الحوار آليَّة دائمة للتَّواصل الإنساني

محمد حسين فضل الله

 

إنّ الحوار في مضمونه الفكريّ، لا يُمكن أن ينظر إليه باعتباره جزءاً من الحركة السياسيّة أو الاجتماعيّة الآنيّة، بل يمثّل آليّةً دائمةً للتّواصل الإنسانيّ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[1]. وقد خصّ الله الإنسان من بين خلقه بهذه الميزة الفريدة، وهي ميزة التحادث والجدال، على قاعدة أنّ الغاية النهائيّة لمثل هذا النّوع من تبادل المخزونات الإنسانيّة، هي تحقيق الهدف الأمثل للإنسان على الأرض، ألا وهو خلافة الله تعالى.

والحوار هنا يمثّل حركةً في التواضع العلميّ والثقافيّ، ويعكس الشعور بالحاجة الدائمة إلى تطوير العلم، على هدى قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}[2]، فلا يطغى الإنسان بالاستعلاء الفكري والثقافي، بل ينطلق دائماً من خلال ما ينتجه من خصوصيّته الفكريّة والثقافيّة، ليعرضه من خلال الحوار على فكر الآخرين وثقافتهم، كما يعرض فكر الآخرين وثقافتهم على ما أنتجه؛ ليكون الحوار آليّةً في تلاقح الأفكار وتطويرها، ووسيلةً من وسائل تنظيم حركة الخصوصيّات الفكريّة والثقافيّة في رحلة البحث عن الحقيقة، كما قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[3].

ولعلّ المؤتمرات واللقاءات التي تُعقد تحت عناوين شتى، ومنها حوار الأديان، سواء الحوار ضمن الدين الواحد، أو الحوار مع الأديان الأخرى، لهو دليل على ما أصاب حركة هذه الأديان من مشاكل، وما يعترضها من عقبات، وما يعتور فهمها من عيوب، سواء فيما بين مذاهبها، أو فيما بينها بكامل بناءاتها العقيدية والفكرية. غير أنّه لا يُمكن أن يُكتفى بانعقاد مثل هذه المؤتمرات واللّقاءات، لأنّها سوف تبقى محدودة النتائج إذا ما اقتصرت على التلاقي المجرّد، من دون أن يصدر عنها برامج عمل، تنطلق من العمق في كلّ القضايا المطروحة، في سبيل الوصول إلى نتائج تضع الحلول على طريقها الصّحيح.

وإنّنا نرى أنّه لا بدّ من التوقّف عند عدّة نقاط قد تساعد في إدراك حجم التحدّيات التي تقف أمام أيّ حوارٍ إسلاميّ إسلاميّ، أو إسلاميّ دينيّ، وبالتالي، إدراك طبيعة ما ينبغي التركيز عليه، حتّى تكون اللّقاءات ذات طابع عمليّ، فلا تغرق في الخطابات أو المجاملات، من دون أيّ نتيجة عمليّة، علماً أن ثمّة تحدّيات داخليّة وأموراً خارجيّة في هذا الإطار:

1ـ لقد نشأت المذاهب الإسلاميّة على أساس اجتهادات في فهم الإسلام، عقيدةً وشريعةً، وقد احتضنت تلك الفترة التاريخيّة كثيراً من الحوارات والمناقشات الفقهيّة والكلاميّة، بنسبة ملحوظة من الانفتاح الفكري والثقافي. وإنّ إحدى مشاكلنا اليوم، هي الجمود الفكري، عن طريق سدّ باب الاجتهاد، واعتبار أنّ ما انتهت إليه عصور معيّنة هو أمرٌ نهائيّ على مستوى الإنتاج الفكري والعلمي، ما يجعل أيّ حوارٍ إسلاميّ مأخوذاً باجترار ما أنتجه الماضون ضمن ظروف الماضي، من دون أن ننطلق من ظروفنا لنتحرّك في إبداع الفكرة، عبر حرّية الفكر والاجتهاد؛ وهذا ما يجعل التاريخ الذي يشتمل على كثير من التعقيدات، يحضر بثقله في أيّ حوارٍ، وبالتالي، تحضر كثير من العقبات التي قد لا تنتمي إلى الواقع المعاصر. ولذلك، المطلوب أن يُترك العقل في حركته الفكريّة، ليُعيد إنتاج الفكر الإسلامي في ضوء ما يُمكن أن ينفتح عليه من تطوّر في حركيّة الاجتهاد، علماً أنّ هذا الأمر قد يشمل جميع المذاهب، ولا يقتصر على مذهبٍ دون آخر، ولو بطريقة عمليّة.

2ـ إنّ إعادة الاجتهاد إلى موقعه في الحركة التطوّريّة للعلم، من شأنه أن يُساعد في تقريب وجهات النّظر المختلفة، من خلال إعادة أيّ حوارٍ في أيّ مسألة من المسائل إلى قاعدته الأصيلة، وهي الكتاب والسُنّة؛ ولا سيّما أنّ نظريّة عصمة أئمّة أهل البيت(ع)، التي يأخذ بها المسلمون الشيعة، ونظريّة عدالة الصحابة التي يأخذ بها المسلمون السنّة، تتحرّكان في خطّ وثاقة إثبات السُنّة، ولا تتحرّكان لتنتجا سُنّةً جديدةً في عرضِ سُنّة النبيّ محمّد(ص). وهذا ما قد يضعنا على قاعدة تأسيسيّة لفقه إسلامي فوق المذهبي، يأخذ فيه الحوار المستند إلى قواعد واضحة، حيّزاً مهمّاً قد يصل إلى نتائج مشتركة، ويضع أيّ خلافٍ في إطاره الطبيعي.

3ـ نعتقد أنّ إحدى أخطر الظواهر التي تعصف بمجتمعنا اليوم، هي ظاهرة التكفير والتضليل والتفسيق، وما يستتبعها من أحكامٍ تُلصق بفئات أو جماعات أو مذاهب بأسرها. ولا بدّ من إدارة الحوار حول هذه الظاهرة في بُعدها الثقافي والفكري، الذي قد ينطوي على مفاهيم خاطئة من جهة، وجمود في الاجتهاد من جهة أخرى، إلى جانب دارسة العوامل الأخرى المؤثّرة، وذلك بهدف وضع معايير واضحة للإسلام والكفر، وللإيمان والفسق والضّلال، وما إلى ذلك؛ فإنّ مثل هذه الظواهر لا تنعكس خطورتها على التقارب الإسلاميّ الداخلي فقط، بل تعمل على تشويه صورة الإسلام، وتصويره كدين عُنفٍ وإلغاء، لا دين رفقٍ وحوار.

4ـ إنّ الحوار الإسلامي ـ الإسلامي قد يُساهم في الحدّ من ظاهرة الغلوّ، التي لم يسلم منها مذهبٌ من المذاهب؛ لأنّ الانفتاح على الآخر، قد يوجد آليّات توازن في النظرة إلى العقائد والأفكار التي يُنتجها أتباع هذا المذهب أو ذاك؛ حتّى يُمكن القول إنّ الحوار قد يساهم في الحدّ من التطرّف والحساسيّة، ممّا قد يكون موجوداً في داخل كلّ مذهب تجاه بعض عقائد المذهب الآخر وأفكاره، بما قد يفضي في نهاية المطاف إلى توازنٍ في النظرة، وتقاربٍ في النتائج.

5ـ إنّ التقارب المذهبي في إطار كلّ بلدٍ أو قطرٍ إسلاميّ، من شأنه أن ينعكس تقارباً في معالجة كثير من المشاكل الداخليّة التي قد تخلقها السياسات المحلّيّة أو الإقليميّة، وحتّى الدوليّة بين أبناء البلد الواحد، أو الدين الواحد؛ لإذكاء نار العصبيّة، بهدف استقرار السّلطة من خلال مبدأ "فرّق تسُدْ". ولذلك، قد نجد أنّ استمرار حال التشرذم بين المسلمين، لا ينعكس سلباً على أتباع مذهبٍ دون آخر، بل إنّ التحدّيات ومجريات الأحداث، تتحرّك بعيداً عن مصلحة الجميع. وإنّ كثيراً من المشاكل والاختلافات التي تقع بين المسلمين، هي في أساسها مشاكل سياسيّة، يقوم حلّها على إيجاد معايير يتّفق عليها المسلمون جميعاً، ولكنّ اللاعبين الطائفيّين والسياسيّين، يلعبون على كثير من التعقيدات التاريخيّة والحساسيّات الثقافيّة، لإضفاء بُعد عصبيّ على حركة الاختلاف، يغيب معه العقل، وتحضر معه الغريزة.

وقد بيّن لنا القرآن الكريم، أن إحدى أهمّ سياسات الظالمين والمستكبرين، هي إبقاء الشعوب في حال الإثارة الغرائزيّة، بعيداً عن موازين العقل ومعايير التّقييم؛ كما حكى الله عن فرعون، حيث قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}[4]. ولذلك، فإنّ الشغل الشاغل للمسلمين، ينبغي أن يكون تحريك الوعي تجاه كلّ التحدّيات الداخليّة والخارجيّة التي تعصف بهم، والتعرّف إلى كلّ أساليب السياسات الاستكباريّة، سواء كانت داخليّة أو خارجيّة؛ لأنّ الوعي هو الّذي يُمكن أن يغلّب لغة العقل والمنطق على لغة الإثارة والانفعال.

6ـ ثمّة قضايا كُبرى تشكّل تحدّياً وجوديّاً وفاعليّاً للمسلمين جميعاً، وفي مقدّمها قضيّة فلسطين، التي لا ينبغي النظر إليها كقضيّة سياسيّة فحسب، بل كقضيّة تتّصل بعمق القيمة الإسلاميّة أيضاً، في مسألتي العدل والظّلم، ومسألتي الحقّ والاغتصاب، ولا سيّما أن الحركة الاستكباريّة تجاهها، تتحرّك في الخطّ الذي يدفع باتجاه التنازل عن الحقوق، وتشريع الظّلم، والقبول بمنطق الأمر الواقع، تحت ضغطٍ من قوّة الخارج، والاستسلام لضعف الداخل، وهذا ما من شأنه أن يؤسّس لمنهج ثقافيّ خطير في ذهنيّة الأمّة تجاه حاضرها، ويدفع باتجاه مزيدٍ من التدمير للواقع الإسلامي، وربّما باتجاه مزيدٍ من الاحتلالات التي لا تُبقي للمسلمين شيئاً. وقد رأينا كيف تحرّكت الاحتلالات المتنوّعة لبلاد المسلمين، من أفغانستان إلى العراق إلى غيرهما، تحت أكثر من عنوان، ولم يعد المسلمون قادرين حتّى على إعلان المواقف الكلاميّة، فضلاً عن الحركة التغييريّة.

7ـ إنّ الإسلام اليوم يمرّ في أكثر المراحل حساسيّةً وخطورةً على مستوى الحرب الخارجيّة المعلنة بوضوح عليه، سواءٌ من خلال حركة التبشير، أو من خلال ضرب المقدّس الإسلامي؛ وهذا لا يمسّ مذهباً دون آخر، ولا فئةً بعينها؛ وهو الأمر الذي يتطلّب حملةً فكريّةً ثقافيّة، تنطلق من خلال الفعل، لا من خلال ردّ الفعل المحدود، فتعمل على إنتاج الفكرة الإسلاميّة التي تعرّف العالم كلّ القيم الإنسانيّة التي أتى بها الإسلام، وتُظهر للعالم قدرة الإسلام على حلّ كثير من مشكلاته، من خلال التزاوج بين المادّة والروح في حركة الإنسان في كلّ ميادين الحياة.

8 ـ أيضاً، لا بدّ من العمل على تأسيس جبهة إسلاميّة ودينية قيميّة، تُنزل القيمة إلى مفردات الواقع، ولا تبقيها في ضبابيّة الشعار والعنوان، وذلك في مواجهة كلّ حركات العالم المستكبر، الذي تتحرّك سياساته المتنوّعة من خلال اللاقيمة التي تصادر حرّية الشعوب، وتنهب ثرواتها، وتتحكّم بمصائرها، وهذا ما يصطدم، ليس بقيم الإسلام فحسب، بل بقيم كلّ الأديان أيضاً، وهو ما يُمكن أن يؤسّس عليه لتقاربٍ قيميّ على المستوى الإسلامي في الدائرة الإسلاميّة، وعلى المستوى الديني في الدائرة الدينيّة، وعلى المستوى الإنساني في الدائرة الإنسانيّة، ويدفع بالعالم إلى التوازن أمام ما يتحرّك به جشع الإنسان، وأطماعه، وأحقاده، وما إلى ذلك، فإنّ كثيراً ممّا شهدناه في الآونة الأخيرة من مشاكل في الاقتصاد العالمي، أو في السياسة العالميّة، يعود في جذوره إلى فقدان الإحساس الإنسانيّ، والاحتكام إلى قواعد سياسيّة واقتصاديّة تُبعد الإنسان عن إنسانيّته، وتجعله أقرب إلى الحيوانيّة التي لا تحكمها حتّى شريعة الغاب.

9 ـ إنَّ معظم الحضارات الإنسانية انبثقت من أحضان الأديان السماويّة، أو نمت في كنفها، وعندما تعاظم شأنها، سعت إلى إخضاع الأديان واستتباعها لسلطانها، فجرى توظيف الأديان في نصوصها لخدمة مصالح السلطان وسياساته، فاختلطت غايات الدين بغايات الدنيا، وبات التفريق بينهما حاجةً مُلِحّة، وترسيم الفواصل هدفاً يقتضي تخليص الدين من شِباك الدنيا، وخصوصاً أن رجال الدين تفرّقوا بين موالٍ للسلطان ومُعارض له، فانتشرت الفِتن وشاع الافتتان، وبات العمل على تصويب الانحرافات أمراً دونه مشقّات وتضحيات، وهذا الأمر لم يصب قوماً دون آخرين، ولم يختصّ به شعب دون آخر، ولا زمن وعصر دون عصر. ولعلّ ما نشهده اليوم من محاولات دؤوبة لإخضاع الأديان لسياسات السلطان، يدعو إلى استنفار كلّ الحريصين على نقاء الرّسالات السماوية، للمبادرة إلى تحرير الأديان من براثن مستغليها، الذين يسعون لجعل الدّين مادةً تشرّع عصبياتهم ومصالحهم، وحتى عدوانيّتهم في أحيان كثيرة.

10ـ ولا بدّ من أن ينطلق الحوار، أيّ حوارٍ، على أساس أن لا تكون لأيّ طرف مقدّساتُه التي لا ينبغي للطرف الآخر أن يمسّها أو يقترب منها، لأنّ الحوار المُنتج والجادّ، هو الحوار الذي يتحرّك من دون حواجز مسبقة، وإنّما يتحرّك على هدى قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[5]؛ وهذا هو الذي تحرّك به القُرآن في تعامله مع القضايا التي كان يطرحها المشركون أو غيرهم، حيثُ تناول كلّ ما كان يصدُر من اتّهامات للنبيّ(ص)، في شخصه أو رسالته؛ بل أجاب عن التصوّرات الخاطئة والمسيئة التي تعلّقت بالله سبحانه وتعالى، بكلّ موضوعيّة، مع أنّ كلّ ذلك يدخل في المقدّس عند المسلمين جميعاً؛ فما بالُك بما دون ذلك من القضايا؟!

وربّما تجدر بنا هنا الدعوةُ إلى إبعاد مصطلح "المقدّس" من حركةِ الحوار؛ لأنّ هذا المفهوم ملتبسٌ في دلالاته، في حين أنّ المنطق العلميّ الذي أكّده القُرآن، وتحرّكت به الرسالات جميعاً، هو المنطق الّذي يحرّك مصطلحات الحجّة والبُرهان والدّليل.

11ـ من خلال ما تقدّم، نرى أنّ الصّراحة العلميّة ينبغي أن تأخذ مداها في جلسات الحوار الإسلاميّة، من دون حرجٍ في إثارة أيّ موضوع من المواضيع الخلافيّة، ضمن ترتيب الأولويّات الّتي لا يعيش معها الحوار غيبوبةً فكريّةً بالنّسبة إلى الواقع، بل يتحرّك الواقع والفكر جنباً إلى جنبٍ، في سبيل أن يكون للحوار صداه في الواقع، وحركته الواقعيّة في ساحة الفكر.

12ـ نعود لنؤكّد أنّ من الضّروريّ الانتقال من الحوار المنطلق ممّا كتبه الماضون، من هذا المذهب أو ذاك، إلى الحوار بين المفكّرين الإسلاميّين الحاضرين؛ لأنّ كثيراً من الأفكار تجاه الآخر، فرضتها تعقيدات حركة التاريخ في الماضي، أو ذهنيّات الذين عاشوا فيه، ممّا بات الحاضر يختلف في نظرته الاجتهاديّة عمّا كان عليه الأمر في الماضي. وفي هذا السياق، نرى أن لا قداسة لفكر الماضين، مهما بلغ شأنُهم، وأنّ إبقاء الحوار في دائرة ما أنتجه الماضون، لن يؤسّس لحركة حوار جادّة حيّة، بل يجعل الحوار يدخل في دائرة تسجيل النّقاط من قبل كلّ فريق على الآخر، ويأخذ الحاضر إلى أجواء التاريخ، من دون أن يحمل ـ في عناصره التاريخيّة أو الاجتهاديّة ـ أيّ واقعيّة لذلك كلّه.

13ـ الابتعاد عن حالات المناكفات، وتسجيل النقاط المذهبيّة لهذا الفريق أو ذاك على الآخر؛ وهذا ما يفترض دراسة الجدوى من التغطية الإعلاميّة لمفردات الحوار، والتي يمكن أن تحوّل الحوار إلى حالة إثارةٍ عصبيّة، تثير الشارع الإسلامي مذهبيّاً، بدلاً من أن تواكبه فكريّاً. وعلى هذا الأساس، يُصبح من البديهي، أنّ جدّية أيّ حوارٍ إسلاميّ ـ إسلاميّ، في العلاقة بينه وبين الشارع الإسلامي، تحدّدها مُنتجاتُ الحوار، لا حركته التي تحمل الكثير من عناصر الإثارة، مهما كانت موضوعيّةً وعلميّةً؛ لأنّنا نعرف أنّ حركة التعقيدات التي يُمكن أن تنفذ إلى السّاحة الشعبيّة، يُمكنها أن تعطّل أيّ حوار، مهما كان جادّاً.

14ـ على أساس ما تقدّم، نرى أنّ من أهمّ عناصر فشل المؤتمرات الحواريّة السابقة، أو محدوديّة نتائجها في كسر الجليد المذهبي، أو تخفيف الاحتقان في صورة مؤقّتة، تتمثّل ـ إضافةً إلى افتقارها المستوى الأعلى من الجدّية ـ في عدم نزول النتائج الإيجابيّة لتلك الحوارات إلى الشارع، بحيث يُعمل على تحويلها ـ من خلال آليّات التثقيف الشعبيّة ـ إلى ثقافة إسلاميّة جديدةٍ، تضع الاختلاف مع الآخر في إطار الاجتهاد ضمن الإسلام، لا مقابله.

ومن هنا، فإنّنا نرى أنّه لا يجوز أن تبقى الازدواجيّة في حركة الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، بين القناعة الّتي تشكّلها المؤتمرات، والثّقافة الّتي تنزل إلى المستوى الشعبي. وهذا ما يفترض أن يُعاد تقويم كلّ حالات التثقيف التي تُمارسها الطبقة الوسطى، بين القيادات الحواريّة الإسلاميّة والحالة الشعبيّة؛ لأنّنا قد نشعر بأنّ هناك بوناً شاسعاً بين نظرة تلك القيادات إلى الآخر في الإطار الإسلامي، ونظرة من يمارسون الوعظ والإرشاد، ممّا لا يزال يخضع للتكفير والتضليل، بناءً على أمورٍ باتت من مطويّات الزمن.

إنّنا نشعر بأهمّية هذه النقطة بالذات وحساسيّتها، لأنّ أيّ حوارٍ على المستوى الإسلامي، لا يُمكن أن يؤسّس لنقلة نوعيّة، ما لم يشكّل الحوار مناخاً عامّاً، تنخرط فيه المستويات القياديّة بالمستويات الشعبيّة، لأنّ ذلك هو الذي يخفّف الضغوط المتبادلة فيما بينها.

وأخيراً، إنّ الاستكبار العالميّ كلّه قد برز إلى الإسلام كلّه، في حملةٍ متعدّدة الجوانب والأهداف، لا تقتصر على الجوانب السياسية والأمنيّة فحسب، بل تؤسّس لحركة تشويه ثقافية وفكريّة أيضاً، تُدخل المسلمين جميعاً في ضبابيّة المفاهيم، بحيث يسهل على المستكبرين والظالمين النفاذ إلى عمق الوجدان الإسلامي، من خلال التأسيس لانقسامات ترتكز على الفهم الملتبس للآخر، الذي يوضع في دائرة الكُفر أو الضلال أو الشرك، ويكون حالنا انعكاساً للحديث الشريف عن الرسول(ص): "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". فقال قائل: "ومن قلّة نحن يومئذٍ؟"، فقال(ص): "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنّكم غُثاءٌ كغُثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدورِ عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال(ص): "حبّ الدنيا وكراهية الموت"[6].

وإنّنا ـ في ختام الحديث ـ نبارك لكم جهودكم الخيّرة، ونأمل أن يوفّقكم الله لإعلاء كلمته، والارتفاع براية الدّين، لتخفق روحاً وخيراً ومحبّةً وإنسانيّةً على العالم كلّه؛ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[7]. والحمد لله ربّ العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رسالة إلى مؤتمر الوحدة الإسلاميّة في لندن

[1] [الحجرات: 13].

[2] [طه: 114].

[3] [سبأ: 24].

[4] [الزخرف: 54].

[5] [البقرة: 111].

[6] [ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 1، ص 110].

[7] [المطففين: 26].

المصدر: http://arabic.bayynat.org.lb/ArticlePage.aspx?id=10301

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك