قبول الآخر.. احترامٌ للذات وللآخر!
عماد العبار
قبول الآخر.. احترامٌ للذات وللآخر! تنتشر في المجتمعات عادةً مقولاتٌ فكرية أو فلسفية يقوم الناس بتداولها واستخدامها ضمن ما تسمح به حدود الثقافة والواقع والفهم الدارج لمثل هذه المقولات والمتعلق بالمرحلة التي يمر بها المجتمع في لحظة تطورية محددة . من هذه المقولات مقولة " قبول الآخر "، وما أثير حولها ولا يزال يثار من لغط وبلبلة، وبدايةً فإنه لابد لي من توضيح بعض النقاط في مفهوم قبول الآخر على سبيل توضيح الموقف منه قبل الحديث في الجو المحيط بالمقولة ..
فمما لا أشك فيه أن المصطلح لم يرد ذكره في مراجعنا التاريخية ولا في نصوصنا الشرعية فلم يتناهى إلى مسامعنا أنه قد كان دارجاً في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية كما أنه لم يصل إلينا ما يشير إلى استخدامه في حضاراتٍ وثقافات سابقة . إذن نستطيع القول بأنه مصطلح حديثٌ نسبياً أو فلنقل بجملة تضعنا في صلب الموضوع إن المفهوم من ناحية الابتكار اللغوي لا يُعدُّ ابتكاراً إسلامياً وإن لم يكن كذلك فمن البديهي أن يكون حصيلة تجربةٍ إنسانيةٍ أخرى، سواءٌ كان خاصاً بتجربة حضارية محددة أم كان حصيلة تفاعلٍ بين حضارات مختلفة، فهو بذلك كغيره من المفاهيم المعاصرة وصلت إلينا عبر تجارب وخبرات لآخرين نتيجة معاناة مرَّت بها الشعوب وانتقلت حصيلة التجارب تلك إلينا، فمنها ما كان منسجماً مع أخلاقيات حضارتنا ومنها ما كان مخالفاً لها، وبكلمةٍ أخرى أقول أن منها ما يفرض نفسه كقيمة حضارية إنسانية عامة، ومنها ما يتطلب منّا قطيعة معرفية لما قد يحدثه من خلل بنيوي يتعارض مع مقوماتنا الحضارية، فكون الابتكار اللغوي عموماً- لأي مصطلحٍ -ليس أصيلاً في مكونات تراثنا فإن ذلك لا يبرر نبذه أو تجاهله أو اتخاذ موقفٍ عدائيٍ مسبقٍ منه أو من أصحابه فقط لكونه مستحدثاً لا وجود لجذرٍ " لغويٍ " له في ثقافتنا، بل الأجدر بنا سبر أغوار المصطلح والتعمق في معانيه ثم الحكم بعد ذلك على المحتوى بموضوعية، فمدلول أي مصطلح هو الأولى بتحديد شكل موقفنا وليس حداثة الابتكار اللغوي، لأن هذه الحداثة لا تعني عدم وجوده في ثقافتنا أو ثقافات غيرنا بأشكال تعبيرية قديمة ومختلفة، وإن لم يتيسر ضبط المعنى بحدود واضحة ودقيقة كما في بعض الحالات فإن الأولى فهم السياق الذي يطرح من خلاله المصطلح. وبالنسبة لقبول الآخر فإنه وحسب الاستخدام العام له – أو لنقل الاستخدام الأغلب الذي أؤيده – ما هو إلا إقرارٌ بحقيقة الاختلاف البشري وإيمانٌ بالتنوع الفكري سواءٌ أأقررنا بأن هذا التنوع ضرورة أم اكتفينا بموقفٍ محايدٍ منه على أنه حقيقة واقعية لم يمكن ولا يمكن إلغاؤها !
هذا الاختلاف الذي قد يتراوح بين التباين الفكري – المتعلق بالفروع - ضمن المذهب الفكري الواحد وبين الاختلاف التام الذي يتجاوز الفروع إلى الأصول، مُباعداً بين النظريات الفكرية وبين أصحابها، انتهاءً بالاختلاف بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، لدرجة التباين بين الإيمان والكفر ..فالمسألة مسألة وعيٍ لهذه الحقيقة الإنسانية، وطالما أن المسألة متعلقة بالوعي فهي حالةٌ فوق الاستلاب العقلي أو العاطفي، إن فهم ما يعنيه قبول الآخر يقتضي إدراك أن هذا القبول لا يتعدى من الناحية العملية سوى تفهُّم وجود هذا الآخر ولا يقتضي بأي حال من الأحوال اعتناق فكر هذا الآخر أو التماهي معه أو تحول صاحب فكرة القبول ليصبح هو نفسه ذلك الآخر ! وكذلك فإن هذه المقولة لا صلة لها لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ بمفاهيم علاقة بين طرفين تحكمها حالة اعتداء عسكري أو حصار أو مؤامرة يقوم بها أحد الطرفين على الآخر كما يروِّج لذلك الرافضون للمقولة عند اتهامهم لأصحاب مقولة قبول الآخر بأنها وصلت بمعتنقيها إلى هذا المستوى من القبول، أي مستوى التماهي مع المعتدي ! إذ أنه من البديهي أن ترفض عدوان الآخر عليك في الوقت الذي تؤمن بحق هذا الآخر بالوجود، أما عندما تتحول المسألة إلى سؤال حول إيمانك بحقه بأن يلغي وجودك، فتلك مسألة أخرى يتم تحديد مفاهيمها والعمل عليها خارج مستوى هذه المقولة، ولنلاحظ فقط أن مسألة الاعتداء هذه لا تحدث فقط بين الأطراف المتناقضة فكرياً وحضارياً وإنما هي واردة الحدوث أيضاً بين من تجمعهم الأرض أو الدين أو المذهب الفكري كما حدث خلال مراحل مختلفة من تاريخنا، وبناءً عليه فإنه من غير الضروري أو المنطقي الخلط بين قبول الآخر – أياً كان هذا الآخر – وبين حالات الفتن والاعتداءات العسكرية المتوقعة منه، فلتلك المسائل نقاشٌ من نوع آخر ولا ينبغي الخلط بين النقاشين ..
وفي كلامنا عن الابتكار اللغوي لمقولة قبول الآخر، بعد اعترافنا بأننا لسنا أصحاب هذا الابتكار، فإنني وخروجاً من دوّامة المصطلحات المتغيرة والمتطورة بتغيُّر الأزمان أعتبر - في ضوء الفهم الذي قدمته للقبول في بداية كلامي - أن مضمون وجوهر المقولة يتوافق مع جوهر الخطاب التوجيهي للقرآن حين يدعو الأنبياءَ وأتباعهم إلى تفهم الطبيعة البشرية، ولو أن القرآن لم يعبّر عن المضمون بنفس الصياغة إلا أنه لم ترد لفظة أو معنى ينقضان جوهر المصطلح الجديد الذي نتحدث عنه، كما لم يرد مصطلح آخر محدد ومضبوط يؤيد ما نتحدث عنه يمكننا من الاقتصار عليه للدلالة على جوهر الفكرة وإنما تمت الدلالة على المعاني التي نتحدث عنها من خلال أجواء حوارية بين الأنبياء وأقوامهم، فعلاوة على دعوته تفهم هذه الطبيعة فلقد ذهبت الدعوة القرآنية أبعد من ذلك بأن يلتزم المسلم تبليغ رسالته متقبلاً حقيقة أنه لو شاء الله لجعل المختلفين أمةً واحدةً عندها لن يكون هناك مشكلة مع الآخر ولا في قبوله إذ لن يكون هناك آخرٌ نختلف معه (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل93، وتأكيداً على طبيعة الخلق هذه فإن القرآن يؤكد في مواضع عديدة أن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يؤمنون، بل إن أكثرهم معرضون وجاحدون ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )يوسف 103، فهل يعد قبول المصلح لهذه الحقيقة الموضوعية سبيلاً لتقاعسه عن أداء مهمته في الإصلاح والتبليغ؟!
إن إدراك هذه الحقيقة هو صمّام الأمان الذي يفرّج عن أيّ مصلحٍ كربته حين قد يقترب من اليأس نتيجة الأوضاع البائسة، إنها الضامن على المدى البعيد لعلاقة بين المختلفين تحكمها ضوابط العيش المشترك مع ممارسة كل طرف حقّه في اعتناق ونشر ما يعتنقه من فكر، وهنا يكون القبول ضامناً للسلم الأهلي ولأجواء الاحترام والحرية الفكرية، ولا أظن بأن الدعوة الإصلاحية بحاجة لأكثر من هذه الأجواء كي تنتشر انتشار النار في الهشيم إن كانت قائمةً على أسس سليمة، بينما نستطيع أن نتوقع ما قد تنتجه أجواء مناقضة لهذه ابتداءً من رفض واقع التنوّع الديني والفكري، مروراً بالرغبة العاجلة في أسلمة المجتمع من خلال فرض الرؤية الأحادية إكراهاً على كل أطيافه الفكرية، انتهاءً بنشوء فكر إقصائي يعتبر قبول الآخر نوعاً من انتحار الذات، عندها ستكون التضحية بالآخر هي الجهاد الأكبر في حملة تقديم القرابين البشرية التي تنصب على مذبحها نفسية الرضى بالذات، وبذلك فإنه ليس من المستغرب أن نُبادَل حين نكون نحن "الآخر" بأشكال مختلفة من الرفض والتضييق والإقصاء، بل لا عجب حينها بأن يقوم مخالفنا بالتضحية بنا في ساحة المذبحة نفسها! إن هذا القبول عندما يكون إيماناً بحقيقة الاختلاف، ما هو إلا تنظيمٌ للعلاقة بين المختلفين، بين المصلح والآخرين، فهو حالة تضمن التوازن الذي يجعل من جميع الأطراف على مسافةٍ واحدة ومضبوطة، نؤصِّلها عندما يكون المصلح هو من يمثل الآخر المختلف، كما نسعى لصونها عندما يكون المصلح هو صاحب الكلمة والسلطة في مجتمعه . فإذا كانت هذه الحالة من القبول مطلوبةً في أجواء كجو الآية التي ذكرناها عندما يكون المصلحون أقلية – بما عبر عنه بعبارة : "وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين " - ، فهو مطلوبٌ أيضاً – من باب أولى – عندما يكونون أكثرية أو عندما تتوافر الفرص المتكافئة بين الإصلاح والمعترضين عليه، فإذا كانت الثبات على الحق مع التبليغ كافياً عند توافر أجواء القبول والرضى بوجود الآخر المختلف في حالة كون الإصلاح مستضعفاً، فإنه وفي حال وجوده قوياً منصوراً بأتباعه لا يحتاج لأكثر من هذه المقومات كي يؤتى نتائجه ويحقق أهدافه.
ولكن أمام هذا التقديم، هل سيغيّر هذا القبول من طبيعة الدعوة وآلياتها في إعلاء كلمة الحق وتأثيم الباطل، أي هل سيتعارض هذا المفهوم الذي قدمته مع جهر الإنسان بمبادئه والدفاع عن ما يعتبره معبراً عن جوهر وجوده في هذه الحياة؟! إن ما يجيب على هذا السؤال هو سيرة الأنبياء المؤصّلة قرآنياً، فهذا القبول لم يكن يوماً مقيِّداً لحرية التعبير والتبليغ، بل كان وعيّاً مطلقاً للحق وجهراً به وثباتاً عليه حرصاً على الأقوام، وفي الوقت نفسه قبول لحقيقة أن الواقع قد لا يكون في كثيرٍ من لحظاته في صف أصحاب الحق والفكر السليم، وإيمانٌ بأن طريق التبليغ طريقٌ واحدةٌ لا عدول عنه مهما كانت الظروف! أما بالنسبة لمن هم ليسوا بأنبياء، فإن نفسية القبول لابد وأن تأتِي معبرةً عن مدلولاتٍ أوسع ولكنها تخرج من الرحم نفسه، ولو استعرنا مشاهد الواقع لوجدنا بأن نفسية عدم القبول السائدة في واقعنا – والتي تظهر بأبسط أشكالها برفض السماع لأي آخر وسوء فهمه والولوغ في نواياه – تعكس حقيقةً اعتقاد امتلاك الحق المطلق، هذا المطلق الذي أصبح مطيَّة لكل صاحب مذهبٍ فكري، بشكل أصبح يحتار فيه المراقب والمتتبع لهذه المذاهب في فهم طبيعة هذا المطلق والذي تستطيع كل فئة أو مذهب احتكاره ثم يمكن تجزئته على اختلافاتٍ ضيقة ضمن المذهب نفسه، مع احتفاظه بصفة الإطلاق نفسها! وبما أن القبول والسماع والتفهم، جميعها تعابير تعارض فكرة امتلاك الحق المطلق، عندها تصبح ثقافة القبول عبئاً ثقيلاً ينبغي التخلص منه بشكلٍ من الأشكال، وأسلم هذه الأشكال وضعها في خانة القيّم الدخيلة المفروضة على ثقافتنا من خلال التغريب، اعتماداً على حداثة الابتكار اللغوي أحياناً، أو من خلال تقويل المقولة أكثر مما تقول حقيقةً، وتحميلها أكثر مما تحتمل، أوتحميلها في بعض الأحيان ما لا يمكن أن تحتمل، وربما إقحامها في مجالات بعيدة عن دائرة دلالتها لشلِّ فعاليتها لما تشكله بعض هذه المقولات من خطرٍ على بنى فكرية ما هي إلا امتداد تاريخي لبنى قديمة إقصائية باتت تقدم نفسها في كثيرٍ من الأحيان بصورةٍ " عصرية " مع الاحتفاظ بالمضمون نفسه، وهي دعوةٌ مرة أخرى إلى التنبُّه للمضمون دوماً فليست حداثة الابتكار اللغوي أو قِدَمه نقطتي الفصل في موقفنا وإنما هو المضمون، والمضمون فقط! ..
فلقد كتب أحمد خيري العمري مقالاً في العرب القطرية بتاريخ 4/4/2008 بعنوان " قبول الآخر .. انتحار الذات؟ " فانطلق من فرضية مسبقة فحواها أن قبول الآخر لا يُقدَّم - في الأدبيات التي تؤيد المقولة - على سبيل التعايش مع الآخر، وهي فرضيةٌ لا نتفق معه بها ابتداءً، فإن كان البعض يسيء فهم واستعمال المقولة كأن يشعر بالنقص تجاه الآخر وتذوب ذاته الحضارية مع الذات الحضارية الأخرى، فإن ذلك لا يسيء إلى المقولة نفسها، لأن الأمر هنا ببساطة لا يتعلق بالمقولة وإنما له أبعاد أخرى ينبغي الحديث عنها ومعالجتها ضمن سياقٍ آخر، أما قبول الآخر فهو الذي أعتبره شخصياً صمام الأمان الذي يحفظ الأطراف المختلفة على مسافة واحدة بما يؤمِّن التدافع والتلاقي في الوقت نفسه، كما لا يجب أن لا تعمي الفرضية المسبقة أعيننا عن قراءة آخرين يضعون المقولة في نصابها الصحيح دون تشويه.
ثم وظّف الكاتب جهده لتتبع الجذر اللغوي لمصطلح التسامح، بعد أن افترض جدلاً – مرة أخرى – أن التسامح هو مصدر وأساس المصطلح الجديد، ولا ضير في أن يحاول الكاتب المقاربة أو التفريق بين مصطلحين على سبيل تحديد مفاهيم كل مصطلح ونقاط التقائه أو اختلافه عن المصطلح الآخر، لكن أن يتم افتراض أن أحدهما مشتقٌ من الآخر انطلاقاً من مقولة : " ربما يكون أساسه ومصدره " ثم تحويل مسار الكلام بأكمله لمناقشة ظروف ولادة المصطلح المفترض بحجة هذه ال " ربما " يجعل من البحث يأخذ طريقاً غير موضوعياً، فيصبح الحديث بمجمله عن التسامح وكيف تمارسه القوى الأكثر هيمنة مع الأضعف اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً، ثم يشير إلى أن هذا التسامح بالإضافة إلى اشتماله على حقيقة التفاوت في موازين القوى المادية، فإنه يحمل معنى رفض بعض المعتقدات والأفكار مع إمكانية السماح لأصحابها باعتناق بعض العقائد وممارستها على النطاق السلوكي، وهنا نرى أن الكاتب تحوّل من الكلام عن قبول الآخر للكلام عن التسامح ثم الانتهاء بالحديث عن إمكانية السماح، وقد خرج – بشكل صريح- من عرض السياق التاريخي لنشوء فكرة التسامح بمفهومها الغربي إلى التشكيك بمقولة قبول الآخر، دون أن يفترض أن لهذا القبول معنى غير المعنى الذي طرحه والذي قيَّده بمفهوم التسامح ودورة نشوئه في الغرب! ثم بعد الخلط بين التسامح والقبول، يقحم الكاتب المسألة في حالة الصراع العسكري بين دولتين أو حال الصراع الحضاري بين حضارتين، ولا ضير أيضاً أن نميّز بين عدة أصناف للآخر كأن نصل في التمييز إلى عزل الآخر المعتدي والمحتل والمغتصب وتأطير التعامل معه ضمن أطر خاصة، ولكن ألا يعتبر هذا خروجاً عن الموضوع إلى موضوعٍ آخر يخص مقاومة شعبٍ أو أمة ضمن حالة من الصراع العسكري؟!
وبالمناسبة فإن هذه الحالة ليست خاصةً فقط بالعلاقة بين أطراف متحاربة تنتمي لمنظومات فكرية مختلفة ومتناقضة، فالإسلام وضع لحالات الفوضى ضوابط خاصة لحل الإشكال الحاصل نتيجة ظروف هي أقرب لظروف فتنةٍ مؤقتة دون تعميم الضوابط إلى ما بعد انتهاء الفتنة، فلقد ورد في القرآن الكريم أنه (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الحجرات9، أي أن مسألة الاعتداء مضبوطةٌ حتى في حالة البغي بين الأخوة المؤمنين، ولا تتداخل هذه الضوابط التي وجدت لرفع الظلم مع ضوابط أخرى لتنظيم العلاقة فيما بعد رفعه أو لتنظيم العلاقة بين الأطراف الحيادية متجاورةً كانت أم متباعدة، وبالتالي فإن الحديث عن قبول الآخر والحديث عن اعتداء الآخر حديثان منفصلان لا ضرورة للخلط بينهما طالما أن منظومتنا الفكرية تفصل بين الأمرين على سوية الأخوة في الدين والوطن وبالتالي أن يكون للعلاقة مع المعتدي المستعمر طبيعة خاصة- محكومة بظرف الاعتداء - أمرٌ مفروغٌ منه أو بمعنى تحصيل حاصل، والملاحظ أن الكاتب وقع في الخلط بينهما فتخيل الآخر دوماً على صورة الآخر العسكري والمحتل المغتصب للأرض، وإن كان يجب أن لا نتعامى عن هذه الصورة كأحد أجزاء الصورة الكلية للآخر، ولكنها بالتأكيد ليست الصورة الكاملة خاصة وأننا نعلم جميعاً أن من بين صفوف ذلك الآخر العسكري من يقف في وجه ذلك التوجّه الباغي وفيه من الحياديين أو المستنكرين والمبدئيين ما ينبغي التنويه إليه من أصحاب المواقف العادلة والمشرِّفة، وفيه من المفكرين من يحترم فكره ويشاد بموضوعيته مع العلم بأن هؤلاء المفكرين ينتمون إلى نفس المنظومة القيمية الأم التي تخرج منها التقنية والرفاهية والحروب والإمبريالية!
والغريب أن الكاتب الذي يعيب على الآخرين قبول الآخر أو بشكل من الأشكال قبول أفكار الآخر الذي ينتمي إلى منظومة قيم مختلفة - خاصة حين تكون تلك المنظومة هي نفسها التي صدّرت نفس القيّم المادية والتوسعيّة – فإنه وفي نفس مقالته لجأ ليس فقط إلى قبول فكر الآخر، أو أنه لم يكتفي فقط بمعرفته – كالحد الأقصى الذي سمح به لمعنى القبول في مقالته – بل ذهب أبعد من ذلك إلى الاستشهاد بفكر ذلك الآخر والانطلاق منه واعتماده في تحديد الشكل المسموح به للتسامح – الذي افترض جدلاً بأنه يوازي القبول - ! وعلى ما يبدو أنه يريد تجزيء ذلك الآخر في نفس الوقت الذي يريد فيه جعله كتلةً متماسكةً لانتمائه لمنظومة واحدة، وكذلك فإنه يضع خطوطاً صارمة للتعامل مع ذلك الآخر لا يسمح لأحد بالعدول عنها ضمن ما أسماه " موكب الزفّة الإعلامية المصاحبة لمفهوم قبول الآخر " ولكنه وفي الوقت ذاته يقوم بانتهاك صارخ لما وضعه من خطوط وضوابط كما سيتبين بعد قليل !
فهل المسألة عبارة عن تناقضات فكرية، أم أنها عبارة عن إدراك دقيق لتلك الضوابط والخطوط الدقيقة الفاصلة بين المفاهيم ثم تجاوزٌ محسوبٌ لها بما يعني بأن هذا التجاوز هو حق يمنحه الكاتب لنفسه ويحجره على الآخرين، مما سيخرج المسألة من نطاق تناقض الأفكار وتضاربها إلى حالة أكثر تعقيداً يريد أن يُري فيها الكاتبُ الناسَ ما يراه "هو" وحده! ويتابع الكاتب حديثه انطلاقاً من فرضية أخرى يفرِّق من خلالها بين معرفة الآخر التي تعني – ضمناً- قراءته قراءة نقدية وبين قبول الآخر بمعنى تقبُّل فكره أو بمعنى آخر الاقتناع بهذا الفكر عندما تنتهي الحدود بين النظريات الفكرية مما يساوي بينها جميعاً، وفي هذا افتراض خاطئ في أنّ القبول مختلف عن معرفة الآخر وافتراضٌ آخر أن القبول يتساوى مع الاقتناع والتقبّل!
والملفت المثير للاستغراب أيضاً هو إقحام الكاتب لمفهوم الآخر عند " هيغل " و " فانون " في بحثه عن المفهوم المشوّه لقبول الآخر وهو ما يحاول الكاتب تقديمه على أنه النسخة العصرية الدارجة لهذا المفهوم، مما أوقع الكاتب مجدداً في الخلط – اعتماداً على ما ارتكز عليه من أقوال هؤلاء الفلاسفة حول الآخر – بين حالة العلاقة بين السيّد والعبد أو بين المستعمِر والمستعمَر والحالات الأخرى التي نتحدث عنها، ولا أظن – مجدداً – أن هنالك ممن ينادون بالقبول من يتباسط في طرح مفهوم القبول على هذا المستوى، وحتى إن وجد من يصل به التباسط واختلاط المفاهيم هذا الحد المثير للشفقة فإنه من الإجحاف تعميم تلك الحالة على شريحة أوسع أو على مفهومٍ عام بريء من هذا الخلط، وإذا فسحنا المجال أمام تمرير هذا الخلط فإنه لا يتوجب علينا وقتئذٍ انتقاد الآخرين الذين يعممون تصرفات فئة مسلمة أو أفكارها على المسلمين بأكملهم بل على الإسلام ككل، ولا أظن أيضاً أنه من المنطقي والموضوعي استعارة قول " هيغل " عن أن كل وعي للذات يطارد موت الآخر، ليستلهم منها الكاتب بأن كل قبول بالآخر قد ينتهي بانتحار الذات! فعلاوةً على أنني أرفض مقولة هيغل فوعي الذات لا يتطلب بالضرورة موت الآخر، كما لا يتطلب قبوله هلاك هذه الذات، كما أنني أستغرب استخدام الكاتب مقولة هيغل للخروج منها بفهم لقبول الآخر يجعله عنواناً لمقالته علماً بأن هيغل نفسه هو حسب مقاييس الكاتب " آخر " ينتمي لمنظومة فكرية مختلفة، وهنا يحضرني كلام الكاتب عن تصريحه بأن الآخرين ممن يقولون بقبول الآخر وقعوا تحت تأثير دونيتهم واستلابهم للآخر " الأشقر "، فهل يا ترى يحق لنا طرح التساؤل نفسه بخصوص استلابه أمام مقولة هيغل الإقصائية ! ويستمر الكاتب في خلطه بين قبول الآخر، وبين الاستسلام لعدوٍ يحاول محوَ كيانك وإلغاء ثقافتك وصهرك ضمن كيانه الحضاري، ولكن هذا الخلط ما كان ليدعو للقلق طالما أنه بدا واضحاً من عنوان المقال ومما ورد فيه من أفكار، ولكن ما يدعو للقلق فعلاً ويحتاج وقفةً وتأملاً أن الكاتب حقيقة لا يؤمن بقبول الآخر على مستويات أضيق من هذه وأكثر وضوحاً وحساسية، ففي مقابلةٍ معه نشرت على موقع دار الفكر على هامش التكريم، وفي سؤال وجه له عن طريقة تعامله مع الرأي الآخر يقول بأن مشكلته الحقيقية هي مع رأيين : أحدهما بلا انتماء محدد وبلا هوية واضحة، والآخر يظهر غير ما يبطن ويمرر أفكاراً مضادة عبر وضع شعارات إسلامية فضفاضة، طبعاً بعد أن استبعد بدايةً من لا تربطه معهم قواسم فكرية مشتركة، وإذا قاطعنا بين هذا الكلام وبين حديثه عن قبول الآخر في مقالته فإن ما سنتوصل إليه مختلفٌ تماماً عما قدّمه في مقالته الأولى، فبعد أن فهمنا أن لديه خلط بين الآخر " الفكري " والآخر العسكري التوسعي، كما فهمنا إن لديه إشكاليةً مع أن يصل القبول إلى درجة اعتناق مبدأ هذا الآخر ووضحنا الموقف من هذه الإشكاليات، فإن من الواضح أن للكلام أبعاداً أخرى تتجاوز حدود الآخر المهيمن ويتجاوز كذلك حدود الذوبان في الآخر، والكلام هنا يدل على أن الإشكالية حقيقةً أبعد من ذلك بل أعمق وأشد تجذّراً، إنها تتجاوز الخوف على الذات إلى مرحلة رفض حتى ذلك الآخر الذي لا يتبدّى لنا انتماءه الواضح – علماً أن هذه مسألة فضفاضة جداً لا يمكن ضبطها بتلك البساطة التي تظهر من خلال كلامه – والأسوأ من ذلك رفض الآخر الذي يبطن غير ما يظهر – وتلك مسألة أكثر إشكالية يمكن من خلالها إدخال كل المختلفين عنّا في هذه الخانة تمهيداً لرفضهم جميعاً بعد الولوغ في نواياهم - ولا أدري إن كان الكاتب يقبل من الآخرين معاملته بالطريقة نفسها ورفضه، وأرجو منه أن يقبل ذلك من باب قبول المعاملة بالمثل إن أراد، أو أن يقبله -هذه المرة فقط- طالما أنه وجد نفسه في نهاية المطاف أكثر تقبلاً للآخر من بعض الذين يتحدثون عن قبول الآخر- كما قال في نفس المقابلة – ومما يلفت النظر إضافة لكل ما هو ملفت، أن يقوم الكاتب بتقديم نفسه على أنه أكثر تقبلاً للآخرين في الوقت الذي يعلن فيه تحفظه الشديد على طريقة استخدامه في الأدبيات الإسلامية، كما لو أنه يجعل المقولة وأصحابها في قفص الاتهام بعد أن يؤصِّلها لغوياً وتاريخياً رابطاً بينها وبين أطروح هيغل " ديالكتيك السيد والعبد " وبين الترويج الإعلامي المصاحب للاستعمار الماحق للهويات، مع حرصه في الوقت نفسه على نسب شرف قبول الفكر الآخر لنفسه أيضاً وفي ذلك تناقضٌ عجيب !
وما يأخذه الكاتب على مفهوم قبول الآخر أيضاً هو خطورته كونه مصطلح فضفاض ومطاط، ولكن هذا ما يحدث مع كل المفاهيم تقريباً، فكلها قابلة لأن تُخرج خارج سياقها، ولا أعتقد أن رفض الآخر – ولو أُخذ بأكثر معانيه إيجابية – يمكنه أن يَشذَّ عن هذه القاعدة، فليس غريباً عن قصص التاريخ والواقع أنّ هذا الرفض قد وصل بأصحابه في كثيرٍ من الأحيان إلى إقصاء الآخر انتهاءً بتصفيته لتحقيق الذات، فهل المطُّ في هذا الجانب مسموحٌ بينما يحرَّم المطّ في الجانب الآخر؟! ، ألا وجود لحل وسط بين رؤيتين متطرفتين نستطيع أن نتلمس من خلاله طريقة التعامل بين المختلفين؟ ، أليس من هذه الأمة رجل رشيد ! ألم يصل الأمر بالكاتب في سعيه لتقزيم مبدأ قبول الآخر إلى الإتيان بالأعاجيب حين أراد الحديث عن اليهود الصهاينة وكيف أمسكوا بزمام سلطة الاقتصاد والسياسة والسلاح في هذا العالم، فقال أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه لو أنهم اعتنقوا فكرة قبول الآخر " انظر مقالته : شايلوك يذهب إلى نيويورك، المنشورة في القدس العربي "، فهل يا ترى يرى الكاتب أن تعصّب الصهاينة ورفضهم لكل من هو ليس صهيونياً أمرٌ سليم يحتذى في عملية التقدم والريادة الحضارية، وهل كانت مشكلتنا الحضارية مع قبول الآخر ابتداءً حتى نتخيَّل انطلاق نهضتنا مع بدء رفض الآخرين – على سبيل وعي الذات – وهل ملأت قصص القبول صفحات تاريخنا حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، أم أنه طغت عليه روايات أخرى لها لون مميز ورائحة لا تنسى خاصة في لحظات التقهقر والانحدار ؟!
ألم يقع فيما يحذر منه من الشطط – الذي يقع به أصحاب قبول الآخر على حد تعبيره – حين وصل به رفض المقولة إلى الاستدلال بعنصرية " الصهاينة " ورفضهم للآخر؟! أم أنّ الكاتب قرّر " قبول " فكرة رفض الآخر من " الآخر " الصهيوني، لما يجده فيها من مركزية في هرم النهضة؟! ألا يعتبر هذا قبولاً للآخر بشكلٍ من الأشكال، ولكن أية فكرة قبلناها من ذلك الآخر، وأيُّ آخرٍ هذا !! ترى أين يضع الكاتبُ " هؤلاء الذين قبل منهم عقيدتهم الإقصائية " ضمن قائمة أصناف الرأي الآخر – الأصناف التي أشار إليها في مقابلته - ، وهل يا ترى عاملهم بناءً على انتمائهم الواضح وهويتهم المحددة أم بناءً على كونهم يظهرون ما يبطنون، أم أن للكاتب اعتباراتٍ أخرى لها علاقة بلون الشعر الذي يشدّد عليه كلما اقتضى الأمر؟!
أرى أن استنتاجاته كلها تخرج من رحم مقولة واحدة يعبر عنها الكاتب في نفس مقالته عن الصهاينة : " الهوية هي الضحيّة الأولى التي تقدم على مذبح قبول الآخر " وهذا الكلام يعيدنا إلى ما قلناه حول الفرق بين قبول الآخر وبين اعتناق فكره، بين انمساخ الذات بصورة تشبه صورة الآخر وبين مسخ الوطن في طريق مسخ العالم بكل تنوعه على صورة ال " أنا " المتضخمة التي لا ترى في هذا العالم سوى لوناً واحداً وفكراً أحادياً طاغياً .. ختاماً أرجو أن أكون قد قدمت في مقالتي هذه مفهوماً ورأياً واضحين فيما تعنيه لي مسألة القبول، وآمل أن أكون قد وفقت في إيصال صورة جيدة عن قبول فكرٍ آخر وهو الذي يمثله المقال بصفته هو " الآخر " هذه المرّة، وهو قبول – حسب رأيي – يعترف بالآخر وبفكره كجزء أساسي من نسيجنا الثقافي، قبولٌ لا يتغاضى عن نقد ما نراه بحاجة إلى نقدٍ وتوضيح، بما يحقق التعايش – على بيّنة- بين فكرين مختلفين دون أن يقصي أحدهما الآخر، كما أرجو أن يجد نقدي التفهم من الطرف الآخر، فإن لم يكن على سبيل " قبول الآخر الذي لا يعتقد به الكاتب "، فليكن – إن أمكن – على سبيل تفهُّمه لحقي أو لواجبي – لا فرق بين الاثنين هنا - في التصدي لبعض الأفكار طالما أن الزبد – كما نعلم جميعاً - لا يمكن أن يذهب من تلقاء نفسه، فلا بد للمؤمنين بالفكرة من التوضيح دفاعاً عما يعتقدونه سليماً إلى أن يظهر الله الحق ويزهق الباطل عملاً بالآية الكريمة التي يعبِّر البعض عنها بنظرية الزبد : " كَذَلِكَ يَضْرِب اللَّه الْحَقّ وَالْبَاطِل فَأَمَّا الزَّبَد فَيَذْهَب جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنْفَع النَّاس فَيَمْكُث فِي الْأَرْض كَذَلِكَ يَضْرِب اللَّه الْأَمْثَال " الرعد17 هذا الزبد الذي أراه الآن على صورة فكرة " رفض الآخر " وما يقرِّب إليها ويزيّنها من محاولاتٍ لتشويه مفهوم " قبول الآخر" وتحريف دلالاته ... أما نظرية الزبد نفسها وما يثار حولها من لغط، فيحتاج منّا وقفة أخرى