طرح الإشكالية
نجد أن الوحي في مفهومه الديني المتداول ، هو ظاهرة روحية خص بها الله كل من اصطفاه من عباده ليبلغ عنه تعاليمه للبشر لأجل، إن طريقة الوحي الإلهي هذه تختلف اختلافا كليا عما نجده عند المتصوفة من معاني الحلول و الاتحاد بواسطة النزاهة الفكرية والتقشف الذهني الذي لا يعتريه الوهن-كما يقول محمد أركون- أما عند الفلاسفة فالوحي يفقد صفته الحسية و يتلبس بطابع عقلاني محض، فيرون أن حقيقة الوحي تكمن في اتصال النفس الإنسانية بالنفوس الفلكية المتعالية والمفارقة اتصالا روحيا، تتكشف به النفس على الحوادث و يتصلون بعالم الغيب. إن هذا الاتصال مرده الاستعداد الخاص و الفطرة الخاصة التي تمكنهم من هذه المعرفة العصية للإنسان العادي. هذه الفطرة تبلغ عند الأنبياء ما لا تبلغه عند غيرهم حتى "الأولياء"و"العارفين" .يقول مسكويه وترتقي هذه القوى إلى قوة تسمى المتخيلة،وربما ظُن أنها واحدة، و هذه القوة يظهر فعلها بجزء من الدماغ المقدم،ثم ترتقي إلى قوة أخرى للنفس تسمى حافظة …و هذه القوة يظهر فعلها في الجزء المؤخر من الدماغ و هناك قوة أخرى للنفس وهي قوة الفكر تقع بها حركة الرؤية و التوجه نحو العقل.(1) أي في نهاية المطاف نحو الحقائق الإلهية .
إلا أن تناولنا هذا لمفهوم الوحي لا يروم إثبات معاني متعينة سلفا في المصنفات، اعتبارا لأن مفهوم الوحي "المتداول" لا يحتاج إلى إثبات لأنه مترسخ في المتخيل الجمعي للفكر السلفي وقد حاز الإجماع والمواضعة . بحيث إن التعامل مع هذا المفهوم داخل الأطر المعرفية للفكر السلفي لا يخلو من وثوقية، ذلك أنه أصبح من المفاهيم التي احترقت بحثا فأصبحت ضمن دائرة المقدس المستحيل التفكير فيه-لو استعملنا مصطلح محمد أركون- لأنها اكتسبت حقيقتها ومفهومها النهائيين. فالمتأمل في دائرة الحقل السلفي يجد تعاريف ثرة لمفهوم الوحي، ويصل بها التنوع إلى حد التناقض، لكن مع ذلك تبقى تأويلات خارجية تهم المفسر و العالم أكثر مما تهم الظاهرة. (2) هذا يترتب عنه فراغ رهيب في هذا المجال، مجال تناول الوحي كظاهرة أنثروبولوجية/حضارية، أي تناولها ضمن حقيقتها الداخلية عن طريق تفكيكها إلى أوالياتها الأولى، بمعنى ماهي الميكانزمات التي تشتغل ضمنها و بها ظاهرة الوحي، ذلك أن كل التناولات التي تخولت الوحي قد وقفت على الأعتاب الخارجية للظاهرة دون أن "تتجرأ" أو "تتجاسر" على تخطي غلاف التقديس الذي يحف بمثل هذه الظواهر .
إن علينا أن نتساءل بلا كلل إلى أي مدى يمكننا"اليوم" أن نفكر فلسفيا في ماهية"الوحي" من حيث هو ظاهرة إبستمولوجية قابلة للفهم خارج المنطق التقديسي الذي طغى على منطق التعامل مع مثل هذه الظواهر المفارقة؟ بمعنى هل يمكن أن نُنزل هذه الظاهرة من تعاليها و جعلها محايثة للفكر و الثقافة ودراستها دون اعتبار للطوق القدسي الذي يحف بها ؟ هذه أسئلة تخالج كل مفكر معاصر لكن بين الفكرة والتطبيق نجد الواقع الذي يفرض آلياته وطرق التعامل مع الظواهر ذات الملك الجمعي، من ثم فالمفكر المعاصر يجد نفسه في مفترق الطرق، طريق الفكر الذي إن سايره سيتحمل تبعات "تمرده"على الواقع، وطريق الواقع الذي إن اقتفى أثره لا يغدو أن يكون هو حلقة من دخان في سماء الواقع. تلك هي حيرة المثقف المعاصر الذي يسعى جاهدا إلى المصالحة بين هذين الشقين عساه يتلمس الطريق المؤدية إلى قراءة ما لم يُقرأ في الإرث المقدس للذات الإسلامية دون مساس بحرمة المقدس أو الواقع. لكن هل بالإمكان ذلك؟ هذه مصادرة في شكل استفهام قدمناه عسانا في ثنايا قراءتنا نقبض على ما يجيب عن هذه الإشكالية.
الوحي في فكر نصر حامد:
إن مشكلة البداية من أصعب مشكلات التناول، والبحث عن البداية يشكل نوعا من البحث عما هو أول، عما يأتي في المقام الأول، وفي بحثنا هذا تتصارع الميتافيزيقا مع الإمبريقية(3) على المقام الأول في قضية الوحي، هل البدء بالواقع المحايث أم المفارق؟ إن البداية هي المدخل إلى ما نوجد فيه سلفا، لهذا فإن حل مشكلة البداية يكمن في العثور على تبرير أخير لما نوجد فيه بالفعل، أي أنه تبرير لا يمكن رفضه أو الذهاب إلى ما وراءه، وهذا ينطبق على المنظومة الإبستمولوجية الإسلامية بشقيها : السلفي والحداثي-التقدمي. وقد عبر نصر حامد عن هذا التباين في البدايات بقوله إن مثل هذا المنهج-إن اكتملت له أدوات البحث المنهجي من الدقة والاستقصاء-(4) بمثابة ديالكتيك هابط ،في حين أن منهج هذه الدراسة بمثابة ديالكتيك صاعد. وعلى حين يبدأ المنهج الأول من المطلق والمثالي في حركة هابطة إلى الحسي والمتعين، فإن المنهج الثاني يبدأ من الحسي والعيني صعودا، يبدأ من الحقائق والبديهيات ليصل إلى المجهول ويكشف عما هو خفي. (5)
إن الأمر يتعلق بشيء لا يُسأل عنه في المنظومة السلفية/الأشعرية وهو مصدر الوحي، لأنه شيء ألفه الناس واعتادوا قبوله، بحيث لم يفكر أحد داخل الحقل السلفي أن يضعه موضع تساؤل، لكن الأمر يختلف إذا ما اختلفنا إلى منظومة نصر حامد، فهو يضع هذه المسلًمة وغيرها موضع السؤال قصد إعادة الإجابة عنها بصورة محدثة، بصورة تأمل في أن تنشد إلى الحقيقة بما هي حقيقة وتتباعد عن الإيديولوجيا التي ينتجها الخطاب السلفي –فيما يزعم هو-، يقول نصر حامد في هذا المجال لذلك فإن هذا الكتاب حين يقتحم ببعض أسئلته دوائر "المحظور"و "المحرم" في الوعي الديني السائد والمسيطر،لا يقتحمها إلا بوصفه خطابا بدوره لا يزعم امتلاك الحقيقة…إنه خطاب يحاول من خلال ما يثير من أسئلة مضمرة في بنية الخطابات الأخرى…مقاربة بعض جوانب الحقيقة بالمعنى النسبي،أي الثقافي التاريخي (6)
نتبين من خلال ما ورد صعدا أن نصر حامد ينطلق مما هو ثابت متعين، وهو الواقع الأرضي لأجل أن ينفتح على المجهول، على الميتافيزيقا، على المتعالي، وهذا يثبت لنا منذ البدء أن الحقيقة الثابتة لديه هي الواقع الأرضي-العيني-، فهو الشاهد، أما الغائب أو المجاز أو المجهول فهو كل ما وراء ذلك، فالوجود "في"العالم قد أصبح الأساس الذي تقوم عليه فلسفة نصر حامد، فإذا عرفنا أن العالم هو أرضنا، فمن ثم فهو كذلك التربة التي تنمو وتنبجس على سطحها الحقيقة الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكون النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا والواقع ثانيا و الواقع أخيرا.(7) ضمن هذا المنظور الواقعي يتحرك نصر حامد في معالجة قضية الوحي، فبما أننا نعيش في هذا العالم الأرضي ونجربه، فما الذي يترتب عن القول بأننا قادرون على وضع مشكلة التعبير عن تجربتنا بالعالم و حقيقتها بهذه الصورة ؟ إن نصر حامد يرى أن على الوحي بما هو تجربة وتعبير تقديم العبارة الأولى عن العالم، لكن في الوقت ذاته نعرف أن هذه العبارة الأولى ذاتها هي في الواقع شيء ثان بالنسبة إلى التجربة العينية بالعالم، و تتطلب هذه المنهجية أن تكون كل العبارات المعبرة عن التجربة العينية و كل المفاهيم مستوحاة من التجربة، أي من تجربتنا بالعالم الحسي، هكذا يرى نصر حامد تجربة الوحي المحمدي، فهو يرى أن في هذه التجربة يكمن المعنى الحقيقي، من ثم يُطالب بالتخلي عن أي افتراض مسبق أو متعالي، أي افتراض يسبق كل شيء، وخاصة التجربة في الواقع، أي يكون هو البداية والتبرير .
بهذا التقديم الفلسفي، الذي يركز على الفلسفة الواقعية/ الإمبيريقية، يتسنى لنا البدء في الكشف عن رؤية نصر حامد للوحي، إن الرابط الذي اعتمدته لأجل إدراج نصر حامد ومنظومته التجديدية ضمن هذا النهج، هو الاشتراك في نقطة البدء، وهو الواقع، العالم، الأرض، الحسي، ولا أطلق هذا الحكم جزافا وإنما استنتجته من مقولاته التي لا تترك مجالا إلا وتذكر القارئ بمحورية الواقع و أسبقيته على الوحي، ويمكن أن نورد أمثلة على ذلك :
فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع و الثقافة، الواقع الذي ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص و ينتظم المتقبل الأول للنص وهو الرسول …بهذا المعنى يكون البدء في دراسة النص بالثقافة و الواقع، بمثابة البدء بالحقائق الإمبيريقية.(8)
و إذا كان البدء بالواقع معناه البدء بالحقائق التي نعرفها من التاريخ،فإن دراستنا لمفهوم النص سعيا لتحديد ماهية الإسلام، لا ينبغي أن تغفل الواقع، بل عليها أن تبدأ به بوصفه الحقيقة العينية الملموسة التي يمكن الحديث عنها.(9)
بهذا نكون قد وصلنا إلى رأي مهم يتعين علينا أن نعبر عنه في صيغة واضحة، إن المعرفة اليقينية الوحيدة التي يعتنقها نصر حامد هي المعرفة التي تُجرّب العالم في العالم، بهذا أرى أن حل مشكلة الحقيقة والبداهة-في نظر نصر حامد-إنما يكون في العالم، في الواقع. من هذه البداهة يخترق نصر حامد المنظومة السلفية لأجل تناول ظاهرة الوحي من نقطة انتهائها (الأرض) لجعلها نقطة البدء الأصيلة. فأولى المفاهيم التي يطلقها على الوحي هي الإعلام ، ويرى فيه المفهوم الجامع لكل التفسيرات الفرعية الأخرى لكلمة وحي.
القول الجامع في المنظومة السلفية في ما يتعلق بموضوع الوحي هو الآتيو الوحي في الإسلام هو القرآن و السنة، و القرآن هو كلام الله القديم و صفة ذاته الأزلية القديمة، وهو مدون في اللوح المحفوظ باللغة العربية قبل خلق السماوات والأرض وقبل خلق البشر وقبل أن يكون هناك واقع…منذ الأزل تركًب التنزيل على الوقائع في خطة إلهية محكمة معدة سلفا،وعلى ذلك لا أولوية للواقع على الوحي، و لا تأثير و لا علاقة ما دام علم الله شاملا للحاضر والماضي والمستقبل، ومحيطا بالجزئيات إحاطته بالكليات. (10) واضح مما تقدم أن نصر حامد يمهد لنظريته الجديدة في الوحي، من خلال اتهام النسق السلفي/الأشعري بالفصل التام بين الواقع والوحي، فلا وجود لجدل قائم بينهما نظرا لأن هذا الواقع ليس من صنع الإنسان بل هو محدد سلفا من قبل الله ، وكل هذا تأكيد منه على جبرية النسق السلفي، وهو نسق مرفوض من قبله نظرا لمصادرته فاعلية الإنسان وإهماله للعلاقة الترابطية/التبادلية بين الواقع والوحي، و تعيينه لأولوية الوحي وأسبقيته على الواقع وهو تأويل مقلوب في نظره، بحيث يذهب إلى اعتبار أنّ التاريخ مأسور ضمن مجال النصّ، ذلك أنّ النصّ في المنظومة السلفيّة أو ضمن المتداول الرسمي يمثّل الأولويّة على الواقع وعلى التاريخ، وهو ما يجعل حركة التاريخ عسيرة على التبدّل نظرا لهذا الطوق الحاف به، ممّا يجعل حركته رهينة الموقف السلفي التقليدي، وبنفتح بقدر ما يخدم الأفق المعرفي المتداول. هذا الرفض معناه أنه يأخذ بخُلف هذا النسق ونعني به النسق الاعتزالي-المطبق عنده كمنهج أكثر منه كمذهب-، هذا النسق الذي ينطلق مما هو كائن، من ثم فمفهوم الوحي عنده سيأخذ بعين الاعتبارمبادئ هذا النسق، من ثم يقوم بتصحيح هذا المسار وإرجاعه إلى استقامته المصادرة من قبل النسق السلفي. لكن هل هذا التصحيح سُيبقي على جدلية النص مع الوحي المتعالي المنزل من قبل الله أم أنه سيحول هذا التعالي إلى محايثة ونفقد بذلك الوحي ونبقي على الواقع؟ أم أنّه سيجعل من التعالي تعاليا متأنسنا، بحيث يحوّله من أداة لنفي الواقع إلى آليّة لامتلاكه ومحاولة شخصنة العالم عبره؟ بمعنى هل تسنّى لنصر حامد التعامل مع قضايا التعالي تعاملا منهجيّا،بحيث يتسنّى له الدفع بالفكر العربي إلى آفاق أرحب من خلال تجاوزه لأحواله الراهنة، متجرّدا من تلك الإلفة السلبيّة والحنين إلى آراء مضت وولّت، بحيث يجعلنا نتيبّس في ذات اللحظة التي تيبّس فيها سلفنا و كأنّنا نستعيد استعادة سلبيّة لمفهوم مسيحي مغلوط هو الخطيئة الأولى أو نجاري مجاراة بائسة للمواقف القدريّة السلبيّة بحيث نرضى بموقف الاجترار والوقوف في ذات النقطة التي وقف فيها السلف، وهو ما يعطّل حركة التاريخ ويفقد الإنسان غناه الوجودي ويفقرها إلى حين العودة إلى لحظة الكينونة لحظة الخرقة البالية وقطعة القماش غير المفصّلة لو استخدمنا مصطلحات محمّد العزيز الحبابي؟
فنصر حامد أبو زيد قد ابتدأ مما هو كائن وشائع في الجزيرة العربية قبل ظهور الوحي المحمدي، أي بدأ بدراسة المهمش في الفكر السلفي وهو واقع ما قبل الوحي، ولعل أهم ظاهرة كانت شائعة آنذاك وتستند إلى فكرة الاتصال والوحي، هي الشعر والكهانة بوصفهما ظاهرتين لهما أصولهما في عالم آخر وراء هذا العالم الحسي المرئي، هو عالم الجن، الذي تصوروه على مثال عالمهم ومجتمعهم…ولأن عالم الجن وعالم البشر عالمان متجاوران فقد تصور العرب إمكانية الاتصال بين البشر والجن. لكن البشر القادرين على الاتصال بالجن لا بد أن يتمتعوا بصفات تؤهلهم للتواصل مع هذه المرتبة الوجودية المختلفة…لقد كان ارتباط ظاهرتي"الشعر والكهانة" بالجن في العقل العربي، وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية لاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها. (11)
إذن ينطلق نصر حامد من نقطة أساسية في دراسة الوحي، وهي بيئة ما قبل الوحيAvant Revelation، وبما أن الوحي نزل في بيئة عربية وبلسان عربي، فإنه لزم لفهم هذه الظاهرة من الحفر في مخزون الثقافة العربية السابق لهذه الظاهرة الناشئة والبحث عن المشابه السابق لها، ومثل هذه الأبحاث لازمة في نظر دارسي الآثار الأدبية، ولابد منها لفهم النصوص المدروسة والاتصال بها اتصالا مجديا، من هنا لزمت المعرفة الكاملة لهذه البيئة العربية، مع ما يتصل بالبيئة من ماض سحيق،وتاريخ معروف، ونظام أسرة، أو قبيلة،…أو عقيدة بأي لون تلونت (12)
بهذا يكون نصر حامد قد تبنى منهج التفسير الاجتماعي-التاريخي في تفسير ظاهرة الوحي، لذلك فهو يرى أنه لفهم ظاهرة جديدة في المجتمع وجب الرجوع إلى الأشكال الأولية للوحي، وبعد ذلك نصعد السلسلة المنحدرة حتى نصل إلى الشكل الحديث المترتب عما قبله، يقول دوركايم(13) في كل مرة نحاول تفسير ظاهرة إنسانية مأخوذة في لحظة محددة من الزمن سواء أكان الأمر متعلقا بمعتقد ديني أو بقاعدة أخلاقية أو بأمر قانوني أو بفن جمالي أو بنظام اقتصادي، فإنه يجب أن نصعد إلى شكله الأكثر بدائية وبساطة وأن نفتش عن الخاصيات التي تتحد بواسطتها الظاهرة في تلك اللحظة من وجودها ثم أن تبرر كيف تطورت وتعقدت وأصبحت على ماهي عليه في ذلك الوقت بالذات . (14) مما ورد تبرز لي نتيجة محورية في فكر نصر حامد، وهي أن الوحي عنده لم يكن ليقع أو يُحترم أو يُتبع، لو لم تكن هناك جذور مثالية مُثبتة في الذهنية العربية، هذا هو الشرط الأساسي لقبول فكرة نزول الوحي على الرسول(ص)، فالشرط المادي-الاجتماعي أصبح له حضور أساسي في قبول فكرة الوحي، ومن ثم فغياب هذا الشرط يترتب عليه حتما رفض الوحي اعتبارا للجدلية القائمة بين الواقع والوحي، ولاستحالة قبول الذهن العربي قبول ظواهر لم يجربها أو لم يمارسها. لذلك يغدو الوحي ظاهرة ثقافية خاضع لقوانين الواقع باعتباره أصبح متخارجا منه لا مفارقا له. إن هذا التفسير لظاهرة الوحي هو تفسير ظهوراتي، بمعنى أنه يقف على أرضية الإمبيريقية "المؤلهة" لأقنوم الواقع المادي، هذا يفضي به إلى الالتحام بالمنهج الديالكتيكي الماركسي، فنصر حامد قد استثمر هذه المقولات لأجل تفسير ظاهرة كانت تعتبر في الفكر السلفي/المحافظ ظاهرة ميتافيزيقية، تفسيرا ماديا في حركتها وتحولاتها وتغيراتها وفي علاقاتها المتميزة، وهذا التفسير، في نظره، هو الأجدى للكشف عن حركية هذا المفهوم والإلمام بكل ظواهره، دون الالتجاء إلى التجريد والبحث في المجهول عن تفسيرات واهية لاعقلية-في نظره- ترى أن تحقق الوحي متوقف على الشرط المثالي المفارق لا المحايث.
من خلال هذا التأسيس يرى نصر حامد تميزه و تفرده عن غيره، من خلال تمكنه من تخطي الطوق الفكري السلفي، وإيجاد "تفسير علمي" للظواهر التي يُظن أنها ساكنة في الميتافيزيقا، والحال أن أصلها ثابت في الاجتماعي و الثقافي، وبهذا أصل إلى نتيجة أخرى، وهي أن نصر حامد يريد الكشف عن زيف التعالي الذي أضيف إلى الظواهر المادية. ويترتب عن النتيجة السابقة نتيجة لاحقة، وهي أن الإسلام ليس مُسقطا على الواقع العربي -في الجزيرة العربية-، بل هناك إرهاصات سبقت ظهوره، مما يؤكد فرضية جدلية الموروث والجديد الوافد. ليس القرآن بمنقطع الصلة مع الثقافة العربية السابقة لظهوره، وهو لم يتحول إلى حامل إيديولوجي جديد إلا عبر السيرورة الدينية التي اكتمل بها تكون الإسلام، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأصل الاجتماعي السياسي و النفساني لكل موروث ثقافي، لتوضح لنا الجديد الذي أتته النبوة المحمدية على صعيد الثقافة العربية عموما. (15)
إذن إن الطريقة التفسيرية الديالكتيكية عند نصر حامد، لا تختلف من حيث الأساس فحسب عن الطريقة التفسيرية السلفية، بل إنها ضدها تماما، فحركة الوحي التي يشخصها الفكر السلفي تنحدر من أعلى إلى أسفل، بمعنى أن الغيب أو الميتافيزيقا يصبح هو صانع للواقع، ويغدو الواقع ضمن هذه المنظومة-في نظر نصر حامد-الشكل الحادثي للفكرة، للوحي، للمثال ،للنظام المتعالي، أما في نظر نصر حامد فعلى النقيض من ذلك، فحركة الوحي ليست سوى انعكاس للحركة الواقعية(16) وبهذا الموقف أراه ينشَدُ إلى موقف أستاذه حسن حنفي مع بعض التعديل، يقول حسن حنفي في هذا المجال كل آيات الوحي نزلت في حوادث بعينها،ولا توجد آيات أو سور لم تنزل بلا أسباب،و السبب هو الظرف أو الحادثة أو البيئة التي نزلت فيها الآية،وإن كان لفظ النزول يعني الهبوط من أعلى إلى أسفل، فلفظ السبب إنما يعني الصعود من أسفل إلى أعلى،ولما كانت الآية لا تنزل إلا بعد وقوع السبب،كان الأدنى شرط الأعلى،و إن كثرة الحديث الخطابي عن واقعية الإسلام إنما نشأ من هذا الموضوع و هو"أسباب النزول" أسبقية الواقع على الفكر،و أولوية الحادثة على الآية،والمجتمع أولا والوحي ثانيا،الناس أولا و القرآن ثانيا،الحياة أولا والفكر ثانيا (17)
من هذا المنطلق يظهر لي أن نصر حامد يدحض مقولة الخطاب السلفي التي تتجه إلى إنكار القاعدة القبلية لظاهرة الوحي وتنفي عنها كل تاريخية، لتجعل منها ظاهرة فوقية مفارقة، مُنزّلة من واقع علوي، هو في اعتقاده مصدر الحقيقة، بمعنى أن هناك إنكارا لجدلية السابق واللاحق التي بموجبها يتواصل هذا الأخير مع ذاك، كما يتفاصل، فهو يتواصل معه، لأنه امتداد له. ولهذا، لا يمكن للثاني أن يُفَسَّر بمعزل عن الأول، تفسير اللاحق بالسابق، وإنه يتفاصل معه لأنه قطيعة نوعية معه تتجاوز تحديده. بمثابة امتداد لذلك أولا، وتضبطه في هويته الجديدة التي يجسدها وتجسده ثانيا: تفسير اللاحق باللاحق ذاته. ومن موقع هذا التفاضل النوعي، يصبح اللاحق أيضا، مخولا بتفسير السابق. من هذا نصل إلى مغزى نصر حامد، وهو نفي التاريخ التقليدي /السلفي الذي يجعل من الوحي حقيقة مطلقة منزلة من خلال إلغاء ذلك التراث القبل-إسلامي الذي تخارج منه، وهو في هذا يتساوق مع التحليل السيميوطيقي الذي يؤمن بفاعليته في مجال تحليل الظواهر والنصوص، حيث يقول إن التاريخ التقليدي للثقافة يعتد دائما بالنصوص الجديدة في كل فترة تاريخية، النصوص التي أبدعها ذلك العصر، غير أنه في الوجود الحقيقي للثقافة تقوم النصوص المتوارثة من نفس التراث الثقافي بوظيفتها جنبا إلى جنب مع النصوص الجديدة..وإذا كانت سرعة التطور الثقافي على المستويات الاجتماعية المختلفة غير متماثلة،فإن حالة الثبات التاريخية للثقافة يمكن أن تتضمن حركتها التاريخية المتعاقبة والإنتاج الفعال للنصوص القديمة. (18) (19)، نفهم, إذن, أن الوحي أصبح مرتبطا بالثقافة وبمقتضياتها وتحولاتها، فهو مرتبط بالواقع، خاضع لقواعد التشكيل والتفكير، وأن الخضوع الذي يستسلم له مفهوم الوحي تجاه المتواضع عليه اجتماعيا ليس مرده القوة المادية التي يمتلكها المجتمع لفرض مثل هذه المناهج بقدر ماهي راجعة إلى نوع من الاحترام والاعتبار لمقاييس الثقافة السائدة.
إن مفهوم الوحي في منظومة نصر حامد التجديدية، لا يكتسب صفة التعالي والثبات كما في المنظومة السلفية، بل إنه يكتسب نسقا ديناميكيا، تماشيا مع صورة الواقع الحركي، الذي يرمي إلى إنتاج الأفكار الاجتماعية، ثم إعادة صياغتها مع تغير الظروف الاجتماعية، وفق منظور جدلي، أي هناك استمرارية هذا النشاط مع استمرارية تطور الواقع. فالوحي قد غدى ظاهرة اجتماعية خاضعة للتغيرات المتحكمة في الوجود البشري. هذا في نظره هو المفهوم الأنواري للوحي.
مقاربات استنتاجية
- الوحي تجربة إنسانية، ومجموعة من العناصر تتآلف وتتسق طبقا لقوانين منضبطة، فلا بد من تحليل تلك العناصر الكامنة وراء ظاهرة الوحي، هذا التحليل يؤدي إلى استخلاص العلاقات التي تربط هذه العناصر ببعضها، ومن ثم معرفة النظام الكامن وراء الوحي ، ونعني به الثقافة : الكهانة والعرافة والشعر والسحر …من ثم لم تعد غاية نصر حامد البحث في ظاهرة الوحي ذاتها بل أصبحت له غاية أعمق، وهي الكشف عن النظام المادي الذي يحكم الظاهرة، إنه سعي وراء التجريد، وراء البحث عن النظم الخفية التي تسير الظواهر والتي يعتقد العامي أو الفقيه السلفي أنها ظواهر عُلوية مفارقة، إنه النقد الأدبي الذي يطبقه نصر حامد على الوحي نظرا لأنه علامة لغوية ناشئة من واقع ثقافي معين.
- إن نصر حامد من خلال تشبثه بمقولة الواقع وتقديمها على مقولة المتعالي يبتغي تسطيح تعالي الوحي، هذا نقيض النظرية المتداولة، إن هذا الهجوم على النظرية التقليدية في نظره أساسي لتحرير الفكر الديني من التعالي الزائف والرجوع به إلى أرض الواقع، أرض الحقيقة، ذلك أن التمسك بأشباه الحقائق يجعل من أفق المؤمن أفقا ضيقا، يجعله دائم الرفض للآخر.
- الاهتمام بالباث "الله" وهو أساس الإبستمولوجيا القديمة فيه إهدار لوظيفة النص، وتحول الاهتمام إلى المخاطب –وهو ما تؤكد عليه الإبستمولوجيا الحديثة – هو الضامن الوحيد لتحقيق وظيفة النص في الواقع، هذا مرده أن الثقافة السائدة قبل نزول الوحي، هي ثقافة توصف بأنها ثقافة تنحو نحو المخاطب في نصوصها أكثر مما تنحو ناحية المتكلم، وانتماء النص إلى مجال هذه الثقافة يجعله-من هذه الوجهة- ينحو ناحية المخاطب.
- إن ما يمكن الوصول إليه من خلال كل هذا أن حضور مصطلح "الله" و"الملك جبريل" في منظومة نصر حامد المتعلقة بالوحي، هو حضور صوري، قَصد من إثباتهما التعمية والتقية، فالسياق العام يفيد اندراج باحثنا ضمن النسق الديني-الإيماني، لكن عند الحفر في نصوصه وتجاوز الطبقة السطحية منها، أجده يتعامل مع مفهوم الوحي تعاملا وجودبا ماديا، تعاملا واقعيا، من ثم فهو يلغي فاعلية وجود "اللوح المحفوظ" و"الوجود الخطي الأزلي" للنص، من خلال الانتصار للنهج الاعتزالي-كمنهج- و تقويض النسق الأشعري،إنها المعركة الإيديولوجية القديمة الجديدة بين أنصار النهج السني-الأشعري وأنصار النهج الاعتزالي(20)، و ميدان هذا الصراع هو النص بشتى تمظهراته: الوحي ثم النص المدون ثم النصوص الثواني: التفسير والتأويل واليوم القراءة.
- من هذا التحليل يمكنني أن أدرك أن الصراع الفكري الدائر بين أهل النقل "حماة الوحي المتعالي" وأهل العقل والواقع، يرتد إلى الاختلاف في المنطلقات والممارسة، فالسلفي المتعلق بقدسية الوحي وألوهيته يمارسه من منطلق كونه عقيدة إيمانية، أما الحداثي فإنه يمارسه كظاهرة واقعية-اجتماعية تنشأ داخل المجتمع ويتحرك داخل شروطه. بذلك أقول أن نصر حامد بقراءته لمفهوم الوحي بهذه الطريقة يقدم لنا خطابا ينتمي إلى العلم لا إلى ميدان الإيمان، فهو لا يرى إلزاما أن يكون الفرد مسلما ليفهم الإسلام، فهو لايهتم إلا بالظواهر الإمبيريقية، أي أنه يؤمن بعدم وجود شيء وراء الظاهرة، وراء العالم الإمبيريقي، والحال أن خطاب الوحي دائما يحيل إلى الغائب، إلى الخفي، وماذا بقي من الوحي، من العقيدة إن سلبنا منه هذا الجانب؟ إنه تسطيح له. بذلك لم تعد دراسة نصر حامد للوحي ربطا بين عالمين-السماوي والأرضي- بل هي حفر في الزمن الموحد، في العالم الأرضي-المادي الجامع بين المتناهي-الإنسان-واللامتناهي –الله-، هذا الله ما هو إلا الوجود، الدهر، الطبيعة. هكذا يكون وحي نصر حامد ليس الوحي السلفي-المتعالي، إنما هو الوحي الوجودي-الطبيعي-المحايث، إنه تأسيس لمفهوم وحدة الوجود, من منطلق الفكر الوجودي الغربي, المؤمن بالوجود الإمبيريقي فقط.
- إن المنهج الواقعي الذي اعتد به نصر حامد في تعامله من النص هو منهج قد وقع تجاوزه نظرا لأن كل نص ارتهنت فاعليته بالواقع هو نص سلبي, في حين أن النص الجدير بالقراءة هو الذي يراود القارئ على إعادة تفكيكه نظرا لغناه، هذا النوع يتحدى الزمن ليتجدد مع كل لحظة تاريخية لا باستجابة سلبية, بل من خلال قدرته على جعل القارئ يجدد فهمه له,من دون أن يهدر حضوره، فالنص لا الواقع المجدد للفعل الحضاري.
بهذا تغدو إشكاليّة التاريخ والنصّ عند نصر حامد والنهج السلفي تتخذ نسقا جدليّا عند كليهما، ولكن ضمن مجال عكسيّ، فنصر حامد يؤكّد على تاريخيّة النصّ، كمسار لأجل التأكيد على إمكانيّة التجاوز والتوتّر الخلاّق نحو إمكانيّات أرحب والتفاعل مع المستجدّات دون تقيّد بمنصوصات هذه المرجعيّة، لأنّ الواقع أو التاريخ هو أولى وما على النصّ سوى التأقلم مع المتغيّرات، ولذلك يلتجئ إلى اعتبار السنّة ليست منتهى الاجتهادات بقدر ما هي فاتحة لاجتهادات أخرى وإمكانيّات تأوليّة جمة يمكن أن يقبلها النصّ التأسيسي، وهو قول تنجرّ عنه جملة من التوابع الخطيرة على النصّ، خصوصا إذا طبّقنا منهجيّته في مجال علوم القرآن، خصوصا مفهوم النسخ والخصوص والعموم، ومحاولة إعادة ترتيب القرآن بحسب ترتيب النزول، بحيث يريد مصادرة وتصفية جملة الآيات التي نسخت أو نزلت في وقائع بعينها، بحيث إنّ هذه العمليّة لا تبقي من النصّ إلاّ ما يتساوق ومجريات الواقع المتوتّر والمتغيّر، أضف إلى ذلك أنّ نصر حامد يتّخذ موقفا من أسباب النزول فيرى أنّ لكلّ آية سبب نزول، وهو اتجاه يتّجه نحو التخصيص ومن ثمّ تجاوز منصوصات النصّ بحكم تطوّريّة الواقع، وبحكم أنّ جملة هذه الآيات منشدّة إلى الوقائع التي نزلت بسببها، ومن ثمّ يلغى النص لصالح التاريخ، ونتجاوزه إلى تأسيس نصوص جديدة أو محاولات تأسيسيّة جديدة تتناسب و المستجدّات ومطلوبات الإنسان في هذا الواقع، إنّنا أمام محاولة خطيرة تسعى إلى تقويض مدلولات النصّ المرجعي من خلال حصره في مجال خصوصيّة الواقع التاريخ، وإهمال غناه الدلالي الذي يمكّنه من تجاوز جملة هذه التحديدات. وهذا التجاوز يلغي بدوره جملة التشريعات والممارسات الطقوسيّة باعتبارها تمثّل جانبا خاصا لفترة معيّنة، ومن ثمّ وجب استبدالها أو إلغاؤها بحسب مقتضيات الواقع الحركي. في حين أنّ القراءة السلفيّة بالرغم من بعض هناتها فإنّها تعتبر أكثر تقدّمية من قراءة نصر حامد باعتبارها وفقت في تأسيس حركة جدليّة بين النصّ والتاريخ دون التضحية بأحدهما، إنّ المنطق الذي ننطلق منه هذه الأطروحة، يكمن في العلاقة الجدليّة القائمة بين واقعيّة المفهوم وعقلانيّة الفكرة، بمعنى أنّ محاولة التحليق في سماء الماورائيّات والذوقيّات أو اتّباع المنطق العرفاني-الصوفي عبر آليّات الحلول والفناء، فإنّنا بذلك نعلن عن عرفانيّة العقل وهجره للمنطق البرهاني، وهذا الهجر يفضي بداهة إلى فسح المجال للذهنيّات الأسطوريّة والماورائيّة للعبث ومن ثمّ مزيد سيطرة الأنساق اللاعقلانيّة والتصوّف على المجال التاريخي للإنسان ومن ثمّ تأكيد واقعة الانسحاب الذي يحياه، لذلك كان التأكيد على هذه الجدليّة القائمة بين التحرّر والعقلانيّة والنص والتاريخ، قصد صياغة أطروحات تحرّر عقلانيّة، وتأسيس ذهنيّة عقلانيّة ذات طبيعة متحرّرة، تتجذّر في العيانيّة ويتسنّى لها التعامل الخلاّق مع نصّها دون إهدار لمدلولاته أو إطاحة بمقولة الواقع، بمعنى أن نعالج قضايا عيانيّة ضمن سياق عياني ومجتمع عيانيّ ونكتسب حرّيّات عيانيّة، أي الالتزام بالواقعيّة هناك الحريّة المدنيّة التي تتمثّل في عدم وجود موانع قاهرة للفعل حسب القوانين الضابطة لحياة المدينة وكذلك الحريّة السياسيّة المتمثّلة في عدم وجود موانع للقيام بالدور المناط على عاتق المواطن في وطنه، وأخيرا الحريّة الأخلاقيّة المتمثّلة في عدم وجود موانع للفعل من خلال الواجب الذي يمليه الضمير.هذه الحالات المتعدّدة للمستوى الخارجي للحريّة كلّها تضبط من خلال غياب الموانع الخارجيّة للفعل، ولهذا يمكننا أيضا تسميتها بحريّة الفعل أو حريّة الإنجاز والتنفيذ.(21) و إّننا نتفهّم هذا الربط الجدلي بين الحريّة و العقلانيّة، ذلك أنّ اختفاء الحريّة أو حضورها المشوّه في بعض الأحيان يفضي بداهة إلى الإقرار بفقدان العقل لفاعليّته وقيمته، ذلك أنّ ميزة العقل التحفّز للاختلاف والتواصل، فإن وجد ضمن مسار واحدي مرسوم سلفا ولا يقبل الاعتراض فماذا يمكن للعقل أن يفعل؟ لعلّ الإجابة الأكثر تداولا تكمن في السبات أو التعليق المؤقّت لدوره. وهذا ما يفسح المجال أمام اكتساح التيّارات اللاعقلانيّة لمجال وجودنا كنوع من التعويض والترضيات الموهومة، فتنتشر الخرافة والأساطير والالتجاء إلى السحرة والمشعوذين حتّى من قبل النخب الفكريّة كمتنفّس يبحث من خلاله عن مخرج لا عقلاني لمآزقه الوجوديّة التاريخيّة، وفي هذا كلّه تعطيل لمضامين النصوص القرآنيّة الدافعة نحو التعقّل والحريّة كأواليات ضروريّة لتحقيق الخلافة والعمران، فالمشاهدة والنظر في الكون والتعقّل وتسخير الكائنات كلّها آيات لأولي الألباب أو لأولي الأبصار أو لأولى النهى أو لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن ثمّ فالنصّ لا ينتظر تحقّقه في التاريخ، بل هو يراود المتعاملين معه على اكتساح مجالاته والبحث فيه قصد ضمان استمراريّة فاعليّته في مجال صياغته لواقع الإنسان وتأثيث وجوده. خطاب السلطة العربيّة واختياراتها النابذة للسؤال والحريّة، حوّلت الإنسان العربي إلى كائن نسي ذاته، كلّية، وارتمى في لحظته الآنيّة الوقتيّة، بسبب ضغط اليوميّ، وبسبب النزعة التواكليّة والتعامل غير المنتج مع الزمن. وسواء تعلّق الأمر بالمستوى الرسمي أو الشعبي الفردي أو الجماعي، فإنّ جلّ أشكال الخطاب العربي يطبعها الانفصال شبه المطلق مع تعيينات الواقع و الحركة الاجتماعيّة(22)
هذا الجدل يحيلنا بداهة إلى قراءة فكرة أساسيّة وهي من مشتقّات إشكاليّة النص والتاريخ، وهي أنّ الإنسان العربي لم يرتق إلى الآن إلى مستوى الاجتهاد المواكب، دليلنا على ذلك التردّد الدائم لفكرة التجاوز=رفض الواقع الساري، فهي دائمة الحضور في أطروحات العديد من المفكّرين، فنجدهم يطمحون إلى واقع أكثر رحابة، لأنّ الحاضر أو هذا الآن التاريخي لا يسمح له بممارسة واعية لحريّاته، فهو واقع تحت ضغط الاستلاب، لذلك لا يسمح له بإعادة النظر في جملة من القضايا التي تتعلّق بتحرّر الإنسان أو بقضايا نصّه المرجعي، ولعلّ أهمّ قضيّة يدافع عنها الحبابي مثلا هي قضيّة تحرير الإنسان لفكره من الاستلاب، لذلك نجد الحبابي يؤكّد على استعادة الأنا لذاتها ولإنّيتها وامتلاكه لها، نظرا لأنّ هذه الذات نسيت ذاتها بسبب طبيعة النظام التاريخي السائد النابذ للحريّة كتحرّر لا كمفهوم، هذه الوضعيّة النفسيّة خلقت معها ذاتا قاصرة عن الطموح بل تعيش لحظتها التاريخيّة يوما بيوم، أي إنّ هذه الذات لم يعد تعاملها مع الزمن تعاملا واعيا ومنتجا، نظرا للفكر المعاشي الذي يطوّقها فانساقت وراء فقه التنازلات قصد ضمان دفقها الحياتي الأدنى، فإعادة تناول فكرة الحريّة هي إرادة القيام بمغامرة للمصالحة بين الإنسان والزمن، ومن ثمّ إمكانيّة إعادة إحياء القراءة الإشكاليّة مع نصوصنا التأسيسيّة والنصوص الثواني الحافة بها ضمن هذا المنظور تغدو فكرة التحرّر ممتنعة أو مرتهنة إلى حدود توفّر مجتمع و نظام و بيئة وفلسفة تتيح للفرد أن يعايش تاريخيّا مفهوم النصّ بكلّ ما تعنيه تلك الكلمات من ممارسات تجديديّة، بمعنى أن يكون للفرد الحقّ في تقرير مصيره، أو بلغة معتزليّة الحقّ في خلق أفعاله، أي يتسنّى له التعالي المؤنسن والتي ترفعه إلى مرتبة الإنسان-الخليفة، أي تغدو الذات في منزلة الذات الحرّة، بمعنى القادرة على تحطيم القيود التي تربطها بجملة الوقائع الكائنة في المجتمع أو في الوجود، أي أتجه إلى القول بضرورة التعامل العقلاني مع الحتميّات البديهيّة أو الطبيعيّة التي يتكوّن منها الوجود، وتحطيم الحتميّات المزيّفة أو المصطنعة والتي تصبغ الواقع الثالثي، عبر جملة التقييدات الناتجة إمّا عن ممارسات حرّاس الرأسمال الرمزي أو المتأتّية من الماضي الأهلي أو الحاضر الغربي والذي يأسر الذات ضمن وعي منشطر، ناتج عن الاضطراب الذي أصاب الوعي في مستوى فهمه لعلاقاته بجملة الموضوعات التي تؤثّث وجوده، بحيث وصل إلى وضعيّة يعي فيها الموضوعات بصورة مغلوطة أو مشوّشة، إنّه شقاء الوعي وغربته، ونقول أنّ جدليّة النصّ مع التاريخ، وهذه الوضعيّة المتيبّسة الكائن فيها النصّ، هي نتاج بديهي لوضعيّة الإنسان ضمن وجوده التاريخي، أي وضعيّته ضمن المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، من ثمّ لا بدّ من تحرّر العقل من جملة النظم التي تضبط له طريقة تفكيره وحدوده و كيفيّة صياغته للنتائج، بحيث يعطى له الحقّ في الدخول في العالم وفي التاريخ، كما يعطى له الحقّ في المشاكل والغرق في المتاهات والضبط والاستعباد والقهر والحركة اللاعقلانيّة إنّ وضع الإنسان في العالم المعاصر يتّصف بقابليّة للعطب التام، هو يحسّ نفسه بلا عشيرة، وبلا مأوى، وذلك حتّى في بيته بالذات، ويعيش في جوّ من الضلال الذي لا أمل فيه ومن فقدان التوجّه الروحي، وهذا هو السبب في أنّ عصرنا يوصف بعصر الخوف...و من المفروغ منه أنّ السبب الرئيسي...يكمن في الإنسان نفسه،في الأعماق السرّية لماهيّته:" ضلال الإنسان الحالي عاقبة للحركة اللاعقلانيّة المعاصرة"وهو ينجم عن استسلامه التام لسلطان القوى اللاعقلانيّة الغافية فيه...و بالتالي فحلّ أزمة الوجود الإنساني تتضمّن مناقشة مع اللاعقلانيّة المعاصرة،وهنا ينبسط ميدان المعركة الحاسمة ،المعركة في سبيل الإنسان(23) ،لذلك كان لا بدّ من فكّ الارتباط مع هذه الذهنيّات التقليديّة التي انحرفت حتّى عن مسارها السلفي.
فالعمل المطلوب لأجل إيقاع قراءة مواكبة للنصّ القرآني تواءم بين متطلّبات النصّ ومستجدّات الواقع التاريخي هو نفي التردّد بين الوجوديّة التجريبيّة والماهيات الدينيّة أو اللاهوتيّة، من خلال فعل توفيقي يندرج ضمن المجال التاريخي للإنسان، وأوّل خطوة تتمثّل في تحرير الإنسان من مفهوم الإرجاء أو الجبر المقنّع، الذي ورثه من التصوّرات الدينيّة الصوفيّة، بحيث تصوّر الحياة الدنيا على أنّها وجود خاطئ أو مشوّه، هذه الخطاطة تجعل الإنسان يستبطن مثل هذه المفاهيم وهو ما يدفعه إلى الإهمال والتبتّل والانعزال وترك الفعل الدنيوي(الخلافة والعمران) والتعلّق بالأخرويّات، هذا المفهوم الخاطئ نريد إصلاحه عبر ترسيخ مفهوم تحرّر الذهنيّات في العالم، في هذا الوجود، ولكن دون أن نضحّي بالنصّ الديني، فنحاول الجمع بين مفهومين :مفهوم الإسلام و مفهوم العلمانيّة في مستوى فكرة العمل والاهتمام بالعالم، ومن ثمّ تمكين الإنسان من استعادة ما كان مصادرا وهو استخدام العقل والاجتهاد في النصّ، من هذا المسار نريد موائمة بين الإسلام و العلمانيّة قصد تحرير الذات البشريّة والاستعادة لحقيقتها التاريخيّة، وهذه الموائمة ممكنة الوقوع إذا اعتبرنا أنّ مفهوم الخلافة في جوهره مفهوما علمانيّا لأنّه ينصبّ في الاهتمام بالعالم ويطلق حريّة الذات الإنسانيّة للعمل في هذه الوجود ولا يتركها معتقلة نظرا لأنّ فهم الإسلام لا ينطلق من مسلّمات الخطيئة الأولى التي تعدم كل خيريّة في هذا الوجود و تؤكّد على فطريّة الشرّ في الذات الإنسانيّة، ومن ثمّ لا مجال للاجتهاد أو الفهم المواكب لجملة مرجعيّتنا إنّ وجود مثل هذا التوجّه الإنساني هو شرط لا غنى عنه لاستيعاب الحضارة و نموّها، تماما كما كان الانتقاص من قيمة الإنسان هو مصدر العجز عن تنمية موقف إيجابيّ اتّجاه الواقع و العالم، و من ثمّ زوال القدرة على المشاركة المبدعة في الحضارة(24)
- من هنا يمكن وضع مفهوم التحرّر ضمن مجال استعادة الفعاليّة الإنسانيّة لحيويّتها في علاقتها بالنصّ وأنّ هذا الوجود، و إن كان وجودا مؤقّتا-فانيا، إلاّ أنّه حقل تكليف يمكّن الذات الإنسانيّة من الفعل وتحقيق الخير بشرط فسح المجال للاعتماد على نفسه وتنمية قواه العقليّة وقيمه الأخلاقيّة، بهذا المفهوم نأتي إلى ما أسماه الحبابي بالتعالي المؤنسن، أي فكرة التقدّم أصبحت ممكنة الوقوع من خلال آليّة التشخصن التي في جوهرها آليّة للتحرّر من خلال التقدّم في تربيته العقليّة و تراكم خبراته، وهو ما يصطلح عليه الحبابي بالشخص المتجاوز أو المتعالي إلى مرتبة الإنسان، بهذا يتحرّر الشخص من المفاهيم السلبيّة التي تعتقل إرادته كمفهوم المخلّص أو إرجاء جملة أعماله إلى الآخرة، و الحال أنّ الآخرة إن هي إلاّ انعكاس لواقع الإنسان في الدنيا والنصّ التأسيسي للإسلام يؤكّد على إمكانيّة التجاوز وتحقيق الأفضل ضمن الفضاء الدنيويفاستبقوا الخيرات(25) ،هذه الذهنيّة أرادها الحبابي كسلاح يقاوم به الفهم التحقيري للإنسان لأجل ترميم نفسيّة الإنسان وإيقاظ مفهوم الجهد والبذل والاجتهاد لديه، ضمن مجال وجوده في العالم. بهذا التصوّر نخرج في مستوى أوّل من المفهوم السائد للقضاء و القدر لدى الاتجاه السلفي-الأشعري، أي الوسطيّة السلبيّة التي ابتعدت عن مفهوم الحريّة واقتربت من مفهوم الجبريّة، عبر مفهوم الكسب الذي في جوهره تقنين للجبر، فمفهومه للتحرّر نفهم منه تأويلا لا تصريحا، أنّ الذهنيّة السلفيّة الأشعريّة بوجهيْها الأصولي والفقهي قد انتصرت للجبر على حساب الحريّة، بحيث انتهت إلى تصوير الإنسان في وضع العاجز حتّى عن ممارسة ما أمر به عبر الأمر الإلهي، بحيث لم يعد للإنسان أي حقل يتصرّف فيه حتّى ولو كانت دائرة المباح المسكوت عنها نصّا(26) ،ممّا يبقيه في مجال العجز والسلبيّة، أمّا المستوى الثاني فهو الخروج عن الأطروحات ذات الاتجاه العدمي، التي تجعل من الإنسان متحرّرا من كلّ القيود والضوابط والحتميّات، بحيث أنّ هذا المفهوم للحريّة لا يخدم آفاق النصّ في مجاله الحيوي التاريخي، العدميّة تتحدّد كحركة موجّهة ضدّ هذه القيم،و كاستنكار كلّي لها،يكشف عن عنف رغبتها في التخلّي عن هذه القيم ورفضها.فالعدميّة تبرز كنفي لهذه القيم العليا،و كتيّار مضعف و محطّم لقيمة هذه القيم،إنّ العدميّة تتجسّد كردّة فعل ضدّ فكرة...القيم العليا بتمامها،فهي تنفي وجودها و صلاحيّتها.(27) إنّ فعل النفي الذي ننتهجه ليس بالفعل السلبي أو العدمي، بقدر ماهو محاولة تجاوز البؤس التاريخي الذي يلتصق بالذات والعمل على تطويرها نحو آفاق أكثر تحرّريّة تدعم المكاسب التي أحرزتها عبر صيرورتها التاريخيّة، لذلك فالشخص ليس مجرّد تفكير وأفكار مجرّدة بقدر ما هو تحقّق و إنجاز أو نزوع نحو التحقّق في الغد الإنساني التاريخي ابتداء.
الخاتمة:
نهاية نقول أنّ قضيّة النصّ والتاريخ، هي قضيّة منهج في التعامل مع النص، وقضيّة مصير بالنسبة للإنسان، لأنّ تحديد علاقتنا بالنصّ، هو في ذات الوقت تحديد لعلاقتنا بوجودنا المنصوص عليه نصّا، فطبيعة التعامل مع النصّ انعكاس لطبيعة وضعنا في التاريخ، ونحن لا نتردّد في القول أنّ الاتجاه الغالب في تعاملنا مع النصّ القرآني هو اتجاه يتّم بالتطابق أكثر ممّا يتّجه إلى الاختلاف، بحيث أنّ هذه المنهجيّة تفقد التاريخ حيويّته وتجعلنا نحيا تاريخا معاشيّا مواكبا و لكن بذهنيّة أقرب ما تكون إلى ذهنيّة القطيع القائم على أساس التكرار الآلي لجملة المقولات المتداولة والمؤثّثة للمخيال الجمعي أولئك القطيع، ذوو الوعي المطابق لذاته الذي لا يغامر خارج حدوده،لا ينفكّون يعيدون التائه إلى حظيرتهم، إلى حظيرة أبيهم ليتطابق مع أنموذجهم ولا يفلت من زمام مقولاتهم. فهم لا ينفكّون يسدّون الطريق أمام كلّ توق إلى المستقبل ليعيدوه إلى الحاضر وعلى حظيرتهم . السفر ، الذهاب، التيه:هم دائما له بالمرصاد، لا يهمّهم من الأمر إلاّ إقامة صنمهم وإلزام الآخر بالمكوث عنده، وحيث هو، لعبادته...إنّهم يتابعون الآخر بذهنيّة الرقيب قصد مراجعة ما يكتبه Démarche de vérification ليروا هل يتطابق مع أنموذجهم أم يخالفه. وإذا هو اتّسم بالاختلاف فإنّهم يتوخّون استراتيجيّة الاحتواء (28) (29)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسكويه ( أبو علي ) : الفوز الأصغر : 151 . يقول محمد عبدو معرفا الوحي : هو عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة.و الأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت .انظر : رسالة التوحيد : ضمن الأعمال الكاملة لمحمد عبدو : 3/414-416 .أو أنظر رسالة التوحيد:دار الكتب العلمية.بيروت.ط1/1986.فصل:إمكان الوحي:57-61.
(2) الغزي ( ثامر ) :مقولة الوحي في التصور الإسلامي : مقاربة أنثروبولوجية : مجلة الآداب .القيروان :.كلية الآداب والعلوم الإنسانية. القيروان:عـ2ـدد/أكتوبر 1997 دار ألفا للنشر.ص 23.
(3) الإمبريقية : مصطلح فلسفي يؤمن أن الحقيقة محايثة للوجود الإنساني متعينة في الواقع ،فالواقع هو منبت الحقيقة وكل تصور يناهض هذا المبدأ أو يدعي انتماء الحقيقة إلى الغيب لا يعبر عنه الحقيقة .فلا وجود لعالم غير عالم الإنسان، العالم المرئي-الحسي .
(4)يقصد به المنهج السلفي .
(5) أبو زيد (نصر حامد ) : مفهوم النص :.المركز الثقافي العربي.بيروت-ط1/1990،ص26.
(6) أبو زيد ( نصر حامد ) : النص و السلطة و الحقيقة : .المركز الثقافي العربي.بيروت-ط2/1997،ص 9.
(7) أبو زيد ( نصر حامد ) : الخطاب الديني. دار المنتخب العربي.بيروت-ط1/1992،ص 68.
(8) أبو زيد ( نصر حامد ) : مفهوم النص : 24
المصدر السابق نفسه :
(9)المرجع السابق: 26
(10)أبو زيد ( نصر حامد ) : الخطاب الديني :134-135.
(11) أبو زيد ( نصر حامد ) : مفهوم النص : 33-34
(12) الخولي ( أمين ) : مناهج التجديد في النحو و البلاغة و التفسير و الأدب :دار المعرفة.ط1/1961،ص 310.
(13) دوركايم ( إميل ) :عالم اجتماع له دراسات حول الظاهرة الدينية وكيفية تشكلها.
(14) Durkheim ( Emile ) : Les formes elementaires de la vie Religieuse : 4-5 .FELIX ALCAN.3 EDITION.PARIS 1973
(15) أبو زيد ( نصر حامد ) : مفهوم النص : 34
(16) إن هذا الموقف لنصر حامد تجاه التيار السلفي،يشبه إلى حد كبير موقف ماركس من هيغل،فالأول يدعي أن منهجيته ديالكتيك صاعد،ويصف الثاني بأنه ديالكتيك نازل،و الفرق بين الاثنين هو كالفرق بين الإيمان بالميتافيزيقا و الإيمان بالواقع المادي،فالموقف إما أن يكون علمانيا ماديا،و إما أن يكون موقفا إيمانيا. فالجمع بين المتناقضات في هذه المسائل لا يمكن.
(17) حنفي (حسن ) : الوحي و الواقع : دراسة في أسباب النزول : ضمن ندوة مواقف : الإسلام و الحداثة.دار الساقي.لندن.ط1/1990 ،ص135-136.
(18) أبو زيد (نصر حامد) : المصدر السابق نفسه : 2/ 167 . لعل أهم دليل على ما نقوله هو ما وجدناه في كتابات نصر حامد حيث يقول في بعض المواضع: إن الواقع الذي ينتمي إليه محمد ليس بالضرورة الواقع السائد المسيطر،فالواقع-أي واقع كان-يحتوي في داخله و في بنائه الثقافي نمطين من القيم :النمط السائد المسيطر ،ونمط القيم النقيض الذي يكون ضعيفا خافت الصوت ،لكنه يسعى لمناهضة نمط القيم السائد. انظر مفهوم النص : 60
(19) في هذا المجال يظهر أثر فكر أستاذه حسن حنفي عليه ،في مجال الاعتداد بالواقع و إيلائه الأهمية ،يقول حسن حنفي في هذا مجال أولوية الواقع على الوحي: و الإسلام ليس وحيا أعطي مرة واحدة كما أعطيت غيره من الرسالات بل أعي خلال ثلاثة و عشرين عاما.ونزل الوحي حسي متطلبات الواقع …و كثيرا ما كان الوحي يعدل حسب الواقع كما يقول بذلك علماء النسخ…فالوحي يسير طبقا لمتطلبات كل عصر …(و) إذا كان الإسلام على ما يقول المعتزلة يقوم على العقل و أن الشرع تابع للعقل،يثبت تطور الوحي،إذن إن الحقيقة موجودة إلى الأمام لا إلى الوراء.لذلك يكون غريبا حقا أن يقف الناس= عند النموذج الأول في تطبيق الوحي. انظر سلسلة قضايا معاصرة : دار التنوير للطباعة.بيروت-ط2/1983، ج1/ص 92.
(20) تأكيدا لما توصلنا إليه نورد هذا القول لنصر حامد : فالنظر إلى اللغة عن منظور القِدم و التوقيف الإلهي يمكن أن يؤدي إلى عزل النص عزلا كاملا عن سياق الثقافة التي ينتمي إليها،وهو الموقف الأشعري. لقد حاول المعتزلة جاهدين ربط النص بالفهم الإنساني و تقريب الوحي من قدرة الإنسان على الشرح و التحليل . انظر مفهوم النص :ص 147.
(21) التريكي (فتحي)،العقل و الحريّة،سلسلة:أبحث عن تبر الزمان، منشورات تبر الزمان،تونس د-ط،1998، ص 67.
(22) أفاية (محمّد نور الدين)،المتخيّل و التواصل،مفارقات العرب و الغرب،دار المنخب العربي،ط1/1993،بيروت-لبنان، ص 56.
(239 أودويف (ستيبان)،على دروب زرادشت،دار دمشق ،سوريا،ط1-1983، ص 380.
(24)غليون (برهان)،نقد السياسة:الدولة و الدين،المؤسّسة العربيّة للدراسات و النشر،بيروت-لبنانط1-1991،ص 313.
(25) البقرة:2/148.
(26) ياسين (عبد الجواد)،السلطة في الإسلام،المركز الثقافي العربي،ط2-2000،بيروت-لبنان،ص 137.
(27) كثيري (ليلي)،مسألة القيمة من خلال إرادة القوّة لنيتشه،مجلّة الفكر العربي المعاصر،عدد116-117،مركز الإنماء القومي بيروت،لبنان،ص 46.
(289 بن عرفة (عبد العزيز)،جاك دريدا:التفكيك و الاختلاف المرجأ،مجلّة الفكر العربي المعاصر،عدد 48-49، 1988،مركز الإنماء القومي،بيروت-لبنانص،ص72.
(29) لمزيد التوسع انظر :قويسم (إلياس): إشكالية قراءة النص القرآني في الفكر العربي المعاصر: نصر حامد أبو زيد نموذجا.بحث لنيل شهادة الدراسات المعمقة.تونس جامعة الزيتونة:1999-2000.
|