الأثر الفني عند بول ريكور بين قابلية التبليغ والتعددية الدلالية
"التفكير في الفن أمر على غاية من الصعوبة"[1]
منذ الوهلة الأولى لا شيء يجعل من بول ريكور فيلسوفاً إستيطيقياً ومفكراً مهتماً بقضايا الجمال والذوق والفنون والقيم الجمالية، إذ أنّ معظم جهوده متمحورة حول الدين والأدب والعلوم الإنسانية والأسطورة والأنثربولوجيا والبيولوجيا، وطالما استخدمت فلسفته مناهج الفنومينولوجيا والهرمينوطيقا والتداولية والسردية والأيتيقا والإبستيمولوجيا، وناقشت الماركسية والبنيوية والهيجلية والسيميائية، وانصبّت حول قضايا الوجود في العالم والمعنى والدلالة والمفارقة السياسية والحرب واللاعنف والتاريخ والحق. إلا أنه لم يترك لنا ولو كتاباً واحداً يتناول فيه قضايا الجمال، ولم يقدّم مداخلة مستقلة حول الفن والإستيطيقا. لكن إذا تدبرنا الأمر مليّاً واستنطقنا النصوص الريكورية جيداً فإننا نجدها مكتنزة بعناصر كثيرة تثمن الفنون وتتضمن عناية خاصة بالبصري والأشكال وتحمل فضولاً تجاه اللغة الفنية وتحليلاً لتعبيرات الانفعالات. بل إننا إذا ما عدنا إلى بعض المقالات المنشورة في مجلة "الإيمان والتربية" عدد37، سنة 1957والموجهة إلى الأساتذة البروتستانتيين فإننا نعثر على مقال مهم عنوانه: "مكانة الأثر الفني في الثقافة التي تخصنا"، وعلى حوار فلسفي منشور في خاتمة كتابه "الانتقاد والاعتقاد"، عنوانه "التجربة الإستيطيقية"[2].
على هذا النحو يمكن أن نفترض في بداية المبحث أنّ الفكر الريكوري يتسم بانفتاح معين تجاه الفنون، ويجوز أنّ اللحظة الأولى للفلسفة الريكورية يمكن تسميتها باللحظة الإستيطيقية، وتتجلى في ما تتميز به إنشائية الخطاب وهرمينوطيقا الرموز من انفتاح على الخيال والصورة والمحاكاة والإنشائية والشعرية والخطابة والاستعارة والنمذجة. لقد كان ريكور حريصاً على الاستمتاع بالموسيقى وزيارة المتاحف والنظر إلى المشاهد الطبيعية والفنية الجميلة ومتابعة الإنتاجات الأدبية والمسرحيات والأفلام وإبداعات الهندسة المعمارية والتقنية، وتعامل مع التجربة الفنية باعتبارها إحدى الأبعاد الأساسية للتجربة الإنسانية.
من بين الأسئلة التي يمكن طرحها على ريكور بجديّة نجد ما يلي: ماذا نقصد بالأثر الفني؟ وما المنزلة الممنوحة له في الثقافة المعاصرة؟ ولماذا يعجز الإنسان اليوم عن الحياة دون الاستمتاع بآثار فنية؟ وأين يتجلى البعد الديني في الأثر الفني عند بول ريكور؟ وكيف عرّف ريكور الذوق الجمالي؟ ولماذا يتحفظ ريكور على الفن الكلاسيكي ويبدي إعجابه بالرسم التشكيلي وعشقه للموسيقى الروحية؟ وما الأعمال الفنية التي يجلها ويحترمها؟ ماذا يفضل ريكور من الفنون؟ هل تراه أقرب إلى النحت والموسيقى من الشعر والقصة وأميل إلى التصوير والمسرح من الصورة السينمائية؟ وما الأعمال التي قاوم الاقتراب منها والتأثر بها؟ أين تظهر إبداعية الفنان وعظمة الفن حسب ريكور؟ هل في القدرة على نقل التصور الكلاسيكي للحقيقة باعتباره آلة ناسخة وعاكسة لأوضاع مجتمعه، أم في مواجهة العالم المألوف واختراقه وتأثيث عالم مغاير؟ وأيّة وظائف أساسية يمكن أن تسند إلى العمل الفني؟
تتطلب معالجة هذه الإشكاليات مرور مسار البحث الفلسفي في المدونة الريكورية باللحظات المنطقية التالية:
- الشعرية والمحاكاة وإعادة تشكيل النص الأدبي.
- رمزية التصوير وتثمين العمل البصري للاستعارة.
- الأبعاد الدينية للآثار الفنية ومشكل التمثيلانية والتعدد الدلالي.
- الأثر الفني بين التعبير الأسلوبي والتجربة الإبداعية.
ما يراهن عليه ريكور هو الكفّ عن تضخيم التجربة الفنية من قبل ما بعد الحداثة وإعادة الفن إلى منزلته التمثيلية الحقيقية بوصفه رؤية للعالم، ووسيطاً رمزياً يسمح بتشكل الذاتية، والتواصل مع الغير والإقامة في العالم، ونقد الافتراض السردي للرسم وتحرير النحت من الفن التصويري، والاشتغال على الهرمينوطيقا النقدية للأعمال الفنية، وتوزيع التعددية الدلالية في التجارب الجمالية الأكثر كثافة لغة ورمزاً وقصاً ونقداً.
1- الشعرية والمحاكاة وإعادة تشكيل النص الأدبي:
لقد اهتمّ ريكور بالشعرية باكراً منذ 1966 حينما تناول بالدرس كتاب مايكل ديفرون، وعرفها بأنّها فلسفة تريد أن تكون وفيّة لصوت الطبيعة، وتركز على الصور المدهشة والأشكال العجيبة وما تثيره في الخيال وسحر في العيون، وتصنع باللغة مجالات متنوعة من التعبير خارج إطار ملكة الوعي ونظرية الحكم[3].
لقد عاد ديفرون إلى شيلنغ في فلسفة الطبيعة ذات المنحى الشعري وطبق التأمل على الشعر، لكي يعبّر عن عظمة اللغة الإنسانية ودفعها إلى التفتح والإفاضة وتنبيه الإنسان على العناصر والأبعاد الأكثر إنسانية فيه وحاول استخراج فلسفة لغة على أرضية فلسفة الطبيعة. لقد أصبحت الطبيعة آلة إنتاج وفضاءاً تعبيرياً وقادرة على الكلام وتخاطب الإنسان وتحول الإستيطيقا إلى اختصاص فلسفي، وصارت القصيدة أثراً لغوياً، وعبرت الوضعية الإبداعية عن الحالة الشعرية للشاعر وعن الماهيّة الشعرية، وأمكن إنقاذ بعض السمات الموضوعية من جهة الشاعر والشعر على السواء، وتمّ الكشف عن الماهوي في الكيان الشعري لكليهما، وتوجيه النداء بغية الغوص في الأعماق وصعود القمم والتجذّر ضمن الحقل الإشكالي للكينونة.
على هذا النحو يقدّم ريكور القصيدة على الشاعر وإرادته الصارمة والواضحة، ويجعل الذاتية تذوب في عتمة النص الشعري، وترسو على حافة تواجد الكائنات، وتلقي بظلالها على الأنوار المنبعثة من الأشياء. وبالتالي سيتبدل السؤال البدهي: ماذا عن ماهيّة الشعرية؟ بسؤال آخر: ماذا يوجد في القصيدة poème؟
عملية سردية يتمّ من خلالها بثّ صوت بين متكلم وسامع يتقبل، وبالتالي تظهر القدرة التعبيرية للّغة من خلال وساطة الوجود المقروء بين الوجود المكتوب والوجود المسرود وتمثل القصيدة الطبيعة، حيث يلتقي المعنى بالمحسوس، وتتجسد الفكرة في الموضوع المدرك، ويكون الشاعر مشاركاً في حمل رسالة الوجود.
يتوقف ريكور من خلال عمل ديفرون عند القدرة التعبيرية للشعر، ويفنّد عملية المرور عبر الطريق الزائفة الصاعدة من باطنية الذات إلى خارجية العلامة للكشف عن المعنى، ويقترح طريقاً أكثر أصالة وجدّة، وهو الالتقاء بالطبيعة والتعلق بها بصورة حميمية، والغوص في حضنها والإحساس بالولادة فيها والتعبير عنها.
هكذا تتفرع التعبيرية إلى اتجاهين: الأول يعود إلى الأمر الذي يريد أن يعبر عن نفسه، والثاني هو الأمر الذي يتمّ من خلاله التعبير، وبالتالي نحصل على المعبر به وعليه في مستوى أول والمعبر فيه أو عنه ثانياً. والحق أنّ العناصر الأكثر تعبيرية في القصيدة ليست الجُمل، بالرغم من تضمنها لعدة صور شعرية ولوحات وجداريات تخيلية، وإنما هي الكلمات وبالتحديد الكلمات الأصلية والمفاتيح التي تحوز على إمكانيات هائلة في إنتاج المعنى والتحفيز بالإشارة والتصوير والتشبيه والاستعارة والكناية والتورية.
تعبيرية العالم لا تكمن في الانفعالية والعاطفية والذاتية، وإنما تكمن في وظيفتها الوصفية، وتترجم بقدوم الأشياء إلينا وإفصاحها عن ذاتها، وإعطاء الطبيعة نمطاً من الوجود الذكي بحيث يلقي بدلالته نحونا، وبالتالي يسمح الشعر لبول ريكور بأن يضع التعبير عن المعنى في منزلة عليا بالمقارنة مع الدلالة.
حينما يتكلم الشعر بلسان حال العالم فإنه يفعل ذلك بشكل مغاير للعلم والتقنية واللغة المفهومية للفلسفة، ويتخطى الحديث عن طبيعة الأشياء، ويولي اهتمامه بمعنى الكلمات، ويظهر الأنماط الشعرية للوجود. إذ لا تركز الشعرية على الوظيفة الدلالية للقصيدة ولا على البنية العلائقية للكلمات والإيقاع والتناسق وترتيب الجمل، بل يتوقف بانتباه وإصغاء عند الطابع الموسيقي للقصيدة والبعد النغمي للكلمات وطابعها التعبيري.
العدو الأول للتعبيرية في النزعة الشعرية هو الصمت، وذلك لكونه عزوفاً عن الكلام وسقوطاً في اللامنقال واللامعنى، ولذلك يستدعي بول ريكور الفينومينولوجيا، ويصعد من الشعر إلى الشاعر مدرك العالم ومسميه وقارئه، ويقاوم كلّ نزعة تختزل الشعرية في الذاتية، ويقرر فهم الشاعر من خلال شعره لا الشعر بالشاعر، ويعتبر وظيفة الشاعر في منحه القصيدة اسماً أو عنواناً لا غير، بينما تتضمن القصيدة عالماً يراد اكتشافه. هكذا تلتقي نظرية الحالة الشعرية مع نظرية القراءة من ناحية ونظرية الإبداع من ناحية أخرى، وتتفادى الخلط بين الخيال والمخيال وبين الوعي المتخيل والوعي المتصور، وتدرك العالم وفق جملة من الصور الضخمة ودرجات ثقيلة من المعنى دون السقوط في اللامعنى وتقليد الأشكال التقليدية للحرفي والملهم. إنّ الاهتمام الأول عند ريكور هو مسألة التأويل، وإنّ الهرمينوطيقا الريكورية تتحرك ضمن تأويلات متصارعة، ولكنها ذات طبيعة شعرية ومنفتحة على المخيال، وترتكز صوره على أسس أنثربولوجية.
2- رمزية التصوير والعمل البصري للاستعارة:
"لطالمت حالت الوظيفة التمثيلية أو المحاكاتية، في فن الرسم، دون الانبساط الكامل للوظيفة التعبيرية، ومنعت العمل الإبداعي من التشكل كعالم منافس للواقع خارج الواقع"[4]
من المعلوم أنّ ريكور من المواظبين على زيارة المتاحف والمعارض وتقليب الآثار والاستغراق في اللوحات الجدارية والرسوم، وهو كذلك من المغرومين بالاستماع إلى الموسيقى الروحية والسمفونيات، ومن العاشقين لفن النحت والتلميحات التي تجعله يقول أشياء تتجاوز الوصف وتعبر عن الفراغ وتخترق المادة. ولذلك يحتاج الفن إلى الاستعارة من أجل تصوير التعدد الدلالي بأسلوب شعري، وتجميع مستويات كثيرة ضمن لغة متينة وسبكها في تعابير مكثفة تشتغل على إدماج مستويات متنافرة ضمن وحدات منسجمة ومتآلفة.
لقد عمل ريكور على مغادرة الفن التصويري في الرسم والنحت والمسرح والغناء، وأبدى تحفظاته على الافتراضات السردية للمنحوتات واللوحات والتمثيليات وتصوير الحكايات الواقعية بطريقة مبتذلة وساذجة، وازدادت ثقته في الفن التشكيلي وما تثيره تحليلات الأدب من توظيف للزمن والسرد في إعادة تشكيل الفعل الإنساني واستثمار الفراغات التي يرصدها الذوق المدرب عند إبصار لعب الألوان والأضواء والأشكال واستكشاف إمكانات علائقية، والسماح لانفعالات كثيفة وملأى بالخصوبة والانتعاش بالظهور. كما نادى ريكور بتحرير فن النحت من هيمنة الفن التصويري وتجاوز موارده الكلاسيكية واستعمالاته اليومية التي تعتبره مجرد أداة للتواصل، وذلك لصعوبة امتلاك القدرة على معرفة الحكايات التي يتمّ تصويرها، ولكي يتمكن الأثر الفني من الذهاب إلى ما وراء الأحداث، ويخلط بين السخرية والتقديس والشعور بالإجلال والتعبير عن التعددية الدلالية، ويكتسب القدرة على تجميع القوى الأكثر كثافة والحالات المستعصية، ويكتشف الخصائص المطمورة للغة، ويدرك المقاصد الكليّة، ويصف الأبطال وأدق اللحظات.
يقوم الفن بتجميع المشتت وإدماج المجالات المتناضدة من المعنى وتكثيف الفراغات، ويحتوي العلامات والرموز والاستعارات المتنافرة مجتمعة، ويترك في النفوس والحواس البهجة والانشراح وتأثيرات مذهلة. غير أنّ النظر إلى الإستيطيقا من زاوية السرد قد قلب الموقف الفلسفي برمّته تجاه الآثار الفنية، وزوّدها بمقدرة عجيبة على ممارسة التناص والإغواء والفتنة والسحر بالكلمات والرقص على الأوتار المقلوبة، وصقل الحواس وتهذيب الذوق وتدريب اليدين على الرسم والنحت والعزف، والإيمان بقيمة المطالعة والإصغاء والقراءة، وممارسة التأويل وتطييب الخواطر والقفز في المجهول، والاقتراب من عين الذات.
غرض العمل الفني ههنا ليست التسلية الخالصة التي يقوم بها المنتوج المصنوع من قبل الحرفي، بل تجميع المشتت وتدوير المربع وتنظيم المتشظي وزرع الحياة في الصور الجوفاء ومقاومة الفراغ والانشطار بالامتلاء المعرفي والثقل الوجودي والابتكار الدلالي وتنشيط الذاكرة وتحرير الخيال ومضاعفة الهجوم على المألوف والانخراط في التجربة المضادة للملل والكسل وبلورة المشروع الإنساني.
من البدهي أنّ تطعيم المقاربة الإستيطيقية بالبعد السردي يسمح بمواجهة مشكل الطابع المضاعف للعلامة والتعويل عليها من اتخاذ مسافة من الأشياء والاغتراب داخل نظام خاص وفق تناص معين وبناء جمل تتولى عملية نقل اللغة إلى العالم والقطع مع اللغة المتداولة والألسن الاصطناعية والتعويض بالقصص. لعل جوهر نظرية الفن عند ريكور يقوم على نظرية المحاكاة وما يتفرع عنها من تمييز بين عملية التشكيل وإعادة التشكيل والتشكيل المسبق، وبالتالي لا تعني استنساخ الواقع كما هو بل إعادة بنائه بطريقة إبداعية. على هذا النحو يعرف التشكيل بأنّه قدرة الأثر الفني على التشكل بذاته داخل فضاء التجربة التي ينتمي إليها وفي العالم الخاص به، أمّا إعادة التشكيل فهي قدرة العمل الإبداعي على زحزحة أيقونات عالم الكاتب وتوظيف المحاكاة في توسيع حقول التجربة، وإعادة تشكيل انتظارات القارئ وبافتراض عالم إبداعي جديد وإعادة الاشتغال على الحياة اليومية باختراقها من الداخل وإعادة تصويرها وفق رؤية جمالية إبداعية. علاوة على ذلك لم تكن المحاكاة نقلاً ساذجاً للواقع ولا مجرد تصوير آلي وحرفي، وإنما تساعد المرء على التعرف أكثر على موضوعات الواقع والكشف عن أبعاد خفية من التجربة وابتكار المنظور الفني الخاص. لا تقدّم نظرية المحاكاة مفاتيح لغزو الطبيعة ولا تقترح حلولاً لألغاز، وإنما تساعد على تغيير طرق الدخول إلى العالم وتجويد فن طرح الأسئلة وسبر أعماق الكينونة والإبحار نحو اللامتوقع واللامتحيز واللامنتمي.
لا يهتم الفنان حسب ريكور بالحقيقة والواقع والتطابق، وإنما يترك الذات تنكشف في تعبيرية حرة وفي تأويلية سردية منفتحة على كلّ القراءات، ولا يقترح وصفة سحرية للخلاص من الآلام، بل يقحم المتلقي في عالمه الخاص، ويسمح له بالمشاركة في تجربة تطهر من الانفعالات الحادة والانطباعات غير الملائمة.
اللاّفت للنظر أنّ ريكور ينتبه إلى احتفاظ الفن غير التصويري ببقايا تصويرية على غرار التلميحات إلى الواقع في الرسم التشكيلي والنحت، ويؤكد عجز الموسيقى الروحية عن إعادة بناء التجربة الإنسانية، وذلك لوقوعها تحت تأثير رواسب لاهوتية وخدمتها لنصوص دالة شفوياً وإثارتها في النفس أحاسيس غامضة.
لا ينبعث الفن عن الأصوات المجهولة الصادرة عن الأهواء والخيال المضطرب، بل يترجم لغة العواطف ويتعلق بالمشاعر ويتيح للفنانين موهبة منافسة الإله في صناعة العالم، ويرفض أن يتحوّل إلى آلة ناسخة للواقع المعتاد، ويجهز العالم الإبداعي للإقامة والسكن عبر طلاوته بكيفيات جمالية خالصة وترنيمات موسيقية أخّاذة. لعل أبرز الوظائف الأساسية للآثار الفنية هي جعل العالم مضيافياً، والتنازل عن رغبة الإنسان العارمة في ركوب السهل والبسيط وتدريبه على ركوب المخاطر وبناء قلادة من الدرر الفريدة والجواهر اللمّاعة وتكثيف مجالات حضور الإنسان في الكون واستكشاف أغوار الوجود واكتساب القدرة على التأثير. المقصود أنّ الفنان يخوض تجربة الانسحاب والعودة والتخفي والظهور ويشتد الصراع بين عالم المؤلف وعالم المتلقي بغية محو الوظيفة التمثيلية الوصفية وتشييد وظيفة تعبيرية تمنح الذوات القدرة على تنويع الأسلوب بتغير الأحوال، وتتراوح المشاعر بين الأكثر حساسية عند الافتتاح والأكثر جذرية عند الاختتام. كما يصلح الفن للحلم ولإنتاج أعمال متحركة في العالم ولتربية الأحاسيس وتثقيف الذوق والتمكن من الظفر بالجميل الفني وانتقاء المشاهد الخلابة من الطبيعة العمياء والنحت بالألفاظ لقصة خلود الكون، ويجسد صوت الوعي ونداء الضمير، ويحقق معادلة الفكرة والأثر، ويؤطر الإبداع، ويصارع المعاناة.
إنّ البعد الإستيطيقي الذي يثمنه ريكور لا يحوم حول مسار الدلالة فحسب، بل ويشمل أيضاً عملية الترميز والإظهار، وما تستلزمه العلامة من تسليط الضوء وتجديد الانتباه بالمرجع والإحالة إلى النسق الواقعي.
3- الأبعاد الدينية للآثار الفنية، ومشكل التمثيلانية والتعدد الدلالي
"لا يمكن الحديث عن الحقيقة في العمل الفني إلا إذا كان القصد هو قدرته على شق طريق في الواقع الذي يتجدد بفضله".[5]
ينطلق ريكور من فرضية هيجلية مفادها أنّ الفن ولد بين أحضان المعبد، وأنّ الجماليات انتهت بمجرد إخضاع الآثار الفنية لعملية تأويل لا متناهية ونقد الوعي الجمالي من قبل هانز جورج غادامير وبحث هيدجر عن أصل العمل الفني في العناصر الأربعة التي تشكل العالم وتصارع البشر الفانين مع الآلهة.
ينفتح الفن عند ريكور على هموم الناس، ويتموقع داخل حركة التاريخ، ويخلخل أفق الانتظار الذي سطرته العولمة، ويعكس المأساة البشرية في الحياة اليومية، ويخلق نظاماً لا واقعياً لعالم فريد بإعادة تشكيل العالم المعتاد واتخاذ الموقف المناسب والتقاط الحواشي ونقد المركز والحد من رغبة القوة في التوسع والإعلاء من قيمة الحق والزيادة في مساحة الحرية والحياة، ويجهز المرء لكي يبدع ويظهر ديناميته في التحرر. لكن لم يقدر الفن المعاصر على التحرر من تبعيته تجاه الدين، ولذلك يعوض مراسم الخضوع للمقدّس والتضرعات للآلهة بطقوس وثنية من الحرية ونوبات من التمرد وأحاسيس بالتزامات غريبة تجاه الآخر.
يحضر الديني ضمن العلاقة التي يبنيها الفنان بالكليّ، وتعطشه نحو المطلق بالرغم من غوصه في دائرة الخصوصية، ويظلّ الفنان في حركة سداد دين تجاه أمر فريد يرمز إلى العلو والأسبقية واللانهائي.
يسعى ريكور إلى تبيان المدى الذي قطعه الفن المعاصر في صراعه المرير مع نظرية المحاكاة، ويتفطن إلى أنّ التصوير الفوتوغرافي الفني قد اشتغل بذكاء على تخوم محاكاة الواقع، وأنه نجح إلى حدٍّ ما بالتحرر من الاستنساخ والانعكاس الآلي والمحاكاة، وباغت الفجوات التي يتركها الارتباط بالواقع، وشكّل عالماً منافساً له، وبنى موضوعه خارج إطار الوظيفة التمثيلية، وحاول إيجاد متحف خيالي تجتمع فيه الأساليب ويفرخ فيه الاختلاف والتنوع، وتصبح العلامات ممرات افتراضية واستعدادات لارتباطات غير ملائمة.
لقد نتج عن الإصرار على إحداث قطيعة في العمل الفني مع نظرية المحاكاة ظهور مشاكل عديدة، أبرزها القول بحدود الفن والوقوع في الخلط من جديد بين البضائع المصنوعة المعدّة للاستهلاك والأعمال الفنية. في هذا الصدد يسعى ريكور إلى إثارة هذه النقطة من أجل تحرير الفن من الاستعمال العادي والأسلوب الوثائقي والعمل التأريخي الذي يشتغل وفق آلية الانتقاء والفرز وإعادة الإنتاج، ويقوم بتلطيف الفظيع وتخفيف المعاناة وتسكين الجراح والارتقاء به إلى مستوى إزعاج السلطات القائمة وامتلاك النبرة العالية والتركيز على القدرة التعبيرية للكلمات ووضع الكثافة في المادة وشقّ طريق موصل إلى تذوق الانفعال.
والحق أنّ اللغة تتمكن من التعبير وابتكار الدلالة وإنتاج المعنى إذا ما تحررت من الوصف والفحص والتحقيق والتدقيق والملاءمة والمطابقة والتمثيل والتصوير، ولاذت بأفعال وأساليب التخيل والافتراض والاستشراف والحكي والحلم والتذكر والاستعارة والتلميح والابتداع والكناية والتورية والمجاز والترميز.
هكذا ينصّ ريكور على فرادة العمل الفني بالمقارنة مع المصنوع والطبيعي، ويربط امتلاكه للقيمة بتلقيه زيادة أيقونية ومنحة جمالية من طرف الانفعال الإبداعي للفنان وعبقريته المهدورة في تصيد جواب بسيط على سؤال عنيد، وإسناد المزاج التأليفي إلى التجربة الحيّة للفنان، وإبراز الوظيفة المرجعية للعمل الفني. تبعاً لذلك لا يمكن تفسير لغز الإبداع الفني بالعبقرية والعظمة والحرفية والمهنية وبالأثر الناجح والتلقي المرضي من قبل الجمهور وانفتاح السياق الاجتماعي الذي اقتضاه وبرّر وجوده، وإنما يتوقف على نقل مشكل ينتظر حلاً من الحياة اليومية إلى الحياة التأملية عبر وسائط رمزية وأساليب فنية ووسائل تصورية. إنّ اللوحة والتمثل والمعبد والقطعة الموسيقية والمسرحية والقصيدة والأغنية بماهي آثار فنية تنقل ملامح المشروع الإنساني المزمع بلورته في المستقبل تستحق أن تكون موضع نظر وتفكير ومجال استطلاع[6].
إنّ فرادة التجربة الفنية وأهمية التجربة الإبداعية تكمن في قابليتها للتبليغ والاقتسام مع الغير وسلاسة عبوره من المؤلف إلى المتلقي وإمكانية العثور على الكوني في الخصوصي عبر لعب بين الخيال والذهن وبلوغ درجة التمام في كلّ أسلوب تعبيري، والتسبب في اكتواء المتلقين بنار الفرادة والخصوصية والتميز. كما تساعد التجربة الفنية على اكتشاف صفاء الروح، وتمنح الذوات مسارات حياتية مثالية وتختصر الطريق إلى المطلق، وتذكر الناس بالأساسي والجوهري من الوجود، وتبعدهم عن الاهتمام بالثانوي والعرضي، وتمنحهم منظومة معيارية تساعدهم على اختيار وتسديد غايات أفعالهم ومقاصد رغباتهم. ما يروق في التجربة الفنية ليس الإنجاز والإتمام والانتهاء والإتقان، بل وضع الأثر قبالة الذات والإبقاء عليه في حالة من عدم الاكتمال وما تنتجه الحركة الروحية من مضاعفة الفرح والانتشاء والأمل في الذات.
اللافت للنظر أنّ ريكور يرفض مصادرة الديني للفني وتحديد مجالاته أو الحكم بطريقة هجينة على الديني من منظور فني، ويعترف بالتقاطع بينهما وبوجود منطقة للتوسع والانتشار المشترك للمجالات من الطرفين، ويرى أنّ الفني يحتمي بالديني للردّ على الاستعمال النفعي والابتذال الواقعي، وينقذ تسامي الروح وقداسة الجمال من التدنيس، ويستلهم مشاعر العظمة والإجلال في اتجاه الرائع والمطلق والغزير والنزيه والطاهر.
بناء على ذلك يمكن للمتلقي استقبال العمل الفني بمشاعر صادرة عن منابت دينية، ويمكن للمؤمن التوجه نحو أداء الشعائر والطقوس وتفضية الاعتقاد من خلال ذوق فني وقع تدريبه في المعارض والمتاحف. من هذا المنطلق يتحدث ريكور عن فن القدسي في الموسيقى والشعر والرسم والنحت والعمارة الهندسية، ويرى أنّ المقدّس استثمر الفن للانتشار واكتساب الهالة والإعجاب، وقام بتوظيف الرقص واللعب والأناشيد واستعارة الجسد ليدخل البعد التبادلي في العلاقة الإيتيقية العمودية بين الإنساني والإلهي ويجتاز العتبة التي تفصل وتصل بين الغرائز والروح، وتحول الاحتفال بالعفة إلى عرس للنفس واستمتاع بالحياة. أليس الفن هو الذي طرد الغلظة والتشدد والقسوة من قلوب المتدينين وأدخل الحنو والرقة كإيتيقا وجود؟
4- الأثر الفني بين التعبير الأسلوبي والتجربة الإبداعية
"ما يؤدي إلى نجاح عمل فني ما هو تمكن الفنان من القبض على ما ينطوي عليه ظرف معين أو إشكالية ما، من فرادة نسجت لأجله في نقطة فريدة، بحيث يستجيب لها بحركة فريدة".[7]
يتوقف بول ريكور عند التراجيديا الإغريقية وسلم الأنغام في الموسيقى الحديثة والأسلوب المنظوري في التصوير والنحت في الفترة المعاصرة، لكي يبرهن على القيمة الكونية للقواعد التأليفية للأعمال الفنية. لكن يصطدم بمفارقة تخصّ الظاهرة الفنية تتمثل في صعوبة التفكير في الفن، ويرجع ذلك إلى إدماج انفتاحية التجربة الجمالية للمتلقين في تأكيد فرادة عملها الإبداعي، ولكنّ هذا الإدماج يشكل عملية لا متناهية تندرج ضمن حاجة العمل الفني إلى التبليغ والتقاسم مع الآخرين، لكي يعطي نفسه درجة كبرى من الكونية. وبعبارة أخرى: "الكونية التي يدعيها العمل الإبداعي لا تكون ممكنة إلا عبر وساطة فرادتها وخصوصيتها القصوى"[8]، وتبعاً لذلك، فإنّ نجاح العمل الفني لا يرجع إلى حيازته على خصائص كونية ومطابقته للأصل الذي يحاكيه وجودة التصوير التمثيلي الذي يقوم به ولا لتحقق قابلية التبليغ، وإنما يعود إلى القيمة المضافة إلى كل تمثيل وتطابقها مع موضوعها وجدارته بفرضية العرض في المتحف الخيالي.
إنّ القيمة المضافة للتمثيل هي التي قللت من القطيعة بين الفن التصويري وغير التصويري، وإنّ الفن غير التصويري هو الذي حرّر البعد الإستيطيقي الخاص بالرسم التصويري، وحوّله إلى نموذج يحظى بالتقدير.
لقد نجح العمل الفني بانكبابه على تنظيمه الداخلي في التحرر من الوظيفة التمثيلية وقول العالم بطريقة مختلفة وإبراز طابع إيقوني للعلاقة الانفعالية المنعقدة بين الفنان والواقع المسماة (نمط mode)، وقد اختفى الحكم المحدد من عمل الفنان، وظهر الحكم التفكيري بكلّ حمولته المعيارية وقدرته على التبليغ، بناء على ذلك من الخطأ إخضاع تذوق جمالية الأعمال الفنية إلى مجموعة من القواعد، ولذلك امتنع الفن المعاصر عن التحديد القبلي للجميل، وارتأى ترك الحرية للمتلقي للحكم والإحساس بالفرادة والمشاركة في الإبداع. بهذا المعنى يكشف ريكور عن وجود تقاطع بين الإيتيقا والإستيطيقا، وذلك حينما يؤكد على ضرورة الحكم على التجربة الجمالية من زاوية الحكم على التجربة الأخلاقية بالتركيز على ثيمة الفرادة في الأعمال الفنية للأشخاص والعلاقات الفريدة التي يبنونها مع العالم، وكذلك ينتبه إلى أهمية السامي لزرع الأخلاقية في الإستيطيقا.
خلاصة القول إنّ العمل الفني حسب ريكور يتميز بجملة من الخصائص هي فرادة الوضعية وقابلية التبليغ والكونية والتعبيرية والنموذجية والتواصلية والأخلاقية، ويمكن أن يكون مساحة للشهادة على الصورة الممزقة للإنسان والحالة المزرية للعالم والوعد بعالم أكثر حرية وتسامحاَ وصورة متصالحة مع الإنسان.
هكذا تتسربل داخل التجربة الجمالية عدة قيم، مثل فعل الخير والإحسان للغير وشجاعة الوجود وصلابة الموقف والتعبير عن الالتزام، ويفك الفعل السامي عن نفسه العزلة لينصهر في المعزوفة الكونية للسلام. كما يتمتع الأثر الفني بالهالة والإشعاع وقدرة الجذب والإبهار والاقتداء وضبط الأفعال بمعايير جزئية وتوجيه أمر كوني إلى كلّ فرد، ودفع المحاولات البشرية إلى صنع نماذجها الملائمة لوضعيتها الخاصة.
لقد سمح استبدال الأمر الكوني بقابلية كخاصية جوهرية للعمل الفني بزرع الأفعال الأخلاقية في قلب التجربة الفنية وتوسيع الحكم الإستيطيقي، على غرار ما فعلته حنة أرندت ليشمل الحكم على الأحداث التاريخية والحكم القضائي والحكم السياسي والتركيز على أفراد من البشر ميزتهم الفرادة والخصوصية والقدرة على خرق العادة، لكي يدرجوا المصير الإنساني ضمن البعد الكوسموبولوتي ضدّ البعد البيولوجي[9].
مهمة الأثر الفني ليس تجميع فضائل الخير ومراكمة المعايير الموجهة نحو النافع والحسن والصالح فقط، بل يضاف إلى ذلك تشتيت تعبيرات الشر والاعتراض على بناء نظام فاسد وتعرية الاستغلال وفضح أشكال التشويه التي يتعرض لها الإنسان ومقاومة الفضيحة والعار والحد من الإصابة بالعدوى وإيقاف انحدار الذوق.
لقد حرص ريكور على تفكيك العلاقة بين الجمال والشر، ورفض تمكين الشر من زيادة أيقونية وفائض قيمة جمالية، واعتبر ذلك مجرد انحراف وتضخيم واستعارة بيولوجية، ونظر بإجلال وتعظيم إلى نظام الخير، وحرص تجربة الجميل في دائرة الأخلاق، وتعتبر الآثار الفنية مدرسة مربيّة للنوع البشري. إنّ القاعدة الذهبية التي يخضع لها الفنان هي "طاعة الطبيعة من أجل توجيهها بطريقة جيدة"، وإنّ الأولوية تعطى للمادة التكوينية والإيقاع الزمني والأسلوب الإنشائي والمهارة الحرفية والخبرة الفنية والذوق الرفيع، وبالتالي يمثل العمل الفني تجربة تعبيرية عن أسلوب فريد يبتدعه الفنان لقول طريقة وجوده في العالم، وبعبارة أخرى يشتغل الفنان على المواد لكي يجسّد فكرة تعبّر عن مشروع إنساني وفق أسلوبه الخاص.
ما يثير الإعجاب في الأثر الفني هو المادة التي صنع منها، والأسلوب التعبيري الذي تجلى من خلاله للمتلقي، والشكل الإطاري الذي تبلور فيه، والمرجع الذي يحيل إليه، والمقصد الإيتيقي الذي يقترحه، وبالتالي يتشكل جهد الفنان في إيجاد حلٍّ شعري للمعضلة التقنية التي تمّ رصدها واستحالت معالجتها وفق المقولات.
علاوة على أنّ الأسلوب الفني يعبّر عن روح العصر وثقافة الجماعة الفنية ودرجة الذوق العام، والمستوى التدريبي للحواس، ودرجة التوازن بين العناصر المتنافرة، والقدرة على ضبط الإيقاع الصوتي والألوان، ويساعد على استعمال جملة من الرموز المادية لتشكيل رؤية فنية للعالم وتجسير الهوّة بين الأنا والآخر.
هكذا يجمع الأسلوب بين الروحاني والتقني، وبهذا المعنى المزدوج يدشن تنمية غير مباشرة للإنساني، ويتحول إلى وسيط ملموس بين مستويات الحياة من خلال الرموز الكبرى للأصوات والألوان والحركات، ويعمل عن طريق تقنية التأويل على فكّ شفرة الواقع، ويركز على الجوهري والدائم وغير القابل للمحو فيه.
هذه الوظيفة الجديدة للفن يؤديها على أحسن وجه كلٌّ من المسرح والنحت، حيث يمثل الإنسان بلحمه ودمه موضوع التمثيل الفني، وتتحول الصورة التي يشكلها الإنسان حول نفسه إلى مصدر معرفي أكثر أهميّة من الملاحظة الباطنية ويكشف الوجه الإنساني عن المعاناة اليومية التي يعيشها بأدوات شعرية ورمزية.
كلّ عمل فني يطرح إمكانية جديدة للإقامة في العالم، ويعبّر عن المشروع الإنساني بأسلوب مختلف، ويمثل اختباراً خيالياً واسعاً للإمكانيات الأكثر امتناعاً للإنسان، ويحوّل الكائن البشري إلى مركز افتراضي للكوكب. زدْ على ذلك يسائل الفن الكائن البشري من جهة طريقة وجوده ونمط حياته ومعنى كينونته، ويتخلى عن كلّ الأفكار المبتسرة والعموميات الفارغة، ويركز انتباهه النقدي على التصور الجميل للعالم. ما يثير الإعجاب في العمل الفني هو مشاركة المتلقي للمؤلف في مغامرة الإبداع، والغوص في أعماق الأثر، والشعور بالفرح من الدخول في لعبة الإخفاء، والتجلي والاستثمار الحذر لجدلية الغياب والحضور.
خاتمة
"لا ينبغي أن نقصي شيئاً من دائرة إعجابنا، بل يجب أن نتعلم كيف نحبّ كلّ شيء".[10]
صفوة القول إنّ علاقة بول ريكور بالفن ليست مجرد هواية أو تطفل فضولي، وإنما علاقة إعجاب بالآثار والروائع يصل إلى حد العشق والولع والهيام بالجمال والعاطفة الجياشة، ويتحول إلى نوع من التأمل الصامت والحكمة الملتزمة بالرؤية والفرجة والاستماع والإصغاء والاستمتاع والمحبة الخالصة ومشاركة وجدانية في إعادة تشكيل العالم وإبداع الأعمال الفنية على نحو مختلف وخفقان روحي منتج للفرح.
التجربة الإبداعية التي يظهر بمقتضاها الأثر الفني إلى الوجود هي خلاص من المألوف والمبتذل والعادي، وتطهير من الفظاظة والشر والسوء، وتبديل في الأساليب التعبيرية والعناصر التكوينية، وانفلات من الرقابة، وحركة تربوية مجانية للأهواء، وصراع ضد الموت، وانتصار على العدم، وذلك بالإحياء والانبعاث للجميل.
إنّ الفنان يمرّ وينتهي، ولكنّ الأثر الفني الذي أبدعه يستمر بعده ولا يزول، بل يظل حياً ومصدر إلهام لغيره، وإنّ الأجيال المتعاقبة فانية، بينما الإبداعات التي تنتقل بينها باقية ودائمة، وتقاوم كلّ محو واندثار، وإنّ الفن يبحث عن الخلود والانتصار على الموت بالإبقاء على الحياة في الكائن، ولكنّ الإنسان يبدو على علم بهشاشته الأصلية ولا عصمته، ويسهر على ديمومة ذكره بإنتاج آثار فنية صلبة والقيام بأعمال حسنة.
لكي يتغلب الإنسان على الموت يحرص على ترك ميراث من الإبداعات وحصيلة من الأعمال الحسنة، ولذلك تمتلك الآثار الفنية عمراً أطول وقيمة أكبر من حياة البشر وزمن صلاحية الأشياء والمصنوعات، وبالتالي ينجح الفنان في جعل المادة والأحجار والألوان والأصوات والأشكال خالدة عندما يمنحها أسلوباً، ويعبّر بها عن فكرة، ويدمجها ضمن مشروع، ويسدد بها مقصداً، ويجعلها طريقة لقول العالم دون مفاهيم.
بناء على ذلك يحاكي الإنسان الحركة الإبداعية للإله، وينزلها من السماء إلى الأرض ومن عالم الروح إلى عالم المادة، ويمنح المقدّس خصائص دنيوية، ويعبّر عن المطلق بما هو محسوس ويدرجه ضمن التاريخ، وإذا كان كلّ أثر جميل ينبع من المقدّس ويعبّر عنه بشكل ملموس، فإنّ الفن يحوز على دلالة دينية أصلية، والإستيطيقا المعاصرة ابتعدت كثيراً عن مصدرها الثقافي الوثني، وتحولت إلى دفاع جمالي عن المقدّس. على خلاف ذلك لم يجسّد الفن المتمرد نزعة معادية للدين، بل أعلن عن محاولة لتأليه الإنسان، وإضفاء القداسة على حقوقه في التمتع بالطبيعة واستعمال العقل ودربة الحرية والشغف بالجمال وطلب السعادة.
ليس الفن مجرد إعلان عن انتصار الإنسان على المقدّس وتخليد لأثره في الكون، وإنما هو إحلال تقديس الجمال والتجربة الفنية مكان أداء الطقوس والشعائر وفعالية نقدية تجاه التصورات الاعتقادية المستقرة. على هذا النحو يدعو ريكور إلى أن يبقي الفكر الفلسفي على تيولوجيا الفن من أجل اكتساب الأساليب التعبيرية عن الأصول والبدايات ومواصلة التفكير في المصير والنهايات وفق رؤية أخروية منفتحة، وإنقاذ المنبع المقدّس للحياة من كل تجفيف وتصحر، وتوجيه الحركة الإبداعية الفنية نحو مقاومة الذوق الهابط. إنّ جوهر العملية الفنية هو الإبداع وإنّ هذه الفعالية الإبداعية هي ميزة إنسانية، ودون إضافة وتجديد وخلق لا يمكن الحديث عن كائن بشري وعن رؤية جمالية للكون، وإنّ البصمة الإنسانية على العمل الفني تظهر في نقاوة الأسلوب ووضوح التعبير والإخلاص للحرفة والالتزام بالواقع المادي واستيفاء الإشكال المثار. غير أنّ ربط الإبداع بالكائن الإنساني بشكل وثيق قد يساعد على معانقة السمو والرفعة من جهة، ولكنه قد يوقع به في الدنو والتحرج من جهة أخرى. إذ الإنسان قادر على جعل العوالم الممكنة من الأمور الحاضرة والمتحققة، ولكنّ أساليبه في الإبداع وطرقه في الإنشاء تظل نسبية وتاريخية ومجرد محاولة، وتنتمي إلى نظام إبداعي مختلف عن نظام الكينونة الذي صدرت عنه سائر الكائنات في أبهى مظهر[11].
في نهاية المطاف يمكن اعتبار اللحظة الإستيطيقية هي المظهر الأول في الفلسفة الريكورية، ويمكن النظر إلى هذه الإستيطيقا من زاوية وجود ومنزلة الإنسان في العالم، والتعامل معها من جهة شعرية وأنطولوجية. كما ارتبطت اللحظة الإستيطيقية التأسيسية بشعرية الخطاب وبالانتباه إلى القيمة الجمالية للآثار الفنية، وأفضت الملامسة الوجودية للّغة الفنية إلى تأمل عميق في حقيقة الجمال، والنقر على حدود التجربة الفلسفية، والنظر إلى المعارض الفنية بوصفها شهادات على الينابيع المتفجرة للخلاب والجليل والسامي. لقد آمن ريكور بأهميّة الآثار الفنية في التعليم، ودعا إلى ضرورة تنظيم المعارض وزيارة المتاحف وإشراك المتعلمين في النقد السينمائي والتفرج على المسرحيات ومشاهدة المنحوتات وتدريب العيون على التذوق[12]. ولكن هل يمكن أن تمثل الآثار الفنية مناسبة للتفلسف؟ وكيف تسمح تجربة الفنان الإبداعية للفلسفة بالظهور؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسرد المصادر والمراجع
باللغة الأجنبية:
«Jugement esthétique et jugement politique selon Hannah Arendt». Droit et cultures, n° 28, 79-91 (II.A.557) Repris dans Le Juste I, Éditions Esprit, Paris 1995.
Ricœur (Paul), Lectures2, édition Seuil. Paris. 1992.
باللغة العربية:
ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، ترجمة حسن العمراني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2011.
روابط مستعملة:
http://www.protestantismeetimages.com/P-Ricoeur-La-place-de-l-oeuvre-d.html
http://www.protestantismeetimages.com/Metaphore-et-esthetique-dans-la.html
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، ترجمة حسن العمراني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2011، ص 106
[2] انظر ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، مصدر مذكور. ص ص 95-113
[3] Ricœur (Paul), Lectures2, op.cit, p p.335-336.
[4] ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، مصدر مذكور، ص 101
[5] ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، مصدر مذكور، ص 98
[6] Ricœur (Paul), Lectures 1, édition Seuil. Paris, 1992.
[7] ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، مصدر مذكور، ص ص 103-104
[8] ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، مصدر مذكور، ص 106
[9] «Jugement esthétique et jugement politique selon Hannah Arendt». Droit et cultures, n° 28, 79-91 (II.A.557) Repris dans Le Juste I, Éditions Esprit, Paris 1995
[10] ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، مصدر مذكور، ص 95
[11] http://www.protestantismeetimages.com/P-Ricoeur-La-place-de-l-oeuvre-d.html
[12] http://www.protestantismeetimages.com/Metaphore-et-esthetique-dans-la.html.