تطور الطب الحديث: الطب العربي
ويليام أوسلر
ترجمة: د. عبد الرحمن القحطاني
يعتبر الطب العربي الفرع الثالث من فروع طب نهر الاغريق وأقواها على الاطلاق والذي وصل للغرب بعد مسار متعرج. تطلعك الخريطة التي أمامك على توزيع نصارى الإغريق الرومان في بداية القرن السابع الميلادي. من الوهلة الأولى تلاحظ أن المسيحية قد انتشرت شرقاً حتى وصلت تقريباً لحدود الصين. معظم هؤلاء المسيحيين كانوا من الطائفة النسطورية وكان من أهم مراكزهم مدينة الرها (Edessa) — تُعرف الآن باسم أورفة - والواقعة جنوب شرق تركيا حالياً. في وقت لاحق، أصبحت المدرسة التعليمية في هذه المدينة محتفاً بها جداً وبُنيَ فيها في القرن الخامس بعد الميلاد أحد أهم المستشفيات القديمة.
الآن، أنظر لخريطة أخرى تُظهر نفس الدول ولكن بعد قرن من الزمن. لايوجد تغيّر مذهل حدث من قبل، خلال فترة بسيطة من الزمن إلا في هذه الحقبة، ولذلك فخريطة آسيا وأوربا قد تغيرت تماماً. خلال قرن من الزمن، اجتاح الهلال الإسلامي ابتداءا من الجزيرة العربية كُلاً من الامبراطورية الشرقية بما فيها مصر وشمال أفريقيا وأسبانيا في الامبراطورية الغربية
لقد تعلق مصير أوروبا الغربية أمام التوازن الذي وجد في معركة بلاط الشهداء أمام بوابات مدينة تور (Tours) عام ٧٣٢ ميلادية. هذا الحشد من المسلمين الذين قضوا على جزء كبير من عالم النصرانية، أصبحوا في مابعد مستشعرين ومقدرين بعمق لأفضل ما أنتجته الحضارة الإغريقية والرومانية، ولا شيء أهم في هذا النتاج من علومهما. الاهتمام بالطب والعناية بعلومه كان من الأمور التي حث عليها العرب وشجعوها بطريقة مميزة، و من أراد أن يتابع تاريخ الطب وتطوره عند هؤلاء القوم المتميزين– العرب –، فسيجده معروضاً بإعجاب في كتاب “ تاريخ الطب العربي Histoire de la medecine arabe “، لمؤلفه لوشين ليكليرك “ Lucien Leclerc” المطبوع في باريس سنة ١٨٧٦م. و هنالك أيضا تفصيل مميز عن تاريخ الطب العربي في كتاب “ تاريخ الطب History of Medicine” المطبوع بلندن سنة ١٧٢٥-١٧٢٦م. هنا، لا يمكنني الإشارة لهذا الطب إلا باختصار عن طريق استعراض مسار نهره التاريخي وحمولاته.
مع صعود النصرانية، أصبحت الاسكندرية مركزاً لصراع مُرّ بين الدّين والسياسة، تلك القصة التي تطارد ذاكرة من كان محظوظاً في صغره ليقرأ رواية كينقزلي “ هيباتا Hypatia” – قصة المعلمة الاسكندرانية التي قتلها العامة بتحريض من الكنيسة لتعليم ماكان مخالفاً لتعاليم الكنيسة –. لقد كان للأفلاطونية الحديثة في تلك القرون تأثير قوي على النصرانية، إلا أنها كانت غير مثمرة ولا منتجة في المجال الطبي. لقد أشرت مسبقاً في أجزاء سابقة من الكتاب – للإغريقيين المتأخرين أمثال إتيوس Aetius والإسكندر التّرَالي Alexander of Tralles. لقد كان آخر الإسكندرانيين رجلاً مميزاً، بولس الاجانيطي Paul of Aegina، اسم عظيم في الطب والجراحة وقد عاش في بداية القرن السابع الميلادي. على غرار أوريباسيوس Oribasius، فقد كان بولس الاجانيطي جامعاً للكتب ومؤلفاً. وفي عام ٦٤٠ ميلادية، فتح العرب الاسكندرية ولثالث مرة في تاريخها، يتم تدمير مكتبة عظيمة في “ المدينة الاولى للغرب، الاسكندرية”. بعد فترة وجيزة من سقوط مصر، قام العرب بترجمة الأعمال الاغريقية إلى اللغة العربية، غالبا من خلال اللغة السريانية. خصوصاً كُتب جالينيوس في الطب وكتاباته في الكيمياء والتي يظهر أنها وضعت الأسس العلمية التي قامت عليها المعرفة العربية في هذا المجال.
من خلال الاسكندرية كانت البداية، ولكن التطور المذهل الذي حدث لعلوم الإغريق والطب وقع في القرن التاسع الميلادي تحت الخلافة الشرقية “العباسية”. فيما يلي بعض مما قاله ليكليرك في كتابه “ تاريخ الطب العربي Histoire de la medecine arabe” ( في الجزء الاول، صفحة ٩١-٩٢):
“ لم يشهد العالم من قبل مشهدا رائعا كما قدمه لهم العرب في القرن التاسع الميلادي. الأناس الرعاة والبسطاء الذين استطاعوا بعصبيتهم أن يصبحوا أسياد نصف العالم وبمجرد تكوينهم لإمبراطوريتهم، انصرفوا ليكتسبوا ويتحصلوا على العلوم والمعرفة التي كانت تنقصهم لتكتمل عظمتهم. من بين كل الغزاة الذين تنافسوا على ماتبقى من الامبراطورية الرمانية، كان العرب هم الوحيدون الذين استطاعوا ان يكتسبوا علومهم المعرفية. بينما الحشود الألمانية تفاخر بوحشيتها وجهلها، استغرق الأمر الألمان ألف سنة ليوحدوا السلسلة المكسورة من التقاليد، بينما استغرق هذا الأمر من العرب أقل من قرن. لقد استنهض العرب بهذا منافسة النصارى المغلوبين – منافسة شريفة أمّنت التناغم مابين الاعراق.”
“ في نهاية القرن الثامن الميلادي، كان مافي حوزتهم من العلوم يتكون من مقالة طبية مترجمة وبعض الكتب في الكيمياء. وقبل نهاية القرن التاسع الميلادي، كان بحوزتهم جميع العلم الاغريقي. لقد أخرجوا من بين صفوفهم طلبة على طراز رفيع، ومن بين المبادرين الأوائل رجال لولاهم لكنا نتخبط في الظلام. لقد أظهروا من ذلك الوقت أهبة و استعداداً و موهبة لمعرفة العلم الدقيق المضبوط والذي كان يفتقده معلموهم الأوائل و بلا شك أن هؤلاء الطلبة تخطو معلميهم الأوائل بمراحل”
لقد ألمّ العرب بالطب الاغريقي من خلال النسطوريين. كانت هناك عائلتان مشهورتان بالترجمة وهما ذات أصل سوري، تتكلمان السريانية – بني بختيشوع و آل ماسويه – ولكن أمير المترجمين و أحد أهم الشخصيات في قرنه كان حنين بن اسحاق، النصراني العربي المولود في عام ٨٠٩ للميلاد. يقول ليكليرك:
“ الامتداد الرائع لأعماله و امتيازها و أهميتها بالإضافة إلى التجارب التي خاضها في بداية حياته العملية، كل شيء عنه استنهض اهتمامنا وعطفنا. إن لم يكن هو منشيء عصر النهضة الشرقية oriental renaissance، فهو بلا شك أهم لاعب فيه ”
لقد كان إنتاجه ضخماً، فلقد ترجم معظم أعمال هيبوقراط، جالينيوس، أرسطو و غيرهم كثير. مشهورته “ المقدمة” أو “ Isagoge “ كانت من أهم الكتب في العصور الوسطى، وهي عبارة عن ترجمة “ Microtegni” لجالينيوس. وهو كتيّب بحجم اليد، أُلحقت ترجمته بكتاب كولملي “ John of Gaddesden “ والتي خرجت الطبعة الأولى منه في عام ١٤٧٥م في بادوفا بايطاليا.
أورد ليكليرك في كتابه أكثر من مئة مترجم معروف، لم يتعاملوا فقط مع الأطباء بل مع الفلاسفة الإغريقيين والرياضيين والفلكيين. أضف إلى ذلك أن كتابات وأعمال أطباء الهند وفارس تمت ترجمتها أيضا إلى العربية. وبالنظر بقرب لجموع المترجمين فإنه يبرز من خلالهم مستنبط بديع، رائدٌ بين أقرانه. الرازي، الذي اشتق اسمه من مسقط رأسه مدينة الري في فارس. لقد تلقى الرازي تعليمه في المستشفى العظيم في بغداد خلال النصف الثاني من القرن التاسع. لقد دون ملحوظات صحيحة ودقيقة عن الأمراض بروح هيبوقراطية حقّة. وله يعزى الفضل في أول وصف دقيق لمرض الجدري وما يميزه عن الحصبة. لقد قام GW Greehill بترجمة هذا العمل لجمعية سيدنهام القديمة في عام ١٨٤٨، ولهو وصف يستحق أن يُطّلع عليه. لقد كان الرازي رجلاً صاحب ملاحظة قوية، وإحساس وفطنة عالية، وقدرة استنتاجية فائقة مكّنته من الحكم على الأشياء بطريقة ممتازة. لقد كانت أعماله مشهورة وذائعة خصوصا موسوعته الضخمة “الجامع الكبير” الذي يعد من أكبر المؤلفات المطبوعة قبل عام ١٥٠٠م والتي تعرف بمصطلحIncunabula. طبعة بريسكا Brisca الصادرة في عام ١٤٨٦ م، مجلد نفيس يمتد على ٥٨٨ صفحة ويزن أكثر من سبعة أرطال. إنها موسوعة مُلئت بملخصات ومقتطفات من علوم الإغريق وكتّاب آخرين يتخللها مذكرات له من خبرته وتجاربه. و أما كتابه “المنصور” فكان كتاباً مشهوراً، وهو من أول الكتب التي طبعت في التاريخ. لقد سَمّى كتابه بالمنصور نسبة إلى أمير الري منصور بن اسحاق الذي جعل اهداء هذا الكتاب له. الكتاب التاسع من “المنصور” ” de aegritudinibus a capite usque ad pedes” كان من أهم و أفضل الكتب المرجعية في العصور الوسطى. لقد عُرف الرازي بلقب “المجرب” لحماسته في إجراء الدراسات والتجارب.
أول عربي عُرف خلال العصور الوسطى بلقب الأمير وند جالينيوس كان ابن سينا، والذي يٌعرف في الغرب باسم Avicenna. ابن سينا أحد أعظم الأسماء اللامعة في الطب. ولد في مقاطعة خراسان بالقرب من بخارى في عام ٩٨٠ م. لقد ترك لنا سيرة ذاتية مختصرة تنبؤك عن أيامه الأولى. لقد ختم القرآن وله من العمر ١٠ سنوات. وفي السنة الثانية عشرة كان ملمّاً بالقانون والمنطق. ثم وجد أن الطب مجال أيسر ليس بالصعب ولا الشائك كالعلوم الأخرى مثل الرياضيات أو الميتافيزيقياء. كان مثابراً يصل عمل الليل بالنهار، وكان يرى أنه يتيسر له أن يحل بعض المسائل في أحلامه. يقول:
” إذا وجدت صعوبة في مسألة ما، قمت وراجعت مذكّراتي ثم عمدت الى الصلاة لرب الكون، وفي الليل عندما أحس بجهد أو يغلبني النعاس فإنني أخذ كأساً من النبيذ لأقوّم به بدني”
لقد كان مؤلفا وكاتبا ضخماً وله تُعزى عشرات المؤلفات، وله أهم كتاب طبي كُتب على الإطلاق. إنّه لمن الحقيقي ومما لاشك فيه أن يقال أنّ كتابه ” القانون” كان الإنجيل الطبي المعتمد في الدراسة الطبية في الغرب لفترة طويلة أكثر من أي كتاب آخر. يقول نيوبيرقرNeuburger في كتابه تاريخ الطب عن كتاب القانون:
” إنّه لأنموذج و مثال أعلى فريد يجمع كل التطورات السابقة والنهاية المنظومة و المرتبة للطب الإغريقي- العربي. إنه منظومة من القوانين تتضح بجلاء عندما ترى الحقائق مؤطّرة بإبداع وذكاء لامثيل له في قانون منتظم يجعلها مرتبطة ببعضها البعض. إنّا مدفوعون للإعجاب بحصافة وفطنة هذا المنظّم والعالم العظيم والذي بلا شك يملك مهارات عالية في ضبط و تنسيق علوم مختلفة من بحار شتى في منظومة واحدة مهيبة و صرح علمي كبير. لقد نقل ابن سينا للعلوم الطبية المعاصرة في وقته مظهر الدقة الرياضية بينما جعل فن علاج الامراض يعتمد على الاستنتاج المنطقي المبني على التجربة. لذلك ليس من الغريب أن كثيراً ممن يعملون في حقل التجارب والاطباء وقعوا تحت تأثيره و هيبته، و اعتبروا كتابه القانون تشريعاً معصوماً من الخطأ لقوّة بنائه المنطقي وحجّيته بالمقارنة مع المفاهيم السائدة في ذلك الوقت، و لذلك فقد اعتبر كتابه هذا من المسلمات المعصومة”.
توجد لكتاب القانون مخطوطات عديدة. من أجملها مخطوطة كتبت بالعبرية (مكتبة بولونيا بايطاليا) و مخطوطة باللاتينية طبعت عام ١٤٧٢م و طبعات أخرى متأخرة، آخرها في عام ١٦٦٣م. لم يكن ابن سينا كاتبا ومؤلفا ناجحاً فقط، بل كان المثال الأعلى الذي يُنظر إليه كطبيب ناجح، وكان رجل دولة ومعلماً وفيلسوفاً وأديباً. رغم أن البعض كان يصفه بالمنحل أخلاقياً، وأن علمه بالفلسفه لم يجعل منه ملتزما اخلاقياً ولا علمه بالطب مكّنه من أن يحفظ صحته، وهذه من الشائعات التي لم تثبت ولا يمكن الجزم بها.
لقد اشتهر أنه شاعر، وله أبيات من شعره موجودة بمكتبة بودلي(Bodleian) بجامعة اكسفورد. يعتقد البروفيسورA.V.W Jackson أنه متاثر في شعره برباعيات الخيام وهذا غير صحيح حيث أن ابن سينا عاش قبل عمر الخيام بقرن من الزمن. ومن شعره الذائع:
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ
وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا
كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ
أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ
لعل ترنيمته أو إرجوزته “الإله” قد كتبها من قبل افلاطون أو كليانثس. لعله ينطبع لدى القارئ غير المتخصص إحساس بتفضيل وتبجيل ابن سينا، خصوصا وأن قصة سيادته على تاريخ حقبة القرون الوسطى لمن أكثر القصص إثارة للإعجاب والتميز. لذلك فإننا نشعر بذلك عندما نجد ليكليرك يبالغ فيقول:
” ابن سينا، ظاهرة فكرية. ولربما لانرى مثيل لفطنته، رحابة فكره ونضوجه المبكر. كان له قدرة عجيبة على تحقيق أشياء غريبة عنه جدا والوقوف عليها، ومع ذلك لا يعرف الكلل او التعب”.
إن تأثير ابن سينا لم يصلني حتى قرأت بعضاً من أعماله الغامضة و الفلسفية و التي ترجمها مهرين( 1899( Mehren, 1889-، إنّه لافلاطون مرة بعد مرة. تلك الرمزية الجميلة التي شبّه فيها الرجال كأنهم طيور صيدت وحبست في قفص حتى أطلق سراحها ملك الموت، مثل هذا لا تقابله إلا في الحوارات الخالدة. رسالته عن الحب كتعليق خبير في ندوة حوار، ومقالته عن المصير هي من الروح الإغريقية من غير أثر للجبرية الشرقية، و أترككم مع رسالته المميزة ” ابذل الجهد الأقصى وتخطى حدودك وستصل للمعرفة الحقيقة! ماهو القول الحق: اعمل دائما ولكل عمل ستجد مقدار النجاح الذي خصته به الطبيعة”. مات ابن سينا وله من العمر ثمانية وخمسون عاماً، عندما وجد أن علاجه لمرضه لم يكن ذا نفع، فأسلم أمره للمحتوم وباع أملاكه وأنفق أموالها على الفقراء، واعتكف يختم القرآن كل ثلاثة أيام حتى وافته المنية في شهر رمضان المبارك سنة ١٠٣٧م. يوجد ضريحه اليوم في مدينة همدان بإيران ومازال قائماً، مبنىً بسيط من الحجر، مستطيل الشكل ومحاطاً بقاعة متواضعة. تم ترميمه في عام ١٨٧٧م، ولكنه مازال بحاجة لإصلاح. وبالرغم من موت ابن سينا فما زال هذا العظيم لديه زوار يفدون إليه طلبا للعلاج ويعتقدون أن شفاءهم على يديه شيء شائع.
لقد قدمت لنا الخلافة الغربية ( الأندلس) أطباء وفلاسفة أذكياء وبارزين، مثلما قدمت لنا الخلافة الشرقية في ظل حكمها الوارف. لقد أنشأت مدارس طبية بارزة ومتميزة في كل من إشبيلية، طليطلة وقرطبة ومن أشهر أساتذتها ابن رشد، الزهراوي وابن زهر. الزهراوي، العربي الذي أعاد إحياء وتطوير علم الجراحة. ابن رشد لقب في العصور الوسطى “روح ارسطو” أو “المعلق” أو “الشارح” كما يعرفه الفلاسفة أو الأطباء حالياً لكثرة شرحه لمعظم أعمال أرسطو وتعليقه عليها. عاش آخر حياته مُمتحناً وذلك مع صعود الإسلامية الأصولية ومحاكمته كمفكّر حر، ومن الأقوال المنسوبة إليه ” اسمحوا لي أن أموت مع الفلسفة “.
للطب العربي بعض السمات الواضحة: الأساس كان إغريقياً، مُستسقى من الأعمال المترجمة لهيبوقراط وجالينيوس. لم يكن هناك إضافات لعلم التشريح لأنه كان محرّماً، ولا لعلم وظائف الأعضاء، وأما علم الأمراض فكان ذاك الذي صنفه جالينيوس. ولكن أمراضاً جديدة ومهمة تم وصفها؛ وعدد من الأدوية الفعالة تم إضافتها خصوصاً من الأعشاب. المستشفيات العربية كانت على قدر عالٍ من التنظيم واستحقت الشهرة التي اكتسبتها. لايوجد في مصر اليوم مستشفى مماثل لذاك الذي بناه السلطان المنصور قلاوون في عام ١٢٨٣م. إن الوصف الذي كتبه المقريزي واستعاره نيوبيرقNeuburger يشبه إلى حد كبير المؤسسات الصحية ووحدات المستشفيات في القرن العشرين.
قال السلطان قلاوون:
قد وقفت هذا على مثلي فمن دوني، وجعلته وقفا على الملك والمملوك والجنديّ والأمير والكبير والصغير والحرّ والعبد الذكور والإناث”.
“ورتب فيه العقاقير والأطباء وسائر ما يحتاج إليه من به مرض من الأمراض، وجعل السلطان فيه فرّاشين من الرجال والنساء لخدمة المرضى، وقرّر لهم المعاليم، ونصب الأسرّة للمرضى وفرشها بجميع الفرش المحتاج إليها في المرض، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعاً، فجعل أواوين المارستان الأربعة للمرضى بالحميات ونحوها، وأفرد قاعة للرمدى، وقاعة للجرحى، وقاعة لمن به إسهال، وقاعة للنساء، ومكانا للمبرودين ينقسم بقسمين قسم للرجال وقسم للنساء، وجعل الماء يجري في جميع هذه الأماكن، وأفرد مكاناً لطبخ الطعام والأدوية والأشربة، ومكاناً لتركيب المعاجين والأكحال والشيافات ونحوها، ومواضع يخزن فيها الحواصل، وجعل مكانا يفرق فيه الأشربة والأدوية، ومكانا يجلس فيه رئيس اطباء لإلقاء درس طب، ولم يحص عدّة المرضى بل جعله سبيلا لكل من يرد عليه من غنيّ وفقير، ولا حدّد مدّة لإقامة المريض به، بل يرتب منه لمن هو مريض بداره سائر ما يحتاج إليه” ( المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار، المقريزي. ٤/٢٦٩)
“ وفي وقت لاحق تم تطوير هذا المستشفى وتوسعته، لدرجة أن مستوى التمريض مثير للاعجاب. لقد هيأ للمرضى الوسائل المادية التي تساعدهم على المغادرة حتى لا يحتاجوا لان ينخرطوا مباشرة في عمل شاق” نيوبيرق Neuburger (History of Medicine, Vol. 1, p. 378).
لقد أحرز العرب تقدماً عظيماً وملحوظاً في مجال الكيمياء. لعلك تذكر أنه في مصر، خطت الكيمياء خطوات معتبرة، ولقد اشرت لنظرة البروفيسور إليوت سميث Prof. Elliot Smith أن إحدى القفزات في تطور الحضارة الانسانية هو اكتشاف النحاس وتطويره في حوض النيل. خلال الفترة الرائدة لحكم المملكة البطلمية لمصر حيث تمت دراسة كل من الكيمياء والعقاقير، ولمن المرجح أنه عند فتح الاسكندرية عام ٦٤٠م على يد المسلمين، كان هناك مشتغلون بهذه العلوم.
إن أشهر المؤلفين العرب في هذا المجال لهو العالم الأسطوري جابر ابن حيان الذي عاش في النصف الاول من القرن الثامن الميلادي والذي كان لكتاباته تأثيراً عظيماً على مدى القرون الوسطى. لقد ناقش بيرتيلو القصة الكاملة لجابر ابن حيان في كتابه “ الكيمياء في العصور الوسطى La chimie au moyen age “ (Paris, 1896).
بدأ انتقال العلوم العربية الى الغرب مع الحملات الصليبية ولكن علوماً منقحة ذات أهمية في الرياضيات والفلك وصلت لجنوب ووسط أوروبا عن طريق الأندلس. في هذه الحقبة، تبرز اسماء مهمة من المترجمين الذين ترجموا العلوم العربية ومنهم جربير Gerbert والذي عرف لاحقا باسم البابا سلفستر الثاني Pope Sylvester II، الذي يعزى إليه أنه أعطى الغرب الأرقام العربية. لعلك تقرأ قصة حياته المذهلة في كتاب تايلور Taylor “ عقل العصور الوسطى The Mediaeval Mind “، يقول في كتابه “ لقد كان العقل الاول في زمنه و أعظم أساتذته، و اكثر المتعلمين شغفا وحماسة، واكثر العلماء شهرة عالمية ” ولكنه لم يقدم الكثير في مجال الطب.
لقد حدث انتقال العلوم الإغريقية – العربية للغرب عن طريق مصدرين. أولهما، قسطنطين الإفريقي Constantinus Africanus، راهب نصراني من شمال إفريقيا، كثير السفر ومتمرس في اللغات. قدم إلى ساليرنو في جنوب ايطياليا، و ترجم الكثير من الأعمال من اللغة العربية للغة اللاتينية، خصوصاً أعمال هيبوقراط وجالينيوس. اعتبر كتابه “ Pantegni “ المختص بالعلوم الطبية من أهم الكتب المرجعية في العصور الوسطى. لقد أبرز ستينشنايدر Steinschneider، قائمة طويلة من الأعمال التي قام قسطنطين بترجمتها، في كتابه “Virchow’s Arch“ المطبوع في برلين عام ١٨٦٧م.
المصدر الثاني و الأكثر أهمية كان من خلال المترجمين اللاتينيين في الأندلس، وخصوصا في طليطلة حيث تم ترجمة عدد هائل من الأعمال العربية في الفلسفة والرياضيات والفلك من منتصف القرن الثاني عشر لمنتصف القرن الثالث عشر الميلادي. يبرز من خلال هؤلاء المترجمين اسم لامع ومشهور، لقّب “أبو المترجمين”. إنه جيراردو الكريموني Gerard of Cremona (ت ١١٨٧م). لقد كان من ألمع أذكياء حقبة القرون الوسطى، لقد قام بعمل جليل وفي غاية الأهمية للعلم حيث نشر مواداً مترجمة مختلفة في شتى العلوم. لم يكن يقتصر ترجمته لمؤلفي كتب الطب، ولكنه ترجم لحشد متنوع من المؤلفين في علوم الفلسفة والأدب. لقد أخرج جيراردو أول ترجمة لكتاب المجسطي لبطليموس الذي كان له دور في جذب انتباه معاصريه لقيمة علم الفلك الإسكندارني الذي كان بطليموس من رواده. لقد أحصى ليكليرك في كتابه حوالي ٧١١ عملاً ترجميّاً قام به جيراردو الكريموني.
وخلال فترة القرون الوسطى، كان هناك مترجمون يهود كثر، ولقد تمت ترجمة أعمال كثيرة من العبرية للاتينية. لقد كانت اللغة العربية لسنوات طويلة هي لغة التعلّم عند اليهود، ومن خلالها استطاع اليهود أن يترجموا العلوم العربية ولهم دور كبير في إنتقالها إلى جنوب ووسط اوروبا.
وختاماً، يرى السير وليام اوزلر Sir William Osler أن الكاتب والمؤلف العربي الذي كان له أكبر وأعمق أثر على حقبة العصور الوسطى، أنّه ابن رشد، الشارح الكبير لأرسطو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1) Osler : THE EVOLUTION OF MODERN MEDICINE , CH III, p. 91-104.
2) Leclerc: Histoire de la medecine arabe, Tome I, p. 139.
3) Oxford, Clarendon Press, 1912, pp. 136-166.
4) Withington: Medical History, London, 1894, pp. 151-152.
5) Neuburger: History of Medicine, Vol. I, pp. 368-369.
6) “L’hymne d’Avicenne” in: L’Elegie du Tograi, etc., par P.
Vattier, Paris, 1660.
7) Traites mystiques d’Abou Ali al-Hosain b. Abdallah b. Sina
ou d’Avicenne par M. A. F. Mehren, Leyden, E. J. Brill, Fasc.
I-IV, 1889-1899.
8) The Mediaeval Mind, Vol. I, p. 280.
9) Steinschneider: Virchow’s Arch., Berl., 1867, xxxvii, 351.
10) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار، المقريزي. ٤/٢٦٩
المصدر: http://hekmah.org/%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8-%D8%...