الخطاب القرآني وثنائية العقل والقلب
حضران مصطفى
الخطاب القرآني وثنائية العقل والقلب. لعل من أهم الإصابات والنكبات التي حلت بهذه الأمة ومنذ عهد بعيد، تلكم الإصابات الفكرية، و المطبات الثقافية والمعرفية التي تراكمت وجثت على صدرها، حتى جعلت منها أزمة حقيقية هزت العقل المسلم، وقيدت فاعليته وحيويته، وأعادته إلى أثون الحيرة والقلق وفقدان الثقة بالذات؛ مع أن هذه الأمة لا تنقصها الموارد المادية، ولا الموارد البشرية، كما لا تنقصها القيم والمبادئ، ولا الغايات والمقاصد. إننا لا بالغ إذا قلنا أن أمتنا تعيش في سبات عميق، وفي أزمة حقيقية و مركبة، فالفجوة التي بيننا وبين الحضارات الأخرى في اتساع مستمر، إذ لا تزال الأمة عاجزة عن الفعل، وتعيش حبيسة ردود الأفعال الناتجة عن الصدمات النفسية والفكرية التي تبلورها الحضارة الغازية، وذلك راجع للخلل الذي أصاب منهج الفكر الإسلامي حين غاب البعد المعرفي الشمولي التحليلي، الذي يتعلق بمعرفة السنن الإلهية في الطبائع النفسية و الكونية وفي تفاعل عواملها عبر الزمان والمكان .
كما تكمن كذلك أبعاد هذه الأزمة المعرفية، في طريقة تعامل المسلمين اليوم، مع القرآن الكريم والسنن النبوية المطهرة؛ فتبقى المشكلة في كيفية اكتشاف منهجية قرآنية تكون حلا لأزمتنا الفكرية والثقافية، لهذا لابد من العودة إلى القرآن الكريم والتعامل معه من نفس المنطلقات التي كان الرسول الكريم يتعامل معه بها، كي تتجاوز الأمة أزمتها الفكرية، باعتباره كلام الله المطلق والمصدق والمهيمن على سواه، وباعتباره كذلك خطابا عالميا يتجاوز النظرة الإقليمية الجزئية والطائفية؛ وإذا كان العالم كله يتوق إلى الخلاص وهذا الأخير يتعذر أن تأتي به القومية أو الحزبية أو الإقليمية أو حتى اللاهوتية المتعصبة؛ لهذا فالبديل الذي يدعي امتلاك الحل للأزمة العالمية، ينبغي أن يكون قادرا أولا على استيعاب واحتواء الفلسفات والطروحات الأرضية المتداولة، ثم ثانيا أن يكون قادرا على تجاوزها، بتقديم بدائل تسع الناس كافة؛ وليس هناك من مصدر قادر على تحقيق هذين البعدين: "الاحتواء و الهيمنة ثم التجاوز وتقديم البدائل "، غير القرآن الكريم المحفوظ بوعد الله.
إن خطاب الإصلاح القرآني الذي هو أساس تكوين الشخصية المسلمة خطاب يتجه بشكل مباشر إلى الإنسان في كينونته ومكوناته عامة، عقلا ونفسا وجدانا وعاطفة. وتماشيا مع الطابع الاستيعابي للقرآن لكل إنسان في الزمان والمكان، وتماشيا مع مبدئه العام في الدعوة والبلاغ، والتواصل مع الناس كافة، نجده قد استخدم لتحقيق هذا الهدف والمقصد كل الأساليب الممكنة، واستعملها بحسب ظروف المخاطب التاريخية، والعقلية والنفسية، وحيثياته الواقعية، فإن هذه الأساليب جاءت لتخاطب في الإنسان كل جوانبه وملكاته وتلبي احتياجاته وتساؤلاته؛ وبهذا استطاع القرآن عبر مشواره الطويل، أن يجلب إلى ساحته أقواما مختلفي الطبائع والتفكير والمدارك واللغة والحضارة.
ونتيجة لعالمية القرآن الكريم وهيمنته على غيره من الكتب السابقة، والنظريات والتصورات المعاصرة، نجد الأسلوب القرآني قد استوعب كل الخطابات المعاصرة والمناهج الحديثة.
* فإذا كانت المذاهب المادية المعاصرة أعلت من شأن العقل، وجعلته الحكم في كل شيء، وأنه الجوهر الحق الذي ينبغي أن ينطلق منه الإنسان، ويعتمد عليه ويعود إليه في نفس الوقت، فرفعته بذلك إلى درجة ألا سلطان يعلو على سلطان العقل، فما صححه العقل فهو صحيح وما قبحه العقل فهو قبيح، وما رده فهو مردود؛ يجد الدارس للقرآن الكريم، أنه جعل العقل أساس رسالته، ومناط تعاليمه وحارس دعوته، ووصف أتباعه بأنهم العاقلون، قال تعالى: " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم، أفلا تعقلون". " وما يذكر إلا أولوا الألباب". وهكذا إذا ذهبنا نستعرض الدلائل على مكانة العقل في الإسلام فسنضطر إلى استعراض الإسلام كله، إلا أن المنهج القرآني و نظرا لشموليته وهيمنته من جهة ونظرا لربانية مصدره من جهة أخرى، نجده يخالف هذه الدعاوى المادية، فإذا كان الخطاب القرآني قد أعلى من شأن العقل وجعله مناط التكليف، فهو يؤكد كذلك على محدوديته ونسبيته؛ وأن هناك عوالم لا يمكن للعقل المجرد أن يقتحمها ويكتشف كنهها، سيما ما يتعلق بالأمور الغيبية التي لا يمكن للدليل المادي وحده حصرها وتلمسها.
* فإذا كان الخطاب القرآني يعتمد على العقل في إثبات عقائده باعتباره علة التكليف والحساب، وأنه شرط ينبغي تحققه في المكلف حتى تطبق عليه الأحكام، فإنه يعتمد أيضا الخطاب العاطفي، أو الخطاب القلبي الإيماني، لكن لا نقصد ذلك الخطاب الباطني الجامد، الذي يعطل كل وسائل الإدراك الأخرى التي وهبها الله للإنسان ، كما يذهب إلى ذلك بعض غلاة المتصوفة، الذين يؤمنون بأن الإحساس والشعور و الوجد هو وحده الدليل على الأحكام والإيمان، إنما نقصد الخطاب الإيماني العاطفي المتعقل الذي يحرك في الإنسان قلبه ويخاطب فيه روحه، ويطلق جوارحه للعمل والعطاء. فحين يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " استفت قلبك" نفهم أن الإدراك القلبي هو دليل المؤمن، وهو نوع من الأدلة التي ينبغي أن نقف عندها ونعطيها حقها من التمحيص والدراسة. وحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك: " الإثم ما حاك في صدرك وخفت أن يطلع عليه الناس" ففي هذه الإشارات تنبيه إلى قيمة الشعور والإحساس والعاطفة وكل ما يتعلق بالأمور القلبية في الخطاب الإسلامي. وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل عندما أخبر عن شخص، أفتاه فقيهان برأيين مختلفين فقال :" لا يجوز له العمل بأيهما شاء، بل يعرض الآراء على قلبه ويتبع ما يطمئن إليه قلبه" فد جعل اطمئنان القلب دليل الإيمان.
وإذا كان العلم الفلسفي المعاصر قد أثبت، أن الإنسان الواحد يحتاج إلى نوعين من الخطاب: *الخطاب العقلي المجرد. *الخطاب القلبي العاطفي. فالرؤية القرآنية ترى أن الإنسان يولد مزودا بالعقل وكل وسائل الإدراك التي ميز الله بها بني آدم علي سائر المخلوقات، يقول تعالى " هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون" ومن ضرورات العقل التفكر والتدبر والبحث والنظر وتوليد الأفكار وتشييد العمران. فكان لا بد للعقل الإنساني أن يتساءل عن معنى وجوده، والغاية من هذا الوجود ويتساءل عن مصدر هذا الوجود والكون، ويبحث عن مصيره ومآله، وكل هذا مرتبط بالجاني الروحي في الإنسان التي جاءت الأديان والرسالات لتؤسس هذه المعرفة. وعلى الرغم من إيمان البشر بما يتوارثون ويؤمنون به من عقائد وأديان، فإن العقل الإنساني وما أودعه الله فيه من فطرة البحث كان لابد له من التساؤل ومحاولة الفهم العقلي حيال كل شيء؛ فإلى جانب الإيمان الوجداني كان البحث العقلي عن مصدر الوجود وغاية الوجود ومصير الوجود، وهي أسئلة كانت محل عناية الفلسفة والفلاسفة، وهكذا إذا نظرنا إلى الإنسان وجدنا فيه جانب الإدراك والتسامي الذي يتعلق بالروح جنبا إلى جنب مع الجسد وحاجاته المادية وما يتعلق به من شهوات. إن الخطاب القرآني استطاع وعبر الزمان أن يوجد عقلا مسلما قادرا على العطاء في كل المجالات وذلك اعتمادا على: * النظر في الكون لاكتشاف أسرار الخلق والسنن المبثوثة في الآفاق. * النظر في القرآن قصد الوقوف على خطاب الله الموجه للمكلفين وتحقيقا لمهمة الخلافة وعمارة الأرض. و لقد أتقن الصدر الأول هاتين القراءتين، حيث استمسك بالوحي مرجعا أعلى وموجها وهاديا، وأعمل العقل في فهم الوحي ذاته ثم الكون من حوله، فاستطاع بذلك أن يقرأ الوجود ويكتشف السنن، ويبني الحضارة. إن القراءة المتأنية، غير المتحيزة والتي تطمح فقط للوصول إلى الحقيقة كيف ما كانت، تثبت أن ثنائية العقل والقلب لا مكان لها في الخطاب القرآني، وأنها وليدة مرحلة زمنية من تاريخ أوربا حين اشتد الخصام بين العقل الأوربي ورجال الدين الكنسي، وأنها هجرت إلينا، كباقي الأفكار والمنتجات التي تبلورها الثقافة الغازية، ثم تصدرها إلينا سواء عبر وسائل إعلامها ومؤسساتها الثقافية، أو عبر نخب ارتمت في أحضان الثقافة الغربية، وأصبحت تردد مقولات الغرب بعد أن تغلفها بغلاف ذو خصائص شرقية.
فالدارس للخطاب القرآني يجده موجها للناس كافة، يخاطب فيهم الروح والجسد، الغرائز النفسية والملكات العقلية، فهو خطاب يحترم كل الخصائص والمواهب التي منحها الله تعالى لبني آدم، فإلى جانب الخطاب الإيمان الوجداني العاطفي، نجد الخطاب العقلي البرهاني الاستدلالي. " القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم و التنبيه إلى وجوب العمل به و الرجوع إليه ولا تأتي الإشارة عارضة و لا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كتل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه ولا يأتي تكرار الإشارة غالى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها" . إن العقلانية في القرآن أمر واضح تمام الوضوح، لا يخطئه أي قارئ للقرآن بريء من العصبية والتقليد، بل يجدها مبثوثة في ثنايا سوره مكية كانت أو مدنية. وهذا ما وجدنا كثيرين من غير المسلمين شهدوا به.
1) "جاك بيرك" الذي ترجم معاني القرآن إلى الفرنسية يقول: " لقد تبينت لي بوضوح عقلانية القرآن في كل سورة من سوره، وفي كل آية من آياته، وذلك ثمرة مصاحبة ومعايشة طويلة للقرآن"
2) ماكسيم رودنسون كاتب ماركسي يهودي فرنسي مؤلف كتاب: "الإسلام والرأسمالية" يقول: "القرآن كتاب مقدس تحتل فيه العقلانية مكانا جد كبير، فالله لا ينفك فيه يناقش ويقيم البراهين، بل أكثر ما يلفت النظر هو أن الوحي نفسه، هذه الظاهرة الأقل اتساما بالعقلانية في أي دين، الوحي الذي أنزله الله على مختلف الرسل عبر العصور وعلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم يعتبر القرآن نفسه أداة للبرهان، فهو في مناسبات عديدة يكرر لنا أن الرسل جاءوا بالبينات. فإذا تساءلت: ما الذي يضمن صحة الدلالة في هذه البينات، بدا لك أن هذه الضمانة لدى محمد صلى الله عليه وسلم تكمن في معايير من التلاحم الداخلي من التوافق الجوهري بين مختلف ما أنزل من وحي في حقب مختلفة على شعوب مختلفة وبواسطة رسل مختلفين، والقرآن ما ينفك يقدم البراهين العقلانية على القدوة الإلهية. ففي خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتوالد الحيوان، ودوران الكواكب والأفلاك، وتنوع خيرات الحياة الحيوانية والنباتية تنوع رائع التطابق مع حاجات البشر ويجمل القول فيقول في الأخير : " في مقابل هذا تبدو العقلانية القرآنية صلبة كأنها الصخر" وهذا العقل الذي أمرنا الله في آيات كثيرة أن نحتكم إليه عند جدلنا بين أنفسنا في معركة الشك واليقين، وفي جدلنا مع غيرنا من المخالفين، يشمل بسلطانه كل معنى في الوجود ابتداء من أتفه الأشياء كإماطة الأذى عن الطريق إلى أعظم معنى في الوجود وهو الألوهية والوحدانية" فإلى جانب هذه العقلانية القرآنية، يتبين من خلال الآيات القرآنية أن القرآن الكريم يخص القلوب أكثر من العقول بالجانب الإيماني في حركة الفكر، فالخطاب القرآني يبين أن القلوب أوعية للإيمان أو الكفر أو الخير أو الشر، والرسول صلى الله عليه وسلم أكد هذا المعنى في قوله:" التقوى ها هنا يشير إلى صدره ثلاثا". وقوله صلى الله عليه وسلم:" البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وخفت أن يطلع عليه الناس".
وقد يستغرب بعض دعاة العقلانية، أن يكون للقلوب دخل في عملية الفكر والفهم والعلم يقول المفكر البريطاني "جود" في كتابه انتعاش الإيمان:" إن حقيقة التعارض بين العقل والملكات الغريزية، هو في الحقيقة تعارض وهمي، لأن هذه الملكات هي التي تؤدي إلى الأفكار والعقائد، ويكون على العقل بعدئذ تفنيدها أو تأكيدها، وحتى هذا فإنه يتم بالتوفيق بين أفكار وعقائد سابقة، فالعقل هو عنصر تنسيق وتوائم أكثر مما هو خلق وإبداع، وحتى المجالات المنطقية الخالصة فإن البصيرة هي التي تصل أولا إلى الجديد". إن وضوح الرؤية لطبيعة الإنسانية وما فيها من تجاذب بين متطلبات الروح(القلب) ومتطلبات العقل، هو أمر أساس لإصلاح الذات، وبناء الحضارة والأمة المخرجة للناس.