الحوار من وجهة نظر الفلاسفة واللاهوتيين

الحوار من وجهة نظر الفلاسفة واللاهوتيين

نحو فلسفة للسلام الإنساني

سعاد الحكيم
عندما أتأمّل في وضعنا البشري، أدرك أنّنا -نحن سكّان الأرض جميعاً- نسبح على كوكب واحد في فضاء لا يحيط توهّمنا بأبعاده... ويعطيني هذا الإدراك إحساساً كما لو أنّنا نتشارك سفينة واحدة تجري في أعالي محيط لا شواطئ له، أو أنّنا نركب طائرة واحدة تخترق فضاء وليس من أرض تنزل عليها... وأتساءل: ألم يأن لجميع القيادات البشريّة على كافّة الأصعدة، أن تعي أنّ مصلحة الذّات متشابكة -حتى الموت- بمصلحة الآخر، بعقد سفرٍ طويل لا فكاك منه قبل نهاية الزّمان... وقيامة، وبعث، ونشور؟!

انطلاقاً من وعيي لهذا الواقع الكوني، ومن قناعتي بأنّ العمل على تدمير الآخر يحمل جرثومة دمار الذّات، وأنّه لن يأتي على طائفة من طوائف البشرية يوم تنفرد فيه بالسيطرة على العالم، وتتمتّع -وحدها وأجيالها ومن دون الكلّ - بالسّلامة، والصحّة البدنيّة والنفسيّة..

إنطلاقاً من ذلك كلّه أشارك بالتفكّر حول أسس لفلسفة السّلام بين البشر... وأصيغ تفكّري خمسةَ عناوين كبيرة مؤهّلة؛ لأن يتفلق عنها تفريعات عديدة؛ وهذه العناوين الخمسة هي:

من المفاهيم إلى الفلسفة... من مفاهيم السّلام إلى فلسفة للسّلام.

من البعد المذهبي إلى البعد الإلهّي في الأديان.

أخوّة الرّسل.

المساحات المشتركة بين الأديان.

بناء إنسان الإنسانية.

1- من مفاهيم السّلام إلى فلسفة السّلام

منذ بدأت المسافة تنزاح من بين أبناء شعوب كوّنتهم ثقافات متنوّعة، طرأت الحاجة الملحّة إلى إقامة السّلام بين المختلف الذي يصل في كثير من الأحيان إلى الصّدام... وشهدنا "تسويق" مفاهيم، تأسّست في كثير من الأحيان على الأحلام، إن لم أقل على الأوهام... مفاهيم ألقيت في وجه ريح التعصّب الجنسي والعرقي، والوطني والحدودي والدّينيّ، فبقيت حروفها أسماء في الأذهان، وحقيقتها تُغتال كلّ يوم تحت أبصار العالم كلّه.

وفي رأيي أنّ مفاهيم السّلام، كالمحبّة، والتسامح، والحوار، وقبول الآخر كجزء لا يتجزأ من الذّات، كلّ هذه المفاهيم لم تعطِ ثمارها لعدّة أسباب، أكتفي بالإشارة إلى ثلاثة منها:

السبب الأوّل: إنّ مفاهيم السّلام بقيت عند الممارسة في إطار فردي نخبويّ، ولم تمسّ حياة الجماعة عامة. لا شكّ في أنّنا نجد أشخاصاً هنا وهناك، وعلى امتداد العالم، يريدون السّلام حقيقة، ويتحلّون بالتسامح والمحبّة، والقدرة على رؤية الآخر في الذات، ولكن هؤلاء الأشخاص لم يستطيعوا للأسف أن يشكّلوا تياراً أهلياً قويّاً، وظلّ نشاطهم محصوراً في نخبة طائفيّة، أو قلّة فكرية...

السبب الثاني: إنّ مفاهيم السّلام كما هي مطروحة اليوم لا ترتكز على أسس سليمة، لأنّها - كما يبدو- تُسوَّق كسلع استهلاكية تهدف إلى الحصول على السّلام من طرفٍ واحد، تدعوه إلى التسامح اللامشروط المرتكز على المحبّة فقط، والتي يبدو أنها مفقودة عند قطاع كبير في الطرف الثاني... إنّ السّلام الحقيقيّ يفترض وجود طرفين يتبادلان الاعتراف بحقّ الكينونة، ويثق واحدهما بالآخر، وبأنّ السلام من طرفه لن يعني امّحاءً واستلاباً وازدواجية معايير... إن لم توجد هذه الإرادة الصادقة من الطرفين يظلّ السّلام في إطار أقلّيات خيّرة وواعية ولا يخرج إلى بدن الجماعة البشريّة.

السبب الثالث: إن مفاهيم السلام هذه (المحبة والتسامح وقبول الآخر) تعاني من التوقف عند مرحلة تنظيريّة تتّسم بالفردانيّة التي يربطها رابط خارجيّ ولا نسق داخلي يجمعها... لكأنّها تجمع على هيئة "باقة زهر" يقدّمها إنسان، خيّر محبّ، إلى الإنسانيّة... لذلك، نحن أحوج ما نكون إلى توظيف هذه المفاهيم المفردة في منظومة فكريّة تساعد كافّة الناس - وليس النخبة فقط - على الرؤية والاقتناع وبالتّالي الممارسة؛ أي نحن نحتاج لأن نخرج من مرحلة تنظيريّة خطابيّة تبريريّة عاطفيّة إلى مرحلة أشد اتّساقاً تجمع هذه المفاهيم المفردة، لتكوّن منها كلاً متسقاً منتظماً، لتؤسّس منها فلسفة يقتنع بها عامّة الناس، ولا تظلّ في حدود فردية عالية الروحانيّة.

2- من البعد المذهبي الشرائعي إلى البعد الإلهي في الأديان

لاشكّ في أنّ البعد المذهبي والشّرائعي في كلّ دين جوهريّ وضروريّ؛ ويحفظ وحدة الجماعة الدينيّة عبر الزّمان والمكان... ولكنّه بعد لا يقبل الحوار مع الآخر؛ لأنّ الشريعة أحكام يلتزم بها المؤمن إيماناً، ولا يناقش ويجتهد إلاّ في غياب النّص... إنّ البعد الشّرائعيّ في الدّين يسمح بحوار داخليّ بين أطراف الذّات الواحدة تحت سقف النّص؛ أما الحوار مع الآخر فيبقى على أرض "مقاصد الشريعة" لا "أحكامها".

لقد كشفت سيرة المرسلين، وكذا نصوص الصوفيّين عن بعد إلهي في الدّين بالإضافة إلى البعد الشّرائعي، ودلّت على أنّ المؤمنين بشرائع مختلفة يأتلفون في كونهم عباداً لإلهٍ واحد... إلهٍ لا يقبل من المؤمنين به ظلماً ولا عدواناً، لا يقبل الفسق والفجور والفتنة... إلهٍ لا يقترب إلاّ من المتطهرين.

ونقول، عندما يكفّ أصحاب الأديان المختلفة عن جعل البعد الشرائعي حجاباً على البعد الإلهيّ، أي عن جعل العبادة حجاباً على "المعبود" عز -وجل-، عندما يخرجون من حالة الفصام بين العبادة والمعبود، فصام يجعلنا نتساءل - أحياناً - أيّ إله هؤلاء يعبدون؟! عندها فقط تتضح معالم مسارٍ يتعارف فيه النّاس ولا ينكر بعضهم بعضاً... وقد قدّمت لنا نصوص الصوفيّين نماذج رائعة لتديّن حقّق بعده الروحاني الإلهي، فقرأها الجميع على اختلاف أديانهم دون غربة... ينطق "الجنيد" بهذا البعد الإلهي للدّين حين يعرّف الصوفيّ بأنّه "كالأرض يطؤها البّر والفاجر، وكالسّحاب يظلّ كلّ شيء، وكالمطر يسقي كلّ شيء" أو أنّه "كالأرض يطرح عليها كلّ قبيح ولا يخرج منها إلاّ كل مليح"... كما عبر عن هذا البعد الإلهيّ محيي الدّين ابن عربي بقوله شعراً:

لقد كنت قبــل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينــه دان

وقد صــار قلبي قابلاً كل صورة

فمـرعىً لغـزلان وديرٌ لرهبان

وبيــت لأوثـان وكعبــة طائفٍ

وألـواح توراةٍ ومصحف قرآن

أدين بدين الحــــب أنّى توجّهت

ركائبه فــالحب ديني وإيماني

3- أخوة الرّسل

لا تعوزنا النصوص المؤسّسة لأخوّة الرسّل... فالقرآن الكريم حذّر المؤمن من التّفريق بين رسل الله سبحانه ﴿والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم اجورهم وكان الله غفوراً رحيماً﴾([1]) وأكّد صاحب الخلق العظيم(ص) على "أخوّتهم" بقوله(ص): "الأنبياء إخوةٌ من علاّت وأمّهاتهم شتّى ودينهم واحد"([2]).

ولكنّ هذه الأخوّة التي عاشها الرّسل، فيما بينهم وتلامحت في نصوص إسلاميّة كثيرة، لم تحظ بما تستحقّ من مساحة على صعيد مكنوناتنا الثقافيّة، إن لم أقل إنّ هذه الأخوّة تمزّقت على أيدي بعض المتطرّفين، الّّذين حوّلوا الرسالات السماويّة إلى خنادق قتال.

ويا حبّذا لو نلتفت نحو محاولات الصوفيّة جهدت في إرساء نظرة تكامليّة للرّسل... ففي كتاب "فصوص الحكم" لابن عربي - مثلاً - نجد أنّه على امتداد سبعة وعشرين فصلاً يعيد ابن عربي قراءة شخصيات الأنبياء في القرآن الكريم، ليؤلّف منها كلاً متسقاً متكاملاً، حيث يظهر الكمال الإنساني في تعدّديته الظاهرة ووحدانيته الباطنة([3])... وقد حظي هذا الكتاب بأكثر من مئتي شرح بالعربية، والتركيّة، والفارسيّة، ولكن نحن اليوم نحتاج إلى ترجمته اجتماعياً، لا مجرّد تفسير معانيه وترجمة ألفاظه... والأمثلة كثيرة، في تراثنا الفني، على تعدّد اللغات ووحدانية اللسان.

4- المساحات المشتركة بين الأديان

إنّ دراسة مقارنة لبنية الأديان تكشف لنا عن مساحات مشتركة فيما بينها... ففي الإسلام مثلاً، تؤكد النصوص القرآنيّة والنبويّة، على عدم الفصل بين العبادة والخُلق، وتذهب إلى الحكم على من لا خُلق له بأنّه لا عبادة له، أي غير مقبولة عبادته... فهذا الّذي يحفر في الأرض من ركوعه وسجوده وما إن يلتفت عن قبلته حتى يأخذ في إضرار الآخرين بالغيبة والنميمة والفتنة، ولا يسلم من حقده وحسده برّ ولا فاجر... فإلى أيّ مدى هو عابد! وقد صوّر الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" القلب، كقطعة أرض، نزرع فيها حبّ العبادة، فإن كانت خليّة عن كلّ حشرة أو أفعى؛ أي عن كلّ صفة مذمومة كالحسد، والحقد، والغيبة والنميمة، تأكل الحبّ، ينفلق النّوى ويخرج شطأه، وإلاّ يفنى الحبّ ولا تثمر عبادة.

إن القيم الأخلاقية هي مساحة مشتركة بين الأديان، وما من دين سماوّي، إلاّ ويؤكّد على كونها من علامات الإيمان والتّقوى في الإنسان المؤمن... وإلاّ فإلى أي حدّ يبقى المؤمن مؤمناً إن كذب وغشّ وتخلّى عن أخٍ في لحظةٍ حرجة، وتمسّك بباطل، وأشاح بوجهه عن آلام الناس؟!

وهذه القيم الأخلاقيّة ليست "محسّنات اجتماعية" بل هي في صلب الاجتماع الإنساني... وإذا أنصتنا إلى الخطاب الصوفيّ نجد أن العصبيّة القائمة على القيم الأخلاقية هي العصبيّة الأقوى في الاجتماع البشريّ. فالنّاس على الحقيقة يتعاشرون ويتعايشون بالخلق ويتفارقون عند غياب القيم الخلقيّة... وهنا، لا يعتدّ بالعلاقات القائمة على المصالح الشخصية لأنّه لقاء ظاهريّ لا حقيقيّ... صورة ألفة وتعايش ولكنّ القلوب شتّى.

5- بناء إنسان الإنسانية

من أجل إنشاء فلسفة للسّلام لا بدّ - بالإضافة إلى كلّ ما تقدّم - من التفكّر حول هوية الإنسان الذي يحقّق السّلام الكوني.

وجواباً، على الطروحات الداعية إلى بناء إنسان مدني، أقول: إنّ القوانين المدنيّة تجعل الرّادع خارج الإنسان، وبالتّالي ما إن تغيب سلطة الرادع الخارجيّ، حتى يظهر توحّش الإنسان وهمجيته، على حين أنّ القوانين المصاغة انطلاقاً من الأديان يستجيب لها رادع داخليّ، وتحقّق النّظام - إلى حدٍ ما - في الدّاخل والخارج... إذاً، فمن مصلحة البشريّة أن تدافع عن تكوين كائن مؤمن متقٍ أخلاقيّ... وهذا مشروع عملاق لا يقوم به طرف واحد أو أبناء دين واحد منفردين، بل لا بدّ من تكاتف عالميّ في هذا الإطار بين الشعوب وقياداتها الروحية.

وحتى لا يكون كلامنا على "الرادع الدّاخلي" جزءاً من "مدينة فاضلة" لا نرى مقدّمات تحقّقها في أفق تاريخنا المنظور... نحصر الحديث فيما هو مباح ونقول: إنّ كينونة الإنسان وحدة لا تتجزأ، وتعبر هذه الوحدة عن نفسها في جميع تجلياتها... فلو استطعنا مثلاً أن نصلح أداء الإنسان على مستوى تجلٍّ من تجليات ذاته، لربما ينعكس هذا الإصلاح على الكينونة نفسها؛ واستناداً إلى قاعدة الوحدة الذاتيّة للإنسان؛ أي إذا استطعنا أن نعدّل من الأداء العائلي للإنسان لربما استقام الوقت نفسه أداؤه الاجتماعيّ وكذا أداؤه على صعيد الإنسانية عامّة.

ونضع بين يدي آفاق الحوار... ما نرصد من تجليّات للكينونة الإنسانية في الجهات الأربعة، مقتنعين أنّه لا سلام بين النّاس ما لم يتحقّق السّلام على المستويات الأربعة لتجلّي كينونة الإنسان؛ وهي:

السّلام الدّاخلي الذّاتي للإنسان -السّلام العائلي- السلام الاجتماعيّ - السّلام الأممي الكوني.. فالإنسان وحدة لا تتجزأ، والكون أيضاً يترابط بوحدة وجوديّة تجعل له هيئة تتلامح لأولي البصائر في كافّة المجتمعات...

خاتمة

إذا صدّقنا الجهات العديدة التي تعلن أنّها تجتهد لابتكار مناهج تحقّق السّلام العالميّ في مواجهة قوى الدّمار التي تكاد تتسبب بحروب دينيّة عالميّة، أقول؛ فلنبدأ بالتخلي عن فكرة أنّ الأديان هي العائق، أو بالأحرى، أن الإسلام هو العائق، المشكلة كامنة في الإنسان لا في الأديان... النصوص صامتة لا تنطق، إنما ينطق بها الرجال، على ما يقول الإمام عليّ كرم الله وجهه([4]).

ولنلتفت ناحية البعد الإلهيّ في الدّين، ونعلي بناء المساحات المشتركة، ونواجه - جميعاً - كلَّ من يغلّف طموحاته الشخصيّة، أو القومية بنسيج ديني جاهز، ولنتكاتف معاً لدعم الطروحات الدينية التي ترسم للإنسان طرق التخلّق بأخلاق الله سبحانه... نجتهد على أن نحقق في ذواتنا الصّورة الصفاتيّة للأسماء الإلهية... فالله سبحانه يرزق الكل مؤمن به وكافر، صالح وفاجر، فالكلُّ خلقه وصنعه، وفيه قبس من نورٍ مقدّس يجعله مألوهاً لله عرف ذلك أم لم يعرف.

الهوامش:

([1]) النساء/152.

([2]) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، حديث رقم 4362.

([3]) محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم، بيروت، دار الكتاب العربي.

([4]) نهج البلاغة، بيروت، دار المعرفة، ج2، خطبة رقم 125.

المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=860&lang=ar

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك