إلى الخائف من النقد
تميل النفس إلى الراحة، إلا أن قيمة الإنسان تتحقق بالكد والعمل. تميل النفس إلى الخيلاء والزهو، غير أن العظمة تتحقق بالتواضع. تميل النفس إلى الإطراء والمديح، لكن تصحيح المسار لا يتم بغير النقد. نقد الذات وتقبل نقد الآخرين. والإنسان يحقق معناه والهدف الذي خلق له بالسير عكس التيار لا الانجراف معه، فالانجراف مريح ولا يحتاج إلى إرادة، إنما إلى خضوع وإذعان تام، لكنه يورد المهالك، بينما السير عكس النفس وما تهوى أمر شاق وعسير يتطلب عزيمة وإصرارا، لكنه يوصل إلى بر الأمان. بمعنى آخر، أن ليس بمقدور الإنسان ألا يذنب، ليس بمقدوره ألا ينجرف، لكن بمقدوره ألا يستغفر، بمقدوره أن يستسلم لما تهوى النفس ويستلقي مبتسما وإن هوى آخر المطاف.
وإن لمخالفة النفس وما تهوى طرائق جمّا، كالاستغفار والتوبة والبكاء في السجود، كالندم ومن ثم العزم على البدء من جديد، وكل الطرائق لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق محاسبة النفس باستمرار وتقبل النصح والتوجيه من الآخرين. هذا هو الأساس، بلا محاسبة للنفس وطلب للنصح فلن تنشأ الرغبة بالتحرر، سيبقى الإنسان في هذا القاع وإن حاز الأموال وارتقى الوجاهة أو تبوأ المناصب، ومحاسبة النفس تعني القدرة على نقد الذات، أن يضع الإنسان أفعاله وتصرفاته وأقواله تجاه نفسه وتجاه الآخرين على طاولة النقد، وإنسان لا ينتقد ذاته ولا يتقبل نقد الآخرين ستداهمه العلل النفسية والعقلية من كل اتجاه وإن لم ينتبه لكونه معتلا، وهي علل شبيهة بعلة من يقف مطولا أمام المِرآة ثم يصفق مبتسما، ابتسامة الرضا هذه ليست دليل طمأنينة إنما دليل على عدم إدراك الإنسان أن به خبالا.
نقد الذات مؤلم وتقبل النقد من الآخرين أشد إيلاماً، إنه ألمٌ كألم الاجتهاد والمثابرة في العمل، كألم كتم الغيظ والعفو عن المتجاوزين، لكن ما يحقق معنى الإنسان في الأخير هو تحديداً ما يؤلمه، فالجهل رديف للراحة، لكنها راحة لا تضيف للإنسان أي معنى، ثم يكتسب الإنسان معناه بمشقة المعرفة، كذلك النقد مؤلم لكنه يدفع الإنسان لتصحيح المسار، للتخلص من العيوب، وإنسان لا ينتقد ذاته ولا يتقبل نقد الآخرين هو إنسان مضطرب الشخصية، أبرز علله الشعور بعدم الكفاءة، والحساسية المفرطة تجاه النصائح التي يقدمها الآخرون. إنه حرفي يحسب كل صيحة عليه، وأن الآخرين يقعدون له كل مرصد، مما يجعله مهموماً بمحاولة إبراز “الأنا” في أي مناسبة وبأي طريقة. كل هذا يقوده إلى عدم التواضع لا رغبةً منه في الكِبر إنما نفور من الآخرين، وحياة هذا من فشل إلى فشل، وإن تبوأ المناصب ومدحه المادحون وأثنوا عليه.
إن النوم في صالات السينما يعتبر نوعا من أنواع النقد التي توجه لطاقم الفيلم، ما يعني أن الإنسان الذي يخاف من النقد ويلعنه ويعلن كراهية أن ينتقده الآخرون، هو في الحقيقة يدفعهم للتحايل كي ينتقدوه، سينتقدونك أيها الخائف من النقد بألف وسيلة، بالتأمل في سقف الغرفة بينما أنت تتحدث، بالموافقة على كل ما تقوله كي لا يطول الحديث معك أكثر، بالتصفيق لكل قرار تتخذه كي تتحمل وحدك اللوم أو تكون وحيدا في دائرة السخرية. من هنا يمكن القول إن حتى المدح والثناء نوع من النقد كونه مدحا لا لأجل نجاحات حققها الممدوح إنما بحث من المادح عن مصلحة. وللنقاد حيل أخرى، كالاستهزاء وإطلاق النكت وكل هذه القهقهة، وآخر المطاف أن الخائف من النقد يدفع الآخرين إلى تعمد تجريحه، إلى ترك نقد أفعاله وأقواله والتفرغ لنقد شخصه بشكل مباشر، وهذا النقد يفتقر دوما للموضوعية والمنطق وحسن العبارة، ويتحمل وزره المنقود كما يتحمله الناقد.
فما الحل؟ الحل أن يحاسب الإنسان ذاته، أن يراجع حساباته، هذا هو الأساس، نقد الذات وتقبل نقد الآخرين هو الدافع الرئيس للتواضع وترك الأثر الطيب، ويكذب من يقول إنه يحب نقد الآخرين له أو أن ينتقد هو ذاته. فلا أحد يحب المشقة والتعب وفتح المواجع، لكن لا بد من تحمل المشقة لأجل تحقيق الإنسان للهدف الذي خلق له، أن يكون له أثر طيب في هذه الحياة، أن يمدحه المادحون في غيابه وإن كانوا ينتقدونه لوماً وعتاباً في حضوره. هذا هو الحل كي يتخلص الإنسان من خوفه تجاه النقد، وإن أسوأ ما يكون أن يخاف المسؤول من النقد، فالأب الذي ينهى أبناءه عن توجيه النقد له بأدب لن يدرك أين الخطأ الذي قادهم للخروج عن طوعه، والرئيس الذي ينهى مرؤوسيه عن توجيه النقد له لن يدرك كيف ومتى انهارت المؤسسة أو أعلنت الشركة إفلاسها. والوزير الذي يُعلِن كرهه النقد ويطالب بمحاسبة كل ناقد، سيختفي كل أثر له فور مغادرة الكرسي. فرفقا بنفسك من كل هذا الخوف.
المصدر: http://hewarpost.com/?p=2780