الطقسي الديني والشعري الدرامي في نشأة المسرح وامتداده
اقترب الإنسان البدائي بالرقص خطوة باتجاه المسرح، أو النشاط المسرحي، وذلك عندما تجاوز مجرد التعبير العفوي عن انفعال ما (فرح، أو حزن، أو ابتهاج، أو إحباط... الخ) باتجاه التعبير بواسطة الرقص عن الحدث، وفي هذه الحالة يكون الرقص أقرب إلى العمل المسرحي؛ لأنه يتضمن قيمة يجري تشخيصها وإيصالها عبر هذا التشخيص إلى الجمهور، وهكذا تتوفر، وإن كان ذلك بصورة أوليّة، جميع العناصر التي لا بدّ منها لكلّ عمل مسرحي، وهذه العناصر هي؛ فعل يجري تشخيصه، وممثل يشخص هذا الفعل، وجمهور يشاهد هذا التشخيص. فقبل أن يتمكن الإنسان من تطوير لغته إلى المستوى الذي تصبح معه قادرة على استيعاب الأسطورة، والتي جسدت تصور ذلك الإنسان للعالم الذي يحيطه، وللكون، عبّر عنها، الأسطورة، وجسّدها بواسطة الرقص، وهذا ما يؤكده شلدون تشيني فالرقص عنده "يأتي في المرتبة الأولى مباشرة بعد ما تقوم به الشعوب البدائية من الأعمال التي تضمن لها حاجياتها الضرورية المادية من طعام ومسكن و...، والرقص هو أقدم الوسائل التي كان الناس ينفسون بها عن انفعالاتهم، ومن ثمة كان الخطوة الأولى نحو الفنون"[1].
كان الإنسان البدائي يرقص بدافع الانفعالات، ولكون الرقص طقس ديني، فهو يتحدث ويصلي لآلهته بلغة الرقص، ويشكرهم ويثني عليهم بحركاته الراقصة، هذه الحركات كانت بمثابة نواة المسرحية وبذرة المسرح، وخصوصًا بعدما تحوّل الرقص من مجرد تعبير عن مسرّة أو حزن، إلى طقس ديني، حيث تمّ تعميق الوعي الديني الذي اتخذ أول الأمر قالبًا أسطوريًّا، فازدد الطابع المسرحي المصاحب لأداء الشعائر الطقسية، ومن هنا يميل معظم الباحثين إلى الاعتقاد الذي يقول: "أن المسرحية قد نشأت وتطورت من أصل ديني، وإنها في أصولها الأولى لم تكن أكثر من وسيلة يستعان بها على مزاولة الشعائر، والطقوس الدينية، في مناسبات معينة"[2].
حتى هذه المرحلة تطور الرقص من مجرد رقص ناتج عن انفعالات كامنة في خوالج الإنسان البدائي، إلى طقوس تعبر عن رؤية دينية وأسطورية، لكن ما زلنا لم ندخل غمار الجوقة بمعنى الكلمة؛ لأنه ينقصنا عنصر ثالث ألا وهو "الكلمة الشعرية" فكلّ الشعوب البدائية استنجدت بالرقص والحركات الإيمائية، ثم حولتها إلى تعبير طقسي قائم على أساس ديني، لكنّ السؤال هو: لماذا لم ينشأ المسرح عند الشعوب بالطريقة التي نشأ بها في اليونان؟
لقد تطور الرقص إلى ما هو ديني كما رأينا سابقًا، لكن "لغة الرقص التي تكاد تكون طبيعية انتقلت شيئًا فشيئًا إلى الدراما الشعرية".
هكذا يجيبنا حسن المنيعي؛ فالدراما الشعرية هي المقصود، وهي العنصر الثالث الذي خصصه القدر لبزوغ المسرح، أو لبزوغ نواة المسرح؛ فالمسرح: حركة (رقص)، وطقس (شعائر دينية، أسطورة)، وكلمة (دراما شعرية)، لكن تبقى هده العناصر، مع ذلك، شكلًا بدائيًّا للمسرح، لكنّها مكّنت من ظهور طقس جديد يحتفل به في التظاهرات الدينية؛ فبزيادة العنصر الثالث، الكلمة، دخلت الأناشيد الجماعية المصحوبة بالرقص والحركات الإيمائية، والتي كانت تقوم على أساس ديني يكرم بها الآلهة، وخصوصًا ديونيزوس (Dionysus) إله الخصب والإثمار.
هنا تظهر الجوقة في شكلها البدائي في خضم حفل ديونيزوس مرتدية جلود الماعز، ومؤدية قصيدة الديثراب Dithyrambe)) والتي تقوم على التراتيل الدينية والرقصات الغنائية؛ فنشأة الكورس مرتبطة بنشأة الظاهرة المسرحية ذاتها والبحث فيها يعني البحث في نشأة المسرح، ومع أن المسرح أقدم بكثير من أرسطو، وكذلك الكورس، إلا أن أرسطو بالذات هو أول مصدر يقيني نستطيع أن نعتمد عليه في قضية نشأة الجوقة في شكل قادة الرقص، وقادة الإنشاد، مع انتقال الظاهرة المسرحية من الاحتفالات الدينية إلى العروض المسرحية بالمعنى المصطلح عليه. لكن، يبقى لنا أن نوضح أولًا، وقبل الخوض في التفسير، لماذا قلنا أن ظهور العناصر الثلاثة المكونة للجوقة؛ أي الكلمة والحركة والطقس (الرقص، والشعائر الطقسية، والدراما الشعرية) ساهمت فقط في ظهور نواة لمسرح بدائي، وليس مسرح حقيقي؟ لأن نشأة الكورس ترجع بالذات إلى تلك اللحظة التاريخية المجهولة التي انفصل فيها أحد الراقصين عن بقية الراقصين، وأحد المنشدين عن بقية المنشدين، ليقوم هذا أو ذاك بتمثيل شخصية ما مع أو أمام أقرانه الراقصين والمنشدين المنفصل عنهم، ليأخذ المسرح القديم، واليوناني بالذات، تلك الطبيعة الثنائية التركيب التي صاحبته حتى اضمحلاله؛ كورس وممثلين، وهذا ما يقوله "شلدون تشيني" حين يؤكد: "أن أولئك الذين كانوا يقودون المنشدين والراقصين أصبحوا أول الممثلين الذين يمكن تحديد شخصيتهم التمثيلية؛ ذلك أن التغيير الجوهري من مجرد الراقص الجماعي أو مجرد العرض الموكبي، حدث حينما فصل أحد القائمين بالرقص أو الإنشاد نفسه عن جماعة "عابدي ديونيزوس" واتخذ له شخصية أخرى غير شخصيته الأولى كراقص أو منشد فقط، شخصية يقوم بتمثيلها"[3].
بفصل الراقص المنشد نفسه عن الجوقة ظهر التمثيل الفردي مقابلًا التمثيل الجماعي في المسرح ذي الشكل البدائي، ليظهر العنصر الرابع الذي احتاجه المسرح الحقيقي وهو الحوار، فهذا الانفصال، في رأينا، لم يكن بدافع التمثيل فقط؛ لأن التمثيل راسخ منذ ظهور الرقص والطقوس الدينية الجماعية، وإنما الغرض منه هو الحوار لتنسجم الكلمة مع الحركة مؤسسة الحكاية التي كانت إحدى المحاور التي قامت عليها المسرحية.
هذه هي العناصر الأربعة التي ظهرت على أساسها المسرحية، فمن الرقص إلى الطقس، ومن الدراما الشعرية إلى الحوار، لتعطينا طابعًا ثنائيًّا للمسرح اعتمد الجوقة والممثل، لكنّ الأولى كانت المؤسس والمساهم الأول في ظهوره، فقد استمرت رغم ظهور الممثلين ورغم ازدياد أعدادهم، من ممثل واحد إلى ثلاثة، ثمّ إلى أعداد أخرى أكثر، لتختفي الجوقة بعد ذلك ثم تعود، إما بشكلها القديم ومضمون متغير، أو بشكل جديد وهيئة جديدة، ومضمون دائمًا متغير. ولا داعي لتفسير ذلك؛ فالمضمون دائمًا متغير بتغير العصور والأحداث في المجتمعات، لكن الشكل قد لا يتغير، وقد يعود، وقد يتغير كذلك، وهذا ما نلمسه في الجوقة المسرحية إذا اتبعنا خطواتها منذ الديثرامب والساتير إلى ظهور ثالوث المسرح الإغريقي؛ فإلى هنا تموت ثم تحيا وتعود إما بالشكل الأصلي الدائري، أو بشكل آخر حديث، كما هو الحال عند بريشت، ويتس، وشكسبير أيضًا. وإلى حين الوصول إلى ذلك، نستنتج أن كل الشعوب، في مراحل تطورها الأولى، لجأت إلى تصوير عاداتها ومعتقداتها، في شكل جماعي، وبواسطة فرق اللعب، أو الرقص، أو التمثيل، أو بها مجتمعة، وكثيرًا ما كانت هذه النشاطات والتمثيل بصورة خاصة تصاحب أشكال العمل الرئيسية، فضلًا عن أن طبيعة هذه الألعاب مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، من حيث محتوياتها ومغازيها، بمختلف جوانب النظام الإنتاجي لهذا الشعب، أو ذلك، أو بطريقة تفكيره ورؤيته للحياة والكون.
1. الديثرامب: من الطقسي إلى الأدبي.
إن أولئك الذين كانوا يقودون المنشدين والراقصين، أصبحوا أول الممثلين الذين يمكن تحديد شخصيتهم التمثيلية؛ لأن التغيير الجوهري، من مجرد الرقص الجماعي أو مجرد العرض الموكبي، حدث حينما فصل أحد القائمين بالرقص أو بالإنشاد نفسه عن جماعة عابدي ديونيزوس، واتخذ له شخصية أخرى غير شخصيته الأولى، كراقص فقط أو منشد فقط، شخصية يقوم بتمثيلها.
سنخوض، قبل أن نحاول كشف ذلك، في غمار البحث عن الحلقة الثانية المكملة لأجزاء السلسلة، تلك التي مهدنا لها بحلقة الرقص الطقوسي. فكيف كان الجو الطقوسي قبل انتفاضة أحد قادة الرقص والإنشاد ليصبح ممثلًا؟
ليكون ذلك نستدعي كلًّا من الساتير والديثرامب باعتبارهما عنصران أساسييان في احتفالات ديونيزوس، وعنصرين ساهما في تأسيس التراجيديا وتطوير الجوقة، وهذا ما سنراه بالفعل عندما نستعرض قول أرسطو الذي يرى "أنالمأساة نشأت في الأصل ارتجالًا على يدي مؤلفي الديثرامب"[4]؛ فالديثرامب نشيد تتغنى به في أعياد ديونيزوس، جوقة تعزف وترقص، في شكل دائري مرتدية جلود الماعز، ليرمزوا للساتير، وهم رفاق ديونيزوس السكارى الذين كان يتألف منهم موكبه الأسطوري، وعندما قلنا إن الساتير والديثرامب عنصران ساهما في تأسيس التراجيديا، فإننا لا نقولها عبثًا وإنما استنادًا إلى أرسطو؛ فالديثرامب الذي كان نوعًا من الشعر اتسع وتطور حتى أصبح نوعًا حقيقيًّا من المسرحية، والساتير تلك الجوقة ذات اللباس الماعزي، فقد كانت جزءًا من تسمية التراجيديا، فكان هذان العنصران (الديثرامب والساتير) هما مؤسسا "النوع الذي أطلق عليه "الأغنية العنزية"؛ ولذلك كان هذا النوع هو الذي أعطى المأساة Tragedy هذا الإسم؛ إذ يبدو أن كلمة "Tragedy" هذه آتية من كلمة "trogos" أي (عنزة: (Goat ومن كلمة "Odehy" أي (أغنية: (Song"[5].
إن وجهة نظر أرسطو هي أن أصول التراجيديا تعود إلى الديثرامب، تلك الرقصة الساتيرية الغنائية غير الدرامية، وبذلك فهذا النوع الذي يسمى الدراما الساتيرية هي جوقة غنائية، يرتدي أفرادها جلود الماعز، ويتنكرون في شكل تيوس، ويمثلون جوقة الإله، وهم جماعة الساتير الذين يتخذون النمط الموسيقي الديثرامبي، بإيقاعاته الصاخبة وأصواته المختلطة، ذات الأثر الشديد في النفوس.
لقد عرف كل من الساتير كجوقة غنائية والديثرامب كقصيدة غنائية شكلين أو مرحلتين: مرحلة الشكل الطقوسي، ومرحلة الشكل الأدبي. اتخذت الدراما الساتيرية، في مرحلتها الطقوسية، شكل جذبة تطهيرية، يقوم خلالها المحتفلون بمحاكاة رفاق ديونيزوسوالساتير، إلى أن تحل بهم المانيا الإلهية، ويبدأ الاحتفال في هذا الشكل، بإشارة من قائد الجوقة (Exorchon) فتفتتح العزف الذي يرتكز على النفخ في المزامير، وقرع الطبول والصنوج، ثم يرتجل قائد الجوقة قصة الإله ديونيزوس غناء مع بعض الحركات والتعابير الجسدية ونبرات الصوت التي تنسجم مع ما يتطلبه المعنى، وما يناسب تمثيل الإله، وعندما يتوقف القائد، تتدخل الجوقة الماعزية ليمثلوا الساتير مرددة المقطوعات في الشكوى والحزن، مع عويل وآهات وصرخات، لتتصاعد حركات الرقص رويدًا رويدًا وتعلوا الأصوات بالغناء حتى يبلغ المحتفلون حالة من المانيا، لينقضوا على الحيوان ويمزقوا لحمه، ويأكلونه نيئًا، ويلعقون بأفواههم دمه الساخن[6]. وغالبًا ما يكون هذا الحيوان ثورًا أو تيسًا، يقدَّم قربانًا للإله. لكن، إذا كان كذلك، فلماذا يتم لعقه وأكل لحمه نيئًا مادام يتّصف بالقداسة؟
يقول عبد الواحد بن ياسر: "إن تمزيق القربان، وأكل لحمه نيئًا ولعق دمه فائرًا، هي عناصر جوهرية في طقس ديونيزوس، وتشكّله مجتمعة ما يمكن اعتباره (un lite de commun) طقس اتحاد وتشارك، ونوعًا من التمازج والتماهي بين الإنسان والإله، فليس القربان هنا حيوانًا يصير مقدّسًا بتقديمه قربانًا للإله، وإنّما يصبح القربان رمزًا للإله نفسه"[7].
لقد ظلّ الديثرامب يحتفظ بكثير من عناصره الأصلية، من رقص دائري، وصخب، وجذبة، وتقديم قرابين، حتى فترات تطروه الفني والشكلي على يد شعرائه الكبار، ونعني هنا بالتطور مرحلة الديثرامب الأدبي، حيث صارت فيه الموسيقى والغناء، والرقص، وعناصر الفرجة المختلفة تحتل مكانة أساسية. كان الديثرامب في بداية ظهوره مجرد أغنية فلكلورية تقليدية، أكثر من كونه ضربًا من ضروب الأدب الرسمي، كما شاهدنا ذلك في السطور التي سبقت، والدليل على ذلك أن "القائمين بالغناء والرقص كانوا من الفلاحين؛ أي الأفراد العاديين الذين يفعلون ما يفعلون تطوعًا وبصورة تلقائية في احتفالاتهم الدينية بالريف"[8]. لكن مع اهتمام الشعراء بهذا النوع من الشعر، ومع ظهور المسابقات الديثرامبية والساتيرية التي كانت تنظم في الأعياد الديونيزوسية الكبرى، انتقل الديثرامب إلى صورة أفضل، حيث بلغت فيه الدراما الساتيرية درجة الشكل الأدبي الناضج، وبدأت تتبلور فيها عناصر حكاية صغيرة صالحة أن تكون نواة للحوار الدرامي الذي يعود، في بداياته، للشاعر (آريون)[9]. هذا الأخير هو أول من ابتدع الشكل الدائري للرقصة الديثرامبية، حتى أن الأساطير تسميه "ابن دائري" (Kykleoshuis). وقد يبدو لنا أن الشكل الدائري قد يكون أمرًا بديهيًّا وطبيعيًّا، في رقصات تؤدى حول مذبح ديونيزوس، لكن يبدو، حسب أحمد عثمان، أنّه أول من أوجد النظام والنسق في مثل هذه الرقصات التلقائية، كما يفترض أنّه أول من ثبّت عدد الراقصين فجعلهم خمسين، وهو العدد الذي ظل دون تغيير بعد ذلك[10].
إذن يرجع الفضل إلى آريون، في جعل الجوقة تتحلق في شكل دائري، حول مذبح ديونيزوس، لترقص وتغني أغنيتها التي تمجد هذا الإله، وهذه الدائرة هي التي ستشكل، في نظرنا، ما يعرف باسم الأركسترا في المسرح الإغريقي. كما جعل "آريون" لكل أغنية موضوعها الخاص وطبيعتها المميزة.
2. الديثرامب: من الأدبي إلى الدرامي.
تحدثنا عن الرقص إلى جانب الطقس الديني والكلمة الشعرية، وهذه العناصر الثلاث، لمسناها، بشكل واضح، في الدراما الساتيرية المعتمدة على الديثرامب بشكليه الأدبي والطقسي. فحتى الجوقة البدائية عرفت تطورًا منذ القدم عبر المرور من الرقص الطقسي والديني، إلى ظهور شعراء اتخذوا دور قواد الجوقة، بإنشادهم قصائد ديثرامبية، وتصميم رقصات مناسبة لها، لكن إذا ادعينا أن الديثرامب والساتير هما مؤسسا التراجيديا اليونانية، فأين نحن من المسرح الإغريقي؟
رغم أن أرسطو صرح بذلك، إلّا أنه يجب أن نجد الحلقة المؤدية فعليًّا لهذا القول؛ ولذلك فالعناصر الثلاثة المذكورة (من رقص، وطقس ديني، وكلمة شعرية) هي المهيج فقط؛ أي أنّها تحتاج إلى عنصر الحوار باعتباره جوهر الوصفة السحرية، وملح طعام المسرح الإغريقي.
لعل أهم ما يعزى إلى آريون، من تعديلات في الأغنية الديثرامبية تلك التي نجد أحمد عثمان يفصل فيها، وتساعدنا على إيجاد الحلقة المفقودة، أو العنصر الرابع (الحوار). لقد أوجد آريون بعض الفقرات التي تلقى بين الحين والآخر أثناء الغناء، أي أجزاء حوارية موزونة (emmetealogntos).[11] هذا القول قد يدل على الفكرة القائلة: "إن تيسبيس هو أول من أدخل المقاطع الحوارية الموجودة في مجموعة من الكتب التي تتحدث عن الدراما اليونانية"؛ أي أن آريون هو صاحب المقاطع الحوارية التي يتبادل فيها أطراف الحديث مع أفراد جوقته، طبعًا لا ننسى دور تيسبيس الذي نعتقد أنه استفاد من تراكم الشعراء قبله وخصوصا آريون (الذي لا تفصله عن تيسبيس سوى ثلاثين عاما)[12].وبذلك فآريون له الفضل في إدخال هذه الأحاديث على شكل حوار بين قائد الجوقة وبقية أفرادها، وقد يكون موضوع هذه الأحاديث الحوارية مغامرات ديونيزوس، وقد يكون الهدف من وضعها في صورة حوار، شرح بعض المعاني الواردة في الأغنية الديثرامبية أو تعميقها.
يبدو أن هذه الأجزاء الحوارية قد نظمت في الوزن الرباعي التروخي وصاحبتها رقصات صامتة من جانب الجوقة[13]. وصولًا إلى هذا، يبقى أن نقول إن هذه الأجزاء الحوارية، سواء أكانت من ابتداع آريون أو تيسبيس أو من شعراء سبقوه، فاقتصر دوره على التهديب والتشذيب، فإنَّ الأمر الذي لا شك فيه، أن هذه الأجزاء الحوارية، قد تبدو عنصرًا ثانويًّا بالنسبة للأغنية الديثرامبية، لكنها أكبر خطوة نحو ولادة التراجيديا الإغريقية، فهي النواة الأولية في الفكرة الدرامية ككل.
عندما تحدثنا عن آريون وجوقته، فلم نعنِي بذلك أنه الشاعر الوحيد، وإنما نرى أنه أعطى إضافات نوعية، شكلت الدخول إلى التراجيديا، ومما لا شك فيه أن هناك شعراء عدة ظهروا بعده وساهموا في الرقي بالأغنية الديثرامبية، على مستوى الشكل والمضمون والبنية ورقصات الجوقة، ومن بينهم "ألكمان"[14] و"أرخيلوخوس"[15]و"ستسيخوروس"[16] وغيرهم[17]. إلّا أن "تيار آريون" هو الذي تطور حتى نشأت عنه المسرحية الساتيرية[18].
إن "الديثرامب" أغنية جماعية تؤديها جوقة، تقوم ببعض الحركات التعبيرية والرقصات التي تشرح وتؤكد معاني الكلمات، أما الموضوع الرئيسي لكلمات الأغنية الديثرامبية فهو أسطورة ديونيزوس والحديث عن بعض المراحل من حياة هذا الإله في أسلوب غنائي، وبوسيلة التنكر أو المحاكاة بالكلمة والحركة، ذلك أن المغنيين الراقصين، أفراد الجوقة، كانوا يتنكرون على هيئة ساتير، أو أية جماعة من أتباع ديونيزوس، لكي يجعلوا الأحداث التي يسردونها أقرب إلى التصديق والحيوية، وعلى أية حال فلقد حافظت الأغنية الديثرامبية على تطورها في اتجاهين: الاتجاه الأول قديم؛ يتمثل في استمرارها كأغنية جماعية تنتمي للشعر الغنائي. والاتجاه الثاني حديث: يتمثل في طريقها إلى الدراما التمثيلية.
وهكذا يمكن أن نقول: "الديثرامب" تعني أغنية جماعية أصلية، و"التراجيديا" هي المسرحيةَ التي تطورت عنها ثم استقلت بذاتها؛ فالرابط بينهما هو الذي أدى إلى التراجيديا؛ أي دخول عنصر الحوار، والعامل المشترك بينهما هو الكورس/الجوقة، والتي تجمع الرقص والطقس الديني والكلمة الشعرية، وهنا نصل إلى اكتمال الحلقات الأربع الأساسية التي تحدثنا عنها.
نستنتج أيضًا أن آريون هو من ابتكر الأجزاء الحوارية التي مهدت للعرض التراجيدي، بل هناك من يقول إنه مبتكر قصيدة الديثرامب كأفلاطون وهيرودوث[19]. على أن "تيسبيس" هو صاحب ظهور التراجيديا؛ إذ عمل على تطوير الأجزاء الحوارية لآريون ومن سبقوه، وابتكر ممثلًا ثالثًا أخذ يتبادل الحوار مع رئيس الجوقة، كما ينسب إلى تيسبيس وقوفه على منضدة، ومن هناك كان يخاطب أفراد الجوقة ورئيسها[20]. وبذلك فتح المجال لظهور الحوار بالمعنى الحقيقي، والساق الثانية لوقوف المسرح وهي الممثل إذا افترضنا أن الجوقة ساق المسرح الأولى بالفعل؛ إذ ضمت الرقص والطقس الديني والدراما الشعرية، وبالتالي قيام المسرح على ثنائية ممثل/جوقة:
3. ولادة الامتداد: المسرح الكنيسي.
يبدو أن نشأة المسرح الكنيسي شبيهة بنشأة المسرح في اليونان القديمة، وقد خطر ببال القساوسة في إحدى الكنائس الكاثوليكية، في القرن العاشر، وربما القرن التاسع، فكرة إدخال إحدى الأناشيد في القداس، على أن يعهد بإلقاء الأغنية إلى مغنيين أو منشدين[21]، وهنا تظهر الجوقة بمفهومها اليوناني، التي كانت تتكون قبل من منشدين وراقصين.
ولما كان الهدف السليم الذي لا شبهة فيه لهؤلاء القساوسة هو تثبيت عقيدة الشعب الأمّي وتقويتها، فكروا في تصوير إحدى الحوادث لجماهيرهم بتلك الوسيلة، وسيلة تشخيصها بواسطة شخصين، بدلًا من أن يدعوا منشدًا واحدًا واقفًا في مكان واحد يقص للجمهور تلك الحادثة بكلام لاتيني لا يكاد يفهمه واحد من ألف من بين المؤمنين[22]. ويبدو من هنا أن الحركة شبيهة بتطور الديثرامب من شعر غنائي، يحكي حكاية ما إلى مسرحية تحوّل هذه الحكاية إلى فعل؛ فالمنشد هنا هو ذلك الشخص الذي يمثل الجوقة مع المغنيين، وانفصاله عنهم وإضافة شخص ثاني لتجسيد الحكاية هي حركة نوعية للدخول في عالم المسرح الكنيسي، بيد أن هذه الحركة لم تأت بالصدفة، وإنما جاءت نتيجة لمحاولة القساوسة والكنيسة إيصال المعلومة الدينية، وكبح الجهل والأمية في صفوف المؤمنين، بجعل الحكاية تمثل لتفهم أكثر على عكس ما كانت تتجه إليه في السابق من سرد وغناء.
وكان المنظر بسيطًا أوّل الأمر؛ فكان أحد القساوسة يلبس ملابس خاصة، ثم يتقدم ثلاثة منهم، واحد بعد واحد، ينشدون بعض الأناشيد اللاتينية، التي يفهم الجمهور معناها على ضوء حركاتهم وإشاراتهم التي يقومون بها وهم ينشدون، ويظل الحال على هذا المنوال، فيكون الجمهور خلالها قد رأى الحادثة المشخّصة، وقد كانت صلوات الكنيسة تشتمل بالطبع، منذ نشأتها تقريبًا، على العناصر المساعدة التي تساهم في تكوين المسرحية؛ من حركة طقسية مرسومة، وتنظيم مسرحي أخاذ، ومصاحبات موسيقية، بل الاقتراب نحو الحوار في الإنشاد والترتيل الذي يجري بالتناوب بين قسمي الكورس حين يجاوب أحدهما الآخر[23].
فقد كانت هناك مجموعتان من المنشدين تتحاوران في العروض داخل الكنيسة، ثم صارت هناك جوقة يديرها مدير اللعبة meneur de jeu)) ودورها هو التعليق والربط بين المقاطع[24]، كما هو الحال عند جوقة اسخيلوسوسرفوكلويوريبيدس. إلّا أن الذي يميز الميلاد الصحيح للمسرح داخل الكنيسة، هو مقدمة الحوار الذي يجري بين القساوسة الذين يمثلون الشخصيات[25]؛ حيث بدأ الدين ينبثق عن الدين المسيحي في القرن الخامس الميلادي، فأدخلت حركات توضيحية بالأيدي على الصلاة، ثم تلاها إدخال الحوار المعنى بين مجموعتين على شكل جوقة، ثم استخدام بعض عناصر الديكور المرتبطة بالحوادث الدينية مثل؛ المهد والمغارة والصليب، ليصير هناك عرض مصغر يتم داخل الكنيسة ويمثل ولادة المسيح وقيامته[26].
على سبيل الختم:
هكذا، فبداية المسرح الكنيسي تشبه بداية المسرح اليوناني إلى حد التطابق، وذلك من حيث الملامح العامة لنمو وتطور الظاهرة المسرحية، ومن بينها الجوقة، حتى ليمكننا اعتبار نشأة المسرح الكنيسي من خلال ما شاهدناه تلخيصًا لنشأة المسرح الإغريقي، من إدخال أحد الأناشيد في القداس على لسان مغنيين أو منشدين، إلى تصوير إحدى الحوادث عن طريق تشخيصها بواسطة شخصين من الممثلين، وذلك بدلًا من منشد واحد يقص للجمهور تلك الحادثة، إلى انقسام القداس إلى أجزاء تقرأ وأجزاء تنشد أو تغنى، وأجزاء تمثّل، إلى إدخال حادثة تمثَّل بكاملها، والمهم أن الجوقة هنا كانت تقوم بوضع الحقائق الأساسية أمام جمهور النظارة، كما أن تتبع المسار المسرحي يفضي بكون ثنائيته تتجه نحو الحياد بفعل التغييرات التي لحقت بالجوقة والممثل؛ إذ ظلت أغاني الجوقة تشكل جزءًا عضويًّا في التراجيديا الإغريقية، حتى أواخر أعمال يوريبيدس، حيث قلَّ فيها دور الجوقة كثيرًا، لتلعب بعد ذلك لعبة الظهور والاختفاء، إمّا تصريفًا في أشكال أخرى فرضتها ظروف التقنيات المسرحية الحديثة، وإمّا محاولة الظهور لإحياء أصولها، أو امتدادًا وتشابهًا لها في النشأة كما هو الحال بالنسبة للمسرح الكنيسي الذي يتوفر فيه الشرط الديني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
لائحة المصادر والمراجع:
- شلدون تشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، ترجمة دريني خشبة، المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، ج 1
- حسن المنيعي، التراجيديا كنموذج، ط 1، سنة 1975
- أرسطو: فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، د.ت.
- أحمد عثمان: الشعر الإغريقي، عالم المعرفة، الكويت 1984
- عبد الواحد بن ياسر، حياة التراجيديا في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته، ط1، 2006، المطبعة الوراقة الوطنية.
- جميل نصيف التكريتي، قراءة وتأملات في المسرح الإغريقي، دار الحرية للطباعة، 1985، بغداد.
- حنان قصاب، ماري إلياس، معجم المصطلحات المسرحية، ﻤﻜﺘﺒﺔ ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﻁ 1، 1997
- ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] شلدونتشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، ترجمة دريني خشبة، المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة ج 1، ص 11
[2] جميل نصيف التكريتي، قراءة وتأملات في المسرح الإغريقي، دار الحرية للطباعة، 1985، بغداد، ص 75
[3] شلدونتشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، ترجمة دريني خشبة، ص 49
[4] أرسطو، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، د.ت، ص 14
[5] شلدونتشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، ص 50
[6] أحمد عثمان: الشعر الإغريقي، عالم المعرفة، الكويت 1984، ص 180
[7] عبد الواحد بن ياسر، حياة التراجيديا في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته، ط1، 2006، مطبعة الوراقة الوطنية، ص ص 31-32
[8] نفسه، ص 35
[9] نفسه، ص 35
[10] أحمد عثمان، الشعر الإغريقي، ص 180
[11] أحمد عثمان، الشعر الإغريقي، مرجع سابق، ص 181
[12] نفسه، ص 181
[13] نفسه، ص 181
[14] أحمد عثمان، الشعر الإغريقي، مرجع سابق، ص ص 146147
[15] انظر الصفحات: 145، 146، 147 (من نفس المرجع).
[16] نفسه، ص 145
[17] انظر أحمد عثمان، الشعر الإغريقي.
[18] نفسه، ص 184
[19] جميل نصيف التكريتي، قراءة وتأملات في المسرح الإغريقي، ص 83
[20] نفسه، ص 83
[21] شلدونتشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، ترجمة دريني خشبة، ص 205
[22] المرجع نفسه، ص ص 205206
[23] شلدونتشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، ترجمة دريني خشبة، ص 206
[24] حنان قصاب، ماري إلياس، معجم المصطلحات المسرحية، مكتبة ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﻁ 1. 1997، ص 164
[25] شلدونتشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، ترجمة درينيخشبة، ص 206
[26] حنان قصاب، ماري إلياس، معجم المصطلحات المسرحية، ص 218
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%82%D8%B3%D9%8A-%D...