الاستشراق كمشهد: الثّابت والمتغيّر في صورة المسلم في السّينما الأمريكيّة

نورالدين هميسي

 

مقدّمة:

غالبًا ما تصنّف السّينما في خانة الصّناعات التّرفيهيّة الّتي أنتجها المجتمع الجماهيريّ المعاصر، وذلك على الرّغم من إسهاماتها الكبيرة في صناعة الرّأي العامّ، وتشكيل صور الأشياء والأشخاص والدّول، يكون التّعامل مع صناعة السّينما بمنظور اقتصاديّ بارز، يظهر جليًّا في الأسلوب الأمريكيّ في التّرتيب الأسبوعيّ لإيرادات الأفلام، ومدى الإقبال عليها ومشاهدتها في صالات العرض، لكن - في بعض الحالات - يخرج التّعاطي مع الأفلام من قاعات السّينما إلى اهتمام وسائل الإعلام، بالنّظر إلى إثارتها لبعض القضايا الّتي تهمّ النّاس كثيرًا، على نحو يؤثّر كثيرًا في توجّهات الرّأي العامّ.

يشير وسام فاضل راضي في دراسة تاريخيّة تتبعيّة أجراها حول الجوانب الدّعائيّة في السّينما العالميّة أثناء النّصف الأوّل من القرن العشرين، إلى أنّ مختلف الأفلام الّتي كانت تنتجها الدّول الطّامحة إلى التّنافس على السّاحة الدّوليّة، تميّزت بحضور مكثّف للدّعاية السّياسيّة من أجل تعزيز التّوجهات الإيديولوجيّة والسّياسيّة لكلّ منها[1]، هذا الجانب الّذي يظهر خفيًّا عن النّقاش العامّ مقارنة بالأدوار التّرفيهيّة للسّينما يحتاج إلى دراسات سيميائيّة نصيّة معمّقة لإثباته، بشكل يسمح على نحو ما بإثبات أنّ هناك علاقة ارتباط تاريخيّة بين الأحداث المهمّة وتطرّق السّينما لها.

بزاوية النّظر هذه، يمكن فهم كيف تجسّدت صورة المسلم في السّينما الأمريكيّة منذ بداياتها إلى اليوم، وفي كلّ الأحوال، ومهما تنوّعت طريقة التّجسيد؛ فإنّ الرؤية المفعمة بروح الاستشراق حاضرة على الدّوام، تلك النّظرة الّتي تختزل الآخر في صورة نمطيّة يصعب أن تتغيّر ملامحها العامّة وحتّى بعض تفاصيلها، وقد وقع - مع الزّمن - التّغيّر تبعًا لظروف تاريخية معيّنة؛ حيث انتقل من صورة للعربيّ المسلم إلى صورة أخرى، دون الإتيان على جوهر هذه الصّورة: الآخر السّيّء.

1/ السّينما بين التّرفيه والأدوار الإيديولوجيّة:

ثمّة جدل كبير حول طبيعة السّينما كنشاط إنسانيّ، وهذا الجدل تتصارع على حدّيه وجهتا نظر متعارضَتين: أوّلاهما ترى أنّ السّينما لا تعدو أن تكون إلّا مجرّد صناعة ترفيهيّة، تضمن للمجتمع الجماهيريّ المعاصر وظيفة التّنفيس والتّطهير النّفسيّ، فيما تعدّ الثانية الأعمال السّينمائيّة ممارسات إيديولوجيّة، تتشكّل في الصّور الذّهنيّة للأشياء والأحداث في مخيال الجماهير، بطبيعة الحال، لا تتوان أيّ من وجهتَي النّظر هاتين في تقديم الأدلّة والبراهين الّتي تسندها وتدحض نقيضها.

بالنّسبة إلى وجهة النّظر الأولى؛ فهي منتشرة - بالدّرجة الأولى - في أوساط صانعي السّينما، كما تنتشر في بعض الأوساط الأكاديميّة الّتي ترى في التّقديم السّينمائيّ للأشياء مجرّد صناعة خيال لا ترتبط بالواقع بالضّرورة؛ بل تحاول أن تتجاوزه لتصنع عالمًا آخر ينفّس عن متاعب الواقع، يقول الكاتب المسرحيّ الفرنسيّ جان كوكتو في سياق دعم وجهة النّظر هاته: "حالات التّنويم المعناطيسيّ الّتي ينغمس جمهور السّينما فيها بالضّوء والظّلّ، تشبه - إلى حدّ كبير - جلسة تحضير الأرواح، ثمّ يعبّر الفيلم عن شيء آخر غير ما هو عليه، ذلك الشّيء الّذي لا يمكن لأحد أن يتوقّعه"[2].

ولا يتردّد كوكتو - بداية من عنوان كتابه "فنّ السّينما" - في إطلاق وصف الفنّ على مجمل الإنتاج السّينمائيّ، بما فيه السّينما التّوثيقيّة، وهو في ذلك يشدّد على الصّلات الوثيقة الموجودة بين السّينما، بوصفها فنًّا سابعًا، وبين المسرح والشّعر لكونهما معلَمَين من معالم الفنّ الإنسانيّ المعاصر، لكن يبقى للسّينما في المجتمع المعاصر سبق كبير مقارنة ببقيّة الفنون، لأنّنا نعيش في رأيه عصر الصورة واللّون؛ حيث يوضّح: "لذلك تتسابق صناعة السّينما نحو حالة كارثيّة من الكمال، وفي أية حال من الأحوال؛ لن يمنع هذا النّوع من الكمال المهتمّين بالسّينما من ابتداع الرّوائع"[3].

بالمقابل؛ ثمّة سلبيّات في هذه الانطلاقة نحو الحالة الكارثيّة من الكمال؛ فيشير لويس دي جانيتي في كتابه "فهم السّينما" إلى أنّ الصّناعة السّينمائيّة، باعتبارها قائمة على كاتب النّصّ أو السّيناريو - الّذي لا يقلّ أهمية عن مخرج الفيلم - لم تضمن لصناّع فنّ الأدب العالميّين إيصال رسالتهم الفنيّة، مثلما تفعل الرّواية أو القصيدة، ويقدّم في هذا الصدد حالة بعض الأسماء على غرار؛ وليام فولكنر، وسكوت فيتزجيرالد، وناتانييل ويست، الّذين هبّوا إلى هوليوود بطموحات كبيرة، غير أنّهم سرعان ما اصطدموا بخصوصيّة هذا الفنّ، وإيلاء الأهميّة فيه للصّورة والصّوت[4]، يمكن أن نفهم من كلام دي جانيتي هذا؛ أنّ خصوصيّة السّينما كفنّ، تكمن في قوّة الصّورة والصّوت، مقابل قوّة الكلمات على مستوى الرّواية، وهذا ما يفسّر الشّيوع الكبير للسّينما - كفنّ جماهيريّ - مقابل نخبويّة الأدب؛ بل إنّ الأمر يتجاوز ذلك إلى حالة يتحدّث عنها دي جانيتي في خاتمة كتابه، إذ مكّنت السّينما بعض الرّوايات الرّخيصة– على حدّ تعبيره - من التّحوّل إلى أفلام سينمائيّة خالدة، على غرار فيلم "مولد أمّة"؛ الّذي كان تكييفًا سينمائيًّا لرواية توماس ديكسون المتواضعة، الّتي تحمل عنوان "رجل القبيلة"[5].

تضمن السّينما - بالنّسبة إلى عشّاقها وجماهيرها الواسعة - تقديمًا لواقع يمكن وصفه بالبديل، لكن عبر آليّات الاتّصال والإدراك نفسها: العين والأذن، لهذا السبب، وبالنّظر للامتزاج الّذي وقع بين شاشة التّلفاز وشاشة السّينما؛ أضحت صناعة الأفلام صناعة رائجة، بوصفها من بين أهم صناعات التّرفيه الّتي ميّزت المجتمع المعاصر، إضافة إلى بثّ مباريات كرة القدم والألعاب الإلكترونيّة، هذا ما يفسّر نموّ صناعة السّينما بشكل ملحوظ، والاحتفاء الجماهيريّ الواسع بها.

يمكن رصد مخلّفات هذا الاحتفاء برصد حجم الإنتاج السّينمائيّ في العالم؛ حيث يكشف تقرير المنظّمة العالميّة للتّربية والعلوم والثّقافة "اليونيسكو"، حول بيانات السّينما لعام 2015م، أنّ الكثير من الدّول؛ على غرار الولايات المتّحدة، روسيا، الصّين، الهند، البرازيل، فرنسا، إنجلترا، ألمانيا، إسبانيا، ...إلخ، أنتجت أكثر من 100 فيلم، فيما تنتج دول مثل؛ كندا، السّويد، تركيا، واليونان، ...إلخ، بين 60 و100 فيلم، ويتراجع عدد الأفلام المنتجة في بقية دول العالم يرتبط - بشكل ملحوظ - بنسبة التنمية في البلد[6]، والقراءة النّقديّة لمثل هذه الإحصائيّات قد تقودنا - تدريجيًّا - إلى الانتقال إلى وجهة النّظر الثّانية؛ التي تقارب السّينما بوصفها جهازا إيديولوجيًّا بالأساس، إذا استعرنا تعبير لويس ألتوسير.

إذا فرضنا - مثلًا - أنّ السّينما الأمريكيّة هي محض صناعة، مثل غيرها، تضمن درّ مداخيل مرتفعة تظهر بوضوح في مقياس شبّاك التّذاكر الأسبوعيّ الأمريكيّ؛ الّذي يحدّد - أسبوعيًّا - ترتيب الأفلام وفق إيراداتها، فامتداد هذه الصّناعة إلى خارج أمريكا يطرح أسئلة محرجة - في نظر هربرت شيلر - حول فكرة السّعي إلى الهيمنة على ما وراء البحار؛ حيث يجب - برأيه - البحث في طبيعة الأفكار المصدّرة من قبل مؤسّسات الإنتاج الإعلاميّ، الّتي تشرف على صناعة السّينما أيضًا، وهي - في منظوره - أفكار تسوّق لغايات مشروع اقتصاديّ ليبراليّ يسعى إلى الهيمنة على العالم[7]، مثل هذا الكلام المجمل يمكن تفتيته على نحو آخر، وفق ما تراه المدارس النّقديّة - من فرانكفورت إلى برمنغهام - حول مسألة الصّناعات الثّقافيّة.

إنّ السّينما، بوصفها إحدى أهمّ الصّناعات الثّقافيّة الّتي تبلورت في المجتمع المعاصر، تظهر كأحد أهمّ مفرزات منعرج العولمة، وهي - على حدّ تعبير سايمون ديورنغ - انعكاس لعلاقات القوّة في العالم؛ حيث يقول في هذا الشّأن: "إنّ الموادّ الثّقافيّة هي نصوص لها معنى وأحداث وتجارب ينتجها ميدان قوّة اجتماعيّة مكوّن - بشكل غير متساو - من تيّارات نفوذ وهرميّات اجتماعيّة، وفرص للعديد من أنواع الإبعاد والدّمج والمتعة، وهي - أيضًا - مؤسّسات اجتماعيّة، بعضها مرتكز في الدّولة، وبعضها الآخر في السّوق"[8].

إنّ عولمة الأسواق سمحت بتجاوز المواد السّينمائيّة حدود الدّول، لكنّ الرّهان الحقيقيّ ليس هنا؛ إنّما في طبيعة ما تحمله هذه المواد من مؤثرات في علاقات القوّة، وهذا هو - تحديدًا - الرّهان الإيديولوجيّ لصناعة السّينما.

وليست وظيفة السّينما - حسب وجهة النّظر الّتي تراها ممارسة إيديولوجيّة - صناعة لعالم تنفيس أو ترفيه، ولا حتّى تقديم صورة عن الواقع، مثلما تدّعي السّينما الوثائقيّة أو التّسجيليّة؛ بل هي توجيه الواقع الحاليّ نحو وضعيّات معيّنة تخدم - بالأساس - معتقدات ما أسماه ديورنغ بميدان القوّة الّذي أنتجها، وفي هذا الشّأن؛ يضيف أوليفييه فوارول: إنّ السّينما - كما التّلفاز - لا تقدّم الواقع، ولا تحاكيه كما هو؛ إنّما تحاول إخضاعه ومطابقته مع غايات معيّنة، لكن مع منحه جرعة جاذبيّة ثقافيّة معيّنة، تؤثّر - بالأساس - على الأفراد الضّعفاء وغير القادرين على مواجهة الواقع برؤية نقديّة[9]، يفسّر مثل هذا الرأي لماذا لجأت بعض الدّول إلى إجراءات وقائيّة ضدّ المنتجات السّينمائيّة الوافدة إليها من وراء البحار، وتمكن الإشارة - هنا - إلى الدّراسات التي أجراها تينيك؛ الّتي بيّنت كيف أنّ دولة مثل كندا رفضت منتجات هوليوود، وكرّست وقتها الأكبر لعرض منتجاتها الثّقافيّة الخاصّة بها، بالنّظر إلى الخطر الإيديولوجيّ الذي صارت تمثّله[10].

إنّ مشكلة الأدلجة أو تقديم الواقع وفقًا لرؤية معيّنة، لا تمسّ صناعة السّينما الخياليّة أو الرّوائية فقط؛ فحتّى السّينما الوثائقيّة لم تفلت من التّوظيف الإيديولوجيّ، ويمكن أن نعود - هنا - إلى رأي جون غريرسون؛ الّذي يرى أنّ وصف الوثائقيّ (documentaire) لا يعني أنّ السّينما الوثائقيّة تحافظ على عذريّة الوثيقة ونزاهتها؛ ذلك أنّ السّينما الوثائقيّة هي التّناول الخلّاق للحقيقة الواقعيّة، وتدريجيًّا؛ فإنّ الفوارق بينها وبين السّينما الخياليّة سرعان ما تتناقص[11]، إضافة إلى غريرسون، يمكن أن نستأنس بمقولة خالدة للأديب الإنجليزيّ الشّهير (جوزيف كونراد)، يقول فيها: "إنّ الخيال هو تاريخ البشر، وإلّا فهو لا شيء"[12].

مهما كانت هناك حجج وبراهين - من قبل منتجي السّينما وبعض مفكّريها - تفند أن يكون للفيلم أيّ دور إيديولوجيّ؛ فإنّ الكثير من منتجات هوليوود الّتي تناولت موضوع الإسلام والمسلمين، كثيرًا ما أثارت جدالات واسعة ونقاشات حادّة حول موضوعيّتها وعدم سقوطها في فخّ الممارسة الإيديولوجيّة؛ فالفيلم يبقى - في النّهاية - نصًّا، ولا يمكن - من زاوية الفلسفات المعاصرة - مقاربة النّصّ من منطلق رؤية صاحبه فقط؛ حيث يبقى للمتلقّي هامش واسع لقراءة النّصّ.

تشدّد لينا الخطيب - في كتابها "فلمنة الشّرق الأوسط الحديث" - على أنّ كلّ ما أنتجته سينما هوليوود متناولًا مواضيع الدّول العربيّة، الّتي تضاف إليها - غالبًا - صفة المسلمة، إنّما كان يسير على شكل موازٍ مع ما عرفته العلاقات الأمريكيّة تاريخيًّا مع هذه الدّول، بالتّالي؛ فإنّه لا يمكن مقاربة خطابات هذه السّينما بمعزل عن الأطر التّاريخيّة، استنادًا إلى مقولات ميشال فوكو بأنّ أيّ خطاب ليس سوى جملة تردّدات وإبدالات أنتجت في زمن معيّن، بالتّالي؛ فإنّ علاقة الفيلم بالتّاريخ هي علاقة ذاتيّة على نحو ما[13]، تنتشر هذه الحقيقة في أغلب أفلام هوليوود التي تناولت صورة العرب والمسلمين، ويقدّرها جاك شاهين بنحو (900) فيلم، صاغ منها عنوان كتابه "العرب السّيّئون بحقّ"[14]؛ الّذي يكشف فيه - بعمق - عن الكثير من حيثيّات الدّعاية في تشكيل صورة العرب في السّينما الأمريكيّة.

2/ السّينما الأمريكيّة وصورة المسلم: المؤثّرات التّاريخيّة الأساسيّة:

يتناهى ذلك الارتباط في الزمن الحالي بين المسلم والإرهاب إلى تفكير كلّ من يسمع أيّ حديث عن صورة المسلم في السّينما الأمريكيّة، وهذا الأمر - وإن كان صحيحًا - فإنّه يحتاج إلى بعد نظر، ذلك أنّ صورة المسلم ليست بالصّورة الجديدة على صناعة الأفلام الأمريكيّة، ومن المهمّ طرح التّساؤل حول طبيعتها، إذا انطلقنا من أن الارتباط بين صورة المسلم والإرهابيّ أو عدو قيم الحضارة الغربيّة - إذا ما عدنا إلى تصوّرات صامويل هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات"[15] - ليس سوى وليد السّنوات الأخيرة الّتي انتشرت فيها ظاهرة الإرهاب في العالم، وقراءتها بوصفها علامة على حرب حضارية بين الغرب وإحدى أهم الحضارات الإنسانيّة الّتي لا تتقاسمه نفس المفاهيم.

لا يمكن فهم ما تقدّمه السّينما الأمريكيّة بخصوص صورة الإسلام والمسلمين على نحو هذه الشّاكلة فقط، وبمعزل عن السّياقات التّاريخيّة، الّتي تحدّد طبيعة العلاقات بين أمريكا الدّولة والمجتمع المدنيّ والسوق من جهة، والإسلام والمسلمين - كمؤسّسات وأفراد - ودول من جهة أخرى، فالفيلم السّينمائيّ الوثائقيّ يحاول تقديم - ما يسمّيه ماهر ماجد إبراهيم - الطّرح القصصيّ الواقعيّ، أو القصص التّاريخيّة المحقّقة علميًّا[16]، لكن حتّى السّينما الخياليّة تحاول أن تقدّم خيالًا يستجيب - من النّاحية التّاريخيّة - للمواضيع الأكثر راهنيّة وتحقّقًا؛ أي أكثر صلة بالقضايا محل الاهتمام المتداول في اللّحظة.

يعني هذا - من جهة - أنّ صناعة السّينما؛ هي صناعة تواكب صناعات الإعلام الإخباريّة والوثائقيّة الأخرى، وتخضع لأجندة تاريخيّة معيّنة، بالتّالي؛ فإنّ صورة المسلم الإرهابيّ لا تعدو أن تكون إلّا نتاج حقبة تاريخيّة معيّنة، جاءت ضمن سلسلة حقب ارتسمت فيها العديد من الصّور، الّتي حاولت السّينما من خلالها الاستجابة لطبيعة العلاقات بين الولايات المتّحدة والدّول الإسلاميّة من جهة، ولطبيعة المتطلّبات الإيديولوجيّة الّتي ترافق هذه العلاقات تاريخيًّا.

تمحورت وظيفة السّينما تاريخيًّا - حسب لينا الخطيب - عند تقديم تقابلات ثنائيّة بشكل دائم بين الغرب والشّرق، بين المتحضّر والمتخلّف، وبين المسالم والبربريّ العنيف[17]، وهذه التّقابلات الّتي زرعتها - بالأساس - الدّراسات الاستشراقيّة، ليست في الأصل - حسب إدوارد سعيد - سوى بناءات وهميّة صنعتها جغرافيا خياليّة[18]، وهي بذلك تخفي في جعبتها الكثير من الممارسات الإيديولوجيّة الّتي كرّسها البشر لخلق هذا المجال الجغرافيّ، المسمّى شرقًا، رغم أنّه ليس منفصلًا على هذا النحو.

مثّلت السّينما - في هذا التّصوّر - إحدى أهمّ الأدوات الّتي ابتكرها الغرب لصناعة الشّرق، والشّرق الإسلاميّ تحديدًا؛ لأنّه محلّ دراستنا، وبذلك؛ فإن التّزامن بين نمو وازدهار الاستشراق وبدايات صناعة السينما كان فرصة لاستكمال هذه المهمّة الإيديولوجيّة؛ الّتي بدأت من خلال الكتابات الأكاديميّة والفلسفيّة والأدبيّة، كما يرى إدوارد سعيد، وهي مهمّة صناعة صورة الشّرق السّلبيّة المقابلة لصورة الغرب الإيجابيّة.

يمكن أن نقول في هذا الصدد بأن ما قدمته صناعة السينما الغربية عموما والأمريكية تحديدا في تناولها لموضوع المسلم والإسلام قد عرف تحولات تاريخية واضحة صنعتها سياقات العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين الولايات المتحدة والغرب إجمالا وبين الدول المسلمة، وهذه التحولات تضم تكريس ثلاث صور رئيسية للمسلم هي: الغامض والمجهول الذي حاول الاستشراق معرفته، المتخلف الجاهل الذي لا يملك سوى النفط والمال الذي أظهرته حرب 1973 ضد إسرائيل وأزمة النفط، ثم أخيرا العدو الخطير التي أضحت الصورة الأبرز منذ أحداث 11 سبتمبر وصعود ظاهرة الإرهاب والإسلام الأصولي الجهادي.

في بدايات الصّناعة السّينمائيّة، غلب على الأفلام الأمريكيّة الّتي تناولت الشّرق الإسلاميّ، كموضوع تلك النّظرة الأنثروبولوجيّة، وفي هذا الصّدد؛ يتحدّث لويك برنار عمّا يسمّيه "السّينما الاستشراقيّة"؛ أي - على نحو ما - اللّحظة التّاريخيّة الّتي التقت فيها البدايات الأولى للسّينما مع بروز الاستشراق، كتجسيد لتلك العلاقة بين الغرب في صورة البطل والشّرق المجهول والغامض[19]، هذه التّفرقة الّتي بُنيَت على نحو تعسّفيّ يمكن فهمها - في رأي لينا الخطيب - بالعودة إلى كتاب إدوارد سعيد وبإجراء مقارنة بين تصوّر الشّرق لنفسه في إنتاجه السّينمائيّ، وبين ما قدّمته السّينما الاستشراقيّة كصورة؛ حيث يلاحظ حجم التّناقضات في طبيعة الصّورة المرسومة عن الشّرق المسلم، وهي - حسب الخطيب - فروق ناجمة عمّا يطلق عليه إدوارد سعيد "دوغمائيّة الاستشراق"[20].

إنّ هذا النّقد للسّينما الاستشراقيّة لم يأت من خارج الغرب فقط؛ بل من داخله أيضًا، حيث يبرز جون بول كولاين بأنّ الفيلم الأنثروبولوجيّ بقي مفتقدًا للكثير من الموضوعيّة؛ لأنّ الممارسة العلميّة يجب أن تخضع للتّصفية من الأوسام (les étiquetages)، والتّقسيمات القيميّة للمعطيات الرّاهنة[21]؛ أي أنّ ما أفرزته السّينما الاستشراقيّة - على نحو ما - كان يعمل على الدّوام على تقديم الشّرق دائمًا بأنّه كيان ثقافيّ متعارض مع الغرب، وهذا التّصنيف يفتقد تمامًا - كما كان يقول إدوارد سعيد - للرّوح العلميّة، ويكرّس نظرة تراتبيّة لا تؤمن بالاختلاف.

تاريخيًّا؛ انتقلت السّينما الأمريكيّة إلى مهمّة ثانية في تشكيل صورة العربيّ أو المسلم، وتزامن ذلك مع البحث عن شرعيّة ما لحركة الاستعمار التي باشرها الغرب منذ عقود سابقة؛ حيث ظهرت المساعي للبحث عن الشّرعيّة - بوضوح - مع الفيلم البريطانيّ لورانس العرب (Lawrence of Arabia) المنتج عام 1962م، الّذي تضمّن طرحًا إيديولوجيًّا بارزًا يدّعي بأنّ الغربيّ يسافر إلى البلدان العربيّة لتقديم المساعدة وتسويق قيم الحضارة لبلدان غير متحضّرة، ولا يقتصر الأمر - فقط - على تبرير الاستعمار، إذا تميّزت هذه الفترة بحدثين سياسيّين مهمّين أثّرا في العلاقات بين أمريكا والدّول الإسلاميّة من جهة، وأثّرا - تبعًا لذلك - في الإنتاج السّينمائيّ لهوليوود، وهما - في نظر لينا الخطيب - الصّراع العربيّ الإسرائيليّ وحرب الخليج[22].

تركّزت مهمّة السّينما في هذه الفترة على محاولة تلطيخ صورة الشّرق، ووسمه بأسوأ الصّفات: الجاهل، الجبان، المتخلّف والكسول النّائم على ثروات نفطيّة هائلة، وقد تحرّكت هذه الصّورة بقوّة على خلفيّة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ الّذي أسفر عن حرب أكتوبر 1973م، وما تلاها من ارتدادات تجسّدت في أزمة النّفط الّتي باتت تهديدًا صريحًا لمصالح الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عزّ الحرب الباردة، التقى الإنتاج السّينمائيّ لهوليوود - في هذه الفترة - مع جهد الدّعاية العامّ الّذي أفرزه الصّراع مع الاتّحاد السّوفياتيّ، وتميّزت الأفلام حينها بازدهار مشاهد العنف والحرب الّتي تمجّد أسطورة الجنديّ الأمريكيّ والمؤسّسة العسكريّة، وتعمل على تشويه صورة أعدائه[23].

لم يختلف حال السّينما الأمريكيّة - حينها - عن حال السّينما الكولونياليّة في بقيّة الدّول الغربيّة كفرنسا، وارتسمت صورة العرب كعدوّ نمطيّ، وآخر ثقافيّ يختلف تمامًا عن الغربيّ، كما يقول جاك شاهين، وأكثر من ذلك؛ فقد تكرّست بعض الصّورة النّمطيّة في مشاهد الأفلام، الّتي تهدف - ضمنيًّا - إلى التّقزيم ثقافيًّا من قيمة الآخر العربيّ؛ حيث يضيف شاهين: إنّ آثار أزمة النّفط - مثلًا - كرّست بعض القوالب الجاهزة، مثل: تصوير العرب دومًا على أنّهم أثرياء بفضل النّفط، لكنّهم يعيشون في الصحراء كبدو، ويركبون الجمال، ويعشقون النّساء[24].

من جانب آخر؛ أثّر النّزاع العربيّ - الإسرائيليّ في تشكيل صورة نمطيّة من نوع آخر؛ حيث تشير لينا الخطيب إلى أنّ الأفلام الّتي أنتِجت في فترة الحروب العربية الإسرائيليّة من 1948 إلى 1973م، سعت إلى طمس أسباب الصّراع الحقيقيّ، المتمثّلة - بالأساس - في الاستعمار والاستيطان الإسرائيليّ، وادّعاء أسباب أخرى تتمثّل - بالأساس - في كون الحرب ناشئة عن صراع بين جماعات عرقيّة ودينيّة؛ حيث سعت السّينما الأمريكيّة - في ذلك الحين - إلى دعم ادّعاءات الإسرائيليّين بحقّهم في الأراضي الفلسطينيّة، وفق النّصوص الدّينيّة[25]، هذا ما أسميناه من قبل "البحث عن شرعيّة أخرى لحركات الاستعمار"؛ بل أكثر من ذلك، تقديم دعم واضح لهذه الحركات من خلال محاولة تقديم إسرائيل كشريك في القيم الغربيّة.

نلاحظ - هنا - شدّة التّقارب بين أجندة السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة، وبين ما تقدّمه سينما هوليوود من إنتاج يهتمّ بصورة العرب والمسلمين، وهذا التّقارب يكن واضحًا بشدّة بسبب إيلاء هوليوود الجزء الأكبر من اهتمامها لشيطنة الاتّحاد السوفياتيّ على خلفيّة الحرب الباردة، وقد أصبح أكثر بروزًا ووضوحًا بعد انتهاء الحرب الباردة وخروج الولايات المتّحدة متفوّقة؛ حيث تفرّغت السّياسة الأمريكيّة لأجندتها الجديدة الّتي بدأت بحرب الخليج الأولى، الّتي دشّنت مرحلة جديدة في صناعة السّينما الأمريكيّة بالتّوجه نحو الشّرق باعتباره العدوّ الجديد والمقبل.

يمكن عدّ مقالة صامويل هنتجتون "صدام الحضارات" الصّادر عام 1993م في مجلّة "فورين أفيرز" إعلان رسميّ عن ذلك؛ حيث تنبّأ هنتجتون بأنّ الصّراعات القادمة للولايات المتّحدة لن تكون إيديولوجيّة، كما كان عليه الأمر في الحرب الباردة؛ بل ستكون ثقافيّة وحضاريّة، وأدرج - بذلك - الحضارة الإسلاميّة من بين ثمان حضارات يمكن أن تنافس الحضارة الغربيّة الّتي تمثّل الولايات المتّحدة طليعتها، وصعد مثل هذا الخطاب بقوّة على خلفيّة أحداث 11 سبتمبر 2001م الّتي نقلت السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة إلى مرحلة جديدة أطلق عليها اسم الحرب على الإرهاب، وكان المستهدَف الأساسيّ منها؛ الإسلام الأصوليّ الّذي أصبح مادّة دسمة في صناعة السّينما الأمريكيّة.

انتقلت صورة المسلم الّذي أضحى يظهر كمسلم أكثر منه عربي، كما تقول لينا الخطيب، إلى شكل جديد: العنيف، العدو، الخطير الّذي يهدّد القيم الحضاريّة للغرب وقيمه.

استثمرت السّينما الأمريكيّة أحداث 11 أيلول والكمّ الكبير للأخبار والمواضيع الإعلاميّة، لتكرّس هذه الصّورة؛ بل إنّ البثّ المباشر لحادثة سقوط البرجين أزاح - في نظر طوني شاو - كلّ الحدود الّتي كانت تفصل بين ما هو خياليّ وحقيقيّ في الموادّ الإعلاميّة حول العرب والمسلمين والإرهاب[26]، وانتشرت - جرّاء ذلك - الكثير من الأفلام الّتي حاكت الأحداث بدقّة، ممّا ساهم في خلق مشاهد الرّعب في أوساط الأمريكيّين، ومهّد - تبعًا لذلك - لقبول السّياسات الّتي باشرها الرّئيس الأمريكيّ جورج بوش الابن حينها، تحت مسمّى الحرب الاستباقية على الإرهاب الّتي كانت محصلتها الاتّجاه إلى غزو كلّ من أفغانستان والعراق.

نجحت الأفلام الّتي أُنتِجت بعد أحداث 11 أيلول في تحقيق شعبيّة كبيرة، وكانت فائدتها عظيمة بالنّسبة إلى السّياسة الخارجيّة؛ إذ توضّح إيلينا فانهالا أنّ الأمريكيّين أصبحوا يؤمنون كثيرًا بقدرة أبطالهم على التّصدّي لخطر الإرهابيّين على تراب بلادهم، وأيّ تهديد على حياتهم[27].

كانت موجة الأفلام الّتي تتناول مواضيع الهجمات الإرهابيّة على الولايات المتّحدّة قد بدأت سنوات على أحداث 11 أيلول، لكنّها لم تكن - في غالبها - تربط بين الإرهاب والإسلام الأصوليّ، وكان يجب انتظار سقوط برجي التّجارة لربط هذه العلاقة بطريقة نمطيّة تخلط، كما ترى لينا الخطيب بين مفهوم الإرهاب وبين مفاهيم عديدة: الاختلاف، المقاومة والوطنيّة[28].

3/ نماذج من تحوّلات صور المسلم في السّينما الأمريكيّة:

لم تكن السّينما الأمريكيّة تسير بمعزل عن تصوّر السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة تجاه الدّول المسلمة، وفي هذا الشّأن؛ يمكن تتبّع أثر بعض التّرابطات الّتي كانت تظهر واضحة بين محتوى الأفلام في فترات معيّنة، وبين أهداف السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة، ولم تخرج مختلف الصّور الّتي شكّلتها الأفلام الأمريكيّة عن نطاق المنظور الاستشراقيّ الإثنيّ الثّقافيّ الّذي يكرّس العربيّ/ المسلم بوصفه أقلّ درجة، وتابعًا وبحاجة إلى المساعدة، حتّى وإن اختلفت السّيناريوهات والحبكات السّينمائيّة.

لا يمكن حصر كلّ الأفلام الّتي عالجت صورة المسلم والعربيّ ضمن موضوعاتها، فقد ذكرنا - سابقًا - على لسان جاك شاهين: أنّ عدد الأفلام في هذا المضمار وصل إلى 900 إلى غاية سنة 2001م، تاريخ إصداره لكتابه، لكنّنا سنعمل على تقديم بعض النّماذج الّتي يمكن الإفادة منها في كشف طبيعة التّحوّلات الّتي مسّت صورة المسلم في السّينما الأمريكيّة، انطلاقًا من تأثّر هذه التّحوّلات بمنعرجات السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة في نظرتها لمختلف القضايا المتّصلة بالدّول الإسلاميّة.

لم تكن سينما الاستشراق تولي أهميّة لعنصر الإسلام، بقدر ما كانت تسعى إلى التّعرّف إلى صورة المجتمع الشّرقيّ الغامض والمجهول، لذلك؛ فقد اتّسمت أكثر بكونها أنثروبولوجيّة أو إثنوغرافية ركّزت مجهوداتها في بناء الصّورة على العادات واللّغات والطّقوس الّتي تشكّل وحدة هذا الكائن[29]، ولم يكن الإسلام يشكّل حينها مكونًا مهمًّا في نظر السّينما الاستشراقيّة الّتي حاولت تقديم صورة عن المجتمعات الشّرقيّة، الّتي لا تعرفها جماهير السّينما في الغرب.

يقدّم صامويل سكوري تحليلًا لأهمّ الأفلام الّتي ميّزت السّينما الاستشراقيّة، ويمكن أن نستنتج من تحليله بأنّ ما جرى تناوله كان مستمدًّا من التّراث الثّقافيّ العربيّ الشّهير، جرى تقديمه بشكل استعراضيّ فانتازيّ بهدف الحثّ على التّعرّف على أرض العرب العجيبة؛ حيث يمكن رصد قائمة الأفلام الآتية[30]:

- فيلم "ألف ليلة وليلة" (the Thousand and one nights): الذي أنتجته استديوهات هوليوود عام 1945م، وأُعيد إنتاجه عام (2015م) تحت عنوان "اللّيالي العربيّة/ (Arabian Nights)".

- فيلم "لصوص بغداد" (the thieves of Baghdad): المنتج عام (1940م) بالاشتراك مع بريطانيا.

- فيلم "علاء الدّين والمصباح السّحريّ" (Aladdin): الّذي أنتجته السّينما الهنديّة في عام (1957م) قبل أن تعيد هوليوود إنتاجه عام (1969م)، وقد تضمّن فانتازيا مثيرة لاقت نجاحًا كبيرًا.

ويضيف جاك شاهين قائمة طويلة من الأفلام الّتي تمثّلت رحلات شبه أنثروبولوجيّة إلى البلدان العربيّة، تقترب من المغامرات، ويمكن تقديم أمثلة عن هذه الأفلام كالآتي[31]:

- "العربيّ/ (The Arab)": إنتاج 1924م.

- "عبد الله العظيم/ (The Gteat Abdullah)": إنتاج عام 1956م.

- "الحركة العربيّة/ (Action In Arabia)": إنتاج عام 1944م.

- "مغامرة في العراق/ (Adventure In Iraq)": إنتاج سنة 1943م.

- "مغامرة في الصّحراء/ (Adventure In Sahara)": إنتاج عام 1938م.

- "علي والجمل النّاطق/ (Ali and The Talking Camel)": إنتاج 1960م.

غلب على هذه الأفلام عناوين المغامرة والطّابع الخياليّ الاستعراضيّ، الّذي حاول أن يقدّم ما يشبه رحلة للغربيّ في صورة "أليس إلى بلاد العجائب العربيّة"، أو الأرض الغامضة المجهولة المسكونة بالكثير من الغرباء، هذه النّظرة الإثنومتمركزة أثّرت - منذ البدء - في صورة العربيّ/ المسلم، ومهّدت بشكل كبير لتشكيل صورة العرب النّمطيّة الّتي ازدادت سلبيّة في الفترات اللّاحقة؛ حيث لم تساعد صورة الغريب والمجهول والغامض إلّا على تكريس صورة أكثر فداحة؛ كالتّخلّف والجهل والغباء.

بقيت صورة العربيّ المتخلّف الجاهل البربريّ والجبان حاضرة بقوّة في فيلم "المومياء/ (the mummy)" المنتج عام 1999م؛ الّذي يحاول - في نظر لينا الخطيب - أن يظهر الغربيّ بصورة عكسيّة: المتحضّر، العالم، السّاعي إلى الخير، والشّجاع، أو في فيلم "الملوك الثّلاثة/ (the three kings)" المنتج في نفس السّنة؛ الّذي يظهر تدخّل جنود أمريكيّين لإنقاذ مجموعة من المدنيّين العراقيّين الرّازحين تحت نير الظّلم والدّكتاتوريّة، وهنا نلاحظ التّرابط الواضح بين الصّور الّتي تنتجها السّينما، وبين أهداف السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة الّتي تجسّدت في غزو العراق لسنوات قليلة بعد ذلك، تحت مسمّى "إسقاط الدّكتاتوريّة ونشر الدّيمقراطيّة"[32].

انتشرت الصّورة النّمطيّة للشّرقيّ العربيّ/ المسلم كعدو، وآخر ثقافيّ مختلف جدًّا، في أفلام على غرار فيلم "كومندو/ (commando)" المنتج عام 1968م، وفيلم "احتجاز/ (hostage)" المنتج عام 1986م، والّلذين يكرّسان في حواريهما الكثير من الصّور الجامدة عن العربيّ، مثلما ينقله جاك شاهين؛ حيث نجد في الحوار عبارات على غرار "كلّ العرب مختلفين عنّا"، و"لا يمكنّني أن أقول لأيّ عربيّ إنّه مثلي"[33].

بالتّزامن مع اشتداد الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، قدّمت سينما هوليوود مجموعة من الأفلام الّتي حاولت تأويل هذا الصّراع بوصفه إثنيًّا، وتستدل لينا الخطيب بفيلم "قوّة ديلتا/ (The Delta Force)"؛ المنتج بالشّراكة مع إسرائيل عام 1986[34] الّذي يصوّر حادثة اختطاف طائرة على هامش حادثة الرّهائن في السّفارة الأمريكيّة في طهران؛ حيث يعامل المختطفين الإسرائيليّين على نحو خاصّ، بتحويلهم إلى مكان مجهول في العاصمة اللّبنانية بيروت.

وتستعرض الخطيب فيلما آخر؛ هو فيلم "فتاة البوق الصّغيرة/ The Little Drummer Girl" المنتج عام 1984م، الّذي تدور أحداثه حول قضايا تجسّس؛ حيث يصوّر الفيلم المقاومة الفلسطينيّة على أنّها مجرّد ثورة اجتماعيّة من شعب ضدّ حكومته الإسرائيليّة[35]، وأُنتج في نفس السّنة فيلم "السّفير/ (The Ambassador)" الّذي يحمّل الفلسطينيّين مسؤوليّة إخفاق عمليّة السّلام في الشّرق الأوسط، بتقديمهم على شكل قتلة يقضون على كلّ رجل سلام؛ سواء كان فلسطينيًّا أو إسرائيليًّا[36].

في المرحلة الثّالثة من صناعة صورة المسلم في السّينما الأمريكيّة؛ شكّلت أحداث (11 أيلول 2011م) منعرجًا حقيقيًّا، برزت فيه صفة المسلم على حساب صفة العربيّ الّتي هيمنت لسنوات طويلة على إنتاج هوليوود، وقد ارتفع عدد الأفلام المنتجة في هذه المرحلة بشكل كبير، بالنّظر إلى حجم الصّدمة الّتي خلّفتها الهجومات على برجَي التّجارة، وعلى مقرّ البنتاغون.

ويمكن - في هذا الصّدد - سوق ملاحظة مهمّة جدًّا، هي؛ أنّ الأفلام عن ظاهرة الإرهاب أنتجت بقوّة قبل أحداث أيلول، لكنّ الأحداث جلبت لها نسب مشاهدة عالية، ويمكن - هنا - الخوض في قضيّة فيلم "ضرر جانبيّ/ (collateral damage)"؛ الّذي أنتجته استديوهات وارنر بروس قبل أحداث (11 أيلول) من بطولة أرنولد شوارزنيغر، وجسّد وقوع عمليّة إرهابيّة في الولايات المتّحدة، شبيهة كثيرًا بأحداث برجَي التّجارة، لكنّ عرض الفيلم تأجل إلى غاية سنة 2002م، ونفس الشّيء يقال بالنّسبة إلى فيلمَي "موت صعب/ (Die Hard)"، و"المقرّ/ (The Siege)"؛ المنتَجين عام 1998م[37]، الّلذين حقّقا نسب مشاهدة عالية في الأسبوع الأوّل الّذي تلا الأحداث، وحقّقت هذه الأفلام أثرًا كبيرًا في تشكّل صورة المسلم بوصفه إرهابيًّا، رغم أنّ هذه الأفلام تقدّم الإرهاب في صورة غامضة؛ لأنّها استثمرت كثيرًا في الخطر الّذي أضحى يهدّد أمريكا.

لم تدم هذه الصّورة الغامضة كثيرًا؛ لأنّ إنتاجات هوليوود سرعان ما تحوّلت إلى صناعة صورة تربط - بشكل سريع - بين الإرهاب والإسلام الأصوليّ، وتسيء كثيرًا، ليس لصورة المسلم فقط؛ إنّما صورة الإسلام والحضارة الإسلاميّة وثوابتها كاملة، وفي هذا الصّدد؛ يمكن أن نشير إلى حالة فيلم براءة المسلمين (the innocence of muslims) المنتج من قبل إحدى مؤسّسات الإنتاج في هوليوود، الّذي - رغم أن مدّته لا تتجاوز 14 دقيقة - إلّا أنّه أثار ضجّة كبيرة؛ لأنّه يصنع مشاهد موازية بين حياة الرّسول محمّد - صلّى الله عليه وسلّم - وبين حياة مواطن قبطيّ أمريكيّ من أصول مصريّة؛ حيث يحاول الفيلم نقل ما يسمّيه بـ"نفاق الإسلام"، ممّا أدّى إلى عدم عرضه في الصّالات، والاكتفاء بطرحه على شبكة الإنترنت، مع وجود الكثير من المطالبات بحذفه، وقد تغذّت مثل هذه الأفلام على الدّراسات الاستشراقيّة الأولى، لكن بنوع من التّطرّف الّذي كانت آخر حلقاته - إلى يومنا - فيلم "هولوغرام للملك/ (a hologram for the king)"؛ المنتَج عام (2016م) من بطولة الممثّل توم هانكس الّذي قدّم صورة - جدّ سيئة - عن المملكة العربيّة السّعوديّة بالتّزامن - على نحو ما - مع ظهور قانون جاستا؛ الّذي يسمح بمقاضاة السّعوديّة عن تهم تورّطها في أحداث (11 سبتمبر 2001م).

خاتمة:

يمكن من خلال كل ما سبق ذكره أن نلاحظ مدى قوّة الرّابط الموجود بين صناعة السّينما الأمريكيّة من جهة، وبين مخطّطات السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة من جهة ثانية، وهذا فيما يتعلّق بصورة العربيّ/ المسلم، فبناء هذه الصّورة يتم وفقَ خطابات متجذّرة تاريخيًّا، إذا أخذنا بنمط التّحليل الّذي يقترحه ميشال فوكو؛ إذ لا يمكن لأيّ خطاب أن ينفصل عن سياقاته التّاريخيّة، تبعًا لذلك؛ فإنّ ما عرفته علاقات الولايات المتّحدة بالدّول العربيّة والإسلاميّة على الأصعدة؛ السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة، شكّل خلفيّة أساسيّة للتّحوّلات الّتي عرفتها صورة المسلم الّتي تحوّلت إلى محض دعاية وإيديولوجيا.

لم تستطع السّينما الأمريكيّة، ولم ترد بطبيعة الحال، أن تتخلّى عن تلك النّظرة الاستشراقيّة الّتي رافقت بدايات تجسيدها للعربيّ المسلم في أفلامها، حتّى حين أضحى العالم أكثر انفتاحًا ومعرفة وضيافة لبعضه، ازدادت ارتباط حضور المسلم في منتجاتها السّينمائيّة بتلك الصّورة البائسة، ولقي هذا الارتباط قبولًا واسعًا في الغرب، على خلفيّة انتشار الإرهاب الدّوليّ، وبطريقة ما، أضحى هناك إمداد قويّ من المواد الإخباريّة في التّلفاز الّتي فتحت المجال لتقبّل ما تقدّمه السّينما من مواد خياليّة تحديدًا، واستمرّ هذا الخيال الّذي هو - في الآن نفسه - آليّة عمل الاستشراق ذاته، في بناء صورة وهميّة غير مؤسّسة عن المسلمين.

الأهمّ من كلّ هذا؛ هو التّساؤل حول الغاية الّتي من أجلها تستمرّ السّينما الأمريكيّة في المراهنة على هذه الصّورة السّيئة، فهنا يمكن أن نحدّد وظيفتين إيديولوجيّتين أساسيّتين للسّينما الأمريكيّة في مسايقتها للسياسة الخارجيّة الأمريكيّة: أولاهما متّصلة بوظيفة التّبرير؛ حيث سعت الكثير من الأفلام إلى تقديم غطاء إيديولوجيّ يبرّر الكثير من السّياسات، وأبرزها: الاستعمار؛ حيث وقت السّينما هنا في مطبّات أخلاقيّة من خلالها ارتكاسها إلى فلسفة الاستشراق، الّتي ادّعت تفوّق الغرب على الشّرق، وتدخّله لنقل التّحضّر إلى مجتمعات متخلّفة، وهي الفلسفة الّتي ميّزت السّينما الكولونياليّة.

أمّا ثاني الوظائف؛ فكانت مرتبطة بتهيئة الرّأي العامّ لتقبّل السّياسات والمخطّطات المستقبليّة، وهذه الوظيفة حاضرة بقوّة في الأفلام الّتي سبقت أحداث (11 سبتمبر)، الّتي جعلت الأمريكيّين ملتفّين حول سياسة بلادهم الخارجيّة تحت راية ما يسمّى "الحرب على الإرهاب"، ومثل هذه الأفلام استفادت من واقعيّة الأحداث التي عرفتها نيويورك فيما بعد، لتقوّي الأطروحات الّتي قدّمتها الأفلام سالفة الذكر، على أساس أنّها مبنيّة لمجهول.

في النّهاية نقول: إنّ الاستشراق الّذي اتّخذ صفة أبحاث ودراسات ثقافيّة واجتماعيّة، اتّسمت بالتّحيّز والنّظرة المركزيّة، حاول أن يرسم - في دوائر بحثية ضيّقة - رؤية الغرب للشّرق المسلم، لكنّه - عبر السّينما - جعل من هذه الرّؤية مشهدًا جماهيريًّا واسع الانتشار، أخرج تلك الصّورة المتحيّزة عن المسلم إلى الرّأي العامّ العالميّ، وعلى الرغم من كون هذه الصّورة محض إنتاج للخيال، إلّا أنّ إفرازات هذا الخيال استحالت إلى واقع يعانيه المسلمون في الغرب يوميًّا.

 

قائمة المراجع:

 - إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربيّة للشّرق، ترجمة: محمّد عناني، رؤية للنّشر والتّوزيع، القاهرة، 2006م.

 - جان كوكتو، فنّ السّينما، ترجمة: تماضر فاتح، منشورات وزارة الثّقافة السّوريّة، دمشق، 2012م.

 - سايمون ديورنغ، الدّراسات الثّقافيّة: مقدّمة نقديّة، ترجمة: ممدوح يوسف، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت. 2015م.

 - صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، إعادة صنع النّظام العالميّ، ترجمة: طلعت الشّايب، منورات سطور، القاهرة، 1999م.

 - لويس دي جانيتي، فهم السّينما: السّينما والأدب، ترجمة: جعفر علي، منشوارت عيون، القاهرة، 1993م.

 - ماهر ماجد إبراهيم، الوثيقة السّينمائيّة بين الواقع والخيال، مجلّة الأكاديميّ، جامعة بغداد، العدد 48، 2008م، ص ص 151 - 172.

 - هربرت شيلر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة: عبد السّلام رضوان، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، 1990م.

 - وسام فاضل راضي، الجوانب الدّعائيّة في السّينما العالميّة أثناء النّصف الأوّل من القرن العشرين، مجلّة الباحث الإعلاميّ، جامعة بغداد، العدد 1، 2005م، ص ص 151 - 173.

 - Helena Vanhala: The Depiction of Terrorists in Blockbuster Hollywood Films, 1980–2001. McFerland. North Carolina. 2011.

 - Jack Shaheen: Reel bar Arabs, How Hollywood vilifies a people. Olive Branche Press. New York. 2001.

 - Jean - Paul Colleyn: Manières et matières du cinéma anthropologique. Cahiers d'études africaines. Vol. 30. N° 117. 1990. PP. 101 - 116.

 - Lina Khatib: Filming the modern middle east, Politics in the cinema of Hollywood and the Arab World. I.B.Tauris. London. 2006.

 - Loic Bernard: Cinéma et orientalisme: à la croisée des chemins. Séquences, La Ravue Du Cinéma. No 201. 1999. PP. 26 - 32.

 - Olivier Voirol: La théorie critique des medias de l’école de Frankfurt: Une relecture. Mouvement. No. 61. 2010. PP. 23 - 32.

 - Samuel Skurry: Orientalism in American cinema: Providing a historical and geographical context for post - colonial theory. A thesis presented to the graduate school of Clemson University for the requirement for the degree Master of arts history. 2010.

 - Timothy Havens et al: Critical media industry studies: A research approche. Communication, Culture & Critique. No 2. 2009. PP. 234 - 253.

 - Tony Shaw: Ciematic terror, A global history of terrorism on film. Bloomsbury Academic. New York. 2015.

 - http://uis.unesco.org/culture/pages/cinema - data - release - 2015.aspx


[1] وسام فاضل راضي، الجوانب الدّعائيّة في السّينما العالميّة أثناء النّصف الأوّل من القرن العشرين، مجلّة الباحث الإعلاميّ، جامعة بغداد، العدد 1، 2005م، ص 155

[2] جان كوكتو، فنّ السّينما، ترجمة: تماضر فاتح، منشورات وزارة الثّقافة السّوريّة، دمشق، 2012م، ص 23

[3] المرجع نفسه، ص 25

[4] لويس دي جانيتي، فهم السّينما: السّينما والأدب، ترجمة: جعفر علي، منشوارت عيون، القاهرة، 1993م، ص ص 5 - 6

[5] المرجع نفسه، ص 75

[6] يمكن الاطّلاع على تفاصيل التّقرير على الرابط الآتي:

http://uis.unesco.org/culture/pages/cinema - data - release - 2015.aspx

[7] هربرت شيلر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة: عبد السّلام رضوان، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، 1990م، ص 152

[8] سايمون ديورنغ، الدّراسات الثّقافيّة: مقدّمة نقديّة، ترجمة: ممدوح يوسف، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، 2015م، ص 24

[9] Olivier Voirol: La théorie critique des medias de l’école de Frankfurt: Une relecture. Mouvement. No. 61. 2010. P. 26.

[10] Timothy Havens et al: Critical media industry studies: A research approche. Communication, Culture & Critique. No 2. 2009. P. 247.

[11] ماهر ماجد إبراهيم، الوثيقة السّينمائيّة بين الواقع والخيال، مجلّة الأكاديميّ، جامعة بغداد، العدد 48، 2008م، ص 155

[12] Lina Khatib: Filming the modern middle east, Politics in the cinema of Hollywood and the Arab World. I.B.Tauris. London. 2006. P. 2.

[13] IBID. P. 3.

[14] Jack Shaheen: Reel bar Arabs, How Hollywood vilifies a people. Olive Branche Press. New York. 2001. P. 2.

[15] صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، إعادة صنع النّظام العالميّ، ترجمة: طلعت الشّايب، منشورات سطور، القاهرة، 1999م

[16] ماهر ماجد إبراهيم، مرجع سابق، ص 161

[17] Lina Khatib: Op. Cit. P. 4.

[18] إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربيّة للشّرق، ترجمة: محمد عناني، رؤية للنّشر والتّوزيع، القاهرة، 2006م، ص 111

[19] Loic Bernard: Cinéma et orientalisme: à la croisée des chemins. Séquences, La Ravue Du Cinéma. No 201. 1999. P. 26.

[20] Lina Khatib: Op. Cit. P. 6.

[21] Jean - Paul Colleyn: Manières et matières du cinéma anthropologique. Cahiers d'études africaines. Vol. 30. N° 117. 1990. P. 103.

[22] Lina Khatib: Op. Cit. P. 105.

[23] وسام فاضل راضي، مرجع سابق، ص 162.

[24] Jack Shaheen: Op. Cit. PP. 3 - 4.

[25] Lina Khatib: Op. Cit. P. 107.

[26] Tony Shaw: Ciematic terror, A global history of terrorism on film. Bloomsbury Academic. New York. 2015. P. 224.

[27] Helena Vanhala: The Depiction of Terrorists in Blockbuster Hollywood Films, 1980–2001. McFerland. North Carolina. 2011. P. 87.

[28] Lina Khatib: Op. Cit. P. 201.

[29] Loic Bernard: Op. Cit. P. 27.

[30] Samuel Skurry: Orientalism in American cinema: Providing a historical and geographical context for post - colonial theory. A thesis presented to the graduate school of Clemson University for the requirement for the degree Master of arts history. 2010. P - P. 16 - 75.

[31] Jack Shaheen: Op. Cit. P - P. 41 - 67.

[32] Lina Khatib: Op. Cit. P. 6.

[33] Jack Shaheen: Op. Cit. P. 4.

[34] Lina Khatib: Op. Cit. P. 110.

[35] IBID. P. 111.

[36] Jack Shaheen: Op. Cit. P. 64.

[37] Helena Vanhala: Op. Cit. P. 87.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك