بين الإستبداد والعبقريات: توتر دائم

محمد الدعمي

تراوح العلاقة بين الأذهان الذكية من ناحية، وبين الاستبداد، من الناحية الثانية، بين الشد والجذب، التوافق والتنافر، الأمر الذي قاد دائماً إلى شيء من الجفاء بين العبقريات والاستبداد عبر التاريخ البشري. بيد أن هذا الجفاء ينطوي على مفارقة تستدعي التندر أحياناً في حالة أغلب دول الشرق الأوسط خاصة، حيث أن حكومات هذه الدول غالباً ما انبثقت بعد نهاية العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية، أي بعد ما يسمى بمرحلة الاستقلال السياسي الذي مرت به أغلب هذه الدول الشرق أوسطية عبر أواسط القرن الزائل، حيث تبلور التنافر بين العقل العبقري وبين السلطة في حالات الاغتراب والغربة الاختيارية، الأمر الذي يلقي الضوء على حقيقة مفادها: أن العقول الذكية غالباً ما تكون عقولاً متمردة، ميالة إلى التحرر والتنائي عن المفروض عليها من الأعلى. لذا إذا ما شئنا تورخة محايدة وصادقة للعقل العربي المثقف، فإننا يمكن أن ندعي، بلا مبالغة، أن العصر الحديث قد شهد حالة مفزعة ومخيفة من الطرد، حيث طردت أنظمة الاستبداد العقول الذكية الميالة للحرية باتجاهات مختلفة، الأمر الذي يبرر حالتين لا يمكن لأي مؤرخ أفكار أن يخطئهما، وهما:

(1) حالة الهروب إلى دواخل العالم الذاتي، حيث طفت بثور الخوف من السلطة والإستبداد على بشرة الثقافة العربية، بعدما خبرته العبقريات من حالات إضطهاد وضغط قادت إلى تعمد العبقريات المبدعة الحقيقية إدارة ظهرها نحو السلطة وعدم الاكتراث باهتماماتها الأنانية؛

(2) حالة الهجرة الاختيارية إلى خارج الوطن: وقد كانت العقود الأخيرة هي العصر الذهبي للاغتراب الجسدي والروحي الذي عاشته العقول العربية الذكية، من أرفع العقول الأكاديمية المتخصصة التي فضلت العمل في الأكاديميات الغربية، (حيث تحترم آراؤها وتقدر خلاصاتها الفكرية)، إلى أعظم شذرات الإبداع الفني، من أعظم شعراء العصر الحديث كـالشاعرين (محمد مهدي الجواهري، من العراق والشاعر أدونيس، من سوريا)، إلى أرقى الكتّاب الخياليين (ومنهم كتّاب فضلوا العيش والموت في المنفى، ومنهم الأستاذ إدوارد سعيد، من بين أسماء لامعة أخرى، كسعدي يوسف ومظفر النواب، وآخرون).

إن أهم ما يمكن أن يلاحظه المتابع في هذه الآصرة المتقلبة بين العبقريات والسلطة في الشرق الأوسط هي مفارقة مفادها: أن السلطة في أغلب دول الشرق الأوسط غالباً ما ترتكن إلى إستذكارات حقبة الاستقلال السياسي لتتحدث عن الحرية وترفعها شعاراً مزيفاً من أجل سحق من يمارسها في حالة تجاوز حدوده، الأمر الذي يفسر إمتلاء السجون بالعديد من الكتّاب والمفكرين والعلماء تحت ظل الأنظمة الاستبدادية، وامتلاء مقاهي مدن المنفى الاختياري في أوربا والولايات المتحدة وأميركا الشمالية بأعداد مهولة من الكتّاب والباحثين والفنانين الهاربين من جحيم الإستبداد والوصاية الأبوية المفروضة على الإنسان، منذ نعومة أظفاره حتى شيخوخته، ناهيك عما تقاسيه المرأة المفكرة أو المبدعة من ضغط وظلم مضاعف في مثل هذه المجتمعات الذكورية التي تخصها بنظرة دونية بوصفها مخلوقاً ضعيفاً يستحق المزيد من الاستضعاف والاستهانة، بإسم فروسية الصحراء العائدة للقرون الوسطى المظلمة، عندما لم تكن المرأة سوى وسيلة لتوالد السلالة عبر القرون المظلمة. لاحظ أن رائدة الشعر العربي الحديث، نازك الملائكة، عاشت معظم حياتها في الغربة حتى توفت قبل بضعة أشهر خارج وطنها العراق، وتنطبق ذات الحال على الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة التي غادرت العراق في عهد الاستبداد البعثي لتقضي خارج الوطن ما تبقى لها من سنوات.

إن المفارقة تتجلى في أن أغلب الأنظمة الإستبدادية، ومنها الثيوقراطيات Theocracies (دكتاتوريات رجال الدين) غالباً ما تحاول تقديم نفسها كراعية للثقافة وللفنون والعلوم، بينما تكون الحقائق معاكسة لهذا الإدعاء، حيث تهرب أعمدة الثقافة أو تهاجر باحثة عن تربة أكثر تنوعاً وحرية وخصوبة، بعيداً عن الأوطان الزاخرة بالبوليس السري، إضافة إلى احتقانها بالثروات الطبيعية المهدورة في التسليح وبناء أدوات القهر والقسر التي تستخدمها الدكتاتوريات لسحق الإنسان.

 

المصدر: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/2606

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك