حركات الإسلام السياسي ومعضلة الديمقراطية
إن صلاح الأحوال في العالم العربي سوف يحدث عندما تنجح الأحزاب الحاكمة في التخلص من التراث الشمولي داخلها وهي التي كانت أحزاباً بيروقراطياً أمنية سلطوية؛ وعندما تتخلي جماعات الإسلام السياسي وفى طليعتها حركة الأخوان المسلمين وأشكالها الحزبية في العالم العربي عن فكرة الدولة الدينية التي تدمج بين الدين والدولة فيفسد كلاهما ويصير الأمر كله فاشية من نوع جديد. ولكن تعرضنا لخيبات أمل كثيرة؛ وبينما كانت الأحزاب الحاكمة على استعداد للتحرك نحو اقتصاد السوق الحرة فإنها كانت أكثر بطئاً عندما يتعلق الأمر بتداول السلطة في السوق السياسية.
ورغم بعض التنظيرات الغربية والعربية التي تتحدث عن أن “الحركات الإسلامية قد استوعبت الخطاب الديمقراطي و أضفت عليه مسحة ذاتية من خلال مفاهيم (الشورى) و (الإجماع) و (الاجتهاد) وأن الديمقراطية موجودة بالفعل في العالمين العربي و الإسلامي، “سواء أكانت كلمة ديمقراطية بحد ذاتها مستخدمة أم لا”. فأنه إذا كان ما يقوله هؤلاء صحيحاً، فلماذا لا تظهر الديمقراطية بوضوح و جلاء في الوطن العربي ؟. ولكن يظل الجدال دائراً حول حركة الإخوان المسلمين التي لها نفوذ وتأثير في العمل العام في العالم العربي، فلديهم القوة السياسية، ولديهم الفكرة الدينية، ولديهم التجارب السابقة. ولنحتكم إلي برنامج الإخوان الذي يقع في 128 صفحة، وفيه الكثير عن المبادئ والسياسات، ولكن ما يهمنا في المقام الأول مفهوم الجماعة للدولة وأصول الحكم فيها. ورغم أن البرنامج يقول بوضوح أن “الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالضرورة” فإنه يعرف هذه الدولة المدنية بأنها تلك الدولة التي تكون الوظائف فيها على أساس «الكفاءة والخبرة الفنية المتخصصة والأدوار السياسية يقوم بها مواطنون منتخبون، تحقيقا للإرادة الشعبية الحقيقية، والشعب مصدر السلطات». ولكن هذا النص لا يمكن فهمه في برنامج الإخوان إلا على ضوء فهمهم للدستور الذين يرون أنه ليس هو أساس أو مصدر التشريع، وإنما الشريعة الإسلامية التي تصبح وظيفة الهيئات المنتخبة ـ المعبرة عن الشعب مصدر السلطات ـ مجرد تفسيرها، أي تنتفي الوظيفة التشريعية للمجالس النيابية وتحل محلها وظيفة الفتوى. برنامج جماعة الإخوان المسلمين مزق إربا كل المفاهيم المتعلقة بالدولة المدنية التي كان يتحدث عنها ممثلو الجماعة، ثم بعد ذلك وبلا مواربة أقاموا مكانها دولة دينية صريحة. وهذا يمثل ردة هائلة إلي الوراء في فكر الإخوان المسلمين الشائع، والذي حاول أن يقنعنا خلال السنوات القليلة الماضية أن الديمقراطية أصبحت هي فلسفتهم الرسمية، بل أن «الدولة المدنية» هي أساس الدولة التي يريدون إقامتها، وأن «المواطنة» بكل ما تعنيه في الفكر السياسي الحديث هي جوهر السياسة الإخوانية. وجاءت هذه الردة في الوقت الذي بدا فيه أن التجربة التركية، ومن بعدها التجربة المغربية، تمثل معملاً لاستخدام المرجعية الإسلامية في دولة حديثة وعصرية ومتصالحة مع عالمها ومحيطها، ولكن ما حدث لدى الإخوان المسلمين في مصر كان خطوة واسعة إلى الوراء. كما أن التجربة السودانية تثبت كيف انقضت الجبهة الإسلامية على الحكم الديمقراطي في السودان في عام 1989 بزعامة حسن الترابي وما المؤتمر الكاشف لأفكارهم إلا نموذجاً صارخاً على ذلك. ففي ذلك المؤتمر في أبريل عام 1991 أصدروا بياناً بعد أن حشدوا لمؤتمرهم عدداً كبيراً من الزعماء الإسلاميين. هذا البيان ذو النقاط الست تضمن هجوماً صريحاً على الديمقراطية وسمحوا لأنفسهم بالتعاون مع الحكومات غير الإسلامية بعد أن قسموا العالم إلي نظم خير ونظم شر ولم يمنع ذلك زعماء الحركة من التشديد على احترام الحقوق ومكانة وكرامة الفرد ولكن عندما كانوا يحاربون حركة جنوب السودان أنشأ الترابي الجيش الشعبي أرسله إلى الجنوب لمحاربة أهل الكفر. وأهل الكفر هؤلاء ما هم إلا مواطنون سودانيون من أهل الجنوب.
وتبرز مشكلة ملحة أخرى بشأن السماح للتيارات السياسية الشمولية بالمشاركة في العملية السياسية والخوف من انقضاضها عبر صناديق الانتخابات على الديمقراطية. ولذا فان المعضلة التي تواجهها مصر-مثلا- تتمثل في كيفية التوفيق بين توسيع دائرة التمثيل السياسي وفرصه من ناحية وضمان عدم استخدام آليات التحول الديمقراطي لوقف هذا التطور أصلا. فالاستقرار السياسي ينبع من مدي تمثيل المؤسسات والأحزاب للقوي الفاعلة الاجتماعية و ومدي قبول تلك القوي للنظام العام الذي يتحقق من خلال اشتراكهم في عملية التحول الديمقراطي وفي التأثير على مسار السياسة العامة.
وتتجسد تلك المشكلة تحديدا في الجماعات التي لجأت إلي استخدام العنف والإرهاب كأداة في العمل السياسي، أو تلك التي تلوح به أو تباركه، فاستخدام العنف يكون من شأنه عدم إتاحة الفرصة للمواطنين للتعبير عما يعتنقونه بحرية ويمثل أداة لقهر الآراء المخالفة، وتوجيه المواطنين في مسارات معينة دون غيرها.
من ناحية أخرى، فان خبرات عملية التحول الديمقراطي في دول أخرى تبين إنه كلما كان التنافس على سياسات وبرامج لا على اختبارات شمولية مطلقة أمكن لآليات الديمقراطية أن توطد أركانها. ويشير ذلك إلى أهمية توسيع دائرة الاتفاق بين القوي الرئيسية للجماعة السياسية حول قواعد العمل السياسي وإجراءاته وحدوده.