هل تصمد الديمقراطية الأمريكية أمام ترامب؟

فرانسيس فوكوياما

ترجمة: أمجاد السهلي

 

كمواطن أمريكي كنت مثل الكثيرين مرعوبا من صعود ترمب  وفوزه .  كان صعباتخيل شخصية أقل تأهيلا بحكم  طبائعه ومزاجيته وكذلك خلفيته لتصبح قائدةالديمقراطية الأقوى في العالم .

 من جهة أخرى ، ولكوني عالم سياسي بالتخصص, كنت وياللمفارقة أتطلعلرئاسته بحماس كبير . لأنه سيكون اختبارا رائعا لقوة المؤسسات الأمريكية .يؤمن الأمريكيون بشدة بشرعية نظامهم الدستوري ، ويرونه بحكم قادرا على ضبط موازين علاقات الأجنحة الثلاثة للحكومة لتأمين الضمانات ضد الدكتاتوريةوكبح الجموح المفرط  للسلطة التنفيذية1 ، لكن هذا النظام لم يسبق أن تحداه رئيسقرر أن يخترق قواعده ومبادئه .  ومن هنا  ، نحن نشرع في تجربة واقعيةعظيمة سوف تُظهر ما إذا كانت الولايات المتحدة دولة قوانين أم دولة رجال.

يختلف ترامب تقريباً عن كل واحد من الرؤساء الأربعة والأربعين السابقين ، في تشكيلة من الطرق المهمة .فقد أظهر شغله بالأعمال التجارية أن تصميمه ذو هدف واحد هو تحقيق الحد الأقصى من مصلحته الشخصية والتهرب منالقوانين المرهقة كلما وقفت في طريقه ، على سبيل المثال من خلال إجبار المقاولين على مقاضاته ليسدد . لقد انتخبعلى أساس من حملة كلاسيكية شعبية ، جمع حماسي من ناخبي الطبقة العاملة على الأغلب الذين يعتقدون –وهم  محقونغالبا – أن النظام لم يكن جيداً لهم . فقد هاجم النخبة بأكملها في واشنطنبالإضافة الى حزبه الخاص كونه جزءا منعصابة فاسدة يأمل أن يفككها . وقد انتهك بالفعل عددا لايحصى من القواعد غير الرسمية التي تتعلق باللباقة الرئاسية . بمافي ذلك كذبه العلني والفظيع وسعيه لإحباط شرعية  عدد من المؤسسات المنشأة . من جماعة الاستخبارات (التي شبهها بالنازيين )،  والاحتياطي الفيدرالي (الذي اتهمه بانتخاب هيلاري كلينتونإلى النظام الأمريكي للإدارة الانتخابية (الذيقال عنه إنه مزور حتى فاز) .

 دارون أسيموغلو، 2الخبير الاقتصادي الذي يدرس الدول الفاشلة كان قد ناقش الضوابط والموازين الأميركية وكونهاليست قوية كما يعتقد الأميركيون بِالإجْمال . فالكونغرس مسيطر عليه من قبل حزب ترامب وسيتبع تعليماته ويمكن تبديلالقضاة بمواعيد جديدة للمحكمة العليا والقضاء الفيدرالي . و 4,000 من المعينات السياسية للسلطة التنفيذيةالبيروقراطية سوف تنحني لإرادة الرئيسالنخبة الذين عارضوه جاءوا ليقبلوا به كرئيس اعتيادي . وقد أمكنه أيضا أنيناقش أن وسائل الإعلام، التي تعتقد نفسها أنها الفرع الرابع الذي يساءل الرئيس ، تتعرض لهجوم شديد من ترامبوأتباعه كمروجين سياسيين ل “أنباء زائفة.” يقول أسيموغلو إن المصدر الرئيسي للمقاومة الآن هو المجتمع المدني، وهذاهو، احتشاد الملايين من المواطنين العاديين للاحتجاج على سياسات وتجاوزات ترامب، مثل المسيرات التي جرت فيواشنطن ومدن أخرى في اليوم التالي لتنصيبه .

  لاشك أن أسيموغلو محق في أن المجتمع المدني هو الضابط الحاسم للسلطة الرئاسية، وأنه من الضروري بالنسبة لليسارالتقدمي للخروج من فزعها الانتخابي والاحتشاد لدعم السياسات التي تحبذها . وأظن، من ناحية أخرى ، أن نظام أميركاالجهازي أقوى مما نتصور . وأناقش في كتابي الأخير أن النظام السياسي الأميركي في الواقع لديه الكثير من الضوابطوالموازين ، وينبغي أن يكون عصريا ليسمح بإجراءات حكومية اكثر حسماً .

و على الرغم من أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض يخلق مخاوف كبيرة حول الانتهاكات المحتملة للسلطة . لكنيمازلت أعتقد أن موقفي السابق صحيح ، وأن صعود الرجل الأمريكي القوي هو في الواقع تجاوبا للشلل في النظامالسياسيالمزيد من الشلل ليس حلاً . رغم النداءات واسعة النطاق لأجل “المقاومة” على اليسار .

وسوف تستمر العديد من الضوابط المؤسسية على السلطة بالعمل في رئاسة ترامبفي حين يحتفل الجمهوريون بسيطرتهم على مجلسي الكونغرس والرئاسة، هنالك انقسامات إيديولوجية ضخمة داخل منظمتهمترامب هو قومي شعبييظهر إيمانه بالحكومة القوية وليست الحكومة الصغيرة المحافظة سياسياً . وهذا الكَسْر سيتضح في تعامل الإدارةالجديدة مع القضايا في إنهاء أوباماكير “رعاية اوباما الصحية” إلى تمويل مشاريع البنية التحتية . يمكن لترمب فيالواقع تغيير السلطة القضائية 3، أو أكثر للإنزعاج ، ببساطة تجاهل قرارات المحاكم ومحاولة نزع الشرعية عن القضاةالذين يقفون في طريقهولكن تغيير الموازيين في المحاكم  عملية بطيئة جدا لن يُشعر بالتأثيرات لعدة سنوات. أيضاً المزيدمن الهجمات العلنية على القضاء سوف تنتج ردة فعل سلبية كبيرة، كما حصل عندما هاجم القاضي للاتحاد الفيدراليجونزالوكورييل خلال الحملة الانتخابية.

سيواجه ترامب صعوبات هائلة في التحكم بالسلطة التنفيذية، كما أن أي شخص قد عمل فيها سيفهم هذا . العديد من وزراءترامب المعينون، مثل جيمس ماتيس، ريكس تيلرسونونيكي هالي، قد أعربوا بالفعل عن الآراء من الواضح أنه يوجدخلاف معهحتى وإن كانوا موالين، إنه يتطلب قدرا من المهارة والخبرة لإتقان البيروقراطية الأمريكية الهائلةصحيح أنالولايات المتحدة لديها عدد أكبر بكثير من التعيينات السياسية من الديمقراطيات الأخرىلكن ترامب لا يأتي إلى المكتبمع كادر كبير من أنصاره ليمكنه إدراجهم في البيروقراطيةحتى إنه لم يدر أي عمل أكبر من عمل عائلة كبيرة وليس لديه4,000 من الأقرباء المتاحين لتوظيفهم في الحكومة الأمريكية . الكثير من المساعدين ونواب السكرتارية الجدد سيكونونالمتطلعين للنظام الجمهوري مع أنهم لايملكون علاقة خاصة تربطهم بالرئيس .

وأخيراً هناك الفيدرالية الامريكية . واشنطن لا تسيطر على جدول أعمال لمجموعة من القضايا ، تفويض أوباماكير علىالمستوى الفدرالي يزيل حمل كبير عن الدولة . خصوصاً تلك التي تدار بواسطة الجمهوريين الحكوميين الذين عليهمموازنة الميزانية في واشنطن . كاليفورنيا حيث أعيش تبدو كدولة مختلفة كليا عن أرض ترامب “ترامب لاند” وستصنعقوانينها البيئية الخاصة بعيداً عن مايقوله الرئيس او يفعله .

 في النهاية ، فإن قدرة ترامب على اختراق القيود المؤسسية ستأتي أخيراً إلى السياسة، وعلى وجه الخصوص إلى الدعمالذي يحصل عليه من جمهوريين آخريناستراتيجيته الآن واضحة يريد أن يستخدم “حركته” لترهيب كل من يقف فيطريق أجندته السياسيةويأمل في ترهيب وسائل الاعلام الرئيسية بتكذيبهم وتدمير قدرتهم على محاسبته . إنه يحاول القيامبذلك باستخدام القاعدة الأساسية التي ليست أكثر من ربع إلى ثلث الناخبين الأميركيينهنالك بالفعل ما يكفي من أعضاءمجلس الشيوخ الذين قد تخاصموا مع الإدارة على بعضالقضايا مثل روسيا أو أوباماكير حارمين حزبهم الأغلبية في تلكالهيئة . لم ينه ترامب أي عمل كبير منذ يوم الانتخابات لتخفيف شكوك أي شخص من خارج مجموعته الأساسية منالأنصار، كما تشير أرقام الاستفتاءات الخاصة به المتدلية بشكل مطرد .تشويه صورة وسائل الإعلام في اليوم الثانيمن بعد تنصيبه لا يبشر بالقدرة على الاستفادة منه كمنبر للتحدث وإقناع غير المؤيدين . 

بينما أنا على أمل أن كل هذه الضوابط ستعمل على تقييد ترامب، ما زلت أعتقد أننا بحاجة إلى تغيير القوانين لنجعلالحكومة أكثر فعالية وذلك بالحد من بعض الضوابط التي تشل الحكومةينبغي على الديمقراطيين أن لا يتبعوا سلوكالجمهوريين في عهد الرئيس باراك أوباما حينما عارضوا  كل مبادرة أو تعيين يأتي من البيت الأبيضومن السخف أنأي واحد من 100 من أعضاء مجلس الشيوخ يعترض على أي معين يريدونه من السلطة التنفيذية من المستوى المتوسط .في بعض النواحي، فإن حكومة موحدة قد تخفف بعض اختلافاتنا التي حدثت مؤخرا، والتي يترتب عليها اعتذار معارضينترامب حيث كانت آخر مرة أصدرت الكونغرس جميع فواتير الإنفاق تحت عنوان “النظام المعتاد” قبل عقدينمن الزمنالولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى إنفاق المزيد من الأموال على جيشها لمواجهة التحديات من دول مثل الصينوروسيالم تكن قادرة على ذلك لأن وزارة الدفاع كانت تعمل على عزل 2013 الذي كان بدوره عاقبة الطريق المسدودلمجلس الشيوخ والنواب . أو اتخاذ البنية التحتية، والذي هو جزء واحد من جدول أعمال ترامب الذي أنا (وكثيرمنالديمقراطيينسأودّ دعمه .

وقد أصبحت الدولة طريقاً مسدوداً كما هنا ، مع أكبر مصدر للمعارضة وكونه جناح حزب الشاي لحزب ترامب نفسه،الذي كان في وضع حرج من مبادرة هيلاري كلينتون الخاصة التي انتخبتها بدلاً عنهيملك ترامب الفرصة الآن للتخاصممع المؤتمر الحزبي للحرية في المجلس والضغط من أجل قيادة الإنفاق الجديد على البنية التحتية، وهذا ما يمكنه فعله معمساعدة ديمقراطيين نانسي بيلوسي4-وحتى مع ذلك، فإن مثل هذه المبادرة تواجه عقبات هائلة بسبب طبقات من التنظيمعلى المستويات الفيدرالية والولائيةو هذه الضوابط الصغيرة تجعل من مشاريع البنية التحتية الجديدة مكلفة جدا وطويلةالامد “بطيئة” . أي شخص جاد حول أهمية هذه السياسة يجب لابد يرى هذه الفرصة لتيسير هذه الإجراء .

من المهم أن نتذكر أن أحد أسباب صعود ترامب هو التصور الصحيح بأن النظام السياسي الأمريكي مخترق في كثيرمن النواحي التي استولت عليها المصالح الخاصة وبسبب عدم قدرتها على إجراء أو تنفيذ القرارات الأساسية. ليست القصةتقاربا مفاجئا لروسيا، بل إن  فكرة بوتين الرجل القوي تحولت إلى نموذج جذاب حتى في أمريكا.  الديمقراطية يجب أنتتيح للأغلبية الفائزة أن تحكم مع  المساءلة الديمقراطية  ، ومن ثم يتم محاسبتهم كل سنتين أو أربع سنوات على النتائجالمقدمة  في المقابل ، فإن الجمود والشلل المستمرين سيزيدان الناس قناعة  بأن النظام مخترق بشكل أساسي،  ومن ثم تزداد  قناعة الناس بالعوز  إلى قائد يستطيع اختراق جميع القواعد، إن لم يكن ترامب، فخليفة له . 

لذلك أنا ارغب بقبول حكم ترامب وعدم المحاولة لعرقلة كل مبادرة تأتي منهلا أعتقد أن سياساته ستنجح، وأعتقد أنالشعب الأمريكي سوف يرى ذلك قريبا جداومع ذلك، فإن الانتهاكات الاكثر خطراً على السلطة هي تلك التي تؤثر علىنظام المساءلةالمستقبلي . إن الذي فعله الجيل الجديد من القوميين الشعبيين مثل بوتين، شافيز في فنزويلا، أردوغان فيتركيا، وأوربان في المجر هو لإمالة الملعب لضمان عدم إزالتهم من السلطة في المستقبلوهذه العملية جرت بالفعلفي أمريكا لبعض الوقت ، من خلال الغش الجمهوري في مناطق الكونغرس والاستخدام لقوانين معرفات الناخبين لحرمانالناخبين الديمقراطيين المحتمليناللحظة التي يميل فيها المجال  لتصبح المساءلة مستحيلة عندما يتبدل النظام من كونهديمقراطي ليبرالي حقيقي ليكون نظام انتخابي استبدادي .

 


 هوامش : 
 1-    المفارقة أن  الكاتب فرانسيس فوكوياما في ورقته  الشهيرة 1989  ‘ نهاية التاريخ  والإنسان الأخير ‘ ثم  تطورت لكتاب 1992 ،   قدم تنظيره الشهيرالمنسجم مع تترس الليبرالية كحل نهائي كوني،  ترجمه للعربية 1993 ، مطاع صفدي والبقية م الإنماء العربي  ، ثم تراجع قليلا في كتابيه 2012  ‘ أصولالنظام السياسي  من عصور ماقبل الإنسانية إلى الثورة الفرنسية ‘  و2104 في كتاب  ‘ النظام السياسي والإنحطاط السياسي ‘. ترجمه للعربية 2016 مالعلاقات الدولية المترجمة 
2- كارمن دارون اسميغلو : عالم اقتصاد سياسي – تركي / أمريكي  ، يعمل في MIT .  ألف العديد من الكتب ، من بينها الذي يستحضره الكاتب ‘ لماذاتسقط الأمم : أصول السلطة والإزدهار والفقر ‘ 2102 ./ المترجمة 
3- قد يتهيأ لترمب تسمية ثلاثة قضاة للمحكمة العليا في دورة رئاسية واحدة ! . المترجمة 
4- زعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب

المصدر: http://hekmah.org/%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%B5%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك