التسامح مبتدأ لا خبر

عادل الكلباني

 

هناك من يستخدم العفو مع من يوافقه مذهباً، أو رأياً، أو جماعةً، ويغض طرفه عن مساوئه ولو عظمت، ويستر زلاته ولو وجب التحذير منها، ولكنه مع خصومه أشد ضراوة من الكواسر، ويستخدم كل أساليب الأذى تشفياً بخصمه..

تسامح صلى الله عليه وآله مع رؤوس المنافقين، وزارهم، وصلى عليهم لما ماتوا، قبل المنع، ونزل على قبر كبيرهم، وألبسه قميصه، كل ذلك وهو يعلم أنهم منافقون، ولكنه صلى الله عليه وآله أظهر أخلاقه عملا بقول مادحه (وإنك لعلى خلق عظيم).

وجاء رجل ورفع السيف عليه صلى الله عليه وآله وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله. ثم سقط السيف من يده، فأخذه صلى الله عليه وآله وقال: من يمنعك مني؟ ثم عفا عنه وتسامح معه!

وفي فتح مكة كما في السير قال صلى الله عليه وآله لقريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فعفا وتسامح!

وكان يمشي صلى الله عليه وآله، وهو يلبس عباءة نجرانيّة ثقيلة، فجاءه أعرابي وشدّه من عباءته حتّى ظهر أثر ذلك في صفحة عنقه، طالبًا منه عطاءً، فعفا عنه وتسامح وأعطى، فتخلق معه بكظم الغيظ وأتبعه بالعفو، وأتبع العفو بالإحسان.

وكم هي قصص العفو، ومواقف التسامح، التي نقرؤها ونحفظها من سيرته صلى الله عليه وآله، وحق لنا ذلك؛ لأننا من أمته، وهي خير أمة أخرجت للناس! وليس غريبًا أن تسمع ذلك على المنابر، ومجالس الوعظ والتذكير، وفي القنوات، والصحف، ومواقع التواصل! فالتسامح من قيم الإسلام العظيمة.

لكنك قد تستغرب حين تجد الأقوال تخالف الأفعال، وحين تختلط المفاهيم فتصبح مغلوطة، فتجد من لا يفرق بين العفو والتسامح المحمود، وبين ترك المسيء يقترف إساءة أخرى، معتقدًا العجز عن ردعه، والله تعالى يقول (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) ففيه قيد لا يخفى على ناظر، وهو اقتران الإصلاح بالعفو!

فالتسامح ينبغي أن يكون مبتدءاً لا خبراً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: رحم الله عبدا سمحا إذا ابتاع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى. فالتسامح يختلف عن العفو عن المسيء، إذ هو تعامل متبادل بين الطرفين، وكثيرون لا يرونه إلا عفوا عن مخطئ، وتجاهلا لحقوق الانتصار من الظالم وغيره!

وهناك من يستخدم العفو مع من يوافقه مذهباً، أو رأياً، أو جماعةً، ويغض طرفه عن مساوئه ولو عظمت، ويستر زلاته ولو وجب التحذير منها، ولكنه مع خصومه أشد ضراوة من الكواسر، ويستخدم كل أساليب الأذى تشفياً بخصمه، ولا يقتصر ذلك على نوع من أنواع الناس، وإن كان في المنسوبين للتدين أكثر شهرة، فهو أيضًا بين أهل التجارة في مكايدتهم وتنافسهم، مضربين صفحًا عن قصص الأولين من التجار الأتقياء، الذين يأبى أحدهم أن يبيع بضاعته حتى يبيع جاره بضاعته!

وفي أهل السياسة أيضًا، من المكائد وحب الانتقام ما لا يصدقه عاقل، ولا يلتفتون لأخلاق نبيهم صلى الله عليه وآله في عفوه وتسامحه، وحسن تعامله مع العدو، بله الصديق عدلا ورحمة وإحسانا!

وفي السير قصة تميم بن جميل، وقد طلبه المعتصم في قصة طويلة، شاهدها أنه لمّا مثل بين يدي المعتصم، وأحضر السيف والنطع وأوقف بينهما، تأمّله المعتصم، وكان جميلاً وسيماً، فأحبّ أن يعلم أين لسانه وجنانه من منظره، فقال له: تكلّم يا تميم. فقال كلامًا، ثم قال بديهةً:

أرى الموت بين السيف والنطع كامنًا

يلاحظني من حيثما أتلفتُ

وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي

وأي امرئ مما قضى الله يفلتُ

وأي امرئ يأتي بعذر وحجة

وسيف المنايا بين عينيه مصلتُ

وما جزعي من أن أموت وإنني

لأعلم أن الموت شيء مؤقتُ

ولكن خلفي صبية قد تركتهم

وأكبادهم من حسرة تتفتتُ

فإن عشت عاشوا سالمينَ بغبطةٍ

أذود الرّدى عنهم وإن متّ موّتوا

فتبسمّ المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، وقد وهبتك للصّبية، وغفرتُ لك الصّبوة. وهذا منه عفو وتسامح، لائقان به..

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

إن التشبه بالكرام فلاح

هذا، والله من وراء القصد..

 

http://www.alriyadh.com/1585919

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك