تقويم المحاور لمحاوره

د. عبدالقادر الشيخلي
 

الفرق بين الحكيم وغيره، أن الأول تكون أقواله وأفعاله مستمدة من الحكمة التي وهبها الله له، أما الآخر فهو يتعجل بأقواله وأفعاله. وشتان بين العجلة والسرعة، فالأولى هي إتيان الأمر في غير وقته، أما السرعة فهي إتيان الأمر في أوانه.

وإذا كانت للمحاور فكرة مسبقة عن المحاور الآخر فينبغي أن يتخلى عنها مؤقتاً، إلى حين تأكيدها أو إلغائها في هذه المناسبة أو غيرها، فالإنسان يتغير وهذه سُنَّة النفوس والمجتمعات والحياة عموماً، إلا أن الحصيف والفَطِنْ من يتغير نحو الأحسن، مستفيداً من تجاربه وخبراته، ومتخلياً عن الأخطاء التي اقترفها فيما سبق عمداً أو سهواً، فَيُبقِي على محاسنه بل ويزيدها مما يجعلها سِمَّة كبرى من سمات شخصيته الإنسانية.

وينبغي حينما يجلس المحاور وراء طاولة الحوار أن تكون أمامه صفحة بيضاء عن الآخر أو الآخرين، وذلك لأخذ فكرة جديدة عن المحاور، إن كان قد بقي على ثقافته وخُلقه وسياسته، أي باقياً على صِدقِه في أقواله، أو عكس ذلك.

وميزة إيجاد فكرة ثانية عن المحاور، سواءً كانت الفكرة السابقة إيجابية أو سلبية، تساعد المحاور على التأكد من أن محاوره ما زال على ما هو فيه في الماضي أم ثمة جديد في شخصيته. ولن يتحصّل له ذلك إلا باستمرار الحوار معه، فلا تكون جملة أو عبارة واحدة قال بها المحاور الآخر كافية لتأكيد أو لنفي ما سبق عنه من انطباع متأصل.

إذاً، يواصل المحاور حواره بُغية إنجاح الحوار وتحقيق أهدافه المرسومة، ولا يكون في ذهن المحاور انطباعاً مسبقاً عن المحاور الآخر بحيث يؤثر على المنهجية الموضوعية للحوار، وهي خلاف شخصنة الحوار الذي يقلبه إلى حوار فردي. أي يتحول الحوار من الموضوع إلى الشخص، ومن الأهداف إلى الذات ومن الفائدة إلى العبث.

والمحاور الحكيم هو الذي يُدرك إدراكاً تاماً بعد انتهاء الحوار إن كان محاوره على ثقافة معينة سواءً كانت معمّقة أو ضحلة، أو أن شخصيته جذّابة أو باهتة، أو أن درجة احترام المحاور الآخر كانت عالية أو منخفضة، الأمر الذي يشجعه مستقبلاً على الإقبال مجدداً على الحوار معه، أو أن يتردد في ذلك.

صفوة القول في هذا الشأن، أن الحكيم من يملك سجلاً في ذهنه لتقويم الآخرين، يُسجل فيه كل شاردة أو واردة عن هذا أو ذاك، فلا يُعاديه عند أول إساءة، فقد تكون هذه هفوة أو خطأ غير عمدي، أو لم يفهم المسيء أو المخطئ أن ما قام به إساءة أو خطيئة، كما ينبغي على الحكيم ألا يود الآخر عند أول بادرة طيبة، فقد تكون هذه صادرة من نفسٍ دمثة وخلقٌ جمّ، كما قد يكون العمل الطيب الذي تصرّف به الآخر نبع من مصلحة ذاتية، وليست لوجه الخير.

ويبقى سجل تقويم الآخرين منتفخاً بالمعلومات الجديدة إيجابية كانت أو سلبية حول هذا أو ذاك، بحيث يأخذ المرء فكرة معمّقة عنه، ومن ثم لا يتعرض في علاقاته الاجتماعية إلى منغصات في هذا النطاق، وإنما تكون الحكمة هي أداته المباشرة في الأقوال والأفعال، فيستطيع في ضوء هذا الإدراك استحباب الحوار مع هذا، والتردد مع ذاك، والمروءة تقتضي أن يُعيد الشخص النظر بمعاييره عن الآخرين لأن الفرد قابل للتحسُن المطرد أو الجمود عند شخصية يعرف عنها القاصي والداني.

فإذا تفاجأ المحاور بشخصية المحاور الآخر، فعليه الاستمرار بالحوار أملاً أن يُحسّن الآخر من أسلوبه أو أدائه، فلا يبدو على المحاور انزعاجاً أو خيبة أمل من المحاور الآخر، عسى أن يؤثر عليه المحاور الأول فيتغير بطريقة أو أخرى، المهم في كل ذلك حرص المحاور حرصاً شديداً على إنجاح عملية الحوار، فإن كان ثمة أخطاء أو قصور من الآخر، فتكون هيئة الحوار واضحة من حيث إن هناك من يلتزم بضوابط الحوار وأخلاقياته، وهناك من لا يلتزم بذلك أو أن التزامه ضعيفاً.

فعملية الحوار ليست رحلة وردية يتوقع المرء أن يبتهج بها أو أن يحصّل ما يبغي الحصول عليه من حقائق ومعلومات، وإنما يحصل هذا الانطباع بعد تنفيذ العملية الحوارية والانتهاء منها.

 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك