العدل بين الخطاب القرآني و التراث التفسيري: الرازي والقرطبي أنموذجين
احميدة النيفر
-I-
مقدمة
الاستعمال القرآني للعدل كان عامّا باستثناء موضعين اثنين لا يغيّران جوهريا وجهة المفهوم
يورد "د. محمد أحمد خلف الله" في مبحث له عن "العدل" نشرته الموسوعة الفلسفية العربية(1) ما يفيد أن هذه المادة ظلت في استعمالها القرآني ثم في ما أثبته المفسرون قريبة من معناها اللغوي الذي يدل على المساواة. ما حض عليه الإسلام من قيمة العدل، استقر، حسب "خلف الله"، على الدلالة المعهودة فلم ينضف إلى معنى المماثلة بُعدٌ آخر مختلف عمّا استُمِد من الحياة البدوية، حياة الضعن حيث كانت الأمتعة تُقسَم عند الترحّل لتكون متساوية على جنبي البعير(2). ما انضاف بعد قرون من أبعاد جديدة في استعمال هذه القيمة في أكثر من موضع لم يمكّن رجال الفكر من وضع تعريف للعدل أشد وضوحا وأجمع دلالة. لقد استقرت عمومية هذا اللفظ لدى المفسرين والمفكرين لكون الاستعمال القرآني للعدل كان عامّا باستثناء موضعين اثنين لا يغيّران جوهريا وجهة المفهوم: سياق الأمانات والفصل بين المتنازعين وسياق الحياة الزوجية.
على هذا فإن "خلف الله" يقرّ ما ذهب إليه الشيخ محمد عبده في تفسير المنار حين قال إن "العدل من المعاني الدقيقة التي يشتبه الحد الأوسط فيها بما يقاربه من طرفي الإفراط والتفريط ولا يسهل الوقوف على حدّه والإحاطة بجزئياته المتعلّقة بوجدانات النفس كالحب والكره فيما أطلق من اشتراط العدل، اقتضى ذلك الإطلاق أن يفكر أهل الدين والورع والحرص على إقامة حدود الله وأحكامه في ماهية العدل وجزئياته ويتبينوها."(3)
ما يخلص إليه " خلف الله" في مبحثه الذي ركزه على الاستعمال القرآني ثم على ما تواضع عليه الفكر العربي الإسلامي بعد ذلك يمكن تلخيصه في أربع نقاط:
- إذا كان الإسلام يدعو إلى المجتمع العادل فإن الاستعمال القرآني وما اثبته عموم المفسرين لم يتجاوز بالعدل معناه العام وهو : إعطاء كل ذي حق حقه وإيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه.
- هذا الطابع العام غير المتخصص الذي لم يلاحظ مختلفَ أنماط العدل وتجلياته يتيح المجال لأولي الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشورى أن يختاروا الصيغة أو الصيغ التي تلائم المجتمعات تحقيقا لقيمة العدل بما يحايث واقعهم و يستجيب لمستجداته.
- لا مجال لاستبعاد المفهوم التاريخي عند تمثل قيمة العدل في مختلف الأوضاع مراعاةً لسنة التطوّر. مؤدى هذا أن حكما شرعيا ما أُقيم تحقيقا للعدل في سياق تاريخي يمكن في سياق آخر مغاير إيقاف العمل به لأنه لم يعد محققا لتلك القيمة (حكم الغنائم وما يأخذه المقاتلون منها)(4).
- لا تمييز في التشريع الإسلامي عند إقامة العدل بين المسلمين كما لا يجوز التفريق بين عموم الناس لاعتبارات الجنس أو اللغة أو الدين تحقيقا لذات القيمة.
أهم ما يمكن أن يلاحظ في مبحث العدل للدكتور "خلف الله" والذي نشره في ثمانينات القرن الماضي أنّه جاء مؤكدا لما كان قد أذاعه من قبل في رسالته عن "الفنّ القصصيّ في القرآن الكريم" التي نوقشت سنة 1947و هو في ذلك لا يختلف عن منهج أستاذه " أمين الخولي" رائد المدرسة الحديثة للتفسير(5). أقيمت هذه المدرسة على أساس منهجي أطلق عليه الخولي اسم "التفسير البياني للقرآن" غير أنّه يختلف عما وُضع من تفاسير اعتنت في الماضي بالإعجاز البلاغي للقرآن بمنطق دَعَوِيٍّ وتراثيٍّ غايته الدفاع عن الإسلام والرد على خصومه.
كان مقصد "خلف الله" وهو يتابع خطوات أستاذه هو بيان خطل المناهج التفسيرية ذات الوجهة المذهبيّة والتوظيفات الدعَوِيّة. ما عمل على تجنبه المنهج البياني التجديدي هو الإقلاع عمّا ساد عند عموم المفسرين من توظيف معارفهم ورُؤاهم على النص القرآني قصد استخراج ما يدعمون به أفقهم الفكريّ والمذهبي.
كيف يكون المفسّر قارئا متفهّما للنص حريصا على معناه ومقصده و ليس متسلّطا عليه متعسّفا معه وكيف يكون الخطاب القرآني حيّا في المقاربة التفسيرية؟ ذلك كان الهاجس الفكري والمنهجي الذي صاحب أعمال الخولي و تلميذه خلف الله.
ما نسعى إليه في هذا الدراسة ينطلق من محاولة تقويم ما أثبته خلف الله في مبحثه عن العدل في النص القرآني بالاحتكام إلى ذات المنهج البياني الذي اعتمدته المدرسة الحديثة للتفسير ودعمه بمواصلة تحليل قيمة العدل في الخطاب القرآني باعتماد منهج تفسيري أحدث وأشمل في الدراسات القرآنية هو المنهج الدلالي. غاية ما نقوم به في الأثناء من مقارنة نرصد بها أبرز ما ميّز عمل مفسرين كبيرين هما الفخر الرازي ( تـ 606هـ ) والقرطبي ( تـ 671هـ)في ذات الموضوع هو إحكام التقويم منهجيا وفكريا.
- II-
من التفسير التجزيئي إلى التفسير الموضوعي
تميّز القرن الرابع عشر هجري الذي وافقت بدايته سنة 1883 م بظهور بوادر مشروع نهضة سياسية واجتماعية في البلاد العربية الإسلامية تلت حملة نابليون على مصر ثم قيام الجيوش الفرنسية باحتلال الجزائر. واكب هذا بروزُ تجربة "التنظيمات" في الدولة العثمانية ومحاولات الإصلاح في مصر في عهد محمد علي باشا وفي تونس في دولة المشير أحمد باشا باي وكذلك في المغرب مع محمد الرابع وحسن الأول. لكن أهمية هذا القرن تتجاوز هذا المجال لكونها شهدت تحقق تطور واضح شمل البناء الفكري الذي ما كان للمشروع السياسي الاجتماعي أن يتجسد ويتواصل في البلاد العربية الإسلامية لولاه. لو حرصنا على متابعة مسيرة هذا التوجّه الفكري في نموّه المتدرج لتبينت جملة من الأسئلة الكبرى التي سعت إلى تحريك الأنساق المعرفية المتوارثة التي لم تقع مراجعتها طوال قرون.
من أبرز تلك الأسئلة وأكثرها إلحاحا ما كان متعلقا بالتراث التفسيري والقاعدة المنهجية التي ينبغي اعتمادها في التعامل مع النص القرآني. شرع جمال الدين الأفغاني: (تـ 1314/1897) في هذا المسعى حين حدّد موقفا واضحا من التراث التفسيري قائلا: "القرآن وحده سبب الهداية والعمدة في الدعاية أمّا ما تراكم عليه وتجمّع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظريّاتهم فينبغي أن لا نعوّل عليه".
تحدد الوعي التاريخي عند الأفغاني بجملة من العناصر كان من أهمّها لزوم مراجعة المنظومة الفكرية والمنهجية التي يعتمدها المسلمون في قراءة تراثهم التفسيري للقرآن الكريم. لذلك لم يتردد في القول في أسلوبه المميّز: "القرآن، القرآن! وإنّي لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المُدقع... وكيف لا أقول وا أسفاه! وإذا نهض أحدٌ لتفسير القرآن، فلا أراه إلاّ يهيم بباء البسملة ويغوص ولا يخرج من مخرج حرف الصاد في الصراط حتى يهوي هو ومن يقرأ ذلك التفسير في هوّة عدم الانتفاع بما اشتمل عليه القرآن من المنافع الدنيويّة والأخرويّة."(6)
ما رسّخه مرور قرن من الزمن على مقولة أشهر مؤسسي التوجه الإصلاحي هو تأكد هذا النهج عند عدد متزايد من علماء المسلمين ومفكريهم بما حقق الارتباط الوثيق بين خلاص المسلمين من حالة الانهيار المهدد لكيانهم وبين الحاجة المتأكدة لإجراء تغيير في التقاليد الثقافية، أي بالتلازم بين عنصر التغيّر الاجتماعيّ وبين النزعة العقليّة في الإسلام التي تستدعي من بين ما تستدعي أسلوبا جديدا في تفسير القرآن الكريم.
هذا ما انتهى إليه مثلا فضل الرحمن (تــ 1409/1988)(7) في رؤيته التجديدية للبناء الثقافي والفكري في العالم الإسلامي المعاصر. لقد صدّر كتابه " الإسلام وضرورة التحديث " بفكرة محورية تجعل الأسئلة الإشكالية الكبرى المتعلّقة بالحرية وبإنسيّة المشروع الثقافي في الإسلام مندغمة مع أولوية البحث في المنهج القرآني. في ذلك يقول إن " التغيير الاجتماعيّ [ في العالم الإسلامي ] موصول بأسلوب تفسير القرآن وتعثّرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة إنّما ترجع إلى الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه(8
المصدر: