فإذا فرغتَ فَانصب
عادل الكلباني
إن ربط العبادات والفرائض بوسع المكلف، أدعى للقيام بها على وجه الرضا والمحبة، وقد جاء ذلك صريحًا في قوله (لا يُكَلّفُ اللهُ نفسًا إلا وسعها)..
"الدين يُسْر" عبارة ذلّت بها الألسنة، وعُنونت بها النقاشات، ورَونق بها كثير من الوعّاظ مواعظهم، وامتطى صهوتها أناس آخرون، وليست الجملة محل نقاش، فهي راسخة وثابتة بثبات هذا الدين ودوامه، فهو دين يسر، وقد جاءت في حديث روياه في الصحيحين (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
سأتعرض هنا لشيءٍ من معنى اليسر الذي هو ديننا، ولم أجد منطلقًا لحديثي أقرب من قول خالقنا تعالى (فَإِذا فَرَغتَ فَانصَبْ) وقد تلى هذه الآية ذكر اليسر، وشرح الصدر، ورفع الذكر، ووضع الوزر، وهي نعم عظيمة تستوجب الشكر، ودوام الذكر، وكثرة العبادة، ولزوم القربات، لكنّ الله تعالى رفعًا لهذا التوهم أعقب هذه النعم بما يؤكد به يسر هذا الدين ومحافظته على الحال المصاحب للإنسان لديمومة إنسانيته، وقيامه بمصالحها فقال (فإذا فَرَغْتَ) ولن نتوه في ذكر الأقاويل في معنى "الفراغ" فما من آية في محكم التنزيل إلا وتفنن المفسرون في توضيحها، ونحن نعرف من عربية قرآننا ووضوح معانيه ما نميز به حقيقة المراد، فإنه لم يذكر قبلها شيئًا نخصص به الفراغ منه، ولكنه أطلق، فهو شامل لكل أمور الدنيا، ثم يُستنبط من قوله (فانْصَبْ) ما تُطلب به الآخرة، وهذا الذي يتوافق تمامًا مع عموم الآية، وقد قال به أئمة "إذا فرغت من أسباب نفسك فصل" وقالوا أيضًا معناه "إذا فرغت من أمر دنياك"!
إنّ اعتبار فراغ المسلم من شواغل الدنيا لأداء العبادات أمر جلي، حتى ظهر في مواقيت الصلاة، فقد جعلها الشرع في الأوقات التي هي مظنة الراحة والفراغ من الأعمال عند غالبية الناس، فإنّ ربط العبادات والفرائض بوسع المكلف، أدعى للقيام بها على وجه الرضا والمحبة، وقد جاء ذلك صريحًا في قوله (لا يُكَلّفُ اللهُ نفسًا إلا وسعها) وليس بوسع النفس ترك مصالحها ومعايشها، أو الاقتصار على القليل منها، وإن كان ذلك يفعله بعض الناس تجشّمًا، إلا أنه خارج إطار التكليف، وقد نفى الله عن القرآن أي مشقة وشقاء، (طَهَ ما أَنزلْنا عليك القرآن لِتَشقى).
ومن أوصاف نبينا صلى الله عليه وآله، (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). وقد فهم السلف رحمهم الله هذا المعنى، فلم يسلكوا بالمجتمعات مسلك الرهبنة، وأفاضوا في الأخلاقيات والسلوكيات، وهذا يُنبئ عن فقههم، فقد قال صلى الله عليه وآله: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وكانوا بحكمتهم يوجهون مجتمعاتهم وأتباعهم بما يتوافق مع قدراتهم، ويحثونهم على اغتنام "الفراغ" للتقرب إلى الله وإصلاح النفس بالعبادة:
اغْتَنِمْ فِي الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ
فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَهْ
كَمْ صَحِيحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سَقَمٍ
ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَهْ
ولكن بعض الخلف فهموا من ذلك جرّ الناس إلى الرهبنة، وحجتهم التفرغ للعبادة، وإن كان ذلك على حساب بناء الوطن وتنميته، وهذا ليس هو الدين، ولا يمت إلى الإسلام بصِلة! فالله تعالى لم يقل لرسوله صلى الله عليه وآله مع ما أولاه عليه من النعم "تفرّغ وانصب" بل قال (فإِذا فَرَغتَ)!
ويبقى تصحيح مسار مخاطبة الناس بما يتوافق مع دلالات القرآن، ويتطابق مع حياة السلف رحمهم الله، هو المتعين على كل من فتحت له نافذة لإرشاد الناس، وحث المجتمعات ولاسيما الشباب منها على استغلال عنفوان الشباب في بناء الأوطان، والنهوض بالمسلمين، والتزود في فراغهم لآخرتهم، ولو أن الشباب المسلم سلك هذا المسلك، لرأيت المسلمين على حال أحسن مما هم عليه اليوم، ولأصبحت كثير من الإشكالات المتعلقة بحياة الشباب في هذه الأزمنة لا وجود لها في حياتهم. هذا، والله من وراء القصد.