قالوا إنما نحن مصلحون
عادل الكلباني
استمرأوا قلب الحقائق، وزخرفة القول بما ينافي حقيقة العمل، ويفضي إلى اعتقادهم أن الفساد الذي تصنعه أيديهم هو الحق، وأن ما عداه هو الباطل، ولذلك انقلبت موازين أبصارهم في نظرتها للأشياء فترى الجميل قبيحاً والقبيح حسنًا، ولا أدق من تعبير القرآن في وصفهم بقوله (في قلوبهم مرض)، يصنعون العقبات أمام المصلحين، ويتفننون في رد نصح الناصحين، وقد يظهرون إفسادهم، وصدهم عن الإصلاح، والتغيير في صورة خدمة الدين، واتباع السبيل القويم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)! وما أبلغ الآية في وصفهم بتوحيد القول، (قالوا) فقد تتحد كلمتهم في صد الحق، وتتضافر أصواتهم في القنوات الفضائية،
الوضوح في طرح الرأي وتبييت النية الحسنة مع المخالف هي سمة المؤمنين، وأيضاً هي سمة الصادقين في انتمائهم لأوطانهم، فمجتمعنا لا يحتمل أكثر مما حُمّل، وليس لأحد أن يدّعي أو يعتقد قدسية قوله، كما أنه ليس لأحد أن يشكك في وطنية الآخرين أو دينهم أو صدقهم!
ومواقع التواصل، وليس ذلك فحسب، بل قد يشكلون تجمعات وجمهرة، يحصرون الحق فيهم ومعهم، ويعملون بقاعدة (من ليس معنا فهو ضدنا). وهذا التعصب قد ضمّنته الآية بأدق إشارة في قولهم (نحن)!
ولا أريد أن يتركَ المصلحون الانتسابَ إلى الصلاح والإصلاح، خوفًا من الوقوع في الزعم الكاذب، وإنما المراد التحقق من صحة الزعم، وتوسيع النظر في أطروحات الآخرين، وتعميق الدراسات لاستخلاص الأصلح من كل رأي، وترك التعصب للرأي الذي نراه من زاوية "نحن".
فغيرنا أيضاً له حق في الدين والوطن، وليس أحد أحق بهذا من أحد، فكلنا سواء في الحقوق والواجبات، ومستريح الضمير هو من خدم دينه ووطنه، ولم يتوانَ مناكفةً لخصمٍ، أو لفقد مصلحة تخص، فالأوطان هي مسرح الحياة التي يتنافس فيها أهل البناء فيما بينهم، أيهم بناؤه أصلح، ولله در القائل:
إنما هذه المواطن أمٌّ
مستحقٌ لها علينا الولاءُ
إن خدمنا فلا نريد جزاءً
ومن الأم هل يراد جزاءُ؟
إنما نحن مصلحون وما إن
غاية المصلحين إلاّ الرفاءُ
وأسوأ ما يضر الأوطان، تلك النبرة التي يستشعر صاحبها بأحقيته بهذا الدين، أو بهذا الوطن دون غيره، بل ويرى قدسية رأيه؛ سواء كان رأيًا فقهيًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا، ويستعظم مخالفته، ولا يترك فرصة لأفكاره بالغوص في حقيقة ما يتبناه، أو يتعمق بالنظر في مبادرات غيره، ولعل لذلك أسبابًا كثيرة تقود إلى استعظام النفس واستصغار الآخرين، ومحاولة فرض الرأي، والصد لآراء الآخرين، وتلك الأسباب منها ما يكون أصيلاً ومجردًا لبغض الحق دون تفسير لسبب ذلك البغض، فيضع نفسه موضع المخالف في كل أمر وفي كل مجال، وكما قال سابقهم:
سأترك بابًا أنت تملك أمره
ولو كنت أعمى عن جميع المسالكِ
فلو كنتَ بوّاب الجنان تركتُها
وحولتُ رجلي مسرعًا نحو مالكِ
فيجانب الحق، وأهل الحق تعصبا لنفسه، ويكون مصاحبًا لصده ومعارضته للحق، بأفعال يرونقها ويزخرفها، ليلفت إليها من ينخدع بزخرف قوله (إنما نحن مصلحون) فليس أمامنا -معشر المسلمين- منفذ للخروج من خلافاتنا، والرقي بمجتمعنا إلا أن يتسع بعضنا لبعض، ونقد الرأي الخطأ، وتفنيده بالدليل والحجة، مهما كان مصدره مقربًا منا، ومناصرة الرأي السديد، وتأييده مهما كان متبنيه مخالفًا لنا، ونترفع عن نقد ذات المخالف والخروج عن أخلاقيات الخلاف، التي توحي بزيف القول وتبييت الباطل عند محاججة الآخرين.
(وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) فالوضوح في طرح الرأي وتبييت النية الحسنة مع المخالف هي سمة المؤمنين، وأيضًا هي سمة الصادقين في انتمائهم لأوطانهم، فمجتمعنا لا يحتمل أكثر مما حُمّل، وليس لأحد أن يدعي أو يعتقد قدسية قوله، كما أنه ليس لأحد أن يشكك في وطنية الآخرين أو دينهم أو صدقهم!
وإنما نرص هذه الكلمات في مقال كهذا، تذكيرًا للغافل كي يصحو، وتنبيهًا للعامل كي لا يغفو، وكل قول سيعود على قائله يومًا ما، إن خيرًا فخير، وإن غير ذلك فسيكون له حصاد ما قال.