالب بتعزيز دور الأمم المتحدة، وإقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وأكثر عدالة من نظام القطبين الذي قاد إلى حرب باردة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي. وتجاوزت اليابان التاريخ العبء من طريق التصالح مع دول الجوار الإقليمي في جنوب وشرق آسيا، وباتت رساميلها تلعب دور الرافعة الاقتصادية في غالبية تلك البلدان.وتتخوف الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي من حماس اليابان لإقامة الوحدة الآسيوية التي خطط لها القادة اليابانيون منذ عقد الثمانينات، وأعادوا تجميع قسم كبير من رساميلهم في قارة آسيا بعد أن كانت موجودة بكثافة في القارتين الأميركية والأوروبية.
غني عن التذكير أن الاختلاف الآيديولوجي لم يعد عائقا كبيرا أمام التعاون بين الدول المتباينة الآيديولوجيات بعد الحرب الباردة. فقد أظهرت الصين مرونة كبيرة في فهم المتغيرات الدولية في العقد الأخير من القرن العشرين، وأبدت استعدادا تاما لحل المشكلات الدولية العالقة، بما فيها مشكلة هونغ كونغ، وماكاو، وتايوان، بالطرق السلمية. كذلك أظهرت اليابان رغبة حقيقية في تجاوز " التاريخ العبء" المليء بذكرى المجازر التي ارتكبها الجيش الإمبراطوري الياباني ضد الصينيين والكوريين. فقدم الإمبراطور الياباني أكاهيتو، اعتذارا علنيا للصين وكوريا تمهيدا لإحلال المصالح المشتركة مكان العداء التاريخي لبناء قوة آسيوية موحدة على قاعدة " سياسة الغفران والتسامح"، للمساهمة في صنع نظام عالمي جديد لا تتحكم فيه المركزية الأميركية وحدها على مشارف الألف الثالث.
على جانب آخر، أحدثت نهاية الحرب الباردة صدمة إيجابية لدى الساسة اليابانيين كان من نتائجها المباشرة طرح مسألة استمرار الوجود العسكري الأميركي في اليابان بعد أن بات يفتقد إلى أي مبرر إقليمي ودولي. ونبهت وسائل الإعلام إلى خطورة ما توصف به اليابان في الخارج كعملاق اقتصادي وقزم عسكري. وتساءل اليابانيون عن السبب الذي يجعل بلادهم الدولة الوحيدة في العالم المنزوعة السلاح، والمحرومة من التسلح، والتي لا يسمح لها إلا بالاقتصاد السلمي، في حين أن جميع القوى العظمى تزيد من طاقاتها وقواها العسكرية، وتوظف نسبة كبيرة من موازناتها للأغراض العسكرية، كما أن شركات بيع الأسلحة العالمية تجني ثروات طائلة من هذه التجارة الرائجة بشدة.
لا شك في أن وضعية " العملاق الاقتصادي والقزم السياسي والعسكري" تسيء إلى سمعة اليابانيين في الداخل والخارج نظرا لاستمرار تبعيتهم السياسية والعسكرية للقرار الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن. وقارنت وسائل الإعلام اليابانية، ومعها بعض وسائل الإعلام الغربية، ما بين ألمانيا واليابان كدولتين كانتا متشابهتين في تلقي الهزيمة بعد الحرب العالمية الثانية.فلم تكتف ألمانيا بتوحيد كامل أراضيها واستعادة قراراها السياسي المستقل فحسب بل احتلت موقعا متقدما في توحيد أوروبا وفق تصورات الأوروبيين ومصالحهم بالدرجة الأولى، وليس كما يرغب الأميركيون.
ويتساءل اليابانيون بحق: لماذا تحررت ألمانيا من التبعية الأميركية ولم تتحرر بلادهم؟ فاليابان دولة مستقلة، وذات سيادة، وتقيم أفضل العلاقات مع جميع دول العالم، وبالتالي ليست بحاجة إلى قوى أميركية أو أية قوى أخرى لحمايتها من أي اعتداء محتمل. كما أن الشعب الياباني مستعد للدفاع عن نفسه، ويمتلك القدرة على المجابهة في مختلف المجالات، بما فيها المجال العسكري.وبدأ اليابانيون فعلا، ومنذ سنوات طويلة، بامتلاك أسلحة متطورة جدا، وذلك على مرأى من الأميركيين وغيرهم. ولديهم أسلحة تكنولوجية معقدة وقادرة على تدمير كثير من الأسلحة، التقليدية وغير التقليدية، قبل وصولها إلى الأراضي اليابانية. وهم يوظفون نسبة مهمة من موازنتهم من أجل الدفاع عن أراضيهم.
نخلص إلى القول إن غضب الشعب الياباني يتزايد على استمرار التواجد العسكري الأميركي في اليابان. وصرح ممثلو القوى القومية باستمرار أن الحرب الباردة انتهت، فلماذا تبقى آثارها ماثلة للعيان في اليابان دون غيرها من سائر الدول المستقلة في العالم؟ واقترنت تلك التصريحات بمظاهرات صاخبة تبرز شعورا حادا من العداء للأميركيين تشارك فيها الأحزاب والقوى الدينية والليبرالية واليسارية التي تسيطر على قطاعات واسعة من الرأي العام الياباني، ولها نسبة مهمة بين أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب.
بعبارة موجزة، تخلت اليابان طوعا عن مقولات العنف الدموي التي أفضت إلى السيطرة العسكرية والنزعة الإمبريالية التوسعية، وتبنت مقولات تجربة التحديث المعاصرة التي تدعو إلى الديموقراطية، والتحديث الشمولي لأهداف غير عسكرية، وإلى المشاركة النشطة في بناء نظام عالمي جديد على أسس مغايرة تماما للأسس السابقة التي كانت تشجع الحروب أو تعجز عن منعها قبل انفجارها. ورغم بقاء الخلافات التاريخية بين اليابان والدول الآسيوية المجاورة، فإن استراتيجية اليابان المستندة إلى "سياسة الغفران والتسامح " قد أحدثت تبدلات عميقة في دول الجوار الآسيوية، في محاولة لتجاوز التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. وتفخر اليابان اليوم بتقديم نفسها كأفضل نموذج ناجح للتحديث في القارة الآسيوية، والنموذج القدوة لكثير من تجارب التحديث غير المستندة إلى مقولات المركزية الغربية وثقافاتها.
بالمقابل، إن إعادة التوظيف بكثافة في المجال العسكري سيعيق حتما دمج اليابان في محيطها الإقليمي نظرا للحساسية المفرطة لدى الدول الآسيوية من إعادة تسليح اليابان أو مشاركتها التكنولوجية في تجارة الأسلحة على المستوى العالمي. وتتبنى اليابان نظرية الأمن التوافقي الذي يقضي بأن تتولى الدول المتجاورة مسألة الأمن الجماعي فيها من طريق عدم استخدام السلاح أو التهديد به، بعضها ضد البعض الآخر. ويتطلب تنفيذ هذه النظرية أن تتخلص الدول العظمى من ترساناتها النووية التي تهدد بها أمن العالم، وأن تساهم الكتلة المالية والتكنولوجية اليابانية في الوصول إلى عالم منزوع السلاح وتحتكم دوله إلى حل النزاعات بالطرق السلمية وليس العسكرية. فتلعب اليابان دور القوة الاقتصادية والمالية الداعمة للدول الآسيوية المجاورة ولدول أخرى في العالم لمساعدتها على حل مشكلاتها المعقدة والموروثة بالطرق السلمية والتنمية الاقتصادية. فقد أصبحت اليابان قوة اقتصادية كبرى قادرة على تقديم الدعم المالي للدول الأخرى بما يؤهلها لتكون في المقام الأول بين الدول المانحة في العالم. وهي تحاول أن تلعب دور الوسيط المالي بين القوى المتنازعة لحل مشكلاتها من طريق القروض والهبات المالية السخية. لكنها عاجزة بمفردها عن بناء عالم متحرر من مخاطر التسلح، والحروب، في زمن الصراع على زعامة العالم. ورغم بروز تيار قومي ياباني متطرف يرى أن من حق اليابان أن يكون لها دور جديد في عصر العولمة يتناسب مع حجم المساعدات الاقتصادية والمالية والتقنية التي تقدمها للعالم فإن القوى الديموقراطية اليابانية ترفض تجدد النزعة العسكرية المغامرة في داخلها، وتراقب بحذر تشكل الكتل الجغراسية العملاقة على المستوى الكوني. وهي مطمئنة إلى استقرارها الداخلي؛ لأن نسبة الطبقة الوسطى فيها تكاد تكون الأكثر اتساعا في العالم. وبالتالي، ليس من المتوقع ظهور هزات عنيفة في المدى المنظور داخل المجتمع الياباني لأسباب سياسية واجتماعية.
ثقافة التسامح والغفران وهاجس التفاعل مع الثقافات الأخرى
تعتبر الحضارة اليابانية من أقدم الحضارات العالمية، وقد تفاعلت إلى حد بعيد بالحضارات الهندية والصينية والكورية وغيرها، واكتسبت عنها الكثير من المقولات الثقافية التي تهم الإنسان الياباني في سلوكه الاجتماعي كالدين، والتربية، والنظام السياسي، والعلاقات الاجتماعية، وقيم العمل، وتقاليد الزواج.فالثقافة اليابانية التقليدية هي وليدة التفاعل مع الثقافات الأخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر، شكلت الديانة البوذية سمة بارزة من سمات المجتمع الياباني منذ أقدم العصور، وقد وفدت إلى اليابان من دول الجوار الآسيوية.وبعد تبني اليابانيين لطقوس وشعائر الديانة لقرون عدة طوروا الكثير من مفاهيم تلك الديانة، واستخدموا إلى جانبها ديانة الشنتو، أو عبادة أرواح الآلهة عبر تجسد في نماذج ملموسة على الأرض وليس في السماء، وهو ما يعرف باليابانية باسم " كامي نو ميتشي ". فأدخلت ديانة الشنتو طقوسا جديدة لم تكن معروفة سابقا في عالم الروحانيات البوذية ومنها تقديس مظاهر الطبيعة، وعبادة الإمبراطور، وتقديس الآباء والأجداد، وأقيمت لها معابد جديدة لا تضم تماثيل لبوذا بل تقتصر على رموز دنيوية.
تعتبر الشنتو اليوم الديانة القومية الأولى في اليابان، ويستخدم الشعب الياباني طقوسها بكثافة في مختلف المجالات لدرجة أن غالبية اليابانيين لا تقيم تعارضا بين البوذية والشنتوية، بل تعلن انتماءها الصريح إلى الديانتين معا.
واضطر دعاة البوذية الأصلية إلى تطوير طقوسها القديمة لأن فئة محدودة جدا ما زالت تمارس اليوم طقوس البوذية التقليدية التي تعرف بالبوذية المتزمتة، في حين أن غالبية اليابانيين تمارس طقوس البوذية الملقحة بطقوس الشنتو المتحررة من قيود التزمت الديني. يضاف إلى ذلك أن الشعب الياباني تفاعل بحرية تامة مع الديانات الأخرى التي وفدت حديثا إلى اليابان كاليهودية، والمسيحية، والإسلام، والتي بات عدد المؤمنين بها يزيد على المليوني ياباني في نهاية القرن العشرين. ويتمتع جميع المؤمنين اليابانيين بحرية كاملة في ممارسة شعائرهم الدينية، وبناء كنائسهم، ومساجدهم، وممارسة طقوسهم الخاصة بالولادة، والزواج، والوفاة، والأعياد وغيرها. تجدر الإشارة هنا إلى أن جميع
الأديان بقيت مبعدة عن بنى الدولة الحديثة، أو التأثير في نظمها، وقوانينها، وقراراتها، فبقي الدين في مجال الروحانيات مما سمح بتفاعل حقيقي ما بين الشعب الياباني والشعوب الأخرى في حقل العبادات والطقوس الدينية، دون إقحام الدين في السياسة0
مثال آخر على تفاعل الثقافة اليابانية بالثقافة الأخرى هو الكتابة اليابانية التي هي الحاضن الأمين لكل أشكال الثقافة والحضارة. فقد تبنت اليابان فن الكتابة وطرائقها من الصين وهي معروفة باسم كانجي Kanji التي تتشكل من مقاطع لصور صوتية على شكل كلمات، منفصلة أو متدامجة. فحافظ اليابانيون على طريقة كتابة الكانجي بنسختها الأصلية لكنهم حوروا في طريقة التعبير الصوتي عنها لدرجة يصعب التعرف عليها اليوم بالعودة إلى أصولها الصينية، ثم أدخلوا طرقا أخرى في الكتابة والقراءة عرفت باسم الهيراكانا والكاتاكانا، وهما طريقتان حروفيتان لم تستخدما في الصين لتطوير الكانجي حتى الآن. وهناك أشكال عدة من فنون الآداب اليابانية التي تأثرت في نشأتها وتطورها بالثقافة الصينية طوال قرون عدة ثم اتخذت خصوصية يابانية واضحة المعالم، كتنظيم المؤسسات، والنظرة إلى الإمبراطور، وتبني العلوم الحديثة، والمدارس الأدبية الحديثة وغيرها. كما أن المفكرين والأدباء اليابانيين في عصر نارا، وهي العاصمة الدينية لليابان التي أعطت اسمها لواحد من أبرز العصور الذهبية لولادة الثقافة القومية اليابانية، قد طوروا ما نقلوه من ثقافات أخرى وأعطوه طابعا يابانيا مميزا عبر كثير من الكتابات الأدبية والفكرية المتميزة.
لقد تفاعلت الثقافة اليابانية التقليدية مع الثقافات الأخرى دون التخلي عن الخصوصية الثقافية التي يحرص اليابانيون على التفاخر الدائم بها ويعتبرونها من ثوابت شخصيتهم القومية. وكتبت مئات الدراسات اليابانية لتوصيف تلك الخصوصية، قابلتها دراسات أجنبية مناهضة لها، وهي تنفي وجودها بعد انخراط اليابان المبكر في عملية التحديث والاقتباس المستمر عن الغرب منذ القرن التاسع عشر حتى عصر العولمة.
مع ذلك، لا بد من التأكيد على أن الخصوصية الثقافية هي مقولة شديدة الانتشار في الفكر الياباني الحديث والمعاصر مع الانفتاح التام للثقافة اليابانية على الثقافات الأخرى. وما ينطبق على سلوك اليابانيين تجاه الديانة البوذية والكتابة الصينية ينطبق أيضا على مختلف جوانب الحياة الثقافية فيها كالمسرح، والموسيقى، والرسم، والفنون الشعبية، والطقوس بأشكالها المتنوعة. فقد اعتمد اليابانيون أسلوبا واحدا في التعاطي مع مختلف القضايا الثقافية يقوم على الانفتاح على ثقافات الغير، ومحاولة تطوير ما هو إيجابي فيها بعد وسمه بالطابع الياباني.وكثيرا ما اتهم اليابانيون بتقليد الآخرين في مجالات عدة، والافتقار إلى الإبداع والأصالة في أعمالهم الفنية والأدبية إبان تاريخهم القديم، وفي مجال التكنولوجيا والعلوم العصرية في تاريخهم الحديث والمعاصر. لكن هذا الاتهام عار تماما من الصحة. فالباحث المنصف والمطلع بعمق على إقبال اليابانيين بحماس على كل ما هو إيجابي في الثقافات الأخرى دون مركب نقص، والعمل على استيعابه ودمجه في النسيج الثقافي للشعب الياباني يدرك أن هذا الأسلوب يقدم النموذج الأمثل في مجال التفاعل بين الثقافات.
لكن التفاعل الثقافي على الطريقة اليابانية، لا يعني التقليد السطحي واقتباس ما هو سلبي وإيجابي في ثقافات الغير دون روية وتبصر، بل الاستفادة من الجانب الإيجابي في تراث الغير، بعد نقده واستيعابه، وإدخاله في النسيج الثقافي المحلي بهدف توجيه المجتمع الياباني باتجاه الحضارة الإنسانية الشمولية. وبهذه الطريقة تغدو الثقافات الإنسانية مصدر غنى للثقافات المحلية لا تستفيد منه الشعوب التي تنام على أمجاد ثقافاتها الموروثة وعصورها الذهبية. فهي تراكم معرفة إنسانية عميقة حين تغتني بثقافات الآخرين وتحولها إلى ثقافة إبداعية ذات منحى حضاري شمولي.
قدمت الثقافة اليابانية نموذجا يحتذى في مجال الانتقال السليم من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث ومعاصر دون إقامة التعارض بين التقاليد الموروثة والمعاصرة الوافدة. نتيجة لذلك ما زالت قيم الثقافة التقليدية مستمرة بقوة، رغم التبدلات العميقة التي رافقت انتقال المجتمع الياباني من أنماط من الإنتاج السابقة على الرأسمالية إلى نمط الإنتاج الرأسمالي.
كما أن التضامن العائلي والاجتماعي على قاعدة التراتب الهرمي للإعمار ما زال مستمرا بأشكال عدة في المجتمع الياباني الحديث بمقدار ما كان سائدا في المجتمع الياباني التقليدي، وشكل ضرورة لا غنى عنها لضمان استقرار وأمن المجتمع الياباني في مختلف مراحله.فالغاية الأساسية لعملية التحديث تكمن أولا في حماية الإنسان الفرد، سواء كان منفردا أو ضمن عائلة، أو قبيلة، أو طائفة، أو طبقية اجتماعية. ولعل أبرز النتائج الإيجابية للثورات البورجوازية الغربية أنها دعت إلى تعميم قيم الحرية الشخصية، والمساواة التامة بين الناس في الحقوق والواجبات على أساس أنهم مواطنون أحرار، وتبني قيم الديموقراطية الصحيحة عبر الاستفتاء الشعبي أو الاقتراع العام، والتمسك بالنظم الليبرالية في مختلف المجالات، بشكل خاص في المجال الاقتصادي عبر تشجيع القطاع الخاص والمبادرات الفردية وغيرها.
هناك دراسات علمية كثيرة قام بها باحثون يابانيون ومن خارج اليابان دلًت على أثر مقولات الفكر السياسي الليبرالي للثورات الأوروبية والأميركية في صياغة مقولات النهضة اليابانية في مختلف مراحلها. فقد استفادت الطبقة البورجوازية
التي سيطرت على اليابان منذ إصلاحات الإمبراطور مايجي من المقولات الليبرالية الغربية لتحرير السياسة والاقتصاد من القيود القديمة التي كانت تكبل الإنسان والمجتمع معا.
كانت طبقة الساموراي الطبقة الوحيدة المتعلمة. وقد شارك أفراد منها بحماس في تعليم أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة،
وأرسلوا بعثات عدة منهم إلى الخارج لتلقي العلوم العصرية والعودة إلى اليابان لبناء إدارة عصرية لا تعتمد سوى مقياس
الكفاءة. فكان لها الدور الأساسي في إنجاح تجارب التحديث المستمرة في اليابان. فكانت اليابان السباقة إلى محو الأمية
منذ السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. واعتبر الإمبراطور الأب الروحي لجميع اليابانيين دون أي تمييز بينهم، مما أفسح المجال أمام عمل جماعي متقن يشجع على التضامن الاجتماعي وليس التناحر الفردي، وإلى الترقي الإداري والوظيفي من طريق العلم، والإخلاص للعمل.
وحين دعا بعض المصلحين اليابانيين إلى تبني نظام القيم الاجتماعي الغربي الذي يمجد القيم الفردية، تمسكت الغالبية الساحقة منهم بنظام القيم الياباني التقليدي الذي يمجد قيم الجماعة، وتصدت لأي منحى خطر يمكن أن يقود إلى التغريب وليس إلى حداثة سليمة. ومع أن غالبية المصلحين اليابانيين أصرت، ودون نجاح ملحوظ، على نقد المقولات الغربية التي تحض على العنف وتحرض النزعة العسكرية اليابانية على احتلال دول الجوار واستعباد شعوبها، فإن المقولات الثقافية اليابانية التي تحض على الطاعة، ونكران الذات، والعمل الجماعي، وتمجيد المصلحة العليا لليابان ساهمت في تبرير تلك النزعة بعد تحول اليابان إلى دولة إمبريالية ذات نزعة عسكرية بالغة الشراسة والعنف.
وبقدر ما نبه المتنورون اليابانيون إلى مخاطر المقولات الغربية التي تضخم دور الفرد على حساب الجماعة، وإلى مخاطر ثقافة تبرر الانقسام الطبقي السائد في المجتمعات الغربي ودعوا إلى نبذها حفاظا على وحدة الشعب الياباني، نبهوا أيضا إلى مخاطر التضحية بالفرد لصالح الجماعة أو الدولة. واعتبروا أن التوجه الجديد مخالف لنظام القيم الياباني لأنه تبنى شعارا نازيا ينفي دور الفرد ويشدد على دور الأمة، وذلك وفقا لعبارة هتلر: " الفرد لا شيء، بل الأمة هي كل شيء ".
هكذا استفادت طبقة كبار الرأسماليين اليابانيين والتي لعبت الدور الأساسي في تصنيع اليابان، ومد سكك الحديد، وشق الطرقات، وبناء المؤسسات الكبيرة، من توظيف جميع اليابانيين في خدمة مصالحها الإمبريالية بعد أن استمالت إلى جانبها الإمبراطور الذي كان من كبار المالكين، وحرضته على مغامرات عسكرية لاحتلال دول الجوار، مستخدمة أشد أساليب القهر والإذلال ضد شعوبها. فبدت صورة المقاتل الياباني في منتهى العنف والقسوة بعد أن تلقن مقولات ثقافية تمجد قيم العنف، والسيطرة، والقهر تحت ستار الطاعة لأوامر الإمبراطور المقدسة دفاعا عن مصالح اليابان العليا.
استغل الإمبراطور، وبتشجيع من أصحاب الشركات الصناعية والمؤسسات المالية الكبيرة، خضوع الشعب المطلق لإرادته، فخاض حروبا استعمارية كان لها الأثر الكبير في تشويه صورة اليابان في محيطها الإقليمي، وفي إعطاء الثقافة اليابانية في تلك المرحلة الكثير من سمات ثقافة الإمبرياليات الغربية. ورغم نجاح أولى المغامرات العسكرية استمر المصلحون اليابانيون في التنبه من مخاطر مقولات ثقافة العنف التي تحول اليابان إلى دولة إمبريالية مكروهة من جيرانها. وقد دفع كثير من المصلحين والديموقراطيين حياتهم ثمنا لإصرارهم على الوقوف في وجه نزعة عسكرية توسعية نسفت ركائز العمل الديموقراطي والليبرالي في اليابان إبان فترة ما بين الحربين العالميتين التي أودت بحياة ملايين الناس. ولعل أخطر ما شهدته تلك المرحلة أن الفكر السياسي الياباني الذي تبنى مقولات العنف قد حولت اليابان إلى الدولة الإمبريالية الأولى في جنوب شرق آسيا، واحتل جيشها ما يعادل خمسة أضعاف مساحة اليابان من الدول المجاورة، خاصة من الصين وكوريا.
ملاحظات ختامية
منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين تبنت الثقافة اليابانية الكثير من قيم الثقافة الرأسمالية الغربية. وتم توظيف ثقافة العنف وفقا لرغبات الإمبراطور الحاكم باعتباره الأب الروحي لجميع اليابانيين، ولتبرير الأطماع التوسعية للنزعة العسكرية اليابانية على حساب الشعوب المجاورة. ونشر النظام السياسي الياباني مفاهيم تروج لخصوصية قومية يابانية ذات نزعة عنصرية تذكّر بمقولة الاستعلاء القومي والعرقي في الدول النازية والفاشية، وتم استخدام التضامن العائلي لمصلحة كبار الرأسماليين وأصحاب الشركات العملاقة. فتأثر نظام القيم الثقافي التقليدي الياباني في تلك المرحلة بسلبيات مقولات غربية تمجد العنف، والنزعة القومية العنصرية، وتدعو إلى بناء دولة قوية على أسس إمبريالية واضحة، تميزت بنزعة توسعية شكلت أحد أبرز الأسباب التي قادت إلى إشعال حرب عالمية أولى ثم أعقبتها حرب عالمية ثانية في محاولات مستمرة للسيطرة على العالم.
ومع أن الإمبريالية اليابانية خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى فإن اليابان تعرضت لكارثة قومية في الحرب العالمية الثانية أدت إلى سقوطها تحت الاحتلال الأميركي الذي بدل جذريا في نظامها السياسي، وألغى طابع القداسة عن الإمبراطور وحد من صلاحياته السابقة، وفرض على اليابان دستورا جديدا يقوم على مباديء الديموقراطية الغربية التي يجب أن تطبق على اليابان المنزوعة السلاح. فكان على اليابان أن تستعيد ثقافتها التقليدية، ونظام القيم التقليدية المبني على التضامن الداخلي في مواجهة الضغوط الأميركية المتزايدة عليها. وقد نجحت فعلا في التحرر من مقولات الثقافة الاستعلاء القومي التي قادتها إلى حروب مدمرة، واستعادت ثقافة إنسانية تمجد قيم التسامح، والغفران، وتدعو إلى نبذ العنف وإدانته، وإلى نشر قيم العدالة الاجتماعية، والتضامن الفردي والجماعي.
ختاما، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تبنت اليابان مقولات ثقافية ترى أن القوة الحقيقية تكمن في التراكم الاقتصادي المفضي إلى الرخاء الاجتماعي، والعمل على حل المشكلات العالقة بالطرق السلمية، وبناء عالم منزوع السلاح. وقد تخلت طوعا أو قسرا عن مفاهيم القوة المستندة إلى جيش قوي قادر على إلحاق هزيمة سريعة بجيوش الدول المجاورة أو المعادية.
وأثبتت المقولات الثقافية ذات التوجه الديموقراطي، وتغليب التنافس الاقتصادي والتكنولوجي والإعلامي على الصراع العسكري، وبناء مجتمع مستقر وغني وتنمية شمولية لصالح الإنسان الحر والمبدع، أنها المدخل الموثوق للتفاعل مع الآخرين في عصر العولمة والنظام العالمي الجديد.
نتيجة لذلك شهد نظام القيم الياباني في النصف الثاني من القرن العشرين تبدلات جذرية تمت صياغتها من خلال تبني "سياسة الغفران والتسامح " التي نشرت مقولات جديدة تمجد قيم السلام والديموقراطية، والتعاون بين الشعوب، والتفاعل بين الثقافات. وهي القيم التي توصل إليها المصلحون اليابانيون بعد استخلاص الدروس والعبر من سلبيات مقولات الاستعلاء القومي وكل أشكال العنف والسيطرة. فاستعادت القوى الديموقراطية دورها القوي منذ الحرب العالمية الثانية بعد إضعاف المؤسسة الإمبراطورية من جهة، والتمسك بالدستور الجديد الذي حرًم على النظام الياباني استخدام السلاح ضد شعبه أولا بالإضافة إلى تحريم استخدامه ضد أية دولة أخرى. وانصرف ساسة اليابان إلى تكرار الاعتذار عن سلبيات الماضي، وإلى رفض المقولات التي تحض على الانقسام الطبقي على المستوى الداخلي أو تحرض على حل النزاعات الإقليمية والدولية بالعنف. في القوت عينه، تمسكت اليابان بخصوصية ثقافتها التقليدية مع تشجيع الترجمة والانفتاح الكامل على ثقافات الغير، والمشاركة النشطة في الثورات الإعلامية، والبيولوجية، والجينية، والحفاظ على بيئة دولية نظيفة، والدعوة إلى تدمير الترسانة النووية، ونقد نظرية صراع الحضارات بقسوة، والدعوة إلى الحوار المعمق والمفتوح ما بين الأفراد، والجماعات، والدول، والأديان، والثقافات، والحضارات وغيرها. وعندما اقتضت مصلحة الأميركيين في العقدين الأخيرين تشجيع النظام السياسي الياباني على زيادة نسبة الإنفاق على التسلح، رفض المتنورون الديموقراطيون اليابانيون هذا المنحى وحاربوه بشدة متمسكين بالدستور الياباني السلمي الذي يحظر على اليابان استخدام السلاح. وتمسكوا كذلك بنظام العمل مدى الحياة، مع تقديم مكافآت كبيرة، مما أوجد شعورا بالاستقرار النفسي والوظيفي لا يعرفه العمال والموظفون في كثير من المجتمعات، المتطورة منها والنامية على حد سواء. ورافق ذلك تدني نسبة الجريمة بشكل كبير في المجتمع الياباني المعاصر. كذلك تدنت نسبة الإدمان على المخدرات، وبقيت نسبة البطالة في حدود قدرة النظام على امتصاصها. وتعتبر نسبة الطلاق متدنية بالقياس إلى مثيلاتها في الدول الصناعية الكبيرة، لكنها على تزايد ملحوظ في السنوات الأخيرة. ويصف بعض الباحثين اليابانيين نظامهم الرأسمالي المتطور بأنه أكثر إنسانية من الرأسماليات الأخرى بسبب وجود رقابة حكومية تمنع تفلت رأس المال من قيود نظام القيم التقليدي الصارمة جدا في اليابان.
ونجم عن تعاون مؤسسات الدولة، والشركات، ومؤسسات المجتمع المدني استقرار حقيقي في المجتمع الياباني المعاصر ساهم في بناء "المعجزة اليابانية" التي كان لها أكبر الأثر في نشر العلوم العصرية، والثورة التكنولوجية، وتوسيع الخدمات الاجتماعية لجميع المواطنين اليابانيين في السكن، والعمل، والصحة، ومؤسسات الرعاية للمسنين، وغيرها. ويعتبر المجتمع الياباني المعاصر من أكثر المجتمعات توفيرا للأمن، والراحة، وفرص العمل، والخدمات الاجتماعية، والاستقرار الوظيفي، والبحبوحة الاقتصادية. ويعود الفضل في ذلك النجاح إلى "سياسة الغفران والتسامح " التي تبنتها الحكومات اليابانية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن والتي تنبت مقولات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي على مقولات الانتقام والثأر لهزيمة اليابان في تلك الحرب وتعرضها لقنبلتين نوويتين. فعملت على نشر قيم العمل الجماعي مستندة إلى حب الياباني لوطنه واستعداده الدائم للتضحية في سبيله، والتمسك بالقيم اليابانية الموروثة، وتشجيع الآداب والفنون والثقافة والعلوم العصرية. وبما أن الإدارة هي مرآة صادقة لدرجة رقي الشعوب، تعتبر الإدارة اليابانية من أرقى الإدارات في العالم لأنها تعتمد الكفاءة كمعيار وحيد للتوظيف واختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، وتشجيع روح الجماعة في العمل الإداري، تخطيطا وتنفيذا. وقد عرف عن الياباني الصدق، والاستقامة في العمل، والاحترام الشديد للوقت، والتفاني بدون حدود للمؤسسة التي يعمل بها، وإنتاج أفضل السلع القادرة على المنافسة دوليا.
هكذا تغير نظام القيم الياباني بشكل جذري في النصف الثاني من القرن العشرين على قاعدة " سياسة الغفران والتسامح "0
فتم تغليب المصلحة العليا لليابان وللشعب الياباني على المصالح الضيقة للشركات الاحتكارية الكبيرة، والتكتلات المالية العملاقة التي تضم مجموعة بنوك تعتبر من البنوك الأولى في العالم من حيث المدخرات والقدرات التنافسية. وحرص اليابانيون على توسيع الطبقة الوسطى كصمام أمان لامتصاص التوترات الاجتماعية التي تعصف بالمجتمعات ذات الانقسام الطبقي الحاد.ويفاخر اليابانيون اليوم بأن النسبة المرتفعة جدا للطبقة الوسطى لديهم تساهم في بناء مجتمع مستقر طوال النصف الثاني من القرن العشرين. ويعود الفضل في استقرار المجتمع الياباني المعاصر إلى تمجيد ثقافة السلام والديموقراطية والتنمية الشمولية، والغفران والتسامح مع دول الجوار، والحوار مع الثقافات الأخرى من جهة، وإلى نبذ كل مقولات العنف والسيطرة والاستعلاء القومي وصراع الثقافات من جهة أخرى. وتتوخى اليابان أن تتحول إلى نموذج يحتذى للدولة الديموقراطية الجديدة التي تتلاءم مع مفهوم جديد لعصر العولمة يتناقض كليا مع المفهوم الذي قدمه الأميركيون لها، والذي يقوم على الهيمنة، والسيطرة، وإشعال الحروب في مختلف مناطق العالم.
بعض مراجع الدراسة
*) أستاذ الفلسفة فِي الجامعة اللبنانية.
- جورج ولوري كينغ عيراني (إشراف): "الاعتراف بالآخر، الغفران والمصالحة: دروس من لبنان"، منشورات الجامعة اللبنانية الأميركية، بيروت 1996 0
رمزي زكي:" المحنة الآسيوية: قصة صعود وهبوط دول المعجزات الآسيوية "، دار المدى، دمشق 2000.
رؤوف عباس:" المجتمع الياباني في عصر مايجي"، دار ميريت، القاهرة 2000.
= =: "التنوير بين مصر واليابان:دراسة مقارنة في فكر رفاعة الطهطاوي وفوكوزاوا يوكيتشي، ميريت، القاهرة 2001.
سعد ياسين:" العرب والإدارة اليابانية: ماذا يمكن أن نتعلم من اليابان؟"، مقالة منشورة في مجلة "المستقبل العربي"، بيروت، العدد 265، آذار 2001.
السيد صدقي عابدين (محرر):" العلاقات المصرية - اليابانية "، منشورات مركز الدراسات الآسيوية، القاهرة 2000.
شارل عيساوي: "تأملات في التاريخ العربي "، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991.
عبد الغفار رشاد: "التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية "، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984.
علي المحجوبي:" النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر:لماذا فشلت بمصر وتونس ونجحت باليابان؟"، تونس 1999.
محمود عبد الفضيل:" العرب والتجربة الآسيوية: الدروس المستفادة"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2000.
مسعود ضاهر: "صورة اليابان عند العرب "، مجلة " شؤون عربية "، العدد 75، أيلول 1993.
= =: "اليابان ونموذج تأصيل الحداثة"، منشورة في " الفكر العربي "، بيروت، العدد 77، صيف 1994.
= =: "نظرية المقدس، الكوكوتاي، في الفكر السياسي الياباني"، منشورة في جريدة"الحياة"، 25/9 / 1994.
= =: "العلاقات العربية – اليابانية على مشارف القرن الحادي والعشرين"، "شؤون عربية"، العدد89، آذار 1997.
= =:"معوقات الحوار الثقافي بين العرب واليابان "، منشورة في " الاتحاد "، 31 آب 1997.
= =: "التفاعل الثقافي بين الثقافة العربية والثقافة اليابانية: الواقع الراهن والآفاق المستقبلية "، مقالة منشورة كتاب: "الثقافة العربية والثقافات الأخرى، حوار الأضداد "، منشورات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1999.
= =: "النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج"، سلسلة عام المعرفة، الكويت، رقم 252، ديسمبر 1999. وقد نال جائزة " مؤسسة الكويت للتقدم العلمي" لأفضل كتاب مؤلف صدر باللغة العربية في العالم العربي في مجال الإنسانيات والآداب والفنون عن العام 2000.
= =: "أضواء على الكتابات التاريخية اليابانية عن العرب "، مقالة منشورة في مجلة " عالم الفكر" الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 29، العدد الرابع، أفريل - يونيو 2001.
= =: "النهضة العربية المعاصرة:الدروس المستفادة عربيا "، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تموز 2002، وفيه مكتبة غنية جدا لمن يرغب الاطلاع على تطور العلاقات العربية – اليابانية.
منتدى الفكر العربي بعمان (ناشر):" العرب واليابان "، عمان، الأردن، 1992.
في أواسط عام 1992 أصدر" منتدى الفكر العربي " في عمان، بالتعاون مع المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا بالأردن، والمركز القومي لترقية البحوث العلمية في اليابان NIRA، الكتاب الأول بالعربية من سلسلة صدرت تحت عنوان:" العرب واليابان، حوار عربي - ياباني حول الحضارة والقيم والثقافة في اليابان والوطن العربي وتطلعات إلى المستقبل "، ثم صدرت أبحاث الملتقيين الثاني والثالث بالإنكليزية في عام 1993:
National Institute for Research Advancement (NIRA) and Arab Thought Forum:
Arab - Japanese Dialogue II, Tokyo, Amman 1993. And: Arab - Japanese
Dialogue III, Tokyo, Amman 1993.
Daher، Massoud: Modernization in Egypt and Japan in the Nineteenth Century:a
Comparative Study، Institute of Developing economies,V.R.F.Series,No.236,
Tokyo,November 1994.
Daher, Massoud: Continuity and changes in the Japanese modernization, Institute of Oriental Culture، Tokyo University، under press.
Japan National Committee for the Study of Arab - Japanese Relations:
Study on Arab- Japanese Mutual Images, Tokyo, Tome I, 1980, & II, 1982.
The Japan Foundation: The Islamic World and Japan، in pursuit of mutual
understanding، Tokyo، 1981.
Katakura, Kunio and Katakura، Motoko: Japan and the Middle East,
Tokyo,1991 & 1994.
International Symposium of the Islamic Area Studies Project:
“ Rethinking Arab – Japanese Relations, Area Studies, and Friendship”,
JICA Institute in Tokyo، Japan، November 12 to 13، 2001”,Tokyo, Japan 2002.
Figal, Gerard، Civilization and Monsters: spirits of modernity in Meiji Japan, Duke university Press, London 1999.
Hoston, Germaine، The State, Identity, and the National question in China and Japan.
Princeton University Press, New Jersey 1994.
Kohno, Masaru, Japan’s postwar party politics, Princeton University, New Jersey,1997.
Henshall, Kenneth، A History of Japan: From Stone Age to Superpower, Palgrave, Great Britain 2001.
Masuda, Wataru, Japan and China: Mutual presentations in the Modern Era.
Translated by Joshua Fogel, Curzon Press, Great Britain 2000.
Tsuzuki, Chushichi, The Pursuit of power in Modern Japan 1825 –1995.Oxford
University Press, New York 2000