حوار الحضارات هل هو حوار مصالحة أم مصالح؟

حوار الحضارات هل هو حوار مصالحة أم مصالح؟

الحوار أو التواصل بين الحضارات المختلفة هو عملية تاريخية تتسم بالتأرجح بين وتائر معتدلة نسبيًّا تارة، ووتائر تؤدي إلى تفاقم الخلافات الموجودة بين الحضارات المختلفة تارة أخرى.
والسؤال هو: ما هي أسباب هذه التذبذبات؟ هل هي مزمنة؟ هل وراءها مصالح معينة؟ من يدفعها حتى تتحول إلى أزمات خطيرة أو حتى إلى اشتباكات مسلحة؟ ما هو دور الأديان في هذا الصدد؟ وكيف يمكن الخروج من لحظات الصدام لفترات التفاعل والتعايش؟ وما هي الحواجز التي تعرقل الحوار؟ وكيف نتغلب عليها؟
لغة التواصل الإنساني:
إن التواصل الإنساني يختلف عن التواصل بالحاسوب وهو أكثر من مجرد نقل معلومات، ويستوجب نجاحه أكثر من محض الاشتراك في لغة يفهمها الطرفان. التواصل الناجح يحتاج إلى معارف مشتركة: معارف مشتركة حول رؤية كل طرف للعالم، وحول القيم التي يتبناها كل طرف، وحول موقف كل طرف من الطرف الآخر. ولا يجوز أن نرى في الغاية من هذه المعارف الخاصة بالتواصل مع الطرف الآخر بالضرورة الوصول إلى إجماع، بل التواصل لا يتناقض مع استمرار الاختلاف وعدم الوصول لاتفاق في كل القضايا. وأزعم أنه يمكن للتواصل أن يكون ناجحًا حتى ولو كانت العقائد والقيم والآراء مختلفة تمامًا.
بيد أنه من البديهي أن يعرف كل طرف رؤية الطرف الآخر ومواقفه معرفة جيدة. ولو فشلنا في إقامة التواصل واستمراره فسوف نفشل في تحقيق التعايش البنَّاء، ليس فقط بين الحضارات بل أيضًا على مستوى التواصل الشخصي، أي أنه لا مفر من إنجاح "التواصل" بين الحضارات لمن ينشد تحقيق "التعايش" بين الحضارات.
إن القول "نحن في الغرب" يفترض وجود "الشرق"، وهذا "الشرق" ينبغي تعريفه بشكل مركب وليس فقط جيو-إستراتيجيًّا. وهذا التعريف لا يمكن أن يعتمد فقط على التاريخ المعاصر أو على وجود الكتل العالمية، ويبدو لي أن هذا المصطلح (أي الشرق) بعد أن كان وصفًا للمعسكر الشيوعي وأتباعه من الأنظمة الأوروبية التي كانت أعضاء في حلف وارسو تحول بصورة ما إلى وصف للعالم الإسلامي، وتم استعادة سمات العداء التي تعود لقرون سالفة بين أوروبا والعالم الإسلامي، مع استمرار صورة العدو/الخطر التي كانت مخصصة منذ سنوات قليلة للمعسكر الشيوعي.
ولا شك أنه من حق البعض أن يتخيل عالمًا صراعيًّا لا مجال فيه للتفاهم، أو أن يتخيل آخرون عالمًا مثاليًّا خاليًا من أي مشاكل تواصلية، فهذه التصورات موجودة، ومع ذلك ينبغي أن نعرف أن عالمنا الحقيقي سيختلف دومًا عن هذا العالم القبيح الذي لا يمكن فيه عبور فجوة الاختلاف، أو حتى هذا العالم المثالي الذي يفهم فيه كل إنسان الآخرين رغم كل التباينات الحضارية. العالم الحقيقي مركب ولا يمكن اختزاله لمفردات وتصورات بهذه البساطة.
إن المشاكل التواصلية ستستمر حتى مع توافر حسن النية لدى الجميع، وقد تؤدي الاختلافات والتباينات الثقافية إلى سوء الفهم وإلى أخطاء في التقييم. ولذلك يجب علينا ألا ننطلق من الرغبة في تحقيق ما يبدو وكأنه الحالة المثالية، بل ربما كان الأجدى أن نبدأ بمحاولة منع حدوث الأسوأ. فكلما اتسعت دوائر العولمة اصطدمت حتمًا العقائد والقيم المختلفة، وهذا الاصطدام قد يؤدي إلى عواقب أكثر تدميرًا لو لم نستطع أن نحلَّ النزاعات حلاًّ ينبني على "التعارف" والتواصل.
يجب علينا إذن أن نعمل بكل ما في وسعنا للحيلولة دون حدوث أسوأ الأوضاع، أي انهيار التواصل ونهايته خاصة في مجال التواصل بين الثقافات.
والاستنتاج المنهجي هو أنه لا يجوز أن نفكّر في كيفية التواصل بين الحضارات فحسب، بل يجب علينا أن نلتقي، ونقوم بخلق السياقات والدوائر التي يتم فيها التواصل المباشر بين الحضارات، علمًا بأن التواصل يتم يوميًّا إعلاميًّا وفكريًّا وأدبيًّا وتجاريًّا وعسكريًّا، بل وإرهابيًّا! وعلى ضوء ذلك يجب علينا التفكير في كيفية الحيلولة دون تحول التواصل إلى عملية عشوائية لا يستفيد منها إلا طرف واحد، أو أطراف على نفس الجانب دون الجانب الآخر من التواصل.
والتواصل الناجح لا يعني أنه من المفروض أن نعرف كل شيء عن الآخر، ولا أن تتمتع كل المعلومات بنفس القيمة والثقل. ويجب بالضرورة ألا نعرف كل ما يمكن معرفته حول موقف الآخر من العالم والقيم وآفاق المستقبل.
إن المعارف التي نحتاج إليها هي المعارف التي تتركز على ما هو جوهري فقط لحامل هذه المعارف، أي ما يسمى بجوهر هويته، أي الهوية الشخصية في التواصل الشخصي أو التواصل بين الأشخاص أو الأفراد والهوية الحضارية أو الثقافية في التواصل بين الثقافات أو الحضارات. ويمكن تحديد المستوى الشخصي أو الجماعي على أساس تحديد المسافة بيننا وبين الآخر، أي ما هي الاختلافات أو التباينات بيننا؟
تناحر أم مساحات اشتراك؟
هل العلاقة بالضرورة هي تناحرية؟ هل لا يمكن حلها إلا على حساب الآخر؟ هل هي لعبة صفرية لابد فيها من خاسر ومنتصر فقط؟ هل تؤدي الهيمنة الاقتصادية حتمًا إلى هيمنة ثقافية؟ هل هناك قيم قائمة بحد ذاتها؟ هل هناك قيم أبدية خاصة بكل الحضارات أم فقط بالبعض منها؟ هل يقف الآخر من هذه القيم نفس الموقف؟ هل هناك قيم تتمتع بنفس الأهمية على خلاف الحضارات والمراحل التاريخية؟ من يحدد ما هي القيم "المشتركة" التي يجب الحفاظ عليها؟
الجواب على كل هذه الأسئلة مرتبط بتعريف الهوية وبحملات التضليل والدعاية بأشكالها المختلفة، وهدف كل الصراعات الحضارية هو في الأخير الهيمنة الفكرية والهيمنة في مجال تحديد الهوية، ومن يستطيع أو يعتقد أنه يستطيع أن يحدد ما هو مرغوب فيه وما هو غير مرغوب فيه حضاريًّا.
وقبل مناقشة القيم المختلفة والاختلافات أو التباينات يجب أن نتفق على الحد الأدنى من القيم المشتركة. ما هي هذه القيم إن وجدت؟ وفي هذا المجال نعاني كلنا من مرض التضليل الذاتي أي مرض التخيل، تخيل أو وهم أننا نحن الذين نمثل القيم الصحيحة والحميدة وقيم الآخرين هي أقل قيمة أو تعود إلى مراحل تاريخية قد اندثرت. وإلى الآن لا نعرف الدواء الذي يضمن الشفاء التام من هذا الوهم. لكن في الوقت نفسه يجب أن نفهم أن هذا المرض بالذات هو الضمان لاستمرار قيمنا والشرط الأساسي لوجود التعددية الحضارية والثقافية. ولا يمكن أن أتصور أن العالم كله يتبنى القيم نفسها ويأكل الأكل نفسه... وإلخ؛ وذلك لإيماني بتعدد الحضارات. إن "التعارف" –وبحق- هو الوجه الآخر لعملية "التدافع"، والعلاقة بين الحضارات هي علاقة جدلية مركبة.
ودواء الاستعلاء ووسيلة الخروج من هذا التضليل الذاتي في: الاستماع إلى آراء الآخرين وما يقولونه عنا، وهي وسيلة ناجحة للغاية لو أردنا أن نصغي للآخرين. بل يمكن القول بأن الآخرين يعرفوننا أحسن مما نعرف أنفسنا في الكثير من المجالات، وإننا قد نكتشف في مرآة الآخر بعض الحقائق التي لم نكن نعرفها عن أنفسنا. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أننا نحن الذين نعرف الآخرين معرفة أدق منهم بصورة مطلقة. وهذا يستلزم أن ينشغل البحث العلمي بتحليل موقف الآخرين منا وما يعرفون عنا ومدى تغيّر هذه المواقف.
لا يصلح التواصل إذا صرنا القاضي والحَكَم ومن يحدد قواعد اللعبة، بل الاعتراف بالآخر يتطلب الاعتراف بحقه في المشاركة في تحديد القواعد من البداية واختيار الأسئلة التي يمكن أن تطرح والتي يجب أن تناقش.
ومشاكل الهوية لا تنشأ كمشاكل مجردة؛ ولذلك لا يمكن معالجتها معالجة مجردة بل هي عادة مرتبطة بمشاكل عملية ملموسة تعود إلى تحولات عميقة أو طارئة في الحياة العامة والخاصة. ويجب أن نتساءل: هل نحاول أن نحارب هذه التحولات العميقة أو الطارئة؟ بل هل نستطيع فعليًّا محاربتها؟ أم يحسن بنا معالجة المشاكل الناجمة عنها؟
لذلك يجب الإجابة على الأسئلة التالية:
- ما هي الأسباب التي تهدد التواصل بين الحضارات بالانقطاع؟
- ما هي مشاكل الهوية الحقيقية أو الوهمية المرتبطة بها؟
- ما هي الظروف التاريخية والدينية والاجتماعية الموضوعية المرتبطة بها؟
- كيف نحل النزاعات المزمنة؟
أهم الأسئلة في الحقيقة هي:
ما العمل؟ وكيف نعالج انقطاع التواصل الموجود؟ وكيف نحل النزاعات المزمنة؟
إن الباحثين مولعون بالنظريات ويفتقدون أحياناً الشعور بالمشاكل الواقعية القائمة. وفي المقابل فإن الناس العاديين يتصرفون في حدود الخبرة المتاحة وفي ضوء معرفتهم بطبيعة الطرف الآخر، وهم يجيدون أحيانًا ما لا يجيده الباحثون. ولذلك يجب تشجيع الاتصال بمن خارج البرج العاجي، أي بالقيادات المجتمعية ورجال الدين والفنانين والكتاب والمثقفين وكل من يستطيع تقديم الحلول المنشودة والقابلة للتطبيق.
صراع من طرف واحد :
إن الهدف في مجال التواصل بين الحضارات يجب أن يكون أولاً الحفاظ على التواصل الحضاري القائم أو الوقاية من لحظة انقطاع التواصل القائم، وثانياً تطويره في اتجاه تصحيح الأخطاء وخلق المناخ الملائم للتقريب بين أبناء الحضارات المختلفة.
إن أطروحة صراع أو صِدَام الحضارات التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة إنما هي في رأي البعض بالعالم الإسلامي جزء من الدعاية الغربية لفرض حضارتها على الشعوب الأخرى، وبالتالي الهيمنة على العالم ومحاولة رخيصة -لا بل غبية- لتمرير هذه التصورات، حيث إنه سرعان ما يتضح للقارئ الحصيف أن كتاب هنتنغتون وما يحتويه –إن صرفنا النظر عن عنوانه– لا يتعدى كونه دراسة تحليلية لثمانية أجزاء مختلفة من العالم سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ولم يتطرق هنتنغتون فيه إلى جوهر الحضارة ولا حتى بالقدر الذي يوحي به عنوان الكتاب. فإن كان الكاتب جادًّا فعلاً في تحليل صراع الحضارات لكان عليه أولاً أن يبدأ بتحليل حضارته أو تلك الثقافة التي ينتمي إليها ويدعو لقيمها. غير أننا لا نُنكر على هنتنغتون نجاحه في إصدار هذا الكتاب؛ حيث إن نجاحه لا يعود إلى مضمون الكتاب، بل إلى الترويج لفكرة أسماها صراع الحضارات والتي أصبحت حديث المقاهي.
إن أطراف أي صراع حقيقي لابد أن تكون متكافئة ليس حضاريًّا فحسب بل أيضاً اقتصاديًّا وعسكريًّا، وأن تكون الرغبة في التصارع متبادلة وتمثل إرادة الطرفين.
وانطلاقاً من هذا ربما نتفق مع هنتنغتون في أن هناك فعلاً صراعا حضاريا، غير أن هذا الصراع ينطلق من طرف واحد وهو الحضارة الغربية التي تسعى لفرض نفسها بصفتها الحضارة البديلة أو المختارة أو الأرقى التي ينبغي فرضها على الشعوب الأخرى. ومن هنا يحق للعالم الإسلامي أن يسأل تحديداً عن نوع أو نمط الحضارة التي يريد الغرب فرضها عليه. هل هي حضارة حقوق الإنسان والتجارة المتكافئة والتبادل الحضاري واحترام سيادة الدول؟ أم حضارة اجتياح السلع الاستهلاكية الغربية للأسواق ودعم النظم المستبدة ما دامت موالية للغرب وتحقق المخطط الإستراتيجي للدول الكبرى.. حضارة صعود الجسد وجراحات التجميل وماكدونالدز والكوكا كولا؟
إنه لمن المسَلَّم به -في رأي الكثير من مفكري العالم الإسلامي وغير الإسلامي- أن انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية قد حفّز الغرب إلى البحث عن عدو جديد يتناسب مع مقاييسه ومواصفاته. وإذا ما نظرنا إلى الخريطة السياسية للعالم العربي والإسلامي لأدركنا مدى المشاكل الجمة والشائكة التي تعاني منها هذه الدول، وبالتالي تنامي الحركات الإسلامية الباحثة عن بديل نتيجة خيبة أمل شعوب هذه الدول ويأسها من الأنظمة القائمة في تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والديمقراطية، كل هذه الأسباب والعوامل مجتمعة جعلت من الإسلام المرشح الأول لوضعه في الإطار الذي رسمه له الغرب.
إننا نرى أن أي شكل من أشكال الديمقراطية والقيم المرتبطة بها التي تُفرض من خارج الحدود إنما تؤدي بالتالي وبصورة حتمية إلى انتقاص في السيادة الوطنية لتلك الدولة ومصادرة قرارها السياسي، وأنا على يقين من أن العالم العربي على أتم الوعي بهذه الحقيقة؛ لذا فقد آن الأوان للتصدي لهذه المشكلة بإطلاق الحريات السياسية تدريجيًّا وإشاعة الحد الأدنى من الديمقراطية، ولا يشترط في هذه الديمقراطية أن تسترشد بنفس القيم ونفس الآليات الموجودة في الديمقراطية الغربية، بل يجب أن تراعي الظروف المحلية الخاصة ومنظومة القيم الأخلاقية والدينية، وما يقدمه الدين الإسلامي من مقدمات وأنظمة وحلول للمعضلات المختلفة التي يواجهها المجتمع. إن تم ذلك فسيشكل –وبحق- مصدر قوة لهذه الأنظمة، وليس مصدر ضعف أو خطر كما يتصور البعض أحيانًا؛ وبالتالي يتم إسقاط كافة الحجج والذرائع وسحْب البساط من تحت أقدام المتباكين على واقع الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي.
هل يريد الغرب ديمقراطية إسلامية حقا؟
وهنا يطرح السؤال نفسه حول مصداقية تباكي الغرب على غياب الديمقراطية في البلدان العربية؟ فهل هو جاد فعلاً في تطبيق مبادئ الديمقراطية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ أم فقط السماح بذلك القدر من الديمقراطية الذي يضمن للغرب تحقيق مصالحه الاقتصادية وضمان تدفق البترول بالشروط والأسعار التي يحددها هو نفسه؟
إن الصراع القائم فعلاً حاليًّا والذي نشهد تطوره كل يوم هو في جوهره ليس صراع حضارات أو أديان أو ما شاكل ذلك بل هو في آخر المطاف صراع المصالح الاقتصادية والإستراتيجية، وأيضاً –كما في العراق- صراع السيطرة على منابع البترول. فمصادر البترول التي كان يعتمد عليها الغرب لم تعد مضمونة، والبحوث العلمية الخاصة بإيجاد مصادر بديلة ومتجددة للطاقة ما زالت في بداية الطريق، والتوصل إلى نتائج إيجابية في هذا الصدد ذات جدوى اقتصادية قد يستغرق عقودًا، كما أن مصادر البترول في الشرق الأوسط أصبحت غير مأمونة الجانب سياسيًّا. وبما أن البترول يشكل شريان الحياة بالنسبة للغرب كان لابد له إذن من التحرك لضمان مصادر بترولية آمنة يُعتمد عليها حتى إن اقتضى الأمر شن الحروب وإسقاط الأنظمة سواء تحت ستار تحرير الشعوب من الدكتاتورية أو -كما يرى البعض- تجريد الشعوب من ثرواتها.
إن حل مشاكل التواصل بين الحضارات لا يمكن أن يتحقق إلا بتكامل الوسائل والأدوات، والحلول التي لا تُتَنَاول إلا على جانب واحد مثل الجانب الديني أو الإثني أو الاقتصادي هي في آخر المطاف حلول جزئية وغالباً ما تبوء بالفشل.
إننا نحتاج إلى حلول تعتمد على تضافر مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية والتعاون بينها، والمعنيون في هذا الأمر هم الفلاسفة واللغويون وأصحاب الدراسات الثقافية والسياسية والتاريخية والدينية والقانونية والاقتصادية (قبل خبراء السوق المصرفية والشبكات المعلوماتية) والذين يجب أن يعملوا بصدق على تحليل كل ما يحيط بالتواصل بين الحضارات ومشاكله والحواجز التي تعيق تقدمه نحو تعاون حضاري طويل الأجل بعيدًا عن الحسابات الاقتصادية قصيرة الأجل التي تواجه مخاطر جمة نتيجة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي على أي حال، ما استمرت الأوضاع الداخلية والتوازنات الإقليمية والدولية على ما هي عليه.
ويجدر بي في الختام الإشارة إلى تحدٍّ قد يبدو فرعيا وبسيطا، لكنه يمثل تهديداً لأي جهد مخلص في هذا المجال. إن من يبحث في هذا الإطار قد يعاني بسرعة من ضغوط معينة من النخب المستفيدة من هذا الاستقطاب في الرؤى، سواء النخب الأكاديمية والفكرية أم السياسية والاقتصادية، ففي صفوف كلا الطرفين من لا يريد التفاهم والوفاق، بل يحارب كل المحاولات في هذا الاتجاه. والفرد عادة لا يستطيع أن يقاوم هذه الضغط المزدوج: أترابه يشككون فيه، وقد يتهم بالخيانة بل والعمالة (جيمس بيسكاتوري وجون أسبوزيتو في الولايات المتحدة اتهمهما البعض بالعمالة لجماعات المقاومة الإسلامية لمواقفهم المعتدلة، وجالاواي النائب البريطاني لحزب العمال الذي نشط ضد الحرب في العراق يتهم الآن بالعمالة لنظام صدام حسين)، أما الطرف الآخر من الحوار فعادة لا يميز بين أطياف الطرف الغربي، ولا يرى في الجميع إلا أعداء للعرب والمسلمين. وقد تكون الجامعات هي المؤسسات الأقل تأثرًا بهذه الضغوط؛ لأنها ليست مؤسسات يجوز فيها منع التفكير والتعبير، ويجب ضمان حرية البحث العلمي فيها، لكن هذا لا يحدث دائمًا.
والاستنتاج من هذا هو ضرورة وجود نوعين من التواصل: أولاً التواصل في إطار الحضارة الواحدة، وثانيًا التواصل بين الحضارات المختلفة.
ونعرف أن التواصل في الحضارة الواحدة أو التواصل الداخلي يمكن أن ينقطع، وهذه الحالة تؤثر بالتالي سلبًا على التواصل بين الحضارات.
ويبدو لي أن التواصل الداخلي انقطع في أكثر من حضارة. فكيف نستطيع أن نحقق التواصل بين الحضارات دون الوفاق أو الوحدة الداخلية في تعريف القيم لكل كيان حضاري؟ وهل يمكن مناقشة تباين القيم مع الحضارات الأخرى إلا بعد الاتفاق على تحديد القيم المميزة لكل منظومة حضارية. وما هي قيم الغرب؟ وما هي قيم الشرق؟ وهل تسميات "الغرب" و"الشرق" ابتداءً تسميات صحيحة؟ أم أنها بدلاً من أن تكون محض أوصاف جغرافية ومكانية تحولت بحد ذاتها لأيقونات ولأحكام قيمية على الجانبين تشكك في إمكانية المشترك الإنساني؟! من هنا فلنبدأ.
المصدر: http://www.hdrmut.net/vb/t143733.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك