الإصلاح بين الفكر والخطاب
غلب على الإصلاح الانشغال بالفكر والمحتوى أكثر من الرسالة والعمل، وفي المقابل فقد شغلت الجماعات المنظمة بالدعوة واجتذاب المؤيدين أكثر من الفكر والمحتوى، وربما لأجل ذلك، فقد اكتسبت التنظيمات الدينية والسياسية تأييد الشباب والقواعد الاجتماعية الواسعة من المؤيدين، في حين يغلب على جمهور الإصلاح أنه مجموعات قليلة غير منظمة ممن تجاوزوا مرحلة الشباب المبكر، ودخلوا غالبا في مرحلة من الالتزامات والتكوين النفسي، ما يجعلهم أقل قدرة على المغامرة والعمل التطوعي. هل يمكن النظر إلى الإصلاح بما أنه عمل أكثر تنظيما من تقديم الفكر، وأن رسالته تتجاوز المحتوى إلى السؤال العملي "كيف؟" كيف يجتذب الإصلاح تأييد الشباب وبخاصة في المرحلة العمرية 18 - 25 سنة؟ كيف يتحول إلى عمل مؤسسي أكثر تنظيما وجاذبية للشباب والجماهير؟ كيف يتحول إلى برامج انتخابية في المجالس النيابية والبلدية والنقابات المهنية؟ كيف تتحول مضامينه وقيمه إلى أفكار وقصص وفنون يمكن تقديمها في القصص وكتب الأطفال والناشئة والأعمال الفنية والموسيقية والمسرح والدراما والسينما؟ كيف يعاد إنتاجه في مناهج تعليمية تدرس في المدارس والجامعات والحلقات العلمية والفكرية التطوعية للشباب؟
يقتضي السؤال "كيف" بالضرورة التحرك بالإصلاح كعمل إصلاحي بما هو عمل مهني يتشكل من مزيج من المعرفة والمهارات والقيم، وفي ذلك فإن الفكر الإصلاحي نفسه يشغل بالقواعد والمهارات التي تشغل بها المهن مثل الطب والمحاماة والتعليم والإرشاد، ... ويعيد إنتاج المحتوى الإصلاحي في اتجاه تعريف الإصلاح والعمل الإصلاحي كرؤية ورسالة وأهداف وأدوات وتشكيلات تقتبس الفكر والأداء النقابي.
ما العمل الإصلاحي؟
مؤكد أن العمل الإصلاحي ليس هو الإصلاح، ومرجح أن هذا الفرق بين الإصلاح كفكر وفلسفة ومحتوى وبين العمل الإصلاحي كأداء مؤسسي باتجاه تحقيق وتطبيق هذا الفكر أو اجتذاب المؤيدين والناخبين إليه هو سبب جوهري في عدم تحول الإصلاح إلى خطاب مؤسسي بمعنى معالجة منهجية للفكر يتحول إلى برامج للدول والجماعات والمؤسسات، وفي هذا الفرق بين الفكر والخطاب تضيع الحلقة المنشئة للعمل الإصلاحي أو لا تنشأ متوالية من الأعمال والمؤسسات والأنظمة حول الفكر والفلسفة.
يتميز العمل الإصلاحي بأنه يملك رصيدا عميقا وكبيرا من الفكر والفلسفة، وفي ذلك فإنه يستطيع تحويل هذا المحتوى الفكري إلى أعمال وبرامج متماسكة وعقلانية قادرة على الإقناع والتجميع والتشكيل الاجتماعي والسياسي.
وما يحتاج إليه العمل الإصلاحي هو صياغة الفكر الذي يستند إليه في منظومة من المعرفة والمهارات والقيم تنشئ اتجاهات عملية في الفهم والمواقف تجاه الناس والأفكار والسياسات، وهذا البناء المتشكل أو المتوقع من المعرفة والمهارات والقيم وما يحيط به من مشكلات وتحديات يشكل "العمل الإصلاحي"
يبدأ تعريف العمل الإصلاحي بصياغة الرؤية والرسالة، بمعنى التصور العملي البعيد أو المثالي للدول والمجتمعات والأفراد والمؤسسات والحالات والأفكار والعلاقات المستهدفة، ثم ملاحظة العلاقة الممكنة بين هذا التصور وبين أوعية العمل والتأثير المتاحة والمقترحة، وتحديد المشكلات والتحديات التي تواجه العمل الإصلاحي.
وترتبط المعرفة والقيم والمهارات بالشعور والتفكير والبناء؛ فالمعرفة هي جزء من الإدراك والتفكير، والقيم هي جزء من الشعور أو الجزء العاطفي من العملية، فهي جزء من التفكير أيضا. وأما المهارات، فهي أفعال أو الجزء العملي، وهي أيضا سلوك، ويكون العمل الإصلاحي في تشكيل المكونات مع بعضها في عمليات التفكير والعاطفة والسلوك والجمع بينها في عملية مزيج إبداعية.
يتشكل مأزق العمل الإصلاحي غالبا عندما تلزمه العقلانية الاجتماعية والأخلاقية اجتراح حلول وأفكار ليست مثالية ولا يقدم وعودا وآمالا كبرى، وفي ذلك يخسر جزءا كبيرا من الجماهير التي تشغلها الوعود الكبرى حتى لو كانت وهمية أو مريبة، لكنها تفضلها على إنجازات واقعية. والحال أن الحراك الاجتماعي والسياسي في عالم العرب تحكمه ثنائية لعينة: عاطفية الجماهير والشباب وعقلانية/ انتهازية النخب والكهول، وفي ذلك تنشأ متوالية من الفشل، تجعل الإصلاح وظيفة القائد المنتظر، كما تحول دون نشوء مؤسسات وتنظيمات وقيادات سياسية واجتماعية تعكس المصالح والأولويات الحقيقية للمجتمعات، وتجعل المحركات والحوافز المنظمة للفضاء العام تعمل ضد نفسها، فإن يكون الشباب عاجزاً عن البناء العقلاني لمنظومة المواقف والأفكار والقيم يجعل القاعدة الاجتماعية للأفكار والتيارات منفصلة عن الرؤية المفترض أن تدير بها سياساتها وبرامجها، وعندما يستمد الشباب رؤيتهم للكمال الذي يسعون وراءه أو يحلمون به من مصادر ونماذج مناقضة للكمال الذي يتبعه الكبار يتحول المشهد السياسي والاجتماعي إلى قيادات بلا قواعد اجتماعية، أو قيادات تتبع الشباب بدلاً من أن تلهمهم وتقودهم، فتنفصل الحركات والتيارات عن الجدل المفترض أن يدور حول تنظيم الموارد العامة بعدالة وكفاءة، وتنفصل قيادات الجماعات عن قواعدها، وتجري تسويات تمضي بالعمل العام إلى الغيبوبة والتناقض، وحين يدرك الناشطون القواعد العقلانية الملهمة والمنظمة للعمل والتجمع يكونون قد بلغوا مرحلة من العمر والانشغال تجعله إدراكاً يأتي بعد فوات الأوان؛ في حين يكرر الجيل التالي الدوامة نفسها.
والأسوأ من ذلك كله، أن يغلب على المجتمعات والمهمشين والمستضعفين عدم الإدراك لمصالحهم، وعزوفهم عن العمل في الاتجاه المفترض أن يؤدي إلى تشكلهم وتنظيمهم حول أولوياتهم، فيزداد العمل الإصلاحي صعوبةً، ذلك أن الحركات السياسية والاجتماعية الإصلاحية لا يُفترض أن تعمل بالنيابة عن المجتمعات، ولا يمكنها أن تقوم بواجباتها ومسؤولياتها، لكن العمل الإصلاحي السياسي والاجتماعي يركّز دائماً (يفترض) في محتواه وأهدافه على الارتقاء بالمجتمعات، وبناء قاعدةٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ وملائمةٍ للإصلاح. وهكذا، فإن تنظيم المجتمعات وحشدها باتجاه الإصلاح سوف يكون عملية يائسة إذا لم تكن المجتمعات مستعدة للتأثير والتجمع لأجل مصالحها، وإذا لم تلهمها الحريات والحياة الكريمة، أو كانت تستمد إلهامها من آمال بعيدة من الواقع أو مستحيلة، هي أقرب إلى الوهم أو الفساد، وإنه لمن العجب كيف يندفع الناس في بطولةٍ وحماسةٍ إلى المواجهة، بلا خوفٍ من الموت، لكنهم يتقاعسون عن التجمع السلمي والعقلاني لأجل كرامتهم وتحسين حياتهم.
إن المجتمعات تتبع في علاقاتها وتجاربها القيم والأخلاق التي تنشئها أو تتواضع على احترامها، ثم تدور حولها المؤسسات السياسية والعامة أو تستهدف تغييرها وتطويرها الحركات والتيارات السياسية والاجتماعية، لكنها قيم وأخلاق يفترض أن ينشئها موقف عقلاني، فإذا لم تكن الأخلاق والقيم عقلانية، فإن السلوك السياسي والاجتماعي الفردي والجمعي يمكن أن يتحول إلى تسويات غير أخلاقية، ويزود التخلف بمبررات ومسوغات دينية أو اجتماعية وثقافية، وليس غريباً في ظل هذه الحالة أن يكون التطرف والكراهية بطولة، وأن يكون الشتم والتذمر بلا عمل أو إنجاز يسمى معارضة ومقاومة.
ويتيه الجدل في فهم الصراعات والحالة العربية القائمة اليوم في السؤال عن الصواب والحق بين حكمة عدم اليقين بما هي في بنيتها وجوهرها مترددة تتشكل حول الشكّ والحيرة وبين الإجابة الحاضرة والقوية والمتماسكة لدى جماعات الاستبداد والتطرف مدعومة بقوة الحجة والتنظيرات الفكرية والفلسفية والتحليلات السياسية، وفي ذلك ثمة سؤال بديهيي وطريقتان في الإجابة.
ما الحق والصواب والجمال؟ في طريق الحكمة يحور السؤال إلى: كيف نقترب من الصواب والجمال؟ بمعنى أنه غير موجود أو لا يكاد يكون موجوداً، وإنما ننشئه أكثر مما نكتشفه، أو هو صواب يظل نسبياً وغير يقيني، وفي السياسة والإيديولوجيا فإن الصواب موجود ولا نحتاج سوى اكتشافه ومعرفته، ليس من مشكلة سوى نقص المعرفة! وفي ذلك أيضاً كثير من القدرة الحجاجية والديناميكية في البحث عن الأدلة والشواهد، والتي كثيراً ما تكون صحيحة أو متماسكة ويشغل بها عقل مغامر من فلاسفة وعلماء وباحثين ومحللين وخبراء وإعلاميين يملكون فائضاً من المعلومات والأخبار والمعرفة.
ولشديد الأسف، فإن السلوك الأول حائر غير يقيني، فالنزاهة تقوم على عدم اليقين، والسلوك الثاني يقيني، يستمد مصيره ووجوده من المؤكد. واليقين أشد تماسكاً وصلابة وقوة وأكثر جلداً وعناداً وثقة. وعلى الرغم من حكمة عدم اليقين وجماله وضرورته، فإنه أقل جاذبية، تنفر منه الجماهير ووسائل الإعلام، ولذلك فإن الذين يجيبون أكثر تأثيراً وحضوراً من الذين يتساءلون، والذين يبحثون عن الإجابة يقصيهم طوفان الجماهير والعواطف والإعلام والصور، والأغرب أن المجيبين والمستجيبين بلا ذاكرة ويقدرون على التغيير والانقلاب بلا تردد ولا ذاكرة، يتشكلون بالنسيان، لكن المتسائلين تثقلهم الذاكرة!
والحال أنه لا يكاد يكون ثمة خير أو صواب مطلق وشر أو باطل مطلق، وفي الجدل الدائر اليوم حول ما يحدث في عالم العرب والإسلام فإن أنصار كل موقف أو فكرة يجدون أدلة صحيحة تؤيد موقفهم ولكن المقدمات الصحيحة لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج صحيحة، فالموقف النهائي دائماً يكون ترجيحياً يضع في الاعتبار كل الأسباب المحيطة والمشكلة للمشهد، والتحليل والتفكير العلمي يعتمدان أساساً على عدم الالتزام المسبق بصواب أو خطأ وعلى النزاهة والأخلاق الرفيعة والقدرة على التخلي عن الشخصنة والأدلجة أو تحييدهما قدر الإمكان أو بمستوى معقول.
فالصواب لا يُعرف ولا يتشكل بقوة الحجج، إذ يستطيع كل شخص ملتزم مسبقاً بموقف أو فكرة أن يجد أدلة صحيحة ومقنعة لدعم موقفه أو فكرته ومعتقداته، وقد يملك بعض المثقفين والأكاديميين قدرات معرفية وتحليلية تؤهله لتفسير أي موقف (تقريباً) وجعله صحيحاً، لكن تقدير الحق أو الباطل والخطأ أو الصواب والقبيح أو الحسن مستقل ومختلف عن الاعتقاد المسبق بالصواب، فالقيم في البحث والسؤال وليس في الإجابة، والحكمة والتقدم نحو الصواب مرتبطان بالشعور بنقص المعرفة وليس المعرفة، ووظيفة العلم والبحث هي السؤال وليس الإجابة، وبذلك فإن الأفكار والمعتقدات يجب أن تظل مستقلة عن الهوية الفردية أو الجمعية، ليست جزءاً منّا أو تشكل انتماءنا مثل الحياة والأمكنة والمدن والمصالح، والجدل في حقيقته وجوهره ليس مجرداً أو مستقلاً حول الأفكار والمعتقدات صوابها أو خطئها، الدفاع عنها أو مهاجمتها، الإيمان بها أو التخلي عنها، ولكنه في تحسين حياة الناس بما هي أساساً تقوم على الحرية والعدل والاحتياجات والأولويات الأساسية ثم الارتقاء بها على نحو متواصل يجعلها متجددة ومتعاظمة.
وبما أننا لا نعرف أو لسنا متأكدين بالنسبة إلى ما هو الأفضل أو الأكثر صواباً، فلا نملك سوى تهذيب مشاعرنا ومواقفنا من الكراهية والاشمئزاز أو الشعور بالتميز والأفضلية، وليس لدينا سوى ذلك طريقاً لتسوية الصراع أو إدارته أو محاولة تحسين الحياة أو الاقتراب من الصواب ومراجعة ما لدينا، ولأجل ذلك فقد غلب على الصراعات والحروب فرص التسوية والمصالحات اعتقاداً بأن أحداً أو جماعة لا يستغني عن الآخر أو قد يحتاج إليه، وقد يؤمن بمقولاته وأفكاره.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8...